إهداء الكتاب
الرجل العظيم ووطنيته
الرجل العظيم والعصر الذي يعيش فيه
الموازنة بين ثروت وكافور
روح القيادة والجماهير في النهضات القومية
لمحة من الماضي
الحياة الجديدة
الوزير الأول كخطيب سياسي
في سبيل البرلمان
الخاتمة
إهداء الكتاب
الرجل العظيم ووطنيته
الرجل العظيم والعصر الذي يعيش فيه
الموازنة بين ثروت وكافور
روح القيادة والجماهير في النهضات القومية
لمحة من الماضي
الحياة الجديدة
الوزير الأول كخطيب سياسي
في سبيل البرلمان
الخاتمة
نهضة مصر
نهضة مصر
1341 / 1922
تأليف
عباس حافظ
إهداء الكتاب
بقلم عباس حافظ
إلى زعيم مصر سعد زغلول باشا
إلى العبقرية الأولى التي تلقيت عنها وحي ما كتبت عنها، إلى الشخصية النادرة المثال التي نزلت روعتها إلى أعماق نفسي؛ فملأت نواحيها إكبارا لشأنها، واندفاعا مع الصفوف تحت بنودها.
إلى السياسي الكبير: القائد الأروع الجليل، صاحب المعالي سعد زغلول باشا، أرفع هذا الكتاب.
وما ذلك إلا لكي يتصل بما بكر من ثمار إخلاصي، وتقديري لمكانته يوم وضعت رسالتي الأولى في ترجمة حياته، وتصوير عبقريته وبطولته.
وما كتابي هذا إلا صورة أخرى لشخصية من الشخصيات الخالدة التي خلعت على هذا العصر بردة الحرية، وشملة الاستقلال، فالصورتان من هذه المعالم متقاربتان، والرجلان العظيمان من قطع واحد، وصوغ متماثل، وإن وهم الناس، وضل ضلالهم أن حسبوا الصورتين متنافرتين، والعظيمين في السياسة خصمين لدودين، وأن كلا لصاحبه منكر، ولفضله على بلده جاحد مصغر، وكيف لعمر الله تنكر العظمة العظمة، وكيف يجحد الفضل فضلا.
وما سعد ورفيقه ثروت - أيها الناس - بخصمين، فلا خصومة في الوطنية.
ولكن هم القوم الذين أرادوا إلا أن يصفوهما في الحشد، وينعتوهما في الأمة بالخصمين المتنافرين، وكان سعد يريد ألا ينزل إلى مفاوضة، ولا يسهم في مناقشة حتى يعده القوم فحسب بإلغاء الحماية، ورفع الوصمة عن الأمة، فعمد الوزير الأول إلى تحقيق ما كان سعد مصر يريد، واندفع مع جرأة الوطنية المستبسلة؛ فأنفذ جملة ما كان صاحبه يود أن ينفذه بلا مقابل، ولا نزول عن حق، حتى زالت من طريق الزعيم العقبة، وتمهدت أمامه السبيل ، وما مثله في عظمته ليخاصم في الوطنية زميلا جاء على غراره وقالبه.
وإذا كانت يد القدر قد أبعدت عن الوادي جدولا فضاضا من الوطنية، وحرمت البلد الأمين قائدا سياسيا غير مدافع من قواده، فإن سعدا وثروت غصنان أميدان، وفرعان صنوان، على شجرة فينانة أضحيانة، ستظل الدهر مورقة ... تلك مصر تجري مع النيل من منبعه إلى حيث يترامى في أحضان البحر الأبيض.
ألا يا سعد لقد ظلمك قومك إذ صوروك بما أنت منه البريء، ويمين الله إنك لجذل فرح بما أبلغنا إليه صاحبك، ووالله إنك لمصافحه، ومباركه، ومؤيده، ومناصره، ووالله إنا سنراك وثروت في غد يوم يرد الهم غربتك، متصافحين واضعين اليد في اليد، والقلب بجانب القلب، والذهن والقوى والروح، وما ملكت في سبيل واحدة، هي الدفاع عن مصر وكيانها.
يومذاك نقول للذين مشوا في الناس بالخصومة: هاهما العظيمان متعاونان، متآزران متناصران، فأينت الخصومة التي زعمتم؟!
بطل مصر الكبير سعد زغلول باشا
مقدمة الكتاب
بقلم عباس حافظ
أول سبتمبر سنة 1922
نحن في هذه الرسالة الموجزة جئنا نكتب للحق وللتاريخ، والنية فيما سنحشد في هذا الكتاب أن لا نمزج بالحق باطلا، ولا نستنصر عليه خيالا، ولا ندع التاريخ يمشي إلى حدود الكذب، وينساق انسياق الخرافة، ولن يكون تاريخنا هذا على غرار ما كتب «لا مارتين»؛ فنكون قصصيين في التاريخ، ومؤرخين في القصص، ولا أن نجعل من الشخصية التي اعتزمنا أن نكتب عنها معبودا، ليكون الناس عبدة، أو تمثالا ننصبه فوق أكتاف الشعب، وأعناق الجماهير، ولا نريد أن نمشي فيه كما مشى الفيلسوف كارلايل في «أبطاله»، فأسس بما كتب عبادة جديدة، هي عبادة الناس للناس، فإن أمثال أولئك الذين تصدوا للكتابة عن النوابغ يجب أن ننزلهم عن تماثيلهم، إذ خرجوا بالتاريخ عن أصوله، وبالشعر عن مناحيه، وبالخيال عن حدوده.
هذا ما لا نريد أن نتحداه، وهذا ما لا نود أن نجري ركضا فيه، وإن كنا لا نحب أن نكون مدوني أحداث، أو كتبة سلاسل مستطيلة من الرواية والتواريخ، وعدة الأيام والسنين، ولا أن نحشر الحقائق حشرا؛ فنأتي بها جافة مستغلظة، لا سائغة، ولا عذبة الطعم، بل نيتنا أن نحملها على التحليل النفساني، ونأخذها إلى المجهر؛ فنتلمس دقائقها، ونتفحص ذراتها، ونعلم ماذا نستفيد منها، وماذا نأخذ عنها، ونتبين سر اطراحها، أو باعث إكبارها، غير مزورين على الناس، ولا محتالين على إقناعهم الحيل، ولا مفسدين عليهم الإيمان بما اعتقدوا، فلسنا أبواقا، وما نحن بمزامير، ولكنا نمسك بقلم التاريخ، ونستمد من وحي العاطفة. •••
نحن اليوم نعيش في زوبعة اجتماعية، وعصر عاصف، قد غبر فيه الشقاق، وغامت فيه سحائب الخصومة، وأخذ كل بطرف من الحق، فظن الحق كله في يده، واتقدت في نفسه الحمية لوطنه، فحسب أنه وطنه وحده، والناس من خلفه أوغال أدعياء في النسبة، كذبة في الموطن.
ونحن لم نسق كلماتنا هذه لنجعلها عاتية، ونردها أعصف مما هي وأكثف، فلسنا ننتمي إلى حزب، ولا نشأنا في جماعة بعينها، ولا أسهمنا في عصبة بمفردها، ونفرنا عن أخوات لها، فإن الأدب لا يستطيع صبرا على قوانين الأحزاب، ومبادئها، وسياستها، وروابطها، ولزوم ما لا يلزم فيها؛ إذ لا يلبث أن يختنق في ذلك الجو القاتم، وتضطرب أعصابه تحت هراوة الزعامة، وفي زحمة القطيع، وعلى عين الرضا، وعبسة السخط.
وليس أضر على الأمم الناشئة الفتية التي تريد أن تجد لها مكانا تحت الشمس من أن تكون البلاد أحزابا متنافرة، وجموعا متعددة في مجتمع واحد، تعيش على تلك الكلمة الطائشة التي فاهت بها الملكة ماري أنطوانت في أشد سعرة الثورة «والله لخير لنا أن نموت ونلفظ الأنفاس من أن نرضى لأنفسنا أن ينقذنا لافابيت وصحابته».
ذلكم هو غاية الكبر السياسي، وأبعد مرمى الخيلاء الحزبية، بل هي تلك العاصفة التي تهوي بسفينة الحياة إلى غور الفوضى، وكانت في مأمن من اللج المتقاذف، والمد المتصاعد، وهي الزوبعة التي تغرق سفائن الفكر، وتحطم المجاديف، وتهشم الشراع والدوافع، وهي على نقيض فكرة الله في الأرض؛ إذ لم يخلق الله شرا صرفا هو الشر من أي النواحي أتيته، ولم يخلق خيرا صراحا لا شر فيه ، وإنما جعل بعض الشر يدخل في بعض الخير، وأوحى إلى الناس أن استخرجوا بعض رواسب هذا الشر، ليكون الخير أقرب إلى الطهر منه خاما غير مصقول، ولا مقطور.
إن الذين لا يريدون أن يكسبوا أذن منافسهم ليسمع لهم ركونا إلى أنهم أصابوا مادة الصواب كلها، فما تركوا لأحد شيئا، إنما يعيشون في عالم من أنفسهم كالملائكة، وينظرون إلى منافسيهم كأنهم من أهل الفخار والطين.
لذلك كله كرهنا أن نثير في هذا الكتاب ما يغضب له فريق، ويطرب منه فريق، فلسنا نريد أن نكون حكوميين أكثر من الحكومة نفسها، ولا أن نكون سعديين أكثر من سعد وصحابته، بل انتوينا في هذه الرسالة أن نظهر لهذه الأمة صورة صحيحة، غير ذات ألوان، لرجل هو من نفسه في الصفوف الأولى من أمته، وهو في منصبه الرأس الأكبر في حكومته، وما أصاب مكانته لأن الناس جميعا صغار، وهو وحده الكبير، وإنما شق طريقه في الصخر، ونحت سبيله إلى المجد، وما بلغ حتى دأب وكد. وفي الحكومة نوابغ على مثاله؛ وفي الأمة عظماء أذهان لا يقعون في الموهبة دونه، ولكنه استبقهم جميعا، فوصل هو وتخلفوا هم.
وسيرى قارئ هذه الرسالة أن الأدب فيها أكثر من التاريخ، والتاريخ فيها أكثر من السياسة، والسياسة متضائلة فيها بجانب الشرح والبحث والتحليل، فمن ينكر على صاحب الترجمة نبوغه، ويجحد دلائل تفوقه، وقوة شخصيته، فما هذا الكتاب له، ولا نحن جلسنا نكتب ليقرأ، إذ نحن غير مستطيعين معه شيئا، ولا رادين ضالته إلى الهدى، وليس لنا في ذلك مأرب، وإنما عالجنا الكتابة عن العظماء فيما مضى مما كتبنا، وكان فريضة علينا أن لا نغفل الكتابة عن هذه الشخصية البارزة القوية المخلدة.
الرجل العظيم ووطنيته
إن هذه الكلمة الجميلة التي تتردد اليوم على شفاه الجميع، هذه الكلمة الصغيرة التي نسميها «الوطن»، والتي تحمل إلى الروح ذلك المعنى العظيم الجليل الذي يدل على نفسه بلا شروح ولا تعليق، لا تزال كلمة من ذلك الكلم المركب، الكثير المناحي الذي يحار الإنسان في سبر غوره، وإن تراءى له جليا ظاهرا لا غموض حوله.
ولو أنك سألت صبيا غفلا غريرا، لم يغادر يوما حدود قريته، ولم يعرف ما وراء حقول الضيعة التي نشأ فيها: «ما وطنك؟»، لما ونى في قوله: «وطني هو أرض أبي، هو الأرض التي خرجت منها وإليها سأعود!»، فإذا سمعت ذلك من وليد الحقل، وربيب المدر، وتلك الشجرة الصغيرة في غيط الإنسانية الناضرة اللون، فاعلم أن ذلك الطفل قد دفع إليك، وهو لا يدري بالتعريف الدقيق الصحيح لكلمة «الوطن»، فإن فؤاده الصغير قد حمل إلى شفتيه كلمة الوحي، ولفظ الغريزة، على حين ترى عينيه قد دارتا فيما حوله وهو لا يشعر، تتلمسان تلك المقبرة التي انبسطت في مكان قصي من القرية، حيث ثوى آباؤه أشياخ القرية وكبارها.
إن بطون أمهاتنا هي التي دفعتنا إلى ضوء الشمس، وأخرجتنا إلى نور هذه الحياة، ولكنها لا تأخذنا ثانية إليها، ولا تستعيد مرة أخرى، وأما هذه الأرض فتحملنا، وتشرف على شبيبتنا، وتخرج خبأها لغذائنا وشبعنا ورينا، فإذا دق ناقوس الموت، وآذنت شمس حياتنا بالمغيب؛ فيومئذ تفتح صدرها للقائنا، وتنشق أخاديدها لتحوينا مرة أخرى.
فيا أيها الصدر العميق الرحيب، أيها الصدر الحنون الكريم، صدر أمنا الأولى، إنك لترأمنا صغارا، وترسل الطعام ينمي جسومنا، وتطبعنا بطابعك، فإذا وجوه لنا متشابهة، وملامح متقاربة، وأذهان متماثلة؛ وأخلاق متلائمة، يعرفنا بها العالم كله؛ فيتبين الأمة كلها في وجه فرد واحد منها.
إن ذلك الصبي الذي أجابك بما أجاب، فيلسوف عميق الفلسفة، على جهله بالقروي وسذاجته؛ إذ أملت عليه غريزته تلك الشريعة التي جعلت لكل قطعة من الأرض حدودا، وجعلت حدود الإيمان بها أعز أثرا في النفس من تخومها التي صورها المصورون في خريطة الإنسانية المتعددة الألوان.
إن الأرض تخرج أبناءها، كما تنتج الشجرة ثمارها، وإن الجنسية الواحدة لتخلع على الأرض عبقريتها الخاصة بها، كما تهب الشجرة فواكهها تلك الرائحة المنفردة بها، وذلك الطعم الذي لا تجده في فاكهة شجرة ذات ثمر غيرها. وما هذه الوطنية التي تراها في رجل منا إلا الشعور بتلك الرابطة التي بين الأرض، ونتاج ما حملت الأرض، وهي العاطفة المقدسة التي بثتها القوة الإلهية في النفس لتخفف روح الأنانية، وتكسر من حدة الأثرة؛ فهي ليست فضيلة؛ لأن الفضيلة تتطلب ذهنا يمدها، وعلما يوسع في أركانها، ويشد بنيانها، ولكنها غريزة ووحي وإلهام، وهي وثبة مادية، بل صوت الأرض يتردد في أنحاء النفس. وليست حاسة أدبية أول ما نشأت في الكتب، ولقنت في حلقات الدرس، وتليت في قاعات المطالعة.
وإذا كانت الوطنية ضربا عميقا من الحب، فإن للحب طبيعة متحركة متدافعة، إن وقفت في مكانها ركدت وأسنت، فهي أبدا تطلب الحركة، وتستوجب الزيادة والنماء، وهي تأبى إلا أن تتحلى في مظاهر متعددة، وتتخذ ألوانا متنوعة، وتحمل على نفسها ضرائب تؤديها، وترتضي «عوائد» تنزل راضية عنها.
وأول مظاهر هذا الحب الاحتفاظ بالماضي، والاستمساك بالذكرى، فإن العلائم الأولى لشيخوخة الشعب، وهرم الأمة - كما يقول شاتوبريان - لا تبدو عليها إلا عندما تنسى ماضيها، وتنكر تاريخها، وإن ميدان العمل المنفتح أمام الوطنية لأوسع مدى من ميدان القتال، وساحة المعركة، وليس في العالم رجل غير الأوغاد أو الجبناء، يعجز يوما عن تأدية عمل من ألوان البطولة، وكثيرون من أفراد الأمة لا يستطيعون أن يرتفعوا إلى عمل صالح، ووطنية صاخبة، وإنما ينساقون في فعال هادئة جلية، ولكنها لا تزال خصبة مجدبة تتطلب نشاطا عظيما متواصلا، لا يخفت يوما ولا يهن.
وأنت فتعلم أن في ساحة المعركة يستحيل كل شيء غير حقيقته، فالجو والوسط والروح نفسها تتغير، وتتخذ شعورا جديدا، ووثبة غير وثبتها الأولى، وأن تلك الأنظمة العنيفة المتينة التي تسير عليها الموقعة، وذوائب النيران المتصاعدة من فوهات القذائف، وجنة الجذب والدفع، ورائحة الدماء، وهرولة الجموع، وأصوات القواد، والعلم الخفاق فوق الرؤوس، كل أولئك خليقة بأن ترد الرجل ذا الروح الساكنة الميتة الهلوع، شجاعا باسلا غير ذي خوف أو جزع.
ولكن في الحياة اليومية الجارية إلى ساحل الأبدية لا تجد الروح أثرا لهذه العناصر التي تلهب الحمية، وتسعر الوجدان، وترسل وقدة النار في المشاعر، بل تجد الإرادة العارية نفسها وجها لوجه أمام تلك الواجبات الصغيرة، التي لا يحمل الإنسان على تأديتها غير ضميرة الحي، وغير إدراكه بمكانه من المجموع، وغير استماعه إلى ذلك الصوت الذي يبلغ سمعه من جوف المجتمع الذي يعيش فيه، ويهيب به. «إنك حر، ولكني أنا التي حبوتك بهذه الحرية التي تنعم بها، بفضل جهادي المستمر الذي ظللت أجاهده عدة الأجيال الماضية، وإن زهوك بنفسك، وبقوتك، ومالك، وذكائك، وعلمك إنما أخذته عني، وعاد إليك مني؛ فقد جعلت منك مخلوقا اجتماعيا قويا، فماذا فعلت لأجلي؟ وماذا رددت إلي؟ أيتها الذرة الصغيرة التي نمت في حقلي، والشجرة التي غابت أصولها في صدري، واستمدت غذاءها من عصارتي ... أية أثمار أخرجت؟ وأي نتاج كان منك؟»
هذا صوت الوطن يعهد إلى كل فرد من بنيه بفريضة من فرائضه، فأين أولئك الذين رفعوا وطنهم هذا مملكة محترمة، سيدة نفسها في العالم؟ وأين أولئك الذين جاهدوا وناضلوا لتكون مصرهم في الصف الأول من صفوف الأمم الحرة؟ فإنني أدور بعيني فلا أرى أحدا.
ولكن كلا، إنهم موجودون، إنهم متحركون، يغدون على أعيننا ويروحون، إنهم أحياء لم يموتوا، ولكنهم يعيشون عيشة الأنانية، وينعمون بحياة المسرة والغرور، ويحملون شبابهم وحميتهم إلى حيث يجدون نعمة أنفسهم، ولذاذة مشاعرهم، ولا يستمعون إلى صوت هذه الأرض المتألمة التي تحملهم فوق صدرها. •••
في هذه النهضة العامة التي جاشت بنفوس هذه الأمة، تبطل كثيرون، وظلوا على سكونهم كأن لم تكن هناك نهضة حولهم، ولا عصفت عاصفة في حيهم، ولا سمعوا أنات إخوة لهم، وما دام في الدنيا حان، وفي الحان شراب، وما دام في الشارع ملهى ومغدى للحيوانية ومراح، فإنهم بالغوها، وناعمون بها، وإن مشوا إليها تحت دوي القذائف، وفي غمرات من الحتوف، وفوق أشلاء من القتلى والجرحى.
بجانب هؤلاء نهض قوم، وجاهد ألوف، وفي بهرة أولئك ظهرت القادة، وتجلت العظماء، حملوا في ضلوعهم روح مصر، وصرخوا صرخة الحق في وجه القوة، وضربوا الخيانة بسوط الحب، وقد تشعبت المسالك، وتناوحت السبل، وفي وسط تلك الجموع كان رجل يعمل في سكون، ويجاهد لأمته في صمت، غير مستعجل القدر، ولا حاشد الطبول حوله، تجمع الناس إليه ليروا ما عمل، ولا متخذ صنائع له يدسون في الجماهير دسيستهم، ويتمدحون فعاله، ويرسلون القصيد تلو القصيد في الثناء على عمله، وإنما يستمد وسائل الجهاد من عصارة ذلك الحب المقدس، ومن روح تلك الوطنية التي تلهم النفوس الإخلاص للأرض التي تغتذي كالزهر من هوائها، وما كان حب الرجل العظيم لوطنه ليبدو للناس إلا في وجوه من الصدق، وثبات الخلق، وفي مظاهر فعالة عملية؛ لأن الرجل العظيم لا يحتمل أن يدخل مادة الشعر في مادة العمل؛ فيجعل وطنيته «ديوانا»، ويغرق وقدة ضميره في «بحور» من الشعر الوطني، بل لا يرضيه إلا أن يعمل ويضع وطنيته القوية كلها فيما يعمل، ثم لا يرضيه بعد أن يعمل إلا أن يتألم ويحس، ومعنى الألم والإحساس في وطنية الرجل العظيم الشعور بويلات وطنه، والآلام التي يعانيها في سبيل قضيته، وهو ذلك الحزن العميق الجياش الذي يأبى إلا أن يجد سبيله إلى تضميد جراح الوطن، وإصلاح وجوه الفساد فيه، ومحاولة الانتصار على كل ما يتهدد بلاده، ويرسل روح اليأس في نفوس عشيرته، ثم هو يأبى أخيرا إلا أن يبذل كل شيء من نفسه لينقذ نفس أمته.
وإن أكبر ما تتجمل به وطنية الرجل الكبير الذهن، احترامه للقوانين، وطاعته للنظام، ولن يكون في العالم حب حتى تكون بجانبه طاعة، وكلما تمادى الحب نمت الطاعة بجانبه، والرضى بسلطانه.
ولكن لا تزال لهذه الطاعة حدود تحد بها، وإلا كانت طاعة عمياء لا تبصر، وطائشة لا تعقل، ومجنونة لا تعي، وإن القوانين أو الشرائع التي لا يكون منها إلا إضعاف الروح الوطنية، وسلب حق من الحقوق، وابتعاث اليأس يمشي في صفوف الجماهير، لا تصيب من وطنية الرجل العظيم إلا السخط، ولا تثير إلا الغضب والألم، وإنه ليقف في رأس الخارجين عليها، ويثب إليها فيهدمها من أصولها، أو ينهزم دونها، وما هو بمستنيم حتى يزيلها من الحياة، ويعفي على آثارها في الأمة. •••
إذا تدبرت كل هذا فإنك ولا ريب تدرك أن صاحب هذه الترجمة هذا الرجل الذي ظل شبيبته كلها يعيش على القانون، ويستن قانونا، ويهدم قانونا، لا يزال عظيما في وطنيته؛ لأنه يحترم القانون ما دام القانون منزويا في حدوده، ثم هو بعد ذلك أشد الناس خروجا عليه، وتمردا على بنوده، إذا تعدى القانون سننه، وتمادت به سلطته، وقد رأينا أقرب مثال لذلك، وأجل حجة يوم شهدنا ما كان منه إذ انبرى تشمبرلين في مجلس النواب، واللورد في قصر الحاكم العام؛ حيث النيل يلتقي أبيضه بأزرقه، فجعلا يحدثان الناس عن السودان، وأنه قطعة من الأرض ستظل متصلة بلندن آخر الدهر، وأن مصر ليس لها إلا المال تأخذ منه ما تشاء، وتعطي منه ما فيه الغناء، فقد خرج المترجم به من هدوئه الطبيعي، واستنفرته تلك التصريحات الكواذب، فلم يلبث أن سعى سعيه، فإذا نحن مصبحون، وقد قررت لجنة الدستور أن السودان كما كان ضمن حدود مصر، وأن هذه البلاد تجري مع النيل حيث جرى.
هذه وطنية جريئة، قوية الأعصاب، تمشي فاتحة صدرها للعالم، لا تخشى إذا أخطأت في عمل من أعمالها أن تعود عنه إلى ما هو أصلح؛ إذا قيل أخطأت وضلت، والجرأة في الوطنية عنصر قوي يشدها، ويحرك نبضها، ويسوقها إلى سبل صالحة، ويغريها بأحداث ما كانت لتعجز عنه لو أنها كانت وطنية خجلة منزوية، لا تستطيع أن تواجه حرارة الشمس؛ ولذا كانت وطنية هذا الرجل العظيم هي التي غيرت نظام الحكم في هذا البلد، وأحالت تاريخ هذه المملكة من صفحات سود في ظل حماية أليمة مخجلة لشعب حر ناهض إلى صفحات بيض تحت ملكية ديموقراطية، وأنفذت في بضعة أشهر ما عجزت كل تلك الضحايا التي سالت دماؤها نجيعا فوق أديم هذه الأرض في جنة الثورة، وسورة النهضة، وما خابت تلك البعوث والوفود والبرد والمفاوضات في تحقيقه في أعوام ثلاثة، مررن طوالا صاخبة مرتفعة الصوت، كثيرة الغيوم، متجهمة الطلعة، وهذه الوطنية التي أملت شروطها على أكبر أمة في العالم، وكتبت رغائبها، وأصرت على مطالبها ، واستمع لها الناس حتى أعداؤها، ووضعت مستقبل هذه الأمة في يدها، فوضع الله عونه في يدها الأخرى، مشت بنا من وهدة كنا لا نجرأ أن نرفع فيها رؤوسنا، أو أن نذكر في العالم اسمنا وجنسيتنا، حتى يقال هذا طفل من أطفال الإنسانية يعيش في أحضان دولة أجنبية ترعاه، وتقوم على حراسته وكفالته، فأصبحنا بفضل ما أسدت إلينا هذه الوطنية الجسور الرابطة الجأش في وجه الزوبعة، الساكنة الأعصاب حيال العاصفة الهوجاء، نمشي في الدنيا أهل كرامة لا بالأذلاء المتطامنين، ولا بالمحكومين، ولا بالمحميين.
ومن أكبر مميزات وطنية العظيم صراحتها، وسعة صدرها، وقبولها كل ما يقال عنها، من نقد أو شر؛ لأنها مؤمنة بنفسها، مطمئنة إلى كل عمل تؤديه، وكل حركة تتحركها، وهي إن لم تنقد أو تعب تسأل الناس نقدا، وتطلب إليهم تعييبا، حتى تستريح إلى نفسها، وحتى تعلم مبلغ أثرها فيما حولها، وكيف عمركم الله لا تكون كذلك، وهي مضطلعة بخطوب كبار، متحملة أعباء ثقالا، وهي في الرأس والطليعة، والناس من ورائها في الساقة والمؤخرة، وقد يرى أحقر جندي في المعركة ما لا يراه القائد، ولا يدركه ضابطه الأعلى، وكم جندي صغير ضئيل المرتبة أجدى على معركة كبرى، وأرشد قائدا خطيرا، ودله على موضع الفوز من الحومة.
وإذا كان هذا هكذا فقد كانت وطنية صاحب الترجمة وطنية صريحة، لا تريد غشا، ولا تطلب أن يحكم لها الناس بالعصمة من الخطأ، وبالبراءة من الزلل؛ لأنها ليست من القداسة في شيء، ولا من النبوة، وإنما هي تستهدي بوحي وجدانها، وتنطلق مستدلة بقوة عبقريتها، ونقاء ضميرها، فهي تتسع لكل نقد، وترتضي كل مناقشة، ولا تغضب من الملاحظة، وقد وقف صاحب الترجمة في خطبة له، فدعا الناس إلى نقده، وسألهم أن لا يكذبوه إذا مشى في أمر يكرهونه، أو اتخذ سبيلا غير سبيلهم الذي يريدونه، وذلكم دليل على وطنية مستبسلة صادقة، تهب من سمعتها، ومن كرامتها، ومن نفسها ليسر الناس، ويجدوا لديها ما هم ناشدوه.
ثم أنت لا تجد وطنية العظيم بعد هذا كله طالبة الشهرة، تريد من أي عمل تقوم به أن تبلغ مطمح نفسها، وما تصبو إليه، فإن ذلك من ناحية العظمة منقصة ومعاب، والعظمة لا تسقط إلى ما يسف إليه الناس، ولا تطلب في الحياة ما يطلب العاديون من أهل القطيع الإنساني، والشهرة ترمي نفسها عند قدمي العظيم فيركلها بقدمه؛ لأنه يأبى أن يجعلها أساس جهاده، والحجر الأول في بناء مبادئه، وصرح تفكيره ودأبه لصالح الجماعة ومنفعة الكافة، ولئن فعل لركب رأسه، وساقه الولوع بالشهرة إلى المجازفة بنفسه، والمقامرة بمستقبله، والعظمة لا تحب المقامرة، ولا ترضى لنفسها أن تستمد قدرها من ورق اللعب، وإذا استنفر الغرام بالشهرة في فؤاد رجل، استحوذ عليه، فأقدم على ما لا يجسر عليه إلا ذو الجنة، والأحمق المستهتر، وقد أغرت الشهرة قوما كانوا أهل موهبة كبرى، وعقول جبارة، فصدرت عنهم فعال هي مادة الطيش والحماقة كلها، فقد جن نابليون بها جنونا، ففتح نصف العالم في بضع سنين، وخسره في بضع ساعات، وهدم كل شيء في طريقه حتى يبلغ مقعد الإمبراطورية، فلما وضع التاج فوق رأسه، واشتمل بذلك الثوب المزركش الزاهي الألوان، رداء الإمبراطور العظيم، لم يلبث بعد انتهاء حفلة التتويج أن صاح في حجرة ثيابه بوصيفه الذي كان يعينه على خلع أرديته: «هلم اخلع عني هذا الثوب الكريه المقيت.»
تلك كانت صرخة الضمير في أعماق ذلك الرجل؛ إذ أحس أنه قد طلب أمرا لم يكن له أن يطلبه، لولا أن حب الفخار، وطلاب الشهرة، ساقا به إلى الجنون بالسلطان، حتى لقد قال عام 1811 لقائد من قواد بافاريا: «في أعوام ثلاثة سأكون سيد الكون!».
وفي حديث له مع مدام دى ريميزا قال يوما: «لست على مثال أي رجل آخر في العالم، فإن قوانين الأخلاق، ومراعاة الواجبات العامة لا تروق في عيني، ولا تحدث أثرا في نفسي.»، فلما أصبح معتقلا، ضئيل النفس في جزيرة قفر نائية في بهرة الأوقيانوس، عاد يقول: «كان لا بد للإنسان دائما من أن يحدث الناس عن الحرية، والمساواة والعدل، والبعد عن الغرض، ثم لا يمنحهم من ذلك شيئا البتة.»
إن رجلا كهذا خدع شعبا كاملا، وجره إلى الحروب جرا، واستاقه بالهراوة والبندقية لأطماع نفسه، ولكي يسود الكون كله إلها أرضيا له ذهن الجبابرة، وقدم من الطين، لم يفق من نشوة ذلك المجد الزائل الذي أصابه، إلا أسيرا لا خطر له في العالم ولا شأن.
وقد كان دزرائيلي كذلك رجلا جسورا في طلب الشهرة، وكانت له ذهنية نابوليون عينها، ونفسيته، فكلاهما آثر مقاصده الشخصية على مصلحة أمته، وصبغ الحياة العامة بصبغة طابعه، ولا يزال في بريطانيا إلى اليوم خلق كثير يذهبون إلى أن هذا اليهودي الغريب «دزرائيلي» الذي جلس مجلس الرئاسة في حكومة الإنكليز، لم يكن إلا رجلا أفاكا، مزورا على الناس لونا خداعا من ألوان العظمة، وقد حدث عام 1841 أن السير روبرت بيل ألف وزارته، ولم يجعل لدزرائيلي مكانا فيها، لا حقدا ولا ضغنا، ولا كراهية للرجل، بل كانت العلاقة بين الرجلين على أحب ما يكون بين السياسي والسياسي، ولكن السير روبرت بيل كان رجلا ضعيف الخيال، فلم يخطر بباله أن فتى كهذا حدثا يختلف عن بقية ساسة ذلك العصر في مظهره وخلقه سيكون له في الحياة العامة شأن، وسيروح عاملا سياسيا من أكبر العوامل خطرا ومكانة، ومنعه كذلك من طلبه في وزارته أن رجلا كاللورد دربي قال له غير خائف ولا مؤارب: «لو أن هذا الشرير دخل في الوزارة لما بقيت فيها لحظة واحدة.»
ووقع اليأس من نفس دزرائيلي إذ حيل بينه وبين أن يكون في مقاعد الحكومة؛ فترامى على السير روبرت بيل، وتهالك عليه، متوسلا في لهجة حقيرة ليست خليقة برجل نابغة عظيم النفس، أن يجد له مكانا في الحكومة، ثم كتب إليه بعد ذلك يقول: «إنني أنادي فيك روح العدل، وتلك العظمة النفسانية التي هي من أكبر مزايا شخصيتك أن أنقذني من ذلة لا أستطيع لها احتمالا.»، وأعجب من هذه الضلة التي وقع فيها رجل خطير كهذا ضحية للولوع بالشهرة، والظفر بمكان في الحكومة يظهر منه على أعناق الجماعات، أنه كذب وتنصل قائلا بعد ذلك ببضعة أعوام: «إن أمرا مثل هذا لم يكن، وإنه لم يسأل أحدا في حياته وظيفة، ولا التمس من مخلوق ملتمسا.»
إن الوطنية الصحيحة المتدفقة من نبعة ضمير حي، نقي وثاب، لا تحتفل كل هذا الاحتفال بالشهرة، ولا تستجم لها كل هذا الاستجمام؛ لأنها تعلم أن مجدها سيؤاتيها من حيث لا تبتغيه، وأن الخلود سيقع من نصيبها، وإن لم تسأل عنه، أو تطلبه حيث يوجد، فهي لا تخادع نفسها، ولا تكذب على ضميرها، ولا تحفر الحفر لأقدامها، وإنما هي تسير ركضا إلى مبدئها، وتندفع في سننها الذي اختطته، فإن أصابت الحق أصابت معه الشهرة والمجد، وإن ضل صاحبها وغوى، فحسبه عزاء عن فشله أنه كان المجاهد، ويكفيه سكونا لنفسه، ورضى عن عمله، أنه كان المستوفز الدؤوب المجد.
كذلك كانت وطنية هذا الرجل العظيم الذي نكتب الآن عنه، فهو لم يصل إلى مكانه هذا، على أجنحة الشهرة، وبخوافي الطمع وقوادمه، ولم يمش إلى مقعد الرئاسة من هذه الحكومة بجملة من العرائض، واستمارات الاستخدام، ولم يرفع عن بلاده علم الحماية المهينة، ليصيب شهرة طويلة عريضة، إذ كان منذ نشأته الأولى شابا متقد الذكاء، قوي الشخصية، فكانت الحكومة هي التي تمد إليه يدها، ولم يكن هو ليمد لها من نفسه يدا، وما سأل الحكومة في كل أدوار حياته، وفي كل المناصب التي تقلدها، أن تضعه في هذا المكان، وتحمله من ذاك؛ وتعينه من الوظائف في تلك؛ لأن ذلك ليس من شأنه، ولا من سليقته، ولن يكون النابغة العظيم النفس من متسولة الوظائف، ومتكففة المناصب؛ لأنه يحس من نفسه أنه أكبر من كل مكان يوضع فيه، وأن المناصب إنما تعرض عليه، ولا يعرض نفسه هو عليها عرضا.
وقد يقول أولئك الذين غشيتهم الغاشية: كيف لعمرنا يتقبل هذا الرجل الوزارة، ويتصدى للرئاسة، فهو ليس إلا رجلا طماعا، ووطنيا كاذبا؛ وحكوميا من عبدة الحكومة، فهؤلاء قوم يتكلمون على هوى نفوسهم، فلو أن أعجز الناس، وأضأل القوم روحا، وأخون العشيرة ضميرا سئل أن يترأس، وطلب إليه أن ينشئ طليق الإرادة حكومة جديدة لقلب هذه الأرض ظهرها لبطنها؛ ليظهر من أحقر حظائر هذه الأمة قطيعا ينصبه للوزارة، وأخرج من أقبية الطابق الأرضي في البلاد زمرة من المعاتبة النوكى، يضعهم على دسوت الحكم، ومقاعد الوزراء.
وما كان هذا الرجل يريد الوزارة ليأكل من راتبها، وما كان صغيرا قبل الرئاسة فكبر بها، وما كان فقيرا فأثرى من ورائها، وما كان خاملا فنبه بذكرها وخطرها، ولو لم تدفع إليه على كره منه، لوقعت في يد رجل ضئيل، من قعائد القصور، ولهبطت إلى «مظلوم» بها، أو أصابها من لا «توفيق» له فيها، ولكن هذا الرجل كان قائدا.
وكان في طليعة نوابغ الحكوميين، فكان وحده المستطيع أن يرى الشعاب المترامية في البحر، ويعرف كيف يسير سفينة السياسة في وسط تلك الصخور الشم العاتية، وكانت إرادته العنيفة المستأسدة كفيلة بأن تخرج من المأزق منتصرة رابحة.
والناس في هذا العصر يسمعون صغار الأمة، وعامتها، والأقزام فيها يقولون في مصبح كل يوم وممساه: «وطنى، وطني!»، ويستكثرون أن يفرط أحدهم في حق بلاده، ويرون الشناعة كلها أن يخون الرجل منهم أمته، ويستهتر بأمنية قومه، ثم ضلة لهم، يرتعون في لحم الرجل الكبير فيهم، ولا يستبعدون عنه أن يكون مفرطا مستهينا مستهترا، كأنما الوطنية في عصرنا هذا ليست إلا بضع كلمات شعرية عذبة، يفوه بها صعلوك من صعاليك الأمة، في مشرب حان أو في ندوة من المفاليك، فإذا هو الوطني الصميم المتقد الفؤاد، المستعر الجانحة بحب بلاده، وأن نابغة من نوابغ الشعب أوتي إرادة فعالة ناضجة، وذهنية وثابة قوية، وضميرا نقيا، وشخصية قائدة ذات سلطان على النفوس، يرضى لنفسه أن يقف في ساقة الأمة، ويتخلف عن جموع الوطنيين، ويستهتر بحق البلاد، وأحقر فلاح فيها غير مستهتر!
ولكنا وا أسفاه نعيش في عصر فاسد، ذاع فيه الكذب، وتخون الناس فيه بعضهم بعضا، واتجر فريق بوطنية مزجاة، واستطال فيه القول، فأجهر الناس صوتا أرهبهم في الجماعة مكانا، وأدخلهم على النفوس بالأثر والخوف والإكبار، وأما الرجل الذي يعمل في صمت، ويحمل على نفسه جاهدا، ويدأب لكي يجعل القضية الوطنية مسألة عملية، لا شعر حولها ولا قصيد، ولا زغردة بجانبها ولا ترنم ولا تغريد، فذلكم وطني لم يجر بوطنيته مجرى «المودة» الجديدة، ولم يخلص لهم في أمر، ولم يشرف عليهم من رابية، ولذلك كان أولى بأن لا يحب، ولا يكبر شأنه.
إن عصرا كهذا ينبغي أن يوسم بميسم الانحطاط؛ لأنه جيل خيالي كاذب، لا ينشد حقا، ولا يطلب عملا، وإنما يريد أن يجعل من هذه الحركة شيئا أشبه «بالزفة»، تسير في مقدمتها «الفتوات»، ويركب في رأسها «ملك» ذو طراطير حمراء صفراء، في ثياب مهلهلة خضراء، فإذا مضى العرس، عاد إلى مكانه فوق دكة من الخشب في «حاصل» فارغ!
ولكن الوطنية الصادقة الصوت العاملة لا تأبه بما يصيح حولها من منكرة الأصوات، وإنما تسير قدما في طريقها إلى غايتها المنشودة ...
الرجل العظيم والعصر الذي يعيش فيه
ليست العظمة من النباتات التي تخرجها كل تربة، وينميها كل جو، وتزكو في كل حقل، وليست من الفواكه الإنسانية التي تطلع على الناس في مواقيت محدودة، وتحمل إليهم من الفصل إلى الفصل، وينادى عليها في عرض الطريق، فلو أنها كانت كذلك لكان ظهورها في العالم أمرا اعتياديا لا يحتفل به، ولمضت رخيصة الثمن، مبتذلة القيمة، ولكسدت سوقها فأضحت تخزن فوق الرفوف، وترمى فوق الدواليب، ولكان هناك في حوانيت الفاكهة الإنسانية جملة من العظمة العفنة الجوف من طول رقادها في الحانوت، واختناق عصارتها في جو الدكاكين.
ولكن العظمة نبات غريب، لا موعد لظهوره، ولا أوان لخروجه. ولم يهتد العلم بعد إلى أصل بذرته، ولم يكتشف بعد طبائعه، وخصائصه ومزاياه، ولا يزال الناس لا يسيغون ثماره إذا طعموا منها، وفي القوم عديد لا يستلذون بشرابه، ولا يجدون له رائحة جميلة في مذاقه، وكأين من نباتات صغيرة منحتها الطبيعة بعض مزايا ذلك النبات النادر المستغرب، فلم تجد طلابا، ولم يرج لها سوق، في وسط الخضروات الأخرى التي ألفها الناس، وعاشوا عليها، ووجدوا فيها سمنهم وشبعهم، فذبلت تلك الأعواد الناضرة، وذوت تلك النجوم التي كادت تخرج شطأها.
تلكم العبقريات الصغيرة، وأهل الموهبة الذكية المتقدة، من كتاب لم يتحدوا أدب الماضي، ولم يأخذوا عن أساليب الكتب، وإنما خرجت أذهانهم قوية بنفسها، عظيمة من ذلك الوحي الذي يتنزل على أفئدتها.
فسخرت من كل ما جاء قبلها، وطلعت على الناس بأمثلة جديدة من الفكر الإلهي، لم يكن له في الماضي مثال أو غرار، فلم تستقبلهم الإنسانية كما استقبلت غيرهم ممن استطاعت أن تفهمهم، ولم تجد العناء في إدراك حقائقهم، وعجزت عن أن تدرك ماذا تصنع بهم، وحارت فيما ينبغي أن تفعل من أجلهم، فتركت تلك الأعواد الحلوة المعسولة الثمر في فم الخلود، تذبل على أشجارها، وتذوى دون أن تقتطف شيئا من دانية قطوفها.
وكم من أولئك النوابغ الذين لم يفهمهم الدهر، ولم يحتفل بظهورهم الجميل، قضوا حياتهم في غيابة سجن، أو ماتوا في مقعد حان، أو طرائح على سرر خشبية، أو هائمين على وجوههم في مستشفيات المجانين، أو مرضى جياعا، وكلاب الإنسانية السعيدة المنهومة تأكل، وتجد في الأسواق شبعا وريا.
لقد كانت مادة العظمة الإنسانية غنية كثيرة الظهور، دائبة النتاج، يوم كانت الدنيا خيرا مما هي فيه اليوم، ويوم كان العالم لم يجن بعد جنونه بالماديات، ولم يحشد قوته كلها لاكتشاف مشتهيات طريفة للذة البدن، ويوم كانت الفضيلة لا تزال لها عبدة في العالم، ولا يزال لها مسمى لم يعتصر حتى يصبح كما هو اليوم ضعيفا لا عصارة له، ولا قوة، ولا ذكر، فكانت الطبيعة تخرج العظمة على مستهل الجيل، ثم تلغي ما ظهر منها بقالب آخر أبدع وأمتن وأجل، إذ كانت الطبيعة إذ ذاك قد جعلت من هذه الأرض، واتخذت من هذا الكوكب المنطفئ حقولا للتجارب، و«مشاتل» لزراعة العظمة الإنسانية، فلم تفلح تلك التجربة، ولم تخرج تلك الحقول ما يشجع الطبيعة على عملها المقدس.
لقد كان الناس يوم كانت الدنيا كما وصفنا ينظرون إلى النوابغ نظرهم إلى نوع غريب من الحيوانات ظهر بينهم، وفصيلة جديدة من الناس لم تخلق على غرارهم، ولكن العظماء كانوا أقوى من الناس، وكان العبقريون أعظم بأسا من الإنسانية التي نشأوا بينها؛ فثأروا لأنفسهم منها، وكتبوا هذا التاريخ وحدهم، إذ ليس تاريخ الدنيا إلا تراجم حياة النوابغ الذين ظهروا على مسرح العالم في مختلف العصور الغابرة، ولو أنك جمعتهم في حي واحد، وضممت غابرهم إلى حاضرهم، لما زادوا في مجموعهم عن سكان حي صغير في أحد شوارع المدينة.
إن أولئك الذين يذهبون إلى أن الرجل العظيم إنما يستمد عظمته من العصر، وأن العظماء ليسوا إلا مخلوقات الظروف، قد أخطأوا في فهم العظمة، وعجزوا عن إدراك أسرار الطبيعة التي أظهرتها، فإن القوة الإلهية لا تسير العظماء على هوى الناس، ولا ترسلهم إلى الدنيا ليزينوا العصور التي يعيشون فيها، ويجملون الأجيال التي بدوا على مستهلها، ولم ترض القوة الإلهية أن تنشئ في قطعة ناضرة من هذه الدنيا كل تلك الثورة الفرنسية، ولم تسكن أمام تلك المشاهد الرائعة التي تجلت في بهرة تلك الجنة الإنسانية، ولم تنظر صامتة إلى كل تلك النفوس التي طيح بها، وتلك الدماء التي سفحت وغيرت لون الأرض؛ لكي تخرج بعدها ضابطا شابا في المدفعية، ولكي ينبري لهذه الثورة الطائشة الحمقاء، فتى حدث فقير، لم تخرجه مقاعد الجامعة، ولم يجتز في المعهد العالي، وإنما أخذ بنصيب من فنون الحرب، في مدرسة صغيرة لم تكن شيئا بجانب مدرسة الثورة، وما خلقت من فنون الحرب ومدهشاتها، تحت عبقربة القتل، والسفك، والتعذيب، وإلا فماذا كان يكون مصير ذلك الشاب بونابرت، لو أن الناس في فرنسا ظلوا ناسا، ولم تجعل منهم الثورة مردة شياطين يعيشون على الدماء، ويغتذون من لحم الملوك، وماذا لعمري كانت ستكون سيرته وحياته؛ لو أن العصر الذي جيء به فيه، والعهد الذي وثب إليه من أحشاء الكون كان عصرا هادئا صامتا، لا تسمع فيه قذيفة، ولا يتردد في أنحائه صوت مدفع؛ أفكانت القوة الإلهية التي خلعت عليه من المولد ذلك الوحي الذي جعل يمشي وهو في صدره، راضية أن يموت وحيها في فؤاده ، وأن يفسد عليها صنعها المتقن، ويخيب غرضها الإلهي الذي أرادته من خلقه، فيمضي نابوليون في العالم طفلا صغيرا من أطفال الدنيا، ويموت خاملا ضئيلا، حقير الذكر، فلا يكتب له في تاريخ العالم ما كتب من تلك الصفحات التي لا يزال الناس في عجب ودهشة عند قراءتها.
كلا، إن القوة الإلهية إنما تخلق العظيم أول أمرها، أو تمتهد لخلقه السبيل؛ أو تجعله في طريق التهذيب والتكوين، ثم تزجي له بعد ذلك العصر الخليق به، وتنشئ له الجيل الذي يسمو فيه، وإلا لو كان للعصر وحده، فضل إظهار عظمة العظيم، وكان للأجيال اليد في خلق العظماء، والانتفاع بهم، لكانت الإنسانية هي التي تزهى بأنهم نتاجها، وتفخر بأن العظمة من صنائعها، وثمرة مجهودها؛ على حين أن العظماء هم الذين أظهروا كلمتهم على الناس، وأنهم قادوا الإنسانية إلى حيث كانت تكره أن تقاد، وأكرهوها على أن تدين بما لم تكن عن طواعية لتدين به، وكم من عظيم ساق الناس بالعصا إلى الإصلاح، ورعى شؤونهم، وعني بأمرهم على كره منهم، وكم من رجل خطير لقي العذاب من أيدي الناس، وعانى التشريد، وشهد ألوان الموت حيا في سبيل هدايتهم إلى الحق، والنهوض بهم من وهدة الضلة والجهل، والانحطاط والفساد، حتى لقد تناهى بالناس الحب للسيد المسيح، كما قال برناردشو، فصلبوه - كما زعموا أنهم فعلوا - ثم عبدوه في قطعة من الخشب، ودانوا بتلك الخشبة التي سميت بعد ذلك صليبهم!
إن العظمة الإنسانية ليست من خلق عصرها، وليست وليدة جيلها، وإنما هي تستمد من العصر مجالا لها تظهر فيه ما تريد القوة الإلهية منها، وهي كالصورة المتقنة الخفية التي تلتقطها الأداة الشمسية، تم لا غنى لها عن الدخول في حجرة مظلمة معتمة، تستقر فيها ردحا من الزمن، ثم من تلك الأحماض الكريهة الرائحة؛ لإظهار تقاطيعها، ودقائق تركيبها، وقد يكون العصر يوما مفسدة لها، ومغريا إياها بجنون القوة، وقد يردها عاتية ظالمة باطشة، وقد يقتل بذور الحنان الكمين فيها؛ فتكون عظمة جزارة، تحمل السكين فوق رأس الجيل، وتعلق السيف مسلولا فوق عنق الإنسانية. •••
وإذا كان هذا هكذا، فاعلم أن هذا العصر لم ينشئ صاحب الترجمة، ولم يخرج الرجل من جوقه، ولم يكن له الفضل في ظهوره؛ لأن المترجم به كان منذ نشأته الأولى، يوم كان في مقاعد المدرسة، وفي أفنية المعهد يمشي يحمل مشاعر العظمة في صدره، ويحس بوادر النبوغ متجلية في كراسته، وفي أسئلته وأجوبته، وكان يخطر في الطريق والقوة الإلهية تكون فيه فتى حدثا في ريع العمر، رئيس وزارة خطير على رأس الخمسين!
وإذا كان هذا العصر قد أجدى على هذه الشخصية المتينة المبتكرة التي لم تبلغ ما بلغت وراء صناعة التقليد، ولم تصل إلى ما وصلت نتيجة التحوير في طبيعتها والتزوير، والمحو والإثبات، فذلكم عون العصر له، ومشيه في أذياله، ورضاه بإرادته، وبما جاء به، فقد كان صاحب الترجمة من العظماء الذين أتيح لهم حسن الحظ أن العصر لم يستطع أن ينكرهم، وعجز الجيل عن أن يبدو لهم جاهلا شأنهم.
وكان لا بد من رجل يثب من ناحية من نواحي هذه الأمة، في وسط هذا النزاع الذي ضل فيه الناس، فلم يتبينوا في أية زاوية كمن الحق، وفي هذا الجمود الساكن الذي خيل إلى الإنسانية فيه أن ملك الموت قد رفرف بجناحيه على هذا الوادي. نعم، كان لا بد من روح قوية عتيدة الإرادة، صادقة العزيمة، تنهض فتجعل اليوم يومها، والكلمة كلمتها، وتكسر من حدة ذلك الشجار الذي ثارت ثورته حولها، وتبدد ذلك الجمود المميت؛ فتثير في مكانه نشاطا هو مادة الحياة كلها، وتجعل ذلك السكون حركة مباركة، يرجى أن ترد على هذا البلد مستقبلا مجيدا مزهرا، وتعيد إليها حريتها الضائعة، ومكانها القديم من المجد، وعظمة التاريخ، وكان صاحب الترجمة هو ذلكم الرجل الذي أعدته الأقدار لهذا اليوم الرهيب.
الموازنة بين ثروت وكافور
من أعجب أكاذيب العصر الذي نعيش فيه أن الوطنية لا تتجلى إلا في الشارع، ولا مظهر لها إلا الطريق، وأنها احتكار لأبناء الشعب، وحق مطلق لأفراد العامة، وأن الذين يجلسون في مقاعد الحكومة ، ويتربعون في دسوت السلطان؛ يخلعون أردية الوطنية عند عتبة «الديوان»، وما رأينا ضلة كهذه هي السخف بعينه، والكذب بمادته، كأنما رئاسات الحكومة في بلادنا هذه لا تعطى إلا للخونة، وكأنما الرجل منا لا يبلغ أول مقعد للحكم في هذه الأمة إلا بعد سلسلة مستطيلة من أعمال العسف؛ وفعال الجور والبطش، وكأنما ينتخب وزراؤنا من غيابات السجون، ومن إصلاحيات الرجال، وكأنما لم يكونوا يوما من شباب الأمة المهذبين، وصفوة بنائها في العلم والرقي، وعظمة الذهن، وكأنما لم يكونوا قبل المنصب من النوابغ في القانون، والأعلام في القضاء، والمراجيح في الفضل والحمية والذكاء، وكأنما الوطنية في بلادنا تغتذي من الجهل، وتستمد قوتها من سوقية العاطفة، ومن عامية الوجدان، على حين أن الوطنية عاطفة لا تسكن في الأمعاء، ولا تستقر في الأجواف، ولا تكمن في الحلوق؛ وإنما هي أبدا بحاجة إلى فؤاد كبير تتربع فيه، وإلى ذهن ذكي تتقدم في ظله، وتستحثه على المضي بها إلى الطليعة، والمشي معها إلى المقدمة، ونحن رأينا جمهرة العامة يعيشون في هذا البلد ببطونهم وأمعائهم، وتعيش الوطنية منهم في حناجرهم وحلوقهم؛ لأنها لا تستطيع أن تقيم في ركن معتم مقرور من أفئدتهم الباردة.
والعامة - كما رأيتم - عبدة أهوائهم، وأشباح تتمشى وراء الصارخ فيهم، الناعق في بهرتهم، فالوطنية لا مقياس لها عندهم إلا في رنة الصوت، وفي عمق الحنجرة، وبين الدعاء بالحياة، والنداء بالسقوط؛ إذ هم لا يرون من كل حركة وطنية إلا ظاهرها، والغشاء الذي يكسوها، أما اللب والباطن، وأسرار النهضة ومطالبها، ومستلزماتها الأولى، فقد عميت بصائرهم عنها، وغشيت الغاشية أعينهم، فالحكومة عندهم في ناحية، والأمة على الضفة الأخرى، ولا يصل الرجل منا إلى الشاطئ الثاني إلا إذا قذف بوطنيته في اليم، يقذفها اليم بالساحل؛ لكي ترتد إلى العامة فتزيدهم وطنية على وطنيتهم، فوطنية كل رجل في الحكومة هاربة عادية لتتنزل على فؤاد رجل من الأمة، وهذا منتهى ما بلغ بالناس سوء الظن، وقصر البصر، وطيش الرأي، والجهل بالحقائق، ومغالطة التاريخ.
وما منع رجلا كالوزير الإيطالي كافور أن يكون وزيرا في الحكومة، ورأس الوطنيين في الأمة، فما تخونه إذ مشى إلى مقاعد الحكومة أحد من قومه، ولا استزرى به أهل وطنه، في عصر تلك النهضة الكبرى التي كانت تجاهد فيها إيطاليا المشتتة المنقسمة، المنتهبة المحكومة لتكون إيطاليا الحرة الفتاة المجتمعة المتحدة، وكان أحقر رجل في صفوف العامة يستطيع أن يقف في وجه أكبر وزير في الحكومة يناقشه الحساب، ويقوم اعوجاج الوزير بحد سيفه؛ فلم يفعل أحد منهم شيئا من ذلك، ولم يتهموه في الوطنية بحكوميته، ولم يقرفوه بالضعف في عقيدته، ولكن أين لنا بعامة كعامة الطليان؛ في وطنية عاقلة رشيدة متقدة كوطنيتهم، ونحن في ذلك نختلف عن أهل الغرب، وتتباين عامتنا وعامتهم؛ لأننا لا نزال شرقيين نعيش على الخيال، رهائن الوساوس، عرضة للأوهام، وليست وطنية سوادنا إلا قصيدا من الشعر، ومعلقة من المعلقات، فنحن نرد الحقائق أوهاما، ونحيلها خيالا، ونجعل من الوهم حقا، ومن الباطل صدقا، فإذا نهض فينا رجل بوطنية عملية، لا تعرف ثرثرة، وليست مغنية، والناس زامرون وراءها، فما هو بمصيب عند الناس من الإعجاب ما يصيبه الحوذي الجالس فوق مصطبة مركبته؛ يلوح بالسوط في يده، وفي حنجرته مادة الوطنية الصخابة الجوفاء.
هذا الوزير كافور تقدم إلى قومه بحب عميق في حبة فؤاده لبلاده، ورغبة صادقة في تحرير أمته؛ فعمل أكثر مما تكلم، وتكلم أقل مما صرخ؛ ولم يصرخ إذ عرف أن قومه سميعون لصوته الهادئ غير صم الآذان عن ساكنة كلماته، فأحبه قومه: بل رفعوه إلى مصاف البطولة النادرة المثال، ونصبوا له تماثيل من نفوسهم، قبل أن يرفعوا له تمثالا من الحجر.
ونحن قد تبينا في وزيرنا الأول، صاحب هذه الترجمة؛ وجوها عدة من الشبه، وروابط متنوعة من الصلة والمقارنة بينه وبين الوزير كافور، ذلكم الرجل الذي نازع أمما عديدة فغلبها في سبيل حرية إيطالية الجميلة، وتقدم إلى الحكومة بقلب ثبت، وجأش رابط، فجعل في الحكومة وطنية أعلا وأمتن من وطنية الصفوف.
ولد كافور عام 1810 من أسرة أرستقراطية، نبيلة المحتد، مؤثلة المجد، من بيت قديم، وأجداد أمجاد في ذروة العلا شرفهم، وكذلك كان منشأ صاحب الدولة ثروت باشا، فجده لأبيه كان في عهد محمد علي العظيم سر خليفة الرزقة، وكان جده لأمه قبل ذلك مستحفظان مصر.
وكان كافور في شبيبته ذكيا، ملتهب الذهن، نشيطا، مستحر الذكاء، فلم يكد يناهز الحول السادس عشر حتى كان أول فرقته في المعهد، وفي رأس الطلبة في المدرسة، وكذلك كان صاحب الترجمة في صباه فتى متقد الوجدان؛ سريع الخاطر، حاضر البديهة، فنال وهو في الحول السادس عشر كالوزير كافور شهادة «البكالوريا»، وكان فيها أول الناجحين، وعلى رأس من فازوا من طلبة المدارس الثانوية.
وكانت الصراحة أول مزايا شخصية كافور وعبقريته فلم يستطع منذ نشأته إخفاء آرائه المتحررة من التقاليد العتيقة، ولم يكتم عن الذين كانوا حوله كراهيته للجمود؛ وعبثه بالقديم؛ وسخريته من البالي المهدم، وفي الحق علم أهل عصر الشباب في صبا ثروت باشا ولداته في مدرسة الحقوق، وأقرانه في المعهد شيئا كثيرا من هذا الخلق، فكان صاحب الترجمة فتى مهذبا، سامي النفس، متخلصا من آداب الجمود، يعيش منساقا مع فطرته النقية، وذهنه الخصيب، وعاطفته الحادة الفوارة الفياضة النبع، فكان صريحا في قوله، مهذبا في آرائه، جديدا في خواطره.
وقد شهد كافور ما كان من تلك الثورة التي نشبت في فرنسا عام 1830، وما أحدثته من الشر والضر؛ فتعلم منها فضل الملكية الديمقراطية على سائر الأنظمة؛ وبقية أساليب الحكم، وكان أكبر أحلامه البديعة الجميلة أن يشهد مملكة إيطالية مستقلة ملتئمة الأطراف؛ متحررة من كل يد أجنبية، متخلصة من كل سلطة واغلة، وكان كافور يؤثر أن يهب من نفسه أعز ما لديها، ويعمل دؤوبا؛ فاتحا للعمل في سبيل قضية قومه طرقا وأبوابا جديدة إن عزت عليه الوسائل والطرق؛ على أن يرى وطنه جامد الحركة؛ راكدا مستسلما غير عامل.
وفي عصر كافور قامت الثورات الوطنية في أنحاء العالم كله، وطغى مد الحمية الأهلية، فحمل كل شيء في طريقه، في المجر، وفي ألمانيا، وفي باريس، وعاصمة النمسا، وكانت الثورات هي المنتصرة الجياشة الفائزة ؛ فمنحت الدساتير، ووهبت الحريات، وسقطت البيوت المالكة، وتداعت إلى الأرض أنقاضا، وأطلالا عافيات.
وهذا كله أو أكثره ما وقع للمترجم به، وما حدث في عصره هذا، فذلكم مبدأه منذ تولى العمل في الوزارة، وتلكم آراؤه بعينها في إيثار الحركة على الجمود، والعمل على السكون، ونومة الموت، وها هو عصره عهد المطالبة بالحرية، ونتاج هذه الحرب الطاحنة التي قام الضعفاء وراءها يصرخون في وجوه سالبيهم حقوقهم، والأقوياء الذين عدوا على حريتهم، فكان هو في طليعة من قاموا لأجل مصر قومتهم، ونهض للحرية مع الناهضين.
وكان كافور رجلا غير كثير الكلام، صموتا في مواطن السكوت، وأعجب ما كان من أمره أنه كان لا يجيد الكلام باللغة الإيطالية، ولم يضطلع بأفانين بلاغتها، وسحر أدبها، ولم يلم بأسرارها ومحسناتها على حين كان يجيد الفرنسية الإجادة كلها، ويعلم مناحيها، ومداخل البيان فيها، وكان يؤذن للناس في ندوة البرلمان أن يتكلموا بالفرنسية إذا شاؤوا، ولكنه كان يؤثر الكلام بلغة وطنه، ولسان أمته على ضعفه فيها، وجهله بدلائل الإعجاز من أدبها.
على أنه إذا كان كافور مقلا من الكلام بطبيعته، وسجية نفسه، فقد كان إذا استنفره موطن من مواطن الوطنية إلى الكلام أكبر الخطباء، وأبلغ المحدثين، إذ خلعت عليه حميته لوطنه قوة من الخطابة؛ فنهضت بلاغته به إلى أبعد أوج.
وهذا بجملته ما كان من صاحب الدولة الوزير الأول، في بلادنا لعصرنا، فقد شهدناه دؤوبا على العمل، صامتا في دأبه، دائبا على صمته، فلما استفزه القوم إلى الكلام تكلم فكانت خطبته في فندق «الكونتيننتال» مهارة سياسية نادرة، وحذقا بأساليب الكلام لا ينكر على صاحبه.
ولم يقع اليأس في فؤاد كافور من خيبة النهضة في بادئ الأمر، ولم يستحوذ عليه، ثم تقلد منصب الوزارة وزيرا عاديا، ثم ارتفع إلى منصب الرئاسة، على كثرة خصومه، وتألب أعدائه، فتغلب عليهم جميعا، وبرز عليهم جملة، وكان أكبر ما كان يعمل له، ويسعى لبلوغه، أن يقنع أوروبا والعالم بأسره أن أمته قديرة على أن تجمع بين منحة الحرية، ومزية النظام، وأن لا خطر يخشى منه عليها؛ إذا تحررت وتخلصت من سلطان الأجنبي، ومنحت استقلالها الذي تنشده، حتى لقد تمكن من فؤاده ذلك المبدأ، فوقع في خلاف وذلك الوطني الجريء الجسور جويسب مازيني؛ إذ خشي من آراء هذا الزعيم الباسل الفيلسوف أن تسوء سمعة إيطاليا؛ فتخسر عطف أهل الغرب عليها، وتطيش سهامها فلا تقع لها أمنيتها المعسولة؛ واستقلالها المنشود، وكان كافور يتحبب إلى نابوليون الثالث، ويستميله إلى قضية إيطاليا، ويستعطفه عليها؛ فوقع في رأس رجل مجنون أعمى البصر من عامة الطليان أن يغتال حياة ذلك الإمبراطور، فأقدم على فعلته المجنونة الطائشة، ولكن الأقدار أبت إلا أن ينجو نابوليون من شر غيلته؛ ولكنه غضب، ولا ريب أن يكون المغتال من الطليان، وكاد يترك الانتصار لقضية كافور وأمنية أمته.
وذلكم كله ما رأيناه من المترجم به، ومن مسعاه المحمود، ومن احتياله على تبرئة سمعة القضية المصرية من الأذى الذي يلحقه به المذهوبو الرشد الطائشون الذين لا يدركون الوجوه الصحيحة الرشيدة للعمل، ولا يحملون إخلاصا في نفوسهم لطلبتهم المقدسة، وما وجدناه من غضبته الصادقة من الغيلات التي نسمع الفينة بعد الفينة بأنبائها، وهي لا ترد على وطننا مردا؛ وإنما نتراءى بها في أعين أهل الحضارة قوما وحوشا أهل براثن ومخالب، ونفوسا رعاديد أوغادا جبناء، تطعن الناس في الظهور، وتجيئهم لغرتهم من الأقفية، وهم أبرياء أفرادا؛ وإن كانت الأمة التي هم منها علينا جانية.
وكان كافور يحتال بذكائه الحيل على صديقه ومنافسه الوطني جاريبالدي ليوقف تيار جراءته، ويخفف من حدة وطنيته، وإن كان في الوقت عينه لا يريد أن يبدو في عينه ناكرا لجميله على وطنه؛ جاحدا فضل إخلاصه في سبيل قومه، ولم يكن يريد أن يسيء إليه أو إلى صحابته، ولكنه مع ذلك لم يكن يود أن يعرض سلامة الحرية الأهلية، والقضية العامة لخطر الطيش، والجراءة وركوب الرأس، وما ذلك إلا لأن ذلك الوزير المخلص لم يكن من أهل الأحلام السياسية، ولا من غواة الشعر، بل كان في كل مرحلة من مراحل الحياة يكشف أفقا جديدا من الفكر، وجوا جديدا للعمل، وكان يتابع طريقه دون أن يتطلب شيئا إلا ما كان حقا وممكنا؛ إذ منحته الطبيعة عبقرية سياسية لا تنكر، وكان قوي الفراسة بعيد مطارح النظر، وقد اتهم بأنه غير شيئا من مبادئه، ولكن أي سياسي لعمركم لم يفعل؟
وكان بجانب كافور زعيم آخر ظل مشردا في البلاد منفيا، وذلكم مازيني وطني إيطالي من الشعب، تخرج في القانون، وبرع في البلاغة والأدب، وكان يؤمن بأن الإيطاليين وهو في مقدمتهم مستطيعون - ولذلك يجب عليهم - أن يناضلوا لتحرير بلادهم، فانصرف بكليته إلى التفكير في بلاده، وما منعه اعتقاله في حصن سافونا أشهرا معدودات أن يكون جريئا باسلا، مستهترا بوطنيته، حتى لقد جعل شعاره هاتين اللفظتين الرهيبتين المقدستين هما: «الله، والشعب!».
نعم، لقد كان مازيني «نبي» الوطنية، وكان جاريبالدي فارسها المعلم، وأما كافور فقد أصاب وحده الشرف الأكبر بأن راح في إيطاليا السياسي الذي تحققت على يده حرية بلاده!
روح القيادة والجماهير في النهضات القومية
في كل نهضة عامة، وحركة وطنية، يعيش الناس بنفوس غير نفوسهم الحقيقية، وتتبدل أذهانهم أذهانا غيرها، وترمى إرادتهم بعلة النقرس، أو آفة الفالج فيختفي كيان الفرد في وسط المجموع، ويسلبه الزحام والعجيج شخصيته، ورغبات نفسه، وأماني فؤاده؛ فيندمج في القطيع يمشي على هديه، ويرتدي بإرادته، وينساق في الحفل كما يوحى إليه، فكل من قويت إرادته على إرادة صاحبه، وغلبت شخصيته شخصيات عشرة من الناس، راح فيهم زعيما صغيرا، واتخذ سمت القائد الضئيل، ولهجته، وسطوة نفوذه، وأوحى إلى العشرة أن ينفضوا عنهم مبادئهم؛ ويتخلوا عن آراء كانت لهم، وأن يعيشوا بوحيه وإلهامه، ويتلقوا منه تعاليمه وأوامره، ويجندوا له جنودا على غرارهم، ويحتثوا غيرهم على أن ينضووا تحت علمهم، فهو ما يفتأ يطلب أن تكون العشرة عشرين، وأن تبلغ العشرون المائة، وكلما كثرت جنوده ارتفع في مقاليد القيادة؛ وارتقى مصاعد الزعامة؛ حتى لا يلبث أن يكون المجتمع كله في أيدي عشرة من القواد الصغار، يعيشون في أيدي بضعة من القواد الكبار، ثم لا يني هؤلاء القواد الصغار أن يدسوا على بعضهم البعض، ويرتعوا في لحمان وصفائهم، وأقرانهم، ويمشون بالنميمة على إخوة لهم في الصفوف، فترى في كل يوم جنديا فارا من صف إلى صف، وآخر منحرف عن شرذمة إلى شرذمة، وترى القائد الصغير منهم في صباح يوم محبوبا مرحبا به، مهتوفا باسمه، ولا يأتي المساء إلا وهو المسخوط عليه، الظانين في إخلاصه، المتهم في عقيدته، ولا يلبث أن ينتقل هذا الحب الذي خسره إلى قائد مثله قد ربحه، وظفر به، فما ينقص من قائد يزيد قائدا مكانة وحبا عند الناس وإكبارا، وإذا كانت العامة والجماهير، وطبقات الشعب مذنبة في ذلك لضعف رأيها في الحكم، ولطبيعة التقلب المكينة في نفوسها، ولضؤولة أذهانها، وكلال أبصارها، فإن الذنب كله واقع على الذين يتصدون لقيادتهم، ويحاولون الرئاسة عليهم، والمشي في طلائعهم، فأولئك إنما يتخذون النهضات مباراة يود فيها المنافس أن يعتلي ظهر المنافس، ويمشي فوق جثته، ويتخطى الرقاب إلى سلطان عظيم يحاول أن يكون له في الناس؛ فإذا عز ذلك عليه، ولم يجد سبيلا محمودة نقية راضية لا غبار عليها من العيب أو الذام؛ التمس الوسائل الأخرى كلها، وإن عيب بها، وانتقص قدره.
وقد رأينا هؤلاء الزعماء الصغار يكذبون على بعضهم بعضا، ويدسون الدسائس يتقاذفونها بينهم، وما أروج الكذب في عهود الثورات؛ إذ يصبح الكذب فنا من الفنون الجميلة؛ لأنه بحاجة إلى رسم بديع، وتصوير متقن، وألوان زاهية، وريشة مصور صنع حتى يبدو للعين حقيقة ناصعة، تأخذ بأذهان الناس أخذا، وتعمي أبصارهم عن اكتشاف عيوب تلك الصورة، والاهتداء إلى وجهة الصنعة المتكلفة، الملفقة في أجزائها.
وقد شهدنا ضروبا كثيرة لهذا الكذب الذي يعمد إليه الناس في النهضات والثورات، ورأيناها كيف تدخل على الأذهان، وتنطلي على الجماهير، وتمضي كأنها الحقائق، لا ظل للتلفيق فيها، ولا شائبة للكذب عليها؛ وهي قمينة أن تروح كذلك، خليقة أن تجد عند القوم سوقا نافقة.
فإن الرجل الذي لم يخرج في حياته من المنطقة الحارة لا يستطيع أن يتصور ماذا تكون جبال الثلج المتحركة في الأوقيانوس الشمالي، وإن تخيلها تخيلا، أو رسم مثالا لها من وحي ذهنه، ومن لم ير نياجارا رأي العين فلا يتيسر له أن يعرف ما الشلالات العظيمة، وما شأنها، ووجه العجب من أمرها، وكذلك تمضي الأكاذيب مطمئنة، رخية اللبب، واثقة من نفسها؛ إذ لا يستطيع الجمهور أن يتحرى مواضع النية السوداء فيها، ولا يؤاتيه اكتشاف الغرض الخفي الذي يستسر تحتها، ولو أن رجلا من الناس بعيد النظر، ثاقب الرأي، حديد البصر نهض في الجموع فبصرهم بالكذبة، وهداهم إلى فساد تلك الأراجيف، فما كنت لترى الناس بمصدقيه، بل لشد ما يغضبون، ويثورون، ويتسخطون على هذا الرجل الذي أساء إليهم؛ إذ أراد أن يقول لهم: إن الحق الذي علموه، والصدق الذي سمعوا به، لم يكن إلا كذبا، ولم يكن غير البهتان بجملته؛ لأنه بذلك قد حرمهم من تلك اللذة الكبرى التي كانوا يجدونها من الاعتقاد بصحة ما بلغ آذانهم، ومنعهم ذلك السرور الذي كان يثلج صدورهم من أثر الإيمان العميق في أفئدتهم، فكل كذبة تبدد، وكل أرجوفة تكتشف تحزن نفوسا، وتؤلم صدورا، وتغضب أذهانا كثيرة.
وأنت فقد رأيت ما كان من فعل الكذب، وسلطانه على النفوس في ثورة كالثورة الفرنسية، وقد قرأت التاريخ، ووعيت منه أن الملكة ماري أنطوانت إنما سيقت إلى مواقف القضاء في إبان تلك الثورة، ودفعت إلى قفص المجرمين على كره من الزعيم روبسبيير، وضد إرادته، وعلى عكس رغبته، وليس ثمت حجة تدعم هذا الرأي أوثق، ولا إسناد أثبت أو أصح من بونابرت، فذلكم رجل لم يكن له من باعث يبعثه على إخفاء الحق، وكان على مستشرف من الثورة إذ جاء في أذيالها متعثرا، ونهض في الفصل الأخير من رؤيتها، فأسدل الستار عليها مستبسلا، وتزوج بعد ذلك بالأرشيدوقة النمسوية، وبطبيعة الحال احتفل بالبحث عن مقتل الملكة ماري قرينة زوجته، وقد أثبت نابوليون أن محاكمة ماري أنطوانت كانت ضد رغبات روبسبيير، وعلى كره منه، وإذا كان بريئا من ذلك الإثم، نقي اليد من تلك الفعلة، فمن لعمركم يكون ذلك الرجل الذي أوحى إلى الناس في تلك الثورة المجنونة أن اقتلوا تلك الملكة، وعفوا على آثار البيت المالك في فرنسا كلها.
لقد نهض إذ ذاك في المجلس، والثوريون في الندوة محتشدون خطيب من الخطباء يقول: «عجبا لأعداء الجمهورية كيف يطلبون ما منعوه نجاة، ويمنون أنفسهم المنى في الفوز به ... هل لأننا نسينا منذ عهد بعيد جرائم تلك المرأة النمسوية، أم لأننا أخذنا بالعرف واللين والرحمة سلالة أولئك الطغاة، لقد آن الأوان لإزالة أثر الحنان من النفوس. لقد حان حين استئصال شأفة الملكية من أرض الجمهورية، وإن وراء هؤلاء الأشراف الطغام امرأة مختفية كامنة في زاوية، وهي أصل كل بلاء في البلاد، ومحدثة كل شر ونكبة، إن العدل القومي يريد أن ينفذ قضاءه فيها.»
تلك كلمات ذلك الخطيب، فمن يكون هو وما اسمه؟
لقد كان الرجل زعيما صغيرا، لم يكن ارتفع بعد إلى منصة النفوذ، لقد كان الرجل يدعى ... برتران باربر.
ولكن ذلك الخطيب بعد عام واحد، أو بعض عام كتب ينفي أنه كان هو ولم يكن الرجل مصابا في ذاكرته، مدخولا في عقله، حتى يقال: نسي ما كان منه قبل عام، أو ما يقاربه، قد يتشفع له بعض الناس بأن الضحايا التي ذبحت بكلمة منه بعد ذلك، وتلك النفوس التي قتلت بإشارته تعدت الحصر، وفاقت العد، فكان يخلط بينها، ولا يستطيع تمييزها، وأن الضحايا امتزجت في ذاكرته، وتضاربت أسماؤها، فلا يدري من قتل ومن أبقي، ولكن زعم باطل، وحجة مردودة، فقد كانت تلك الملكة المسكينة من بواكر الثمار التي اقتطفها عن شجرة الحياة، بل كانت أمجد ضحية ضحي بها، وأعز قربان ذبح، وأن أقسى القتلة قلوبا، وأغلظهم أكبادا، وأبعدهم عن الرحمة جانحة، لا يزال آخر حياته ذاكرا أول مرة سفح فيها دما، وسفك نفسا زكية، ولو كانت امرأة لويس زوجة طحان أخفت في حجرتها أخا لها، أفلتت منه كلمة سوء في زعماء الثورة المعصومين الذين لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم، ولا من خلاف؛ أو كانت راهبة عجوزا تمتمت في المصلى بكلمات تعاويذ ، ورقى من وحشية الثوريين وغائلتهم، فسيقت إلى الموت تحت السكين، لكان يحتمل أن تخون ذلكم الرجل ذاكرته، وتتشابه عليه البقر، وكنا خلقاء بأن لا نطالبه بتذكر أولئك المساكين الذين ذبحهم إلا إذا طالبناه بأن يذكر لنا عدد لفائف التبغ التي دخنها في سحابة ذلك العام كله، ولئن كان بارير قتل مئات من خلق الله، فقد ذبح منهم ملكة واحدة؛ وهو الذي كان قبل الثورة ببضعة أعوام يظن أنه أصاب الشرف بكل مادته؛ من نظرة واحدة تلقيها عليه ابنة القياصرة، وزوجة الملك سليل الملوك الكبار؛ فقد راح في الندوة يدعوها بالمرأة النمسوية، ويسوقها من سجن إلى سجن؛ ويسلمها بيده إلى الجلاد، ثم تزول هذه الحادثة العظيمة في حياته من الذاكرة.
وأعجب من ذلك أن الناس في عصره صدقوه؛ وارتضوا معاذيره، ولم يعنوا مرة واحدة بنقد كلماته، أو تخطئة حججه، وذلكم عمركم الله أبلغ ما رأينا من رواج الكذب في عهد النهضات العامة، وأغرب ما شهدنا من حماقة الجماهير، وبلاهة الجماعات.
وقد أصيبت حركتنا القومية بضرب من هذا الكذب؛ ولكنه لم يكن في قوة ذلك وعنفوانه، وقحته وتبجحه، ولكنه لا يزال كذبا فنانا، محبوك الأطراف، بديع النسج، رقيق الغلالة، وقد غشى ذلك الكذب بوادر النهضة، ومقدمة المفاوضات؛ وطلائع الوفود والبعثات، فسمعنا أحاديث طلية، وقرأنا صحفا طيبة، وكلما عذبا رقيقا، وأبحاثا شيقة مستفيضة، لو أن بعضها صح وتحقق، لكنا منذ أعوام ننعم بحريتنا الضائعة، ولما ظللنا نستطيل الأيام، ونعاني آلام القلق والحيرة، والعذاب النفساني، وخشية اليأس؛ والفزع من الفشل.
وكم من أناس تجلوا لأعيننا في أول وهلة يحملون مادة البطولة في صدورهم؛ وكتاب الوطنية الملهبة المسعورة تحت أذرعهم، وسلكوا أنفسهم في الزعامة، وتهالكوا على القيادة، فأفسدوا على أهلها عملهم، وشوهوا جمال حركتهم، وأهل الزعامة لا يتيسر لهم وضع امتحانات في الفحص والاختبار، وليست الزعامة مستطيعة أن تمشي في عملها على أسلوب من أساليب «الماسونية»؛ فتأخذ الداخلين في دينها أفواجا بالتجربة، وترسل إليهم ما يخيف لتعلم هل خافوا، وتفحص رباطة جأشهم لتستوثق من سكون أعصابهم؛ ومتانة نفوسهم؛ إذ لا تتسنى لها الفرصة، ولا يواتيها الزمن، وقد تهيم وتضل، فلا تكون ضلتها إلا إثم رجل من رجالها، ومقرفة عضو من أعضائها، فتعرف هي بالخطأ، ويشار إليها بالضلال، ويختفي الآثمون؛ وتعود الجرذان الصغيرة الخبيثة إلى الأحجار، وكان من صناعة الكذب التي مهر القوم فيها، وحذقوا أساليبها في أوائل العهد بنهضتنا أن اختلف الناس في الحق وهو واضح جلي، وتعارضوا في الظاهر وهم متفقون مبدأ وعقيدة؛ حتى ظن الذين يشرفون علينا من وراء البحر أننا قد رحنا متطرفين ومعتدلين، ومتساهلين ومتشددين، ولا ندري لمعنى الاعتدال الذي ظن الذين وسموا بالتطرف أنهم نجوا باسمهم ذاك من وصف سيئ؛ وسبة أليمة، إلا أن المعتدلين إنما يطلبون الحرية، ولكنهم يريدون معها النظام، ويجمعون إليها السلام والوفاق، والسكينة، ومستلزمات الحضارة الهادئة العاقلة، فهم يطلبون ملكية ديموقراطية، مستقلة اليد في أمرها؛ ولكنهم لا يريدون أن يخلعوا عليها إذا قدمت لهم ألوانا من تلك الفوضى التي كانت فاشية في العصر الذاهب، وكانت علما على الحماية الأليمة المقيتة، وهم يستنكرون على الوطنية أن تجعل القتل والجريمة خطة من خططها، ويرونها الخيانة بعينها إذا هي كسرت قوانين الأخلاق، وتعدت سياج العقل والمنطق، ومضت موحشة مفترسة، مذهوبة اللب، لا تعي ما تقول، ولا ما يقال لها، أما التفريط في الحقوق، والاعتدال في الطلب، والتأدب في المفاوضة، والاحتشام في السؤال، والمصانعة في المناقشة، فأولئك لم تدخل مطلقا في خطة فريق من الناس؛ ولم تكن برنامجا من برامجهم، وإذا قيل: إن في هذا البلد حزبا من المعتدلين؛ وآخر من المتطرفين، فلن يجسر أحد أن يقول: إن فينا «حزبا من الخونة»؛ إذ لو اجتمعت هذه المبادئ في أذهان عصبة من الناس لكانوا «الحزب الخائن الأكبر».
وإذا كان هذا هكذا فنحن خلقاء بأن نسمى جميعا «معتدلين» إذا كانت هذه وجوه الاعتدال، ومادته وأساليبه؛ وليس المتطرفون إلا وصفا شعريا يأبى فريق من هذه الأمة إلا أن يوسم به، وإن كان ضلة وخطأ مستكملا، وما ذلك منهم إلا جريا على العادة، ومطاوعة للأنانية، واستسلاما لهوى النفس، ومغالبة للعاطفة؛ إذ يريدون أن يقع لهم الفخر وحدهم إذا تغير تاريخ هذه الأمة، وتبدل نظامها، ويودون أن يصيبوا هم المجد من الجهاد والشرف من السعي، فإذا أتيح لغيرهم أن يبلغه قبلهم، وواتت الأقدار فريقا غير فريقهم؛ فوصلوا إلى تحقيق أمنية الأمة قبل وصولهم، أنكروا ما تحقق، ورفضوا ما جاء، وعابوا ما أنفذ، وألقوا في روع الجماهير أن النية فيما وقع على أيدي الآخرين البيع والمساومة، والاستهانة بحق من الحقوق، والتفريط في مطلب من المطالب.
وذلكم شأن القادة في النهضات الأهلية، وذلكم ديدنهم، فروبسبيير كان يحقد على كل رجل سواه أوتي وطنية كوطنيته، أو أعقل منها، وأمتن روحا، وكان يريد أن تكون زمام النهضة كلها في يده، يصرفها كما يشاء، ويمشي بها كما يريد، حتى لقد تمادى به الولوع بالسلطان، والعمل لاستعباد الجماهير، أن أنشأ عبادة جديدة، هي كما أسماها «عبادة المخلوق الأعلى»، ولا ريب في أنه كان بجانب هذا الرجل قوم مخلصون مثله، لا ينقصون عنه حمية وعبادة لوطنهم.
وأنت فترى أهل الزعامة في النهضات القومية، والقواد الوقوف في الطليعة؛ ينادون في مبدأ أمرهم بطلب حق مهضوم، ثم ينتهون بأن يستخدموا هذه المناداة لإشباع شهوة أثرتهم، وحبهم للنفوذ، فقد كان أولئك الزعماء روبسبيير، ومارات، ودانتون، وشيعتهم من الجبليين
1 ، إنما يريدون أن يقلبوا وطنهم رأسا على عقب، ويهدموا بناء الحكومة لكي يردوا على الشعب الجائع حقه المضيع، ويستخلصوا العدل من الظالمين، فلما جن أولئك بالسلطان، وأغراهم التفاف العامة حولهم، طاشت عقولهم، وضل ضلالهم، فمدح روبسبيير في صبيحة يوم وصفق له في الندوة، وألقيت المدائح، وكلمات الإكبار والإعجاب بإخلاصه، والتفاني في محبته، ثم لم يجد في اليوم التالي من كل هذا شيئا؛ بل رأى القوم متجهمين له متنكرين، عابسين متسخطين، وشهد في المساء المقصلة معدة لاستقباله، والسكين معلقة فوق عنقه، فما أغنى عنه شيء من ذلك الحب، ولم تنقذه مكانته الأولى، وهذا دليل جلي على أن الذين يتصدون للزعامة لا ينبغي أن يغريهم تشبث الناس بنحورهم، واحتشاد القوم عند أبوابهم، فيستخدموا هذا الحب للذة نفوسهم، فإن الجماهير متقلبة الرأي، زئبقية المزاج، تغلب عليها النفرة من جانب إلى جانب، والنقلة من مضطرب إلى مضطرب، وليس أعجب في العالم من قوم يحبون الحرية، ويتغنون بها؛ ويتصايحون عليها، ثم يتخذون في سبيل استخدام نفوس الشعب لمصلحتهم أشد ضروب الاستبداد، وألعن ألوان السلطة المطلقة، وهي أكبر ما ينافي الحرية ويناقضها!
وكذلك لا تجد أولئك القادة في طلب الحرية إلا طلاب مآرب، وإذا لم يكونوا بادئ بدء طلاب مآرب، فإن الزهو بمكانتهم سيجعلهم في منتهى أمرهم، ولا ريب كذلك.
ومن وراء أولئك القواد فريق من الطبالين، وكتيبة من الزامرين، وفرقة من ضاربي «الرباب»، وهؤلاء لا يتمدحون رجلا من الصفوف الأولى إلا إذا ظل على مكانته، ولا ينتمون إلى حزب من الأحزاب إلا إذا جلد على سطوته؛ لأن أفئدتهم صحراء لا تعيش فيها العاطفة، وقلوبهم قفر من معاني الوطنية، خلاء من روح الإخلاص لأحد، أو الاكتراث بنهضة بلادهم، وهم ضعفاء الشخصية، تجرهم كلمة؛ وتسوقهم خطبة، وتجتذبهم قصيدة، فقد وقف قوم من أولئك يمتدحون على رؤوس الشعب، وفي وسط الجموع، في تلك الثورة التي نحن بسبيلها، زعيما من الزعماء، ورأسا من الرؤوس، وينعتونه بأنه أكبر رمز لأمانيهم، والمحرك الأول لنهضتهم، وأنه أحق منهم بالعبادة، وأولى من الجماهير بأكاليل الغار توضع فوق رأسه، وبالتماثيل تنحت لوجهه؛ وتجاب لمحياه، ثم لم يلبث أن سقط في الغد معبودهم ذاك عن أوج عليائه، وانفض الناس من حوله، وجاؤوا إليهم يتلومونهم، ويعيبون عليهم تمداحهم له، وحشد تلك المدائح يقذفون بها عند قدميه؛ فكان اعتذار أولئك الزمارين خليقا بنفوس كنفوسهم قفر يباب، لا تجلد على مبدأ، ولا تلتزم عقيدة واحدة؛ إذ قالوا: إنه كان لا بد لهم من مؤاربة ذلك القائد الزعيم، وكان لا غناء لهم عن مخادعته، والتملق لغروره، وإثارة أنانيته؛ حتى يغريه المديح بالوقوع في الضلة، وحتى يدفعه الثناء إلى ركوب رأسه؛ فيرتكب ما ارتكب، ويقترف ما كان منتظرا منه أن يقترف، ولقد كان ذلكم هو الباعث الذي بعثنا على أن نركم أمامه كل تلك الأكوام من الأماديح التي تشكون منها، وتتسخطون علينا من أجلها، ومن عمركم الله لام بروتس الروماني يوم كان يخادع «تاركوين» بالثناء عليه؟ ...
وفي كل بلد من هؤلاء كثيرون يؤلفون جمهورا كبير العدد، ولكنه ضئيل القيمة؛ إذ ليست القوة في العدد كما هي في الصفة والمزية، وهؤلاء إذا التفوا حول رجل من العقلاء أفسدوا عليه لبه، وشوهوا جمال وطنيته، وأضروه دون أن يجدوا على عمله، أو يردوا على عقيدته، وبمثل هؤلاء الجند لا ينتصر زعيمهم في معركة، ولا يربح ميدانا، ولا يفوز بغاية من مطالب نفسه؛ لأنهم أشد القوم فرارا إذا ضعف الرأس، أو ارتد القائد عن معقله، وهم خاذلوه بعد المعركة، وإن ربحها إذ سيختلفون على قسمة الأسلاب، ويتنازعون يوم الغنائم، ويتهالكون على «الجائزة»، ويتقاتلون على أكبر الأسامي، وأنبل الألقاب في الشعب، ثم يأتي من بعد هؤلاء جموع عظيمة من صغار الأحلام، وعدد عديد من الشبان والفتيان، يحملون كراسات الدرس في يد، وفي اليد الأخرى علما من الأعلام؛ ليكونوا في وسط النهضة عقيدة المستقبل تشد عقيدة الحاضر، وليتكلموا بألسنة الجيل القادم، ويصرخوا بأصوات ثلاثين سنة مقدما؛ فينقلب بهم ميدان العمل في سبيل الحركة ملعبا من ملاعب «كرة القدم»؛ إذ النهضة في أنظارهم ضرب من الألعاب الرياضية لا يختص بفصل معين من فصول العام، ولا يروج في ميقات محدود من مواقيت السنة، بل يجري على العام كله، ويلذ اللاعبين في الصباح، وفي المساء.
ونحن قد حاولنا أن نعثر في كتاب التاريخ الإنساني عن عاطفة من عواطف الأمم نزعت بها إلى الخروج من نظام جائر إلى أسلوب عادل متخلص من النير، كان فيها الأحداث الصغار، وصبية المدارس يمشون في رأس الثورة، ويغلقون أبواب معاهدهم بأيديهم ليتنزهوا في طرقات المدينة متبطلين، وليصيحوا وهم لا يفهمون ما وراء صياحهم مع الصائحين، فلم نجد في سجل الحريات لذلك أثرا، ونحن لا ننكر أن للشباب من وقدة النشاط في نفوسهم، ومن أرواحهم الملتهبة، وأذهانهم الفتية، وأذرعهم القوية، وسوقهم الحديدية ما يعينهم على الإسهام في نهضة بلادهم، والدفاع عن مستقبلهم، ولكن - عمركم الله - أليست أسمى ضروب الوطنية، وأجمل ألوان الحب للأرض، والإخلاص للوطن، والدفاع عن المستقبل أن ينصرف الشباب إلى استظهار كراساتهم، والإخلاد إلى علومهم يتوفرون عليها، والسكون إلى تلك المعاهد التي يرتفع فوقها صرح هذه الأمة.
ولكن كيف يستطيع هؤلاء الشباب أن يطمئنوا في معاهدهم، وينكمشوا إلى علومهم، وهم يسمعون باسمهم يذكر في مستهل الخطبة، ويرون الناس مستقبليهم في مطالع المظاهر، ويشهدون طائفة من رجال النهضة ينادونهم إلى عونهم، ويستصرخونهم لينضموا إلى صفوفهم، وينعتونهم بأبنائهم، ويقولون لهم: أنتم أبناء مصر وحدكم، والكهول والشيوخ من ورائكم أعجازها الخاوية، وفصل الشتاء في وثبتها، وزمهرير الوطنية المتجمدة الباردة في بهرتها، وأن خمسة آلاف عام تطل عليكم من قمة الأهرام ناظرة إلى عملكم، هاتفة بأسمائكم، مرتقبة أن يكون لمصر مكانها الأول تحت الشمس على أيديكم، وما لكم وللعلم اليوم، وما للعلم ولكم، فإن النهضات القومية لا تعرف علما، ولا تطيق أن ترى له معهدا مفتوحا، أو دارا مستقبلة روادها، ونحن اليوم في فترة الانتقال؛ ومرحلة التبديل والتغيير، فلا جدوى من السكون إلى العلوم، والاطمئنان إلى الكتب، بل أنتم عما قليل عائدون إليها بأرواح أنشط، ونفوس ظمأى، و ... شهية ... أحد، فما تركتموه في عام مستطيعون أن تلموا به في شهر، وسيعوض عليكم صبركم، وستجزون من الوطن بما فعلتم من أجله، وما أسديتم من الصنيع الجميل إليه، وستكون الامتحانات إذ أفلج الله نهضتنا، وأنجح القدر مقصدنا، لسهل كثيرا من الامتحانات التي تخرج من يد عدوكم؛ لإعجازكم والاستبداد بشبابكم، وقتل البذور الصالحة في نفوسكم، وإحلال اليأس محل الأمل في قلوبكم، ويومئذ لن نرى فيكم فتى يتسلق أعمدة القنطرة؛ فيقذف بنفسه إلى أحضان أبيه النيل مختفيا تحت ثديه، ولن نسمع بالشاب منكم يجري إلى زجاجة من الأحماض السامة فيشتفها حتى الثمالة، فإذا استقرت في جوفه، وأحس عذاب الحياة تريد أن تدع جثمانه صرخ على أهله من الحجرة، مستغيثا، طالبا النجدة والإسعاف، وقد أعجزه كذلك أن يجتاز «امتحان » الموت، واختبار ألم الخلاص من الحياة، ولهذا لا نريد أن نخسر منكم جندا محضرين، أو ينقص عديدكم من أثر هذه الامتحانات اللعينة المقيتة، فلديكم الآن فسحة طويلة تملكون فيها أنفاسكم، وتريحون من آلام الدرس، ومتاعب إجهاد الذاكرة، فتعالوا إلينا يا أبناءنا الأعزاء، وأقبلوا يا شباب العصر، و«فتوة» النهضة، وزين العهد الجديد، فنحن لا مأرب لنا من تخليص أرضكم من وطأة المستبد بها، ولا مقصد لدينا من الجهاد في سبيل تحرير بلادنا وبلادكم إلا أن نحمي عن مستقبل لكم سترونه يوم تتركون مقاعد المعهد؛ لكي تشغلوا أماكنكم في مقاعد العمل، ومنافس النضال للحياة؛ عهدا مزهرا، وعصرا مجيدا لا شائبة من الظلم تشوبه، ولا لونا من ألوان القبح الاجتماعي يفسد جماله؛ وكيف يكون لنا من وراء ذلك مأرب، أو نضم بردتنا على نية سوء، ونحن غير لابثين طويلا حتى ننقل إلى ساحل الأبدية، ونحمل على أعناقكم إلى الساحة المترامية وراء جدران هذه المدنية، فلن نصيب من الحرية شيئا لنا، غير هدوء أنفسنا، ومسرتنا العميقة في حبات أفئدتنا، إذ ضمنا لكم الأرض، وكفلنا لكم الحياة الطليقة، والعصر الذهبي.
وأنت ترى أن هذه الألفاظ العذبة، وهذه القصائد المنثورة؛ والشعر المرسل الرقيق الغلائل، والنجوى المؤثرة الناعمة الأغاريد، قمينة بأن تستهوي الشباب، وتأخذ بمجامع ألبابهم، ويومئذ فاللعنة على الدرس، والشناعة للمعاهد، والتسخط على المدارس، ولخير أن تغلق تلك الدور عن آخرها، فلا يبقى منها ركن تدخل فيه أشعة الشمس، أو تنفذ إليه حرارة أنفاس النشء الصغار؛ من أن يغلق باب الأمل في وجه أمتهم، ما دام هذا الأمل معلقا عليهم، موقوفا على جهادهم.
ذلكم منطق الوطنية الشابة الشاعرة التي تريد أن تعمل؛ وتقوم بحوادث كبار، وتجعل الخطوب الصغار جساما، ولكنها لا تستطيع أن ترد تلك الألفاظ فعلا، وتحقق ذلك الكلم وجوامعه عملا محسوسا، فتسيء إلى نفسها؛ وتتحيف جوانبها، وتخسر لهاتها وحنجرتها من أثر الصياح والعويل في أعراض الطرق، ووسط الضجيج، والعجيج المتلاطم.
ولا يحسب الناس أنا منكرون على الشباب وطنيتهم، متعيبوهم على حميتهم، فنحن إنما نريد أن نرى وطنيتهم منساقة في المنحى الهادئ الطبيعي الذي أرادته الأمة لهم، وقررته أنظمة الاجتماع؛ إذ لا ينبغي أن تتعدى رحب المعهد، ولا يصح أن تتخطى جدران المدرسة، فهناك جلال حمية الشباب، وهناك مزرعة الأمة من تلك القطع الإنسانية الجميلة الفارعة التي ستروح بستانا ناضرا، يخرج للشعب بواكر ثمار طيبة، وقرائح خصيبة مجدية نافعة؛ وهناك تلك الخلايا الرحيبة التي ينمو فيها ذلك النحل الإنساني النافع الذي يجعل مستقبل هذه الأمة معسولا سائغا هنيئا؛ والشباب وهم في حلقات الدرس خلقاء بأن يكونوا على مرتقب من نهضة أمتهم، وبمرصد للعاملين من قومهم، فذلك واجبهم، وتلك فريضة عليهم.
وليس أبعث للزهور، وطغيان مد الأثرة، والرضى عن النفس، والسرور بالنفوذ، من أن يرى الرجل منا إذا وقف على رأس الناس في صميم النهضة بيته مختنقا بأفراد الشعب وأخلاطه، وباحة داره غاصة بالجموع الحاشدة من كل فج وحدب، يهتفون له ويتزاحمون لتحيته، ويقدمون آيات الإخلاص لسدته، والإعجاب بعقيدته ومبدئه، وهو طالع عليهم في بزته الجميلة، طائف بطوائفهم، مستفسر عن شؤونهم، موزع ابتساماته عليهم، مقسم وعوده عن أيمانهم وشمائلهم، وكذلك كان شأن دانتون، وتلك عادته، فإذا انصرف الجمع من حضرته قذف بأوراقهم وعرائضهم، وكتب الثقة والمدائح له في نار المرجل، وقد كان يقول في ذلك: إن تلك كانت الطريقة المثلى للتخلص من تجميع متأخرات العمل على موائده ومكاتبه، وقد كان دانتون في ذلك مقلدا غير مبتكر، فقد كان من عادة الكردينال ديبوا أن لا يخرج من حجرة مكتبه قبل أن ينفض عنه جميع أوراقه، فلا يدعها إلا نقية نظيفة لا شية عليها.
بل لقد كان من استهتار رجل كهذا بالشعب، وحبهم إياه، وتطامنهم لكلمته أن سيدة من أهل الدل والخفر، جاءت يوما متوسلة له أن يستخدم سلطانه لإبطال أسلوب جديد، ظهر لونه من أساليب عقص الشعر، وطرق جدله وتجميله؛ لأنه لم يكن يوافق تركيب وجهها، ولم يلتئم مع طلعتها، ونظام شعرها، وكانت لها منافسة من أهل الجمال تريد أن تجعل هذا الأسلوب شائعا في باريس كلها، فلم يكن من الرجل إلا أن وقف في رأس الجموع خطيبا ثوار العاطفة غضوبا يقول: «إن الأرستقراطية تريد أن تعود إلى الظهور، وتحاول أن تبدو برأسها الجميل للأحرار المتخلصين من فتنتها، وإن تلك الجدائل الجديدة ليست إلا فروعا غير ثورية، وذلك الأسلوب الذي اتخذته جماعة من النساء ليس إلا أسلوبا نبيلا في الزينة، وإن تلك الضفائر والذوائب إنما قطعت من شعور النبيلات الشريفات اللاتي قتلن تحت سكين «الجيلوتين»!
فانطلت هذه الكذبة على الناس، وأجفلت ربات الخدور من هذا النذير المخيف، وأغلقت بيوت الأزياء الجديدة أبوابها، حتى لا يظن أنها تبيع الناس ذلك «الصنف» الممنوع، وحتى لا تستهدف لغضب ذلك الزعيم وموجدته، وقد خيرت النساء بين البقاء على تجميل شعورهن على تلك الطريقة؛ وبين قطع رؤوسهن على الأسلوب الجديد في قطع الرؤوس تحت تلك الأداة التي ولدتها الثورة المرعبة!
ولشد ما ضحك ذلك الرجل في أعماق نفسه، ولشد ما طرب لحيلته، وتصديق القوم لكلماته؛ إذ كان يلذه ويروح عن خاطره أن يجمع على هذا النحو بين الدعابة والشناعة في وعاء واحد!
ونحن فقد شهدنا العامة في كل ثورة وطنية يجنحون إلى جمع كل عواطفهم في نقطة واحدة، وإقامة مركز يستديرون حوله، ويحتاطون به، وإنهم ليختارون شخصا واحدا، وقد يهمون كثيرا في اختياره، أو ينتخبونه عن غير حق، فيعدونه رأس كل حركة ذهنية، وممثل كل وثبة، وقائد كل كتيبة من جند الوطن، ويروحون يحشدون كل حبهم أو كرههم لذلك الرجل؛ فتجتمع عليه كراهيات الناس؛ أو تلقى عند قدميه كل موداتهم، وألوان عبوديتهم، فهو يوم مصيب منهم مادة الإعجاب به، وحينا آخر واجد منهم مادة الاحتقار بكل قوتها، وكان أولى أن لا يستفرد هو بالحب، أو يخلص وحده بذلك الكره، بل كان حقا أن تشترك معه فيه الجماعة أو الصحابة، أو الأولياء، أو الندوة، أو من يعملون بوحي ذهنه، ويتحركون بإلهامه وإمرته، وكان عدلا أن يسهم فيه الجيل نفسه والشباب كله، والزمن بماضيه وحاضره.
وما نظن رجلا ذهب ضحية حب الناس له أولا، وكراهيتهم له أخيرا، وعانى من هذه الجانحة الاجتماعية ما عانى روبسبيير في الثورة الفرنسية، فلم ير الناس فيه إذ سقط عن تمثاله الوطني الحسود، والجريء المستهتر، والشجاع البهمة، والحمى الشرير، وإنما عدوه آخر أمرهم أصل البلاء برمته، والشر بكل قوته، وعصر الهول بسلطانه وويلاته، واليعقوبية مجسمة في شخصه، وفي الحق لم يكن هو الذي حمل ذلك الأسلوب الشيطاني المخيف في تلك الثورة الهوجاء إلى أبعد حد، وأقصى مدى، بل لقد كانت العامة نفسها التي أرادت أن يكون روبسبيير كما كان، وهي التي أوحت إليه أن يفعل ما فعل، وكانت هي تصفق له، وتهتف وتحبذ وتعضد؛ فخشي أن يعيش هو في وظيفته على المنطق؛ فتمله العامة، وتتجنى عليه الجماهير، وترميه بالأناة، وكانت الأناة في عصر النهضات، ووقدة النفوس في بكرة الثورات، فضيلة مركونة في زاوية، ومنقصة في الرجل إن تبدى بها، وعيبا في أهل القيادة، لا يقل في نظر الناس عن الخيانة شناعة وجرما، وكان أخوف ما يخاف أن يقال قد أخذ الوطنية بالرفق، وتناولها بالمصانعة، والحكمة والحزم، وكانت تلك رذائل كلها في عصر تلك الفضيلة الذباحة الجازرة الطاغية، فكان يتهوس في وطنيته لعامته، ويتطرف في إخلاصه مرضاة لجماهيره، فلما تصنع للناس الجنون بالوطنية، وحذق تمثيل القسوة في إخلاصه، نسي على ممر الأعوام أنه المتصنع، وغاب عن ذهنه أنه الحذاق الممثل المتكلف، فوقع له الجنون حقيقة في نفسه، ومضت الحقيقة الظاهرة حقيقة عميقة، باطنة صادقة، وأعجبه ما رأى من صنع يديه، وراق في عينه ما شهد من تطرف وطنيته، وغره بنفسه ما لقي من تصفيق الجموع الجامعة لقسوته، فارتد أنانيا متغاليا في حب السلطان، وكان الناس الذين مدحوه في مبدأ أمره، وقالوا عنه: إنه اكتسب تلك الشهرة الذائعة بوطنيته بفضل جهاد أعوام خمسة كان يقيم لياليها مسهدة ساهرة حتى مطالع الصبح، هم بأعيانهم الذين حاولوا إسقاطه، فلما سقط اقتادوه إلى المقصلة!
ومن هذا ترى أن التفاف العامة حول رجل منهم، قصير العمر غير عميق الأثر؛ لأن عاطفة العامة لا عقل لها، وعقلهم لا عاطفة فيه، فهم إما عاطفة بمفردها، وإما عقل خالص لا مزاج من العاطفة فيه، ولا تكون العامة في واحدة من هاتين إلا غاشمة جزارة، ولا يستطيع رجل منا أن يصيب محك العدل، أو يقسط في الحكم، إذا وقف ينظر إلى الناس بمنظار واحد من هذين، وهو مغلق عينيه الأخرى، وإذا صح هذا فما هو بعجيب أن تسمع بأن تلك العامة في تلك الثورة كانوا يصفقون في إبانها للخطيب، وهو يصيح بهم أن لا يأخذوا بالرحمة، أو يجعلوا الحلم شعار وطنيتهم، وأن سفينة الثورة لا تستطيع أن تجد سبيلها إلى المرفأ إلا على أمواج من الدماء، وأن أرواح المشفقين، وحشاشات أفئدتهم، وذماء نفوسهم ينبغي أن تكون من تلك اللجج الزبد من ذلك الجفاء، وهم الذين عادوا يهتفون محبذين مؤمنين للخطيب الذي وقف في بهرتهم يقول: إنه قد آن الأوان الذي نستطيع فيه أن نأخذ بالرأفة، ولا خطر علينا منها، وأن نظهر بواكر الرحمة واللين والحلم غير خاشين علينا أذاة ولا ضرا.
وإذا كان هناك شيء من الغرابة في ذلك ففي الحق لم يكن أغرب من أن يكون الخطيب الذي صفق له في الخطبتين رجل واحد بعينه، وأنه لم يكن مضى من الزمن بين الواحدة على فرط وحشيتها، وسورة العاطفة المجنونة فيها، وبين الأخرى العاقلة التي تحمل جزءا من العقل، وجزءا من العاطفة، غير خمسة عشر يوما ... فقط!
ونحن رأينا أمثلة من هذه النظريات، وألوانا من هذا التقلب الذي يعتري الجماهير في نهضاتها الوطنية، وشهدنا أعراضا متنوعة لنفسية العامة في حركتنا الحاضرة، فقد وهم كثيرون من المفكرين، وضل آخرون من قادة الرأي، وتركوا مبدأ، ووقعوا في مبدأ آخر يناقضه، وغادروا خططا صالحة لم يستطيعوا تحقيقها، أو سلوك طريق العمل بها إلى خطط أقل رشادا، وأضأل وطنية، وأقرب إلى روح اليأس منها إلى الاستبسال والاستماتة، وألفينا قوما ما كانوا بالمتغيرين تغيروا، ورجالا كنا نتوسم فيهم العظمة الذهنية نزلوا عن عظمة أذهانهم فكانوا خاصة العامة، ودون عامة الخاصة، فجعلت الجماهير الضئيلة الذهن تهتف لهم على الحالين، وتحشد من جموعهم جموعا لتكون كواكب تمشي في حرسهم، وتصطف للقائهم وتوديعهم، ولو تصدى رجل من المخلصين، شجاع أمام العاصفة، غير هياب حيال تلك الجموع، فبصر الجماهير بمنحى سديد، أو بخطة عاقلة، أو أنكر على قيادتها مبدأ من المبادئ، أو نقد منها سبيلا من السبل، وكان خليقا أن يستمع له، وينظر في رأيه، ويتدبر في نقده؛ لأنه لم يرسل النقد على عواهنه، ولم يشأ أن يعكر على الناس الصفاء بمقاله، ولم تكن له عند القوم ترة؛ فأراد أن يشفي نفسه مما تجد، أو يروي غلة ترته، نعم.
فلو أن رجلا كذلكم اضطلع بعمل مثل هذا، واحتمل مواجهة الجماهير بخطة كتلك، إذن فويل له، والويح ويحه؛ والضلة ضلته، فإنه المستهدف لسخط الناس عليه، المتعرض لغضبهم وموجدتهم، وقد رأينا كيف كان أمر رجل منا يرأس صحيفة من كبريات الصحف، كانت في إبان النهضة ترسل أوراقا من المطبعة كالجراد المنتشر، فأوحى إليه إخلاصه أن ينقد أهل القيادة نقدا غير جوهري، لا يشتف منه الخروج عن الصفوف، ولا ينم عن خيانة للفكرة المقدسة، فأصبحت تلك الصحيفة، والناس غاضون عنها أنظارهم، والباعة يبيعونها للقوم حميلة على الصحف الأخرى «فوق الببعة» مع الوريقات التي تظل تحت أكتاف غلمان الصحف حتى تحل النسخة التالية، ولم يكن الرجل في الوطنية آثما حتى تكون هذه عقوبته، وإنما رأى الناس منه رجلا يريد أن يقطع عليهم وترا من موسيقية وطنيتهم فتروح ناقصة النغم، فيصيبون منها وقرا في آذانهم، وتضعف تلك اللذة السحرية التي يجدونها من العقيدة العمياء بأنهم إنما يحبون حقا، ويرون حقا، ويسمعون حقا.
على أن ذلك الرجل كان مخلصا في عمله، وظل كذلك مخلصا في صبره، فاحتمل أذاة الناس وسخطهم، غير شاك ولا متململ، ومضت صحيفته في طريقها، خاسرة في المادة، راضية عن الخسار في ضميرها.
ولم يلبث الجمهور بعد ذلك أن عاد إليها، ولم تعد هي إليه مصانعة متغيرة لوامة، ولا اعتقدت أنها ارتكبت جرما في الوطنية، حتى تكفر عنه، أو تتشفع لأجله.
ومن هذا ندرك أن الجماهير مصابة أبدا بضعف الذاكرة، وسرعة النسيان؛ لأن أعمالها لا تصدر عن ذهن حاد حتى تكون بجانبه ذاكرة قوية، وليست للعواطف حافظة، وإلا لو أن لها ذلك لمضت جافة، لا تمضي في عمل حتى تراجع سجلها، وتلقي نظرة على ماضي فعالها، ولا تحدث حدثا حتى تتحقق أن له سابقة من مثله، وماضية من طرازه.
وإذن لكانت قصة العاطفة الوطنية سلسلة مستطيلة من حلقات عمل واحد، وفكرة واحدة، ولم نر ثورة في تاريخ العالم مشت عاما فعاما على منهاج واحد، وطبعت من كتابها صورا متعددة، لا تختلف واحدة عن أختها في شيء.
وكان الناس يقولون في مضرب الأمثال: إن خدمة الملوك خطرة، والزلفى عند الأمراء ضر، والعيش في قصور السلاطين لا يطول ولا يعمر، وإن رضى المليك معلق بكلمة، مرهون بلفظة، وإن الحب يدخل عليهم من أذن، ولا يلبث أن يخرج من الأخرى، وإن ابتسامة اليوم قد تصبح في الغد تجهما، وشرا مستطيرا، وإن وراء الضحكة هبوب العاصفة العابسة الراعدة؛ وإذا كان هذا حقا، فأقرب منه إلى الحق الدخول في الجماهير، والعمل على اكتساب عاطفة الجماعات، والظهور على رأس الحشد في الثورات، ولئن كان في حب الشعب للرجل منا لذة مخدرة، فإنها لا تزال مع ذلك لذة خطرة، ولا يني تخديرها يصبح خمارا مؤلما، ومهما أرضيت الشعب في عام، فما أنت بمستطيع أن ترضيه حجة أخرى، وإن اتبعت أهواءهم، ونزلت على أحكامهم، ومضيت تغذي عاطفتهم الغذاء الذي تسيغه، فإنك لا تلبث أن ترى المؤونة التي ادخرتها لغذائهم قد نفدت، ولا تزال عاطفة الجماعات جائعة تطلب مزيدا، وتريد شيئا آخر تلتهمه، فإن لم تجد لديه ما تأكله، أكلته هو والتهمته، أو اطرحته، فلا يسمع أحد عنه شيئا حتى تمل الجماهير من خلفه عندها فتعود ثانية إليه.
وأنت قد رأيت أن للنهضات الوطنية لغة خاصة بها، وخطابة لازمة لها، وأساليب من الكلام تغلي مراجل النفوس لسماعها، فإذا سكنت الزوبعة، وعدت تقرأها في كتاب، لم تجد لها طلاوة، ولا رأيت عليها روعة، ولا ألفيت نفسك متحمسة لوقعها؛ بل تكاد ترى عليها برودة كلام الموتى، وتقطع أنفاس المرضى في محضر المنون.
وهذه اللغة التي يمشي على موسيقاها جموع الناس للقاء المدفع والنار، ويثب الحشد على وقعها لبذل نفوسهم مسترخصة، لا تتفق مع لغة العقل، ولا تجري عليها سنن المنطق، ولا تماشي الاستنتاج الصحيح، وتتفق والتعليل السديد، فهي ليست لغة صحيحة تثقل في الميزان اللغوي، وليست لغة أدب؛ إذ لا جمال للأدب عليها، وإن عيوبها اللغوية لتمر فلا تدركها الجماهير، ولا تكتشفها آذان الجماعات، إذ كان العصر الذي تقال فيه عهد الهزء بالقوانين، والسخرية من النظام؛ وليس أسهل على الوطني أن ينحرف عن أساليب الكتابة، والخروج عن أنظمة اللغة؛ ويكسر قوانين الأدب بتلك السهولة عينها التي يخرج بها عن الآداب الاجتماعية، وأنظمة الأخلاق، ويكسر القوانين المشروعة.
وليس أمام الوطني الكاتب أو الخطيب إلا الاحتيال حتى بالكذب، والمغالطة على التأثير في نفوس سامعيه أو قرائه؛ كما كان ديدن أحد خطباء الثورة الفرنسية؛ إذ قال في ندوة الثوريين: «إن شجرة الحرية - كما قال أحد الكتاب الأقدمين - لا تنمو ولا تفرع، ولا تطول إلا إذا رويت وسقيت من دماء الطغاة الظالمين!»
وقد قلب الذين كتبوا عن تلك الثورة بطون التاريخ القديم؛ ليستدلوا على اسم ذلك الفيلسوف اليوناني، أو الكاتب الروماني الذي اقتبس خطيب الثورة تلك الكلمة من كلمه، فلم يجدوا له أثرا، ولا لتلك الكلمة أصلا، ولم يعثروا بشجرات للحرية ترويها «مرشات» مفعمة بالدماء؛ إذ لم يكن من ديدن خطباء اليونان، ولا مذهب كتاب الرومان أن يستخدموا مثل هذا التصوير، أو يعمدوا إلى وحشية ذلك التعبير.
وأكبر ظننا أن الخطيب إنما أراد بكذب هذا الإسناد أن يزيد في رهبة كلمته وقسوتها وتأثيرها، ولم يكن الناس يومذاك يحفلون بالرجوع إلى الكتب حتى يتحققوا، أو يقتنعوا مما يقال لهم، فمرت هذه الكلمة حلوة في آذانهم، صادقة لا ظل للريبة على حقيقة اقتباسها، وصحة الرواية فيها.
وفعلت الكلمة ما أريد منها، وما كان الخطيب يقصد إليه من قولها، وهل كان لكلمة يوما ما كان لتلك من التأثير، وما أدت إليه من النتائج، وأي تأثير لعمرك لكلمة كان معدل القتلى من فعلها ثلاثمائة مشنوق في الأسبوع!!
وقد كان خليقا بثورتنا التي هبت ريحها منذ أعوام ثلاثة أن تحدث ثورة في الآداب، ونهضة في اللغة، وتطورا في الفنون، وأن تحطم المبادئ البالية، وتهدم معاقل الجمود الاجتماعي، وتعفي على أثر العقائد الفاسدة، والآراء العفنة، وأنظمة الحياة الضالة الموبوءة؛ وتترك أثرا لها في الأسرة؛ والزواج، والصحافة، والبيت، والمعهد، والسوق.
ولكن وا أسفاه لم تفعل شيئا من ذلك، فقد مضينا نزيل قضبان السكك الحديدية، ونخرب الدور؛ ونهدم المحطات، وتوقف القطارات؛ فحطمنا ما كان يجب أن نترك، وتركنا ما كان أولى بنا أن نحطم، فظللنا كما كنا قبل النهضة أذهانا ونقوسا، وعقائد ومبادئ، بل لقد انتشرت الفوضى في الأدب، فخرج إلى الناس جرذان قذرة تحمل أقلاما تسود بها أنهار الصحف، واختفى الكتاب الحقيقيون أمام الأوغال الأوكال، وقبالة غلمان لم يكونوا يوما كتابا، وإنما جعلتهم الفوضى كذلك، ولم نلبث أن سمعنا بأسماء لم نكن نعلم بها، وبألقاب جديدة منحوها، أو سيقت لهم.
فكل من نشرت له صحيفة من الصحف أسطرا ضئيلة المعنى، خجلة في وسط بقية أنهار الصحيفة، صبية لا عقل لها، ظن أنه الكاتب الذي سيفتح بقلمه مغاليق الفكر، وسيأتي بالاستقلال «غير مشكوك» في «أنه التام»، ومشى بالمقالة إلى مشارب الحانات، وسقائف القهاوي، يدل عليها صحابه، وأخذها صحابه إلى صحابهم، ودارت في الحي الذي يسكنه، ومن ذلك الحي إلى العطفة المقابلة، والشارع الملاصق، وكذلك تكتسب منه الصحيفة، ويكسب هو من ورائها شهرة في وطنية كاذبة، وكذبا في شهرة زائلة، ولقد كانت كثرة أولئك المحسوبين على الكتاب المرفوضين من الوظائف، والمتبطلين والعاطلين الذين يجوبون سحابة النهار طرق المدينة متلفتين متلددين، هي التي أدت إلى ذلك الخطب العظيم الذي تعاني منه البلاد، وإلى تلك الفرقة في الصفوف، والثغرة في البنيان المرصوص، وأولئك هم الذين قسموا الناس في الحق الواضح الأبلج أقساما، وأشاعوها شيعا، وجعلوا الأمة تركب رأسها لا تدري أي الحزبين في مبدأ الأمر أجدى لها، وأحق بالنضح عنها، وهم الذين أفسدوا علينا أذهاننا، وعكروا صفاء نفسيتنا، وانتقصوا في العالم الذي ينظر إلينا من كرامتنا، وأزاغوا أبصار العامة، فلا تبصر من الحق غير وجهة واحدة، ولا تريد أن يزحزحها مزحزح عن عقيدة ضالة لديها، وهم الذين شوهوا حركة الأدب، وجعلوا كبار الكتاب يسكنون إلى نفوسهم، فلا يخرج من أقلامهم شيء من مادة ذلك الوحي الإلهي الذي ترسله السماء ينزل على أفئدتهم، وقد انصرمت هذه الأعوام خرساء لم يسمع فيها تغريد عصفور من تلك الأطيار الجميلة، ولم يخرج كتاب واحد يستحق خلودا؛ واضطجعت الكتب القيمة على رفوف المكاتب، فلا تمد إليها الأيدي، ولا تفتح صدورها، حتى تستنشق الهواء، وحتى ترسل في الأذهان تلك الحدة التي تنمو بفضلها، فنحن اليوم راكدون آسنون، تقتلنا قتلا بطيئا تلك الأمواه العفنة التي تقدم إلينا لشرابنا، وشفاء غلتنا، ولو أنك علمت بعدد الطلبات، والعرائض التي ركمت في الحكومة نائمة هادئة في أماكنها، والملتمسات التي يطمع بها أصحابها أن ينالوا من أولي الشأن في البلاد إجازات، ورخصا ليكونوا صحفيين، وأصحاب مجلات ونشرات وصحف، وهي تفوق العد، ولا يتناولها الحصر، وتستغرق سجلا ضخما لتدوينها؛ لأدركت هذه اللوثة المختفية التي أخذت بأدمغة فريق من هذه الأمة عجزوا عن سد أرماقهم من طريق العمل الجدي، والدأب على الحياة، فجعلوا الوطنية مرتزقا، وأداة عيش، وأسلوبا من أساليب الشعوذة، والحيل الهندية.
وكذلك حق علينا قانون الطبيعة الذي لا يخطئ ولا يضل، فإن هذه الرجعى التي نحن اليوم فيها، لا نزال نرى لها أثرا في المحسوسات، فكما يمضي «بندول» الساعة منطلقا في ناحية، تراه مهتزا قدر ما اهتز في الناحية الأخرى، وكما يتلو نشوة المساء أمام مائدة الشراب، وأقداح المشمولة الصهباء، خمار الصباح، ونومة الضحى، وألم الغداة.
وفي وسط هذه الزوبعة ثبت رجل واحد لم تفتنه فتون العامة، ولم ينزله عن مكانه الصخب الذي يملأ الفضاء عن كثب منه، أو يغره ميدان السياسة بمخادعة نفسه، والاحتيال بلغة الثورات على تضليل أذهان أمته، ولو أنه أراد أن يجمع الناس حوله بباطل تلك اللغة المنمقة، لسد على القوم جميعا منافس الكتابة، فتلقاها هو باليمين، وحمل لواءها، وبز الخطباء أجمعين؛ إذ لم يكن ليصعب عليه أن يعتلي ذوائب المنابر، على أعين النظارة، فيرسل فيضا من عبارات محبوبة جميلة المظهر، طلية الحاشية؛ فيخلب بها الألباب، ويخفي الحق في ركام من الكلم، وعصف من الألفاظ، ولكنه رجل وإن أوتي بلاغة منطق، وروعة أدب، وجلال نفسية لا يزال مخلصا فيما يقول للناس، وفيا فيما يشعر به، ولقد رأيناه خطيبا في عدة مواطن، فإذا به كما يقول الفيلسوف الروسي «إيفان ترجنيف» يصل إلى غرضه بضربة فأس واحدة.
ومثل هذا الرجل قد يجد الطريق إلى إقناع الجماهير الضالة الجامدة على رأي واحد، موحشا شاقا، ولكنه قمين أن ينتصر ملي بأن يبلغ الغرض، ويقف على الثنية؛ إذ تزول نشوة الرؤوس، وتخفت حدة الأذهان، ويجيء الناس يسمعون في هدوء ليقتنعوا في صمت ورفق، وليروا قناع الشك منحسرا عن وجه الباطل، ويشهدوا الحقائق متجلية أمامهم، تصدعهم حججها، وتمشي بهم إلى التفاهم والتهاون، والاتحاد والوئام.
لمحة من الماضي
قبل أن نبسط للناس شيئا من تاريخ حضرة صاحب الدولة رأس الوزراء عبد الخالق ثروت باشا، ونسرد لهم ترجمة حياته، يخلق بنا أن ندلهم على حقيقة قد غابت عن أذهان فريق منهم، ونسيتها طائفة من جماعاتهم، وذلكم أنه في جميع الأدوار التي مر فيها، ومراحل الحياة التي تنقل بينها، ظل يسير في طريقه بماض نقي، وسيرة ناصعة، فلم يسئ يوما إلى فرد، أو يحمل أذاة إلى مجموع، أو يضرب الأمة في مقاتلها، أو يحملها على ما لا تريد، أو يكرهها فيما تحب، أو يحببها إلى ما تكره، ولم يرتفع من منصب إلى منصب على أعناق الناس، ولم ينهض من وظيفة إلى أخرى أسمى منها بالملق، يكيله لأهل السلطان، أو بإرضاء الحكومة لإغضاب الأمة، أو بالوساطات يتشفع بها، والتوصيات يداهن ويصانع من أجلها، أو بالخمول يخلع عليه ألوانا مصطنعة من النباهة، أو الغباء يزجيه إلى أولي الشأن في ثوب الذكاء الملتهب.
كلا لم يفعل الرجل شيئا من ذلك، بل مضى شريفا في عمله، عاملا لشرفه، منكمشا إلى منصبه، لا يتهاون فيه، ولا يعطيه أكثر مما يستحق لتعطيه الحكومة أكثر مما يستأهل، ونحن لم نر لرجل حكومي ارتفع إلى منصب الوزارة في بلدنا هذا تاريخا ماضيا هو في نقائه أنصع من ماضي صاحب الترجمة، ولا يزال في تاريخ هذه الحكومة منذ ألقى الإنكليز أيديهم عليها، واستبدوا بمناصبها هنات كثيرة، وسيئات لوزرائنا السابقين إذا ذكرناها، أو تحدث عنها الناس على أسماعنا، فلا نلبث أن يعلو وجوهنا الخجل، ويتولانا الاشمئزاز والاستنكار، ولو كان لنا وزراء في الماضي على غرار وزيرنا هذا، يحملون الإنكليز على احترام شخصياتهم، ويقفون على مرصد من أعمالهم ونواياهم، ومآرب سياستهم، ولا يسهمون معهم في قتل روح الوطنية في صفوف أمتهم، لما مضى نصف قرن من تاريخنا معيبا مشينا، خامد الأنفاس، مسكينا متطامنا لا يحوي غير يوميات بطعام الأمة وشرابها، وسكون نأمتها، وخسة أفراد من أهلها، فقد عشنا كل تلك الحقبة من الزمن بأمعائنا نملق الإنجليز لنوال ما في أيديهم، وكان أحق أن يكون في أيدينا، وكان أولى بأن يتملق لنا، ولا نكون نحن المتملقين الصغار النفوس العجزة الأوكال، وقد هدأت ضمائر الحكوميين منا؛ إذ خدعهم ما رأوا من ضخامة الألقاب، وهي جوفاء في غير موضعها، ومن الرواتب يرضون بها، وهي لا تغني عن فقدان الضمائر شيئا.
وقد أفلت كثيرون من كبار هذه الأمة بماض سيئ، لا يخلو من عاب، ولا يتبرأ من ذام؛ فنسي الناس اليوم ما كان منهم، وتشفعوا لهم بحاضرهم عن ماضيهم، ولا ننكر أن هذه فضيلة من فضائل هذا الشعب، فإنه يحمل روح التسامح المكينة فيه إلى أبعد حد؛ فهو لا يني ينسى الإساءة إذا كفر عنها المسيء، وأتبعها مكرمة من المكرمات، وقفاها بحسنة من الحسنات، وإن الرجل منا ليحزن ويغضب إذا رأى من أحد ما يعده غضاضة عليه، وانتقاصا من كرامته؛ وتهاونا بحقه؛ ثم لا يلبث أن يبتسم ، ويقبل ضاحكا مستهلا إذا وجده قد عاد من إساءته إلى التكفير والتوب، ولكن لا يزال بجانب هذه الفضيلة العذبة الجميلة ما يشوه جمالها، ويردها في بعض الأحايين دميمة مشنوءة، وتلك منقصة الاستخفاف.
فإذا كنا نسبل على الإساءة ستر الرحمة والصفح، فنحن بجانب ذلك قد ننسى يوما ما كان من ماضي الرجل وحسناته، ونقاء سجله، وطهر تاريخه، وذلك ضرب من التناقض في العاطفة لا نعرف له مثيلا في نفسيات الشعوب، ولم نشهد شيئا من أعراضه في تاريخ الاجتماع، إذ لم نر الجمود والصفح والتجاوز عن الإساءة الماضية متضاربة في فؤاد واحد، مختلطة متمازجة تحت نبض صدر رجل بمفرده. •••
ولد صاحب الترجمة في شهر صفر الخير عام 1290 من الهجرة و1873 من مولد المسيح، فهو اليوم لم يحطم بعد الخمسين، وبذلك يكون أصغر من جلس في رئاسة الوزراء سنا منذ سبعين عاما، أو يزيد في بلدنا هذه، وليست الخمسون بالسن التي يجلس الرجل بها في ممالك الغرب فوق مقعد الوزير الأول، ويتولى فيها منصب الرئاسة في الحكومة، بل لا تزال سنا فتية في عمر الرجل السياسي، ولا يكون الحكومي في الخمسين إلا من الشباب السياسي الذي لم يرتفع معه إلى تلك المرحلة التي تجيز بلوغ الغاية، والتربع في الوزارات.
ونحن نرى هذه السن قد وقفت على ثنية الشيخوخة، ونعدها في بلادنا متقدمة تمشي متخطية الكهولة والرجل منا تبرد عاطفته قبل الرجل في بلاد الغرب، ولا يكون صاحب الستين لدينا إلا رجلا متمهل الخطر، ثقيل الحركة، لا يجلد على عمل مجهد، ولا يطيق الاشتغال عدة ساعات مستمرة بينما ترى الرجل في السبعين من الإنكليز، أو الألمان، أو الفرنسويين واثبا فوق الدراجة عاديا في معلب الجولف، سباقا في حلبة السباق والربع ميل، مسرعا قافزا يحمل مضرب الكرة في يده، مشمرا عن ساعديه، متحفزا للهجوم، والتدافع بالأيدي والأرجل، وعلة ذلك أننا شرقيون تنمو جسومنا غير متمهلة، عاجلة غير متوانية، وأن عواطفنا حادة ملتهبة، لا تلبث أن تخفت وتنطفئ؛ إذ تحترق الأعصاب، وتهين الأنسجة، وتأكلها النار المشبوبة في الجانحة، والجهاز العصبي.
ولكن وزيرنا الأول لا يزال يلوح شديد الأسر ممتلئ القوة فتيا، نشيطا حاد الذهن، مصقول الخاطر إلا وخطا من شيب بدا في تفاريق شعره، ولاح في فوديه؛ فجعل مظهره جليلا رائعا، وما ذلك إلا لأنه حفظ بدنه من هماهم نفسه، وحي أعصابه، ولقد تقلد مناصب تستلزم عملا ناصبا، ونصبا جاهدا، وكان يحمل فيها على ذهنه بالعمل والدأب، ويكد في إنفاذ واجبه غير مستأن، ولا متراخي النشاط، فلم يحدث ذلك الدأب أثرا كبيرا في بدنه، وقوة ذهنه. •••
وكان والده إسماعيل باشا عبد الخالق بن المرحوم عبد الخالق أفندي سر خليقة الرزقة في أوائل عهد محمد علي الكبير، فكان جده عظيما على رأس القرن التاسع عشر، وجاء الحفيد عظيما كذلك، ورأس حكومة مستقلة بعد العشرة الثانية من القرن العشرين.
كان جده لأمه كذلك من أشراف هذه المملكة، وهو المرحوم أغاة متسحفظان مصر في ذلك العهد، وكذلك انحدر صاحب الترجمة من أعصاب قوية، وطبيعة أقوى منها، ولعل ذلك سر امتلاء بدنه، وقوة شخصيته، وحدة خاطره، ومتانة طبيعته.
فلما بلغ الثامنة من عمره أدخله والده مدرسة عابدين؛ فتلقى فيها دروسه الابتدائية، وانتقل منها إلى مدرسة المعلمين «النورمال» فأتم فيها علومه الثانوية، ونال شهادة البكالوريا، وكان أول الناجحين في امتحانها من طلبة المدارس الثانوية.
تلك كانت أول بواكر هذا النبوغ، وذلكم مبدأ نضوج هذا الذهن القوي، ولا يني النبوغ يخرج ثماره على ميعاد، وعلى غير ميعاد، وقد يبطئ في الظهور وقد يبتكر، وقد يمر الفتى بشبيبته كلها صبيا عاديا لا غرابة حوله، ولا شيء يدهش من خلقه، أو من حديثه، أو من أثر ذهنه، وقد تظل كذلك فإذا هو على مستهل الثلاثين، أو على ثنية الأربعين قد راح نابغة في قومه، مكتمل الذهن، ناضج المواهب؛ فيعجب الناس لظهور هذه النادرة الجديدة، ويتساءل أقرانه، والذين رأوه في صغره، وشهدوه في مراهقته، كيف أتيح لهذا الرجل الذي كان علما على الغباء، ومادة التبلد، ووخامة الخاطر أن يبدو اليوم بمثل هذا الذكاء، ويتراءى بهذه الأعجوبة الجديدة، ومن أمثال هؤلاء المتسائلين تضحك الطبيعة ساخرة؛ لأنها لا تريد أن تسير في أفعالها على ما يهوى الناس، وأن تقرب نظامها من نظامهم، وتحاكي بين قوانينها وقوانينهم.
والنبوغ المبكر الوثاب من الطفولة الواضع علائمه في وجه الطفل، وهو يمشي إلى المدرسة؛ التارك دلائله تبين في أخلاق الصبي ضاحكا وباكيا، وغضوبا ومارحا، وفي حركاته وفي سكونه، يروح بطبيعته أقوى وأكمل من النبوغ الذي يأتي إذ تقبل الكهولة، وتتقدم السن؛ لأنه إنما يفيض من نبعة مستمرة على الجريان لم تكن يوما ناضبة، ولم يكن معينها جافا لاصقا بالأرض، وهو خارج من يد الطبيعة لساعته وعامه، طالع على الكون من يد الله المبدع العظيم، فلم يكن مخلوق الأعوام، أو مجهود السنين والحوادث، أو نتاج الطوارئ في حياة الرجل، أو تطور العصر، أو ثورة الزمن، كما يكون من النبوغ الذي يقبل متأخرا متمهلا، يمشي الهوينى إلى العالم.
ونحن فنرى أن للأصل والدم والمنشأ والأعصاب دخلا في نبوغ صاحب هذه الترجمة، فإنه ولا ريب من عنصر آري لا أثر في تكوينه للدم السامي، وقد كان الآريون هم الذين فتحوا العالم، وأحدثوا الحضارة، وكتبوا التاريخ بأيديهم؛ لأن ذهنيتهم أكبر وأقوى من ذهنية الساميين، وتركيب أدمغتهم بخلاف تركيب أدمغة أهل العنصر السامي، وسلالتهم، كما يبدو ذلك الآن في تقاطيع وجه هذا الوزير، وشكل رأسه ومزاجه وطبيعته، ومنازع نفسه؛ وأكبر ما يؤيد لدينا هذا الرأي، ويوحي إلينا أننا على الحق فيما ظننا هو أن جده الأعلى حضر إلى هذا الوادي، واستوطن هذه البلاد بعيد الفتح العثماني، فهو منحدر من أصلاب متينة، وسليل جندية راعت العالم كله يوم بسطت سلطانها على هذا الوادي، وقد كان للهواء السجسج في هذه البلاد، والنسائم العلائل الرواحة الهادئة أثر في تخفيف حدة هذه الجندية الخشنة الرائعة.
وقد شهد هذا التأثير جميع الذين انحدروا من أوطانهم للمقام في مصر؛ فقد تطورت أذهانهم؛ وتغيرت أمزجتهم، ودخل عليها أثر هذا الجو الهادئ، فجعلهم يحملون دلائل أصلهم في وجوههم، وتأثير المناخ الذي استوطنوه في أمزجتهم وطبائعهم ، وقد تجلى ذلك في عهد المماليك؛ إذ ضعفت على مر السنين روح الجندية التي كانت مكينة في نفوسهم، ووهنت في أرواحهم صبوتهم إلى الحرب، وشوقهم إلى الحومة؛ لأن جو مصر إنما يخرج كما قال العلامة الطلياني لومبروزو في كتابه «الرجل العبقري» زراعا، وعملة، وحراثا أكثر مما ينتج جنودا وشجعانا، ومساعير حرب، وتعليل ذلك أن البلاد السهلة التربة، الخفيفة الأرض التي لا تطول فيها الجبال، ولا تتحجر الأراضي لا تتطلب من الرجل إجهادا في سبيل رزقه، ولا تسأله كدا متواصلا في سبيل البحث عن قوته على حين نرى القوم في البلاد الصحرية الكثيرة الأجبال، لا يجدون العيش سهلا ذلولا، ولا يقعون على طعامهم إلا من بين الصخور، وفي بطون الأرض يشقونها أحافير ومناجم، وفي العمل الشاق المنهك للقوى، المتعب للأعصاب، ويوم يجد الرجل رزقه ومؤونته بلا مشقة، ويرى العيش أنضر على حبل الذراع منه يصفو مزاجه، ويعتاد الراحة، ويسكن إلى الخمول، ويروح وديعا مبتسما للحياة ابتسامتها له، ساخرا من الزمن؛ لأنه لا يكلفه غير طرح البذور، وترك الجدول الفضفاض ينساب في حقله، فإذا هو واجده بعد أيام زرعا ناضرا أخرج شطأه، وإذا الأرض مدرة عليه طعاما وخيرا، ومثل هذا الرجل لا يكون إلا وديعا مسالما ضحوكا مفراحا، لا يحمل حزنا، ولا يجلد على أسى، ولا تجد للكبرياء أثرا في نفسه، ولا للخشونة عنصرا في خلقه؛ إذ لا تقع الكبرياء والزهو إلا للرجل الذي يعلم أنه إنما يجد الطعام بشق النفس، ويحمل على نفسه ليكون سيدا رافع الرأس، لا بالمتكفف، ولا بالسائل المحروم.
وكذلك نحن في بلدنا هذا الخصيب، فكما يجري النيل متبسما للشمس، وهي تلاعب صفحة أمواهه، ضاحكا للقمر المبتدر يبسط أشعته الفضية عليه ليلتحف به غطاء حلوا فخما، يعم صدره، وكما يتدفق صافيا عذبا فراتا، ويفيض لا صخابا ولا غاضبا، عاتيا طاغيا على الناس في حقولهم، ترى أهل واديه كذلك صفاء نفوس، ونقاء أرواح ووداعة، ومراحا وضحكا، وابتساما، ومزاجا رقيقا، وصفحا، وتهاونا، وتسامحا.
وإذا كان صاحب هذه الترجمة قد ورث عن آبائه روح الجندية، ومتانة الخلق، وصلابة الإرادة؛ وذلك الشمم المتسامي، فقد أخذ عن هذا الوادي كما أخذ آباؤه كذلك منذ استوطنوا هذه الأرض فضيلة الوداعة، ولين العريكة، وابتسامته الدائمة التي لا تفتر عن ثغره.
وإذا كانت تلك الجندية المتمكنة من خلقه المتأصلة في روحه لا تزال تبدو في حياته المدنية في تلك البسالة التي يواجه بها أحداث هذا العصر، وتلك الإرادة الفتية التي يحمل بها على أحرج المواقف، وأشد الظروف عنتا وإرهاقا وتعقدا، وتلك العظمة التي يتجلى بها في منازعته على الحق أعداء بلاده، فإن ما اكتسبه من الروح المصرية لا يزال يبدو في مزاجه الصافي، وفي وداعة أخلاقه، ولطف حديثه.
ونحن ما رأينا في كبار رجال الحكومة، ولا في الوزراء الذين اعتلوا منصات الحكم في بلادنا هذه رجلا محدثا عذب المحضر، رفيق الحاشية، لطيف السمر، بسام المحيا كوزيرنا الأول؛ فإنه ليتبسط في الحديث، رافعا الكلفة، متجاوزا عن كبرياء المنصب، ناسيا روعة المقعد في الحكومة، فلا يمل المستمع له حديثا، ولا يرى على كلامه ومنطقه شيئا يتكرهه أو يغضبه، أو يغريه بالنهوض من مجلسه، أو التعجل في الاستئذان من حضرته حتى لترى أبلغ الناس حديثا؛ وأظرفهم فكاهة، وألطفهم في الكلام مدخلا على النفوس ليفقد نفسه في حضرة هذا المحدث الرقيق البديع الحديث أكثر من متكلم، وتضؤل فكاهه بجانب فكاهة جليسه، ولا ترى لصاحب الترجمة فيما قرأنا عن النوابغ، والعبقريين شبيها له من هذه الناحية قرينه من هذه الوجهة الممتعة غير صمويل جونسون الكاتب الشاعر المخلد، فقد كان أبدع أهل عصره حديثا، ودعابة وسمرا، حتى إنه يوم وضع القلم لا يكتب؛ مضى نشيط اللسان، فياضا بالحديث؛ يضع سلطانه على نفوس سامعيه، ويجتذب أفئدة القوم برقة ندواته، وكانت مواهبه الكلامية لا تقل عن نبوغه الشعري، فكل كلمة تخرج من شفتيه تحمل السامعين إلى أبعد ما يأخذهم المدح والإعجاب، ولكن لم يكن على كلامه أثر من تلك «الشطحات» المترامية التي كانت في شعره، بل كانت أحاديثه آية البساطة والسهولة واللطف، والمتانة في آن واحد.
وكذلك كان الخطيب والسياسي المخلد إدموند بيرك معاصر جونسون، فقد كان إذا غاب هذا عن الندوة تولى هو التحدث، والتسامر مع الأعضاء، وكانوا جميعا من كبار رجال العصر بين كتاب وشعراء، وساسة وأشراف وحكوميين، فلم يكن بيرك يقل في فكاهاته، ولطف أحاديثه عن صديقه الغائب، ورأس المحدثين الفاكهين في عصره ذاك.
وإذا نحن تدبرنا هذه الشجاعة الأدبية التي نرى في كل يوم آثارها من صاحب الترجمة، وجمعنا إليها هذه الفضيلة الكلامية الحلوة، العذبة المحضر، ذكرنا ما كان من القائد مالبرا؛ إذ قال عنه الشاعر الروائي ويليام ثكرى: إنه ليقف أمام فوهة المدفع مبتسما، كما يقف في قاعة الاستقبال لتحية الأضياف. •••
وكان من أثر هذا النبوغ المبتكر أن دخل المترجم به مدرسة الحقوق في الربيع السادس عشر من عمره، وذلك عام 1889 أي في تلك السن التي كان أقرانه في هذا العمر لا يزالون في المدارس الابتدائية طلبة طوالا، قد نبت عذارهم في صفحات وجوههم، وفرعت قاماتهم، وصلبت أعوادهم، ويوم كانت برامج التعليم أدق منها اليوم، وأوسعها مادة، وأكثر دروسا، وإذا عرفت ذلك، ثم علمت أنه كان أول فرقته في جميع سني مدرسة الحقوق، أدركت روعة هذا النبوغ الذي بدأ منذ صباه ناضجا فارعا مستفيضا، وكان خليقا بذلك الصبي الذي يمشي في باحة المدرسة أن يكون له شأن يذكر في مقتبل عمره، ومستهل كهولته؛ لأن الطبيعة أعدته منذ ذلك اليوم لعمل عظيم، وأرادت به حدثا خطيرا في تاريخ هذه الأمة، وقادته إلى طريق الحقوق؛ لأنه كان أبدا سبيل النوابغ إلى الوزارات، ومعهد تخريج قضاة الشعب وقادته، وزعماء الرأي فيه، وقد كان له في تلك المدرسة أقران ولدات، ولكن الطبيعة لم تنتخب منهم لعملها الذي انتوته لبلدنا هذا أحدا غيره، وقد خمل أولئك، ونبه هو؛ لأنه من صفوة من اختارتهم الطبيعة لقضية الشعوب، وأماني الأمم.
ولا غرو إذ اهتدت الحكومة إلى مواهبه منذ صباه، وتوسمت فيه ما حدث منه في رجولته؛ إذ اختارته بعد نوال إجازة الحقوق من تلك المدرسة للسفر إلى بلاد الغرب؛ لإتمام علومه، ونوال إجازة الدكتوراه النهائية؛ إذ أوحي إلى ناظر المدرسة يومذاك وهو مسيو تستو أن في أثواب ذلك الفتى بواكر عبقرية متجلية ساطعة النور؛ فرفع إلى أولي الشأن تقريرا يوصي بأن لا تفرط الحكومة في تلك المواهب، وتتزاور عن هذا النبوغ الفتي المتقد، وأن ترسله إلى أوروبا ليأخذ من فيض ذلك العلم الذي نبع نبعه في تلك البلاد، فنزلت الحكومة على رأيه، وصدقت نبوءته، ورضيت بمقترحه؛ فأجازت سفره، وقررت له مرتبا استثنائيا يكفل له النفقة مدة دراسته، ولم تكن تلك الفترة فترة بعثات علمية ولم يكن عصر الإرساليات، ولم تكن العادة أن ينقد الطالب في جامعات الغرب راتبا ينفق منه؛ ولكن الحكومة كانت في ذلك متابعة سنة من سنن الإلهام السياسي؛ إذ بينا ترى الحكومات يوما مشترعة نظاما إذ هي مبطلة مثله، وهي لا تدري لم أنفذت ذاك، وأبطلت غيره، ثم لا يلبث الزمن أن يظهر فساد ما فعلت، أو صلاح ما اشترعت.
على أن القدر أبى أن تتم الفكرة، وشاءت الظروف أن تحول دون تنفيذ هذا المقترح؛ إذ اتفق أن كان والد المترجم به يومذاك مريضا مرض موته، طريح الفراش على سرير منيته؛ فتضاربت في فؤاد ذلك الفتى عاطفتان، كل منهما تدفع الأخرى وتجتذبها، وتريد الغلبة عليها، عاطفة الشوق إلى العلم، وعاطفة الرحمة والبر بأبيه، ولكن لم تلبث الغريزة أن انتصرت على نزعات الذهن، ولا تجد الغريزة مصطدمة، وأية عاطفة إلا انتصرت في النهاية فائزة.
وهكذا آثر الفتى أن يبقى بجانب أبيه المريض على أن يحمله طلاب التوسع في العلم إلى بلاد قصية، وأبوه في محضر المنون، وأشفق من أن يلفظ الرجل أنفاسه التي طالما أجهدها في سبيل تربية فتاه، والقيام على رعايته، وهو عنه غائب، فلا يودعه الوداع الأخير.
ولم يسافر المترجم به كما كانت النية، ولم يرتحل عن مصر كما كان مقترح الحكومة، وماذا كانت تلك الإجازة التي كانت تنقصه لتجدي عليه أو تنفعه، وله من ذهنه الخصيب، وتفتح الكتب أمام عينيه ، والتربية الاستقلالية التي كانت عند منال يده؛ ما يذلل له سبل الاكتمال من العلم، والتوسع في القانون، ويفتح أمامه مغاليق الفكر والرأي، ولعمركم متى كانت المدرسة معهد النبوغ، ومتى مضت الجامعة منتجة العبقريات، وهل النوابغ يستمدون من الجامعات شيئا من مواهب نبوغهم إلا أن يحرزوا المبادئ الأولية لإظهار قوة أذهانهم، وحدة ذكائهم، ثم ينطلق نبوغهم بعد ذلك ركضا لا يلوي على شيء.
وقد رأينا شبابا خرجوا من المدارس فكانوا أعظم أذهانا من معلميهم، وأكبر أسماء من أساتذتهم، فذاع ذكرهم، ومضى معلموهم خاملي الذكر، مغمورين، لم يصيبوا هم من الخلود شيئا، وأصابه تلاميذهم، وأين الذين علموا أمثال: شكسبير، وجونسون، وديكنز، وراسين، وكورني، وبت، وبسمارك، ومولتكي، وغيرهم، لقد جهلتهم الإنسانية، ولم تحفل بمعرفة أساميهم، أو البحث عن حياتهم وماتوا، وكأنهم لم يكونوا، وكأن أولئك المخلدين العظماء لم يتلقوا عن معلم، ولم يتخرجوا عن أستاذ، ولم يأخذوا عن أحد في حلقة درس، وفي فرقة من فرق الجامعة أو المعهد، بل كأنما خرجوا من يد الطبيعة جاهزين مفصلين، يحملون العلم من المهد، ويشعرون في أعماق قلوبهم بوحي الفنون كلها، وكيف يحتاج النوابغ إلى المعلم، وتعوزهم إجازات المعاهد، وهم الذين يخلقون العلم، ويكشفون أقطارا جديدة منه، ويأخذونه إلى الشاطئ؛ فينظفون ما يعلق من الأوساخ به؟ وما جملة علوم هذه المدينة وفنونها وآدابها إلا من عمل النوابغ والعبقريين، لا من صنع حملة الشهادات، والمزهوين بالإجازات، والألقاب العلمية، والكنى الأدبية التي تجعل لأسمائهم ذيولا طويلة وراءها.
ونحن قد بعثنا إلى الغرب وجامعاته عددا عديدا من شبابنا، وأطلقنا فتيانا من سجون مدارسنا إلى حرية المعاهد في بلاد الحضارة والقوة والعلوم، وقد تكاثر في الأعوام الأخيرة علينا أولئك الذين عادوا بإجازاتهم العالية، وباللحى المعفاة، وبالمناظير الأستاذية، وبالألقاب السربونية، وغير السربونية مما لا نعرفه، ونفزع منه، وتأخذنا الهيبة عند سماع نبئه.
ولكن كم من هؤلاء أحدثوا انقلابا في مادة العلم لدينا، أو غيروا وجهة الأدب عندنا، أو أثاروا نهضة اجتماعية كبرى، أو خلدوا أسماءهم، وأرسلوها مع الشمس تجري فوق رؤوس الناس ؛ فتبهر أنظارهم، وتدفئ أرواحهم؟ وأين الكاتب العبقري الذي أخرجته الجامعة؟ وأين قلم الوحي الإلهي الذي نشأ في المعهد؟ وأين المشرع العظيم الذي وثب من كلية القانون؟ وأين المهندس الصنع، الحاذق الجديد الذي جاءنا من البلد القصي على صفحة البحر الأبيض؟ وأين الكتب والتآليف التي كانت نتاج الدرس في الجامعات والأسفار، والأبحاث، والمخترعات، والمبتكرات التي خرجت وليدة الذاكرة والبقاء أعواما طوالا في الكليات؟
لم نر شيئا من ذلك في صفوفنا، وإن رأينا خلقا كثيرا جاؤوا بشهادات عالية، ولم يجيئونا معها بشيء من ثمرات تلك الشهادات أو دلائلها، بل هؤلاء إنما يزيدون في كل عام قوائم أسماء المحامين، أو يندمجون في وظائف الحكومة، فلا يفضلون الحكوميين الذين نشأوا في مصر، وتخرجوا من مدارسها، وأخذوا العلم عن معاهدها، أو يفوقونهم في كثير أو قليل، ولم تزدد نهضتنا بهم شيئا، أو تمتن أصلابها فتحتمل زوبعة الحياة، وتجالد مطالب العصر. ولو أنك أحصيت عدد الذين فقدتهم هذه الأمة في بلاد الغرب، ومدارسها، وخابوا في البحث عن الشهادات يزجونها إلى دوائر الحكومة للظفر بالوظائف المنتخبة الرقية، والذين عادوا إلينا وقد فقدوا جنسيتهم، واستنكروا أن ينتسبوا إلى بلدهم، أو يذكر أمامهم وطنهم، والذين رجعوا ولم يظفروا بإجازة أو شهادة إلا إجازة زواج بفتاة دميمة، أو امرأة نصف مطلقة، أو عذراء لم تجد في بلدها فتى يتطلع إلى البناء بها، ولم تر خطابا يتزاحمون عليها، فكأنما ذهبوا لهذا، وكأنما عز عليهم أن لا يعودوا بشيء مما ذهبوا لأجله؛ فعادوا بخفي حنين.
نعم، إنك لو أحصيت عدد هؤلاء وأولئك، لعلمت أنه لا يشفع عدد من نجحوا في مدارس الغرب لعدد الذين أخفقوا، ولا يستطيع أولئك أن يعتذروا لهؤلاء، وأن ما استفدنا به من شبابنا الذين جاؤونا بالإجازات العلمية لا يقع في شيء إذا قورن بنكبتنا من وراء ذلك، والضرر الذي لحق كياننا من أثر ما فعل المخفقون الراسبون الراكدون منهم، وحسبك ما كان من جراء هذه الزيجات الأجنبية، وما بلتنا به، حتى أصبحنا نجد ألوفا من فتياننا في منازلنا من غير زواج عانسات، لا يجدن خطابا، أو «منتظرات»، والشباب غير منتظر، والجمال متحول غير معمر، وقد أصبح كثيرون من الآباء يدفعون ببناتهم، وثمرات تربيتهم إلى أول خاطب مخافة أن لا يكون وراءه خاطب آخر، وفي ذلك من نذير الشقاء، وتهدم الأسرة، وفساد العيش ما فيه، وكأنما هؤلاء الشباب لا يرون في بلدهم ولا فتاة واحدة تصلح لواحد منهم، وأن أولئك الفتيات المهذبات اللاتي رأينا ما فعلن في وقدة هذه النهضة، وما أسهمن به في الوطنية الصادقة لا يصلحن أزواجا، ولا يرقن في أعين الشباب «المستغربين»، ولا تصلح كلمة «مدام» لفتاة منهن، وكأن فتياتنا المطالبات اليوم بحق الانتخاب في نظر أولئك الشباب الذين غرتهم الحضارة الغربية، وخدعهم زخرفها، ولين ملمسها، ونعومة مظهرها لا يحاكين في ذهنيتهن، وآدابهن، وعلو مداركهن تلك البضاعة النسائية التي وردوها لنا من حلقات الدرس في الغرب، ومن الإجار الفقيرة التي كانوا يسكنونها في الجامعة.
وكذلك ترى أن كثرة الخريجين، وحملة الشهادات العالية لم ترتفع بنا، ولم تنهض بحالتنا الاجتماعية من البلاء الموكل بها، وأن ما نخسره من ورائها أكبر مما نجنيه منها، ونحن رأينا كثيرين أتموا دروسهم في الغرب، وعادوا بالدكتوراه، والإجازات النهائية، ولم تتح الأقدار لصاحب هذه الترجمة: إن يكون في الذين ذهبوا للعودة بها؛ فتخلفوا هم، واستبق المترجم به، وما شهدنا من نبوغه في القضاء، ومن عمله في المناصب القضائية التي تولاها، ثم تنقل فيها يؤيد رأينا أن النبوغ إنما يسخر من الشهادات، وأن العبقرية لا تنقصها الإجازة، أو الجلوس في الجامعة العالية. •••
وإذا كانت الحكومة قد أخفقت في فكرتها التي أرادت تحقيقها في مبدأ أمرها من إرسال المترجم به إلى جامعة أوروبية لإتمام دروسه على نفقتها؛ لأن القدر وقف في طريقها وطريقه، فقد أبت إلا أن تدخره لنفسها، ولم تشأ أن ينطلق من يديها ليسلك نفسه في المحاماة، أو في عمل حر يسد به ثلمة في صفوف العاملين الأحرار الخارجين عن مكاتبها؛ فدخل المترجم به أول ما دخل في وظائف الحكومة في قلم قضايا الدائرة السنية، ولبث كذلك ردحا من الزمن يظهر فيه نبوغه، وتتجلى فيه عبقريته القضائية حتى اهتدى إليه رجل من كبار رجال الحكومة يومذاك، وهو السير جون سكوت، وكان يشغل إذ ذاك منصب المستشار في وزارة الحقانية، فراعه ما رأى من وحي ذكائه، ومن أمارات التفوق تبدو على صفحة وجهه، وفي أضعاف العمل الذي بين يديه، وفي الهمة المتقدة بين أضلاعه، والتوثب إلى البروز والنهوض من مكانه ذاك؛ فاختاره ليكون كاتم سر للجنة المراقبة القضائية.
وقد كانت تلك الخطوة الأولى في طريقه إلى المجد، وسبيله إلى التفوق، وإظهار عظمة ذهنه على الأقران واللدات، فما زال يشغل تلك الوظيفة في اللجنة، ووظيفة المفتش بها، ويترقى في المناصب القضائية حتى عين بعد ذلك وكيلا لمحكمة قنا.
ومضى زمان وهو في مكانه ذاك حتى ألهم المستر برونيات (سير ويليام برونيات بعد ذلك) أن يعمل على تعديل النظام الإداري لوزارة الحقانية؛ فوضع تقريرا مطولا عن ذلك، فلم يلبث المترجم به أن نقل من القضاء إلى الإدارة؛ إذ عين مديرا لإدارة المحاكم الأهلية.
وكذلك انتقل المترجم به من مناصب القضاء إلى وظائف الإدارة للمرة الأولى، ويلوح لي أنه كان يؤثر الأولى على الأخرى؛ لأن عبقرية الحكم في الناس، والبت في خصوماتهم، وإقامة منارة العدل بينهم، كانت مكينة في نفسه، متأصلة في أعماق روحه؛ لأن في ذلك معنى النشاط، ومضطربا لحدة الذهن، ومجالا لسعة الخاطر، ونفوذ البصيرة، وبعد مطارح الرأي، وليس القاضي إلا ممثل الملكية، والنائب عن الإمارة، والمفوض في الحكم عن الولاية، وهو منصب يدني صاحبه إلى الناس، ويدني الناس منه، ويقرب إليه فرصة فهم الناس على حقائقهم، وتعرف منازع نفوسهم، وإدراك نفسية المظلومين والظالمين معا، وليست ساحة القضاء إلا حلقة درس للقاضي، ومعهد بحث، ودار فحص، فإذا كان القاضي بعيد النظر، عميق الفكر، قوي الشخصية، استفاد العدل منه، واستفاد هو من منصبه؛ إذ يجتمع جلاله بجلال مقعده، وتلتقي روعة شخصيته بروعة سدته، وعلى قدر قوة الشخصية في القضاة، تكون قوة الإنكار في المجرمين ، وليس القضاة إلا من كبار علماء النفس، وليست شخصيتهم إلا أول مطلب لمناصبهم، ورب قاض اهتدى إلى المجرم من الجلسة الأولى.
وفي أثناء اشتغاله في الوزارة انتدب فوق أعماله للقيام بأعمال القضاء في محكمة أنشئت للأحداث في القاهرة عام 1905، وقد وضع عنها تقريرا مستفيضا وافيا، أثبته المستشار القضائي في ذلك العهد برمته في تقريره السنوي، مثنيا على كاتبه أجمل الثناء، معترفا له بالقدرة، مقررا أنه من القضاة الشباب الذين برزت كفاءتهم، وعلت مقدرتهم، وتجلت عبقريتهم في مناصبهم.
وفي الحق، كل من قرأ ذلك التقرير، واستوعب ما جاء بين دفتيه رأى أدلة ساطعة على التفوق الذهني، والبراعة القانونية، والتحليل النفساني الدقيق، ويشهد غلالة رقيقة من الأدب، ونسجا بديعا من أساليب الكتابة.
والناس في بلدنا هذا قد اعتادوا أن يظنوا أن كل رجل منا يظفر بمديح، أو اعتراف بكفاءة من رجل من الإنكليز إنما يصيبه من طريق الممالأة، ولا يناله إلا كما ينال المولى الذليل كلمة تشجيع، أو خير من سيده، وأن الإنكليزي لا يكون معترفا إلا إذا كان مملوقا ممن اعترف له، محبوبا منه، عونا له، صنيعة معه على سياسته؛ لأننا عشنا على النفاق جيلا طويلا، وتعلمنا الملق والمداهنة، إذ ظننا ذلك سبيلا إلى الحظوة، مطية إلى التفوق في المنصب، والصعود إلى المقاعد العالية، فحسبنا كل ابتسامة من الإنكليزي علما على الخيانة، ودليلا على الممالأة، وإشارة إلى المصانعة، وقد يصح هذا على قوم ارتفعوا بهذه الوسيلة، وبلغوا الغاية بهذه السبيل، ولكن العظمة الذهنية قمينة أن تحمل عدوها على التهيب منها، والاحترام لها، والاستكانة أمامها، وإذا ظفر النابغة من نوابغنا في الحكومة بشهادة من رئيسه، أو كلمة مديح من الإنكليزي، فلا يكون الإنكليزي فيها إلا صادقا، ولا يكون إلا مكرها على تلك الشهادة إكراها بدافع نفساني، ودهشة في أعماق نفسه؛ إذ يرى في الأمة المحكومة به عبقرية تصدعه وتروعه، وتملك عليه نفسه، وتغريه بأن يظهر ما كمن في صدره من الإعجاب بها، والخشوع أمام مظهرها وجلالها، وقلما ظفر منا النوابغ بهذه الشهادة ، وندر من أصاب أمثال هذا الاعتراف، بينا ترى ألوفا منا يظفرون بابتسامات الإنكليز وتحياتهم، ودلائل التحبب إليهم، ومساعدتهم، والمشي بهم إلى المناصب السامية، ولو اطلعت إلى قلوب أولئك المادحين المزهوين المتكبرين لرأيت أشد الاحتقار يكمن في إضعاف نفوسهم لهؤلاء المالقين الأذلاء، وشهدت العبث والسخرية مستعرة في حنايا ضلوعهم لهم.
وأما الأذكياء منا، وأهل الضمائر الحية التي لا تصبر على ما يهين أصحابها، أو يغريهم بخيانة بلادهم، والنوابغ العاملون المالئو مراكزهم بحق، فإنما إذ يصيبون مدائح الإنكليز يغتصبونها اغتصابا، وينالونها منهم قسرا وانتهابا، بما يدخل على نفوس رؤسائهم من الرهبة، والإعجاب بتلك الشخصيات القوية؛ والضمائر المتقدة الوثابة، والأدمغة الناضجة، ودلائل النشاط، والوطنية العاملة.
ولعمري ما كان بالمديح أن يقال عن صاحب الترجمة: إنه من الأذكياء، وما كان ثناء أن ينعت بالكفاءة، ويوصف بالمقدرة، ويشار إليه بالنبوغ، فتلك معالم ذلك ظاهرة في كل عمل تقلده، وفي كل منصب اعتلاه، ولم يكن المادح شاعرا كاذبا، ولا مشجعا محبذا، ولو أنها جاءت من أي إنسان آخر غيره، لكانت من تحصيل الحاصل، ومن الأمور التي بدهت الناس جميعا، ولا حاجة إلى إعلانها؛ لأنها معلنة عن نفسها، ولكنا إنما نغتبط بها، ونقف أمامها مثلجي الصدور، لما يختفي تحتها من ذلك المعنى البليغ الذي نشعر به، وهو شهادة العدو بالفضل، ومغالبته الكتمان، وإنكار المقدرة، وعجزه عنها، ووثوب ما في ضميره على ما في ذهنه من مبادئ رمي المحكومين بالجهالة، وتنقصهم، والتجني عليهم بالخمول، وضعف الأذهان، والإقفار من النبوغ والذكاء.
وفي عام 1907 خلت وظيفة مستشار في محكمة الاستئناف الأهلية، فانتقل صاحب الترجمة إليها، وكان ذلك تحقيقا لرغبته، وإنفاذا لطلبه؛ إذ كان مكانه في الإدارة، قد أغراه بالعودة إلى مكانه في القضاء، وقد شاقه أن يجلس في الناس مجلس الحكم، ويرى الناس جناة ومجنيا عليهم؛ ليعود إلى دراسة أخلاق الإنسانية، وطبائعها، وشهوات أنفسها، ومنازع غرائزها.
وأبى إلا أن يرجع إلى منصة القاضي، وينصب في مقعد المستشار، على الرغم من الإلحاح عليه كثيرا في البقاء بوظيفته في الإدارة القضائية، والعدول عن مناصب القضاة، والسكون إلى الإدارة في الوزارة؛ فلم يجد ذلك الإلحاح، وأصر على طلبته فكانت له.
ولكنه لم يلبث طويلا في ذلك المنصب، بل اتفق له في شهر نوفمبر من العام بعينه 1907 أن طلبت وزارة الداخلية إليه أن يكون مديرا لأسيوط، فلم ير من حيلة له إلا قبول ذلك المنصب، ولكنه اشترط لنفسه حق الرجوع إلى منصب القضاء في محكمة الاستئناف إذا قدر له يوما أن يعود عن الإدارة إلى سابق مكانه، أو إذا أراد هو أن يعود بدافع رغبته، ومن تلقاء نفسه.
فلما نزلت الحكومة على رأيه، وصدقت بشرطه، واعتمدت مطالبه، وتولى منصبه الجديد في مديرية أسيوط، لم يلبث أن أنعم عليه برتبة «الميرميران» الرفيعة.
ولما اعتزل المستر كوربت النائب العمومي خدمة الحكومة في عام 1908 وقع الاختيار على صاحب الترجمة ليخلفه على ذلك المنصب، فعرضته عليه يومذاك؛ فلم يتقبله إلا بشروط اشترطها على الحكومة صونا لأهميته، وما يجب أن يكون لمتولي ذلك المنصب من حرية العمل.
وكان المترجم به رهيبا في مكانه ذاك، قوي الشخصية في ذلك المنصب، محترم الجانب حتى أمام وزيره، وقد وقع في ذلك العهد من الأحداث السياسية ما حدا بالمترجم به إلى المرافعة في كبرياتها.
ولعل الناس لا يزالون يذكرون وقفته تلك في قضية الورداني، وتلك المرافعة البليغة المتدفقة الفياضة التي راح يصبها في أسماع الناس في ساحة المحكمة، فقد مضت بلاغته صدرا إلى صدر بجانب البراعة في القانون، والتعمق في البحث، والإيغال في صميم أسفار القضاء.
ولكن أعجب ما يروقنا منها، ويقع من نفوسنا عند قراءتها روح الفكاهة، وعبقرية اللعب بالألفاظ، والسخرية والتهكم المرير، فإنك لتتبين من خلال سطورها قطعة من روح المزاح الفكه السخار من الإنسانية، ومضاعفها، ومناقصها، ومعايبها، شارلز ديكنز، الذي أراد أن يبكي الناس، فإذا العبرات مستهلة، والشؤون مستدرة، منهلة لقراءة كتبه، ثم عجب لهم يبكون منه ويستعبرون، ثم لا يضحكون؛ فوقع في نفسه أنه لا بد مضحكهم مدخل السرور على نفوسهم، فلم يلبث أن واتاه ذلك؛ فدخل على القوم من أبواب متفرقة من التهكم والعبث، والسخرية والمزاح، فكان أقدر الناس على ذلك، وأبلغ الكتاب مزاحا، وفكاهة وسرورا.
والروح الفرحة لا تزال تدخل على العظيم، وتختلط بخلقه، وتستقر في قرارة نفسه، ونحن رأينا كثيرين من العظماء سخارين من الدنيا جميعا، حتى من أنفسهم، هزائين بالحياة، وسخافة ما اجتمعت عليه، وقامت فوق أساسه، أما العظمة المتجهمة العابسة المتكبرة التي تخشى أن تبتسم للناس، فيدنون منها غير خائفين شيئا من جلالها، واكفهرار طلعتها، ويقتربون في سكون أعصابهم، لا رهبة في نفوسهم، ولا جزع يتغلغل إلى إضعاف أفئدتهم، فتلك عظمة مقفلة موصدة الأبواب، معتزلة تحرق نفسها في جوفها، وتتأكل بعضها، وتعيش في صحراء من نفسها، وقد تضل طريقها في تلك الصحراء، ويبلغ منها الظمأ والجوع؛ فتقضي نحبها، ولم يسمع الناس عنها نبأ، أو تموت منقوصة العمر، أو فاقدة حقها من تقدير الإنسانية، وإكبار الجيل، وحب العصر.
ولكن ذلك التواضع الذي يقع لطائفة من عظماء النفوس، وتلك المائية في روضة أخلاقهم، وحديقة أرواحهم، وذلك الصفاء الذي يعم ذهنيتهم، ويتبدى في مزاح لبق، ونكتة طريفة، وكلمة حلوة، وضحكة متفتحة ضاجة ثوارة موسوسة، وابتسامة تملأ الحياة أملا، وتشع على الدنيا رجاء، وفرحا وطربا، كل أولئك سجايا طيبة لو أتيحت للعظيم ملك ناصية القلوب، واستأسر الأفئدة، وجعل الجيل كله الذي يظهر فيه فرحا مشرقا بما يحبوه من التواضع الجميل، الذي يتلقى أصغر الناس بأجمل ما يتلقى كبارهم، وأهل الخطر والمكانة فيهم.
ولقد اجتمعت كل تلك الشيم في صاحب هذه الترجمة، واختلطت بشخصيته، وامتزجت بخلقه، فما شئت من سماحة ووداعة ولين عريكة، وتفتح صدر لأصغر الناس شأنا، وما أردت من رقة حاشية، وفرحة أدب، وتظرف، وعذوبة محضر، وإنه ليفيض على المجلس من فكاهاته، وخفة روحه، ورياض أدبه، وتهكمه في رفق، وعبثه في تأدب واحتشام؛ حتى ليكاد سامعوه ينسون جلال منصبه، ورهبة مكانته في الحكومة، وعظمة نفوذه وسلطانه، وكأنما يجلسون إلى رجل نفض يده من شؤون الشعب، وتحلل من كثرة العمل، وأقال ذهنه من التفكير في صالح الجماهير، والاهتمام بما يجدي على الأمة في حياتها، ومستقبل شأنها، وكأنهم في حضرة رجل منهم، وفرد بسيط اعتيادي من صفوفهم، وقد بدا ذلك كله كما قدمنا في تلك المرافعة الكبرى التي حشدها في قضية الورداني، وفي تلك الفكاهات، والعبارات الرقيقة؛ والوصف الدقيق، والتهكم بالمجرم، والعبث بخلقه، وتصوير طبيعته، ورسم شخصيته، ونزعاته حتى ليقرأها الإنسان اليوم فلا يني يرى عليها طلاوة الجديد، وملاحة الشيء المستطرف الذي خرج لتوه وساعته من فم قائله، ويلوح لنا أن تلك الروح التهكمية المزاحة تكاد تشبه ما وقع للكثيرين من الساسة العظماء، والأدباء الكبار؛ إذ كانوا يضحكون من الحوادث حتى في أحرج المواقف، وأخطر المواطن، وأبعثها على الوجوم والألم، والحيرة والارتباك.
وكذلك مضى صاحب الترجمة في منصب النائب العمومي نشيطا دؤوبا، مالئا مكانه، مرسلا عليه جلال شخصيته، جامعا بين خطورة المنصب وخطورة ذلك الذهن المتقد بشعلة الذكاء، ومتانة ذلك الخلق القوي المكين.
حتى إذا كان شهر إبريل سنة 1914 قبل نشوب الحرب الكبرى ببضعة أشهر عهد إلى صاحب الدولة الرجل الخطير المفعم بالعاطفة، الممتلئ وجدانا، السريع إحساسا، الشفاف روحا، حسين رشدي باشا بتشكيل وزارة جديدة؛ فدفع إلى المترجم به وزارة الحقانية.
فكان في مسند الوزارة هو هو يوم كان في كرسي النائب دأبا وعظمة، ورهبة واتساعا لكل ما يتطلبه المنصب، واضطلاعا بكل أعباء تلك الوظيفة السامية؛ فظل بجانب ذلك الرئيس الوطني الجليل، وزميلا لصديقه الوفي الأمين، كما قال عنه في خطبته بفندق الكونتنتال صاحب الدولة عدلي باشا يكن.
ونحن نسجل في كتاب تاريخ البسالة الوطنية إباء تلك الوزارة السكوت على حق وطنها، ونضحها عن مطالب بلادها، والتشدد في المطالبة، والاستمساك بالمبدأ، فلم تتقبل في حق البلاد هوادة، ولم ترتض مصانعة ولا تسويفا، وسارت على هدي وجدانها، مسترشدة بضميرها، تعمل وتناوئ، وتجد وتتشدد، حتى إذا حالت حكومة البريطان بينها وبين ما تريد، ووقفت في طريقها دون ما تود أن تبديه للأمة، وتعلنه لعامة الشعب، كانت تلك الاستقالة المخلدة لها العظيمة منها، النبيلة الأثر في تاريخ نهضة هذه البلاد.
الحياة الجديدة
ما كادت تخفت نار تلك الحرب التي أرسلت شعلتها في جوانب العالم كله، وهزت حضارة الإنسانية من القواعد، حتى ارتفع من هذه القطعة من الدنيا صوت رهيب، يتردد في أنحاء المجتمع الإنساني كافة، ونهضت هذه الأمة تريد أن يكون لها مكانها في صف الأمم التي تنعم بحريتها، وتعيش طليقة اليد في حياتها بعد أن ساقت إلى سوح الحرب جموعا عظيمة من أذرعها القوية، وسوقها الحديدية، وأنفسها الشابة الفتية؛ لتعين أمما على أمم، وتقاتل في جانب الحلفاء ضد الإنسانية المجنونة بالعظمة العظيمة في جنونها، وبعد أن طاح الردى بالألوف من أبنائها في سبيل نصرة الشعوب التي تزهى بأنها كانت تحارب في سبيل الحق، وتناضل في سبيل حرية الأمم المستضعفة.
وكان على أثر ما وقع من تلك الأحداث الرهيبة في جو هذا البلد الهادئ الساكن، وما كان من فعل السياسة الغاشمة من الوقوف في سبيل أمة مجيدة، احتملت نصيبها من ويلات الحرب، واضطلعت بسهم من وحشة المجزرة، ونكبة الكارثة الإنسانية الكبرى؛ فأنكرت حكومة الإنكليز عليها ما فعلت؛ واحتالت على تجاهل ما أحدثت، وناءت بجانبها فما استمعت، ولا احتفلت؛ وارتدت على الذين أعانوها على أمرها في خلال الحرب، وانتصروا لها؛ وساقوا بفتيانهم إلى ساحاتها، فنصبت المدافع للفتك بهم، وأرسلت مدمراتها لتعفية آثارهم، وخنق أصواتهم المرتفعة بتلك الكلمة الحلوة العذبة، التي طالما سالت النفوس مترنمة بها؛ تلك الكلمة التي خرجت من فم الطبيعة يوم خلقت الكون، ويوم أسست نظام العالم، ووضعت خطة بناء الدنيا، تلك الكلمة التي جن الناس بها جنونا على محتضر القرن الثامن عشر؛ فهدموا كل شيء في طريقهم إليها ... نعم كلمة الحرية المقدسة الرهيبة المعسولة الجليلة، الموسيقية في أذن السليب منها، المجاهد للوثوب إليها من ذلة الإسار، ومعرة القيد، والبقاء في سجن ضيق، وحصير أليم.
وذهبت الوفود، وانطلقت البرد إلى الغرب، مجاهدة في سبيل بلوغ تلك الأمنية التي ظللنا نتعلل بها في صمت، ونناجيها في سكون، ونتلهف على نوالها، ولا نجد الطريق إليها معبدا ذلولا مواتيا، وراحت تحمل على نفسها، وتنشر الدعوة في بلاد الحضارة، وتستصرخ أهل القلوب الكبيرة من الساسة، والحريين من الكتاب، وبدأت على أثر ذلك المفاوضات، واستمرت المجادلات والمباحثات، وأخفق فيها من أخفق، وأفلح من أفلح.
وذهب وفد أهلي، ومضى وفد رسمي، واشتبك الوفدان، وتناوحت السبيل، وهي جميعا مفضية إلى ثنية واحدة، ومعلم فذ، إلى ربوة عالية أسففنا دونها، وانحدرنا عنها، وسقط مكاننا عن ذؤابتها.
ولسنا نحن بسبيل بسط ذلك الجهاد العظيم المستمر المستطيل، الذي جاهد الشعب وقادته في سبيل قضية مصر ووادي النيل الخصيب، فذلكم لا يزال في ذاكرة كل رجل منا، ولا يني وحيه يستفيض في الفؤاد، وينبعث من قرارة النفس، وإنما نحن تصدينا في هذه الرسالة الموجزة إلى تحليل تاريخ عظيم مصر الذي وثب في بهرة الثورة الأهلية؛ فقاد الجموع إلى البقية التي طالما تاقت النفوس إلى الدنو منها، ومشى في الطليعة جريئا مستبسلا؛ فعاجل النهضة، وهي على مستشرف من الخمود والموت، فأنقذ مواتها، ورد إليها حياتها، وأجرى أمواهها إلى نبعة الأمل القوي الناضر الأغن.
وقد جاهد قبله الرجل الكريم الشعور الوثاب، الباسل الأروع عدلي باشا يكن، وكافح في وفد كبير سياسة الاستعمار التي أرادت أن تدمج هذا البلد مرنا لينا، مطواعا ذليلا في حلقة الإمبراطورية «المطاطية» الناعمة المظهر، وأبت عليه نفسه أن يتطامن لتلك العظمة المعجبة بنفسها، المؤمنة بقوتها؛ الجبارة الغاشمة من ناحية؛ الملاينة المصانعة من الأخرى، فلما رمى كيرزون رميته؛ وألقى علينا نذيره وكلمته؛ وتجهم لنا، وظن أنه المنتصر علينا، الآخذ بأعنة نفوسنا، وأننا سنروح خافضي الرؤوس لنذره مقبعين في جلودنا حذر الموت على يده، تجلت يومذاك وطنية هذا اليكني المنحدر من تلك الأصلاب المتينة الصخرية، وبدت بسالته، وعظم في الحق إباؤه، واشتدت غضبته؛ فعاد إلى مصر من المفاوضة أبيا شهما، أشد في الخيبة فخارا من الزهو بالانتصار لو أنه انتصر.
وسقطت الوزارة العدلية بعد ذاك، وبقي المكان خاليا لا يدنو أحد منه، ولا تسول لأحد نفسه بقبوله، وظلت الحكومة بلا وزارة أياما طوالا، وما كان الناس يخشون أن تقع الوزارة لهم، ولم يكن إباء كبارنا، وأهل الأسماء الضخمة فينا عن زهد في المنصب، ورغب عن الترؤس، وإحساس عميق في حبة النفس؛ ووطنية جميلة أخذت باللب؛ وامتلكت الروح، وإنما كانت جبانة من الكثيرين، وضعفا في الآخرين؛ وتنصلا واستكانة، وبلادة شخصية في فريق، وعجزا عن احتمال المسؤولية في فئة.
إذ ذاك نهد لها هذا الرجل لا عن رغبة فيها ومحبة في زهوها، وطلاوة مظهرها، وروعة ما حولها؛ إذ كان له قبل ذاك شيء من ذلك؛ وبشمت من قبل نفسه بالمناصب، ولم يكن ليحفل بها، أو تجري شهوته وراءها، ولكن جرأة الرجل العظيم دفعته، وحمية الوطني الذي يرى نفسه قديرا على المسؤولية، وأكبر منها أغرته، فتقبل رئاسة الوزارة، وجاهد وكافح حتى حمل عن مصر العبء كله، واضطلع بالأمر جملته، ووقف على الصخرة يستشرف البحر وصخبه، والأنواء وعصفها؛ وركب سفينة الأمل تحبوه قوته، وتغريه شخصيته، وجرأته بالمضي في العباب، واختراق اللج المتقاذف المعتلج، وكان فضله في الناس أن جد حتى رفع عن أهل هذا البلد تلك الحماية البغيضة التي كانت أكبر معرة لهذه الأهرام، التي وقفت تنبئ الإنسانية عن مجد أربعة آلاف عام، وحضارة أدهشت الأجيال الماضية جمعاء.
ونحن نمهد لعمل هذا الرجل بنشر الخطاب الذي أرسلته الحكومة البريطانية إلى صاحب عرش هذه البلاد، يعرض عليه التصريح لمصر بما تريد من الجهاد، وما تبتغي من النضال.
خطاب الحكومة البريطانية إلى عظمة السلطان - تصريح لمصر
يا صاحب العظمة: (1)
أتشرف بأن أعرض لمقام عظمتكم أن الناس قد ذهبوا في تأويل بعض عبارات المذكرة التفسيرية التي قدمتها في الثالث من شهر ديسمبر مذاهب مختلفة، تخالف أفكار الحكومة البريطانية وسياستها، وهو ما آسف له أشد الأسف. (2)
ولقد يخال المرء مما نشر عن هذه المذكرة من التعليقات العديدة أن كثيرين من المصريين ألقي في روعهم أن بريطانيا العظمى توشك أن ترجع في نواياها القائمة على التسامح والعطف على الأماني المصرية، وأنها تنوي الانتفاع بمركزها الخاص في مصر؛ لاستبقاء نظام أساسي إداري لا يتفق والحريات التي وعدت بها. (3)
غير أن ليس شيء أبعد عن خاطر الحكومة البريطانية من هذه الفكرة، بل إن الأساس الذي بنيت عليه المذكرة التفسيرية هو أن الغاية من الضمانات التي تطلبها بريطانيا العظمى ليست إبقاء الحماية حقيقة أو حكما، وقد نصت المذكرة على أن بريطانيا العظمى صادقة الرغبة في أن ترى مصر متمتعة بما تتمتع به البلاد المستقلة من ميزات أهلية، ومن مركز دولي. (4)
وإذا كان المصريون قد رأوا في هذه الضمانات أنها تجاوزت الحد الذي يلتئم مع حالة البلاد الحرة، فقد غاب عنهم أن إنجلترا إنما ألجأها إلى ذلك حرصها على سلامة نفسها تلقاء حالة تتطلب منها أشد الحذر، ولا سيما فيما يتعلق بتوزيع القوات العسكرية على أن الأحوال التي يمر بها العالم الآن لن تدوم، ولن يلبث كذلك أن يزول الاضطراب السائد في مصر منذ الهدنة، والأمل وطيد في أن الأحوال العالمية سائرة إلى التحسن، هذا من جانب، ومن جانب آخر فكما قيل في المذكرة سيجيء وقت تكون فيه حالة مصر مدعاة إلى الثقة بما تقدمه هي من الضمانات لصيانة المصالح الأجنبية.
أما أن تكون إنجلترا راغبة في التداخل في إدارة مصر الداخلية؛ فذلك ما قالت فيه الحكومة البريطانية، ولا تزال تقول: إن أصدق رغباتها وأخلصها هو أن تترك للمصريين إدارة شؤونهم، ولم يكن يخرج مشروع الاتفاق الذي عرضته بريطانيا العظمى عن هذا المعنى، وإذا كان قد ورد فيه ذكر موظفين بريطانيين لوزارتي الحقانية والمالية، فإن الحكومة البريطانية لم ترم بذلك إلى استخدامهما للتداخل في شؤون مصر، وكل ما قصدته هو أن تستبقي أداة اتصال تستدعيها حماية المصالح الأجنبية. (5)
هذا هو كل مرمى الضمانات البريطانية، ولم تصدر هذه الضمانات قط عن رغبة في الحيلولة بين مصر وبين التمتع بحقوقها الكاملة في حكومة أهلية. (6)
إذا كانت هذه هي نوايا إنكلترا، فلا يمكن لأحد أن ينكر أن إنكلترا يعز عليها أن ترى المصريين يؤخرون بعملهم حلول الأجل الذي يبلغون فيه مطمعا ترغب فيه إنجلترا كما تتوق إليه مصر، أو أن ينكر أنها تكره أن ترى نفسها مضطرة إلى التداخل لرد الأمن إلى نصابه كلما أدركه اختلال يثير مخاوف الأجانب، ويجعل مصالح الدول في خطر، وإنه ليكون مما يؤسف له أن يرى المصريون في التدابير الاستثنائية التي اتخذت أخيرا أي مساس بمطمحهم الأسمى، أو أية دلالة على تغيير القاعدة السياسية التي سبق بيانها، فإن الحكومة البريطانية لم يعد غرضها أن تضع حدا لتهييج ضار قد يكون لتوجيهه إلى أهواء العامة نتائج تذهب بثمرة الجهود القومية المصرية؛ ولذلك كان الذي روعي بوجه خاص فيما اتخذ من التدابير مصلحة القضية المصرية التي تستفيد من أن البحث فيها يجري في جو قائم على الهدوء، والمناقشة بإخلاص. (7)
والآن وقد بدأت تعود السكينة إلى ما كانت عليه بفضل الحكمة التي هي قوام الخلق المصري، والتي تتغلب في الساعات الحاسمة، فإنني لسعيد أن أنهي إلى عظمتكم أن حكومة جلالة الملك تنوي أن تشير على البرلمان بإقرار التصريح الملحق بهذا، وإنني لعلى يقين بأن هذا التصريح يوجد حالة تسود فيها الثقة المتبادلة، ويضع الأساس لحل المسألة المصرية حلا نهائيا مرضيا. (8)
وليس ثمت ما يمنع منذ الآن من إعادة منصب وزير الخارجية، والعمل لتحقيق التمثيل السياسي والقنصلي لمصر. (9)
أما إنشاء برلمان يتمتع بحق الإشراف والرقابة على السياسة والإدارة في حكومة مسؤولة على الطريقة الدستورية، فالأمر فيه يرجع إلى عظمتكم، وإلى الشعب المصري.
وإذا أبطأ لأي سبب من الأسباب إنفاذ قانون التضمينات (إقرار الإجراءات التي اتخذت باسم السلطة العسكرية) الساري على جميع ساكني مصر، والذي أشير إليه في التصريح الملحق بهذا، فإنني أود أن أحيط عظمتكم علما بأنني إلى أن يتم إلغاء الإعلان الصادر في 2 نوفمبر سنة 1914 سأكون على استعداد لإيقاف تطبيق الأحكام العرفية في جميع الأمور المتعلقة بحقوق المصريين في التمتع بحقوقهم السياسية. (10)
فالكلمة الآن لمصر، وإنه ليرجى أنها وقد عرفت مبلغ حسن استعداد الحكومة البريطانية، ونواياها تسترشد في أمرها بالعقل والروية لا بعامل الأهواء.
ولي مزيد الشرف ... إلخ
الإمضاء
القاهرة في 18 فبراير سنة 1922
تصريح لمصر
بما أن حكومة جلالة الملك عملا بنواياها التي جاهرت بها ترغب في الحال في الاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة.
وبما أن للعلاقات بين حكومة جلالة الملك وبين مصر أهمية جوهرية للإمبراطورية البريطانية.
فبموجب هذا تعلن المبادئ الآتية: (1)
انتهت الحماية البريطانية على مصر، وتكون مصر دولة مستقلة ذات سيادة. (2)
حالما تصدر حكومة عظمة السلطان قانون التضمينات نافذ الفعل على جميع سكان مصر، تلغى الأحكام العرفية التي أعلنت في 2 نوفمبر سنة 1914. (3)
إلى أن يحين الوقت الذي يتسنى فيه إبرام اتفاقات بين حكومة جلالة الملك وبين الحكومة المصرية فيما يتعلق بالأمور الآتي بيانها، وذلك بمفاوضات ودية غير مقيدة بين الفريقين، تحتفظ حكومة جلالة الملك بصورة مطلقة قبول هذه الأمور وهي: (أ)
تأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر. (ب)
الدفاع عن مصر من كل اعتداء، أو تداخل أجنبي بالذات أو بالواسطة. (ج)
حماية المصالح الأجنبية في مصر، وحماية الأقليات. (د)
السودان.
وحتى تبرم هذه الاتفاقات تبقى الحالة فيما يتعلق بهذه الأمور على ما هي عليه الآن.
تأليف الوزارة الثروتية - أمر كريم نمرة 13 لسنة 1922
عزيزي عبد الخالق ثروت باشا:
إن القرار الذي أبلغنا إياه حضرة صاحب المقام الجليل المندوب السامي لدولة بريطانيا العظمى فيما يختص بانتهاء الحماية البريطانية على مصر، بالاعتراف بها دولة مستقلة ذات سيادة، يحقق أعز أمنية لنا ولشعبنا العزيز، وهو ثمرة الجهاد القومي الذي تعهدناه على الدوام بالتشجيع والتأييد، ولا ريب عندنا في أن استمساك الأمة بروابط الوئام والاتحاد، والتزام جانب الحكمة في هذا الدور الجديد من حياتها السياسية كفيل بتحقيق كامل أمانيها.
ونظرا لما نعرفه لكم من الجهد المشكور في خدمة القضية المصرية، ولما لنا من الثقة التامة بكم، وما نعهده فيكم من الجدارة الكاملة للقيام بمهام الأمور، قد اقتضت إرادتنا السلطانية توجيه مسند رئاسة مجلس وزرائنا مع رتبة الرئاسة الجليلة لعهدتكم، وقد أصدرنا أمرنا هذا لدولتكم للأخذ في تأليف وزارة جديدة، يكون من بينها وزير للخارجية، وعرض مشروعه لجانبنا لصدور مرسومنا العالي به.
ولما كان من أجل رغباتنا أن يكون للبلاد نظام دستوري يحقق التعاون بين الأمة والحكومة؛ لذلك يكون من أول ما تعنى به الوزارة إعداد مشروع ذلك النظام.
وإنا نسأل الله العلي القدير أن يجعل التوفيق رائدنا فيما يعود على بلادنا ورعايانا بالخير والسعادة، وهو المستعان.
الإمضاء: فؤاد
صدر بسراي عابدين في 2 رجب سنة 1340،
الموافق أول مارس سنة 1922.
برنامج الوزارة
يا صاحب العظمة:
أتقدم إلى سدة عظمتكم بفائق الشكر على ما تفضلتم فأوليتموني من الثقة السامية؛ إذ عهدتم إلي بتأليف الوزارة الجديدة، ووجهتم لي رتبة الرئاسة الجليلة.
وإنني لأتشرف بأن أعرض على عظمتكم أسماء الوزراء الذين تتألف منهم هيئة الوزارة، وقد قبلوا مشاركتي في العمل، وهم:
إسماعيل صدقي باشا لوزارة المالية.
إبراهيم فتحي باشا لوزارة الحربية والبحرية.
جعفر والي باشا لوزارة الأوقاف.
مصطفى ماهر باشا لوزارة المعارف العمومية.
محمد شكري باشا لوزارة الزراعة.
مصطفى فتحي باشا لوزارة الحقانية.
حسين واصف باشا لوزارة الأشغال العمومية
واصف سميكه باشا لوزارة المواصلات
وقد احتفظت بوزارتي الداخلية والخارجية.
فإذا وقع هذا الاختيار موقع الاستحسان لدى عظمتكم يصدر المرسوم العالي بالتصديق عليه.
يا صاحب العظمة:
لم يكن لزملائي ولي، ونحن نشاطر الأمة أمانيها في الاستقلال إلا أن نقر الوفد الرسمي الذي تولى المفاوضات لعقد اتفاق مع بريطانيا العظمى على ما فعل، فلم يسعنا أن نتولى أعباء الحكم ما دامت المبادئ التي تسترشد بها الحكومة البريطانية في سياستها نحو مصر هي تلك التي كانت تظهر من مشروع 10 نوفمبر الماضي، ومن المذكرة التفسيرية التي تلته، فإن تولي الحكم في ظل مثل هذه المبادئ قد يكون فيه معنى القبول بها.
غير أن الكتاب الذي رفعه فخامة المندوب السامي البريطاني إلى عظمتكم، وتصريح الحكومة البريطانية في البرلمان، قد أحدثا في الحالة تغييرا كبيرا؛ فأصبح من الممكن أن تتألف هذه الوزارة؛ إذ إنها ترى أن الشعور القومي أصاب ترضية من هاتين الوثيقتين لا من ناحية الاعتراف بالاستقلال حالا، وقبيل أي اتفاق فحسب، بل ولأن المفاوضات ستكون حرة غير مقيدة بأي تعهد سابق.
أما وقد جزنا هذا الدور بخير فلم يبق على مصر إلا أن تثبت لبريطانيا العظمى أن ليس بها في سبيل حماية مصالحها من حاجة للتشدد في طلب ضمانات، قد يكون فيها مساس باستقلالنا، وأن خير الضمانات في هذا الصدد وأجلها أثرا هي حسن نية مصر، ومصلحتها في حفظ العهود.
على أن الوزارة ترى أنه لكي تكون جهود البلاد في سبيل تحقيق كامل أمانيها بحيث تؤتي جميع ثمرها يجب أن يؤلف بين عمل الحكومة، وبين عمل هيئة تنوب عن الأمة، وأن تسعى الهيئتان متساندتين لأغراض متحدة.
ولذلك فإن الوزارة عملا بأوامر عظمتكم ستأخذ في الحال في إعداد مشروع دستور طبقا لمبادئ القانون العام الحديث، وسيقرر هذا الدستور مبدأ المسؤولية الوزارية، ويكون بذلك للهيئة النيابية حق الإشراف على العمل السياسي المقبل.
وغني عن البيان أن إنفاذ هذا الدستور يقتضي إلغاء الأحكام العرفية، وأنه على أي حال يجب أن تجرى الانتخابات في أحوال عادية، وفي ظل نظام تمتنع معه جميع التدابير الاستثنائية، وقد سلمت بهذا الوثيقتان اللتان أبلغتا أخيرا إلى عظمتكم، وستتخذ الوزارة بلا إمهال ما يدعو إليه الأمر في ذلك من التدابير، كما أنها ستبذل جهدها اعتمادا على حسن موقف الأمة في الحصول على الرجوع فيما اتخذ من التدابير المقيدة للحرية عملا بالأحكام العرفية.
هذا وإن إعادة منصب وزير الخارجية ستعين على العمل لتحقيق التمثيل السياسي والقنصلي لمصر في الخارج.
ونظرا لأن النظام الإداري الحالي لا يتفق مع النظام السياسي الجديد، ومع الأنظمة الديمقراطية التي ستمنحها البلاد، فإن الوزارة قد اعتزمت أن تتولى الأمر بنفسها، وبلا شريك في الحكم الذي ستتحمل كل مسؤوليته أمام الهيئة النيابية المصرية، وسيكون رائدها في إدارة شؤون الأمة توجيهها إلى المصلحة القومية دون غيرها.
والوزارة موقنة بأن أكبر عامل لنجاح مصر في تسوية المسائل التي بقي حلها، وأقوى حجة تستعين بها في تأييد وجهة نظرها هو أن تقبل على هذا الدور الجديد متحدة الكلمة، مؤتلفة القلوب، وأن تأخذ بدواعي النظام، وتلتزم جانب الحكمة.
والوزارة تحيي العصر الجديد الذي كان لعظمتكم أجل أثر في طلوعه على الأمة بفضل ما بذلته عظمتكم من المساعي الوطنية العالية ، وهي واثقة أن ستلقى من لدن عظمتكم كل تأييد في عمل الغد، وإنها لترجو أن يجيء مكللا لمجهود البلاد.
الإمضاء
في يوم الأربعاء الخامس عشر من شهر مارس من هذا العام تلقى فخامة اللورد اللنبي نبأ برقيا من حكومته، يحمل إليه تصديق مجلس النواب البريطاني بإلغاء الحماية، وإعلان مصر مملكة مستقلة ذات سيادة، فتوجه اللورد إلى قصر عابدين، وأبلغ عظمة السلطان هذا القرار، ورفع إليه ذلك التصديق.
وعلى أثر ذلك أصدر جلالة الملك هذا النطق الملكي الكريم.
إلى شعبنا الكريم
لقد من الله علينا بأن جعل استقلال البلاد على يدنا، وإنا لنبتهل إلى المولى - عز وجل - بأخلص الشكر، وأجمل الحمد على ذلك، ونعلن على ملأ العالم بأن مصر منذ اليوم دولة متمتعة بالسيادة والاستقلال، ونتخذ لنفسنا لقب صاحب الجلالة ملك مصر؛ ليكون لبلادنا ما يتفق مع استقلالها من مظاهر الشخصية الدولية، وأسباب العزة القومية.
وها نحن نشهد الله وأمتنا في هذه الساعة العظمى أننا لن نألو جهدا في السعي بكل ما أوتينا من قوة، وصدق عزم لخير بلادنا المحبوبة، والعمل على إسعاد شعبنا الكريم.
وإنا ندعو المولى القدير أن يجعل هذا اليوم فاتحة عصر سعيد، يعيد ذكر ماضيها الجديد.
الإمضاء: فؤاد
صدر بسراي عابدين في 16 رجب سنة 1340،
الموافق 15 مارس سنة 1922.
أمر كريم رقم 19 لسنة 1922
عزيزي عبد الخالق ثروت باشا:
في هذا اليوم السعيد الذي تم فيه الاعتراف باستقلال البلاد نشعر بأعظم الاغتباط، وأكبر الارتياح لتوجيه الخطاب إلى أمتنا العزيزة.
وقد أصدرنا أمرنا هذا لدولتكم لتحيطوا هيئة الحكومة علما بهذا الخطاب المرسلة صورته مع أمرنا، ولتعمموا نشره في أنحاء القطر، وتبلغوه بصفة رسمية لمن يلزم تبليغه إليه.
فؤاد
صدر بسراي عابدين في 16 رجب سنة 1340،
الموافق 15 مارس سنة 1922.
فتلي هذا النطق الكريم في ذلك اليوم في المحافظات، وعواصم المديريات على ملأ العلماء والتجار، وأعيان البلاد، ووجوهها، وسرانها.
وأقيم بعد ذلك استعراض عام للجيش المصري، وأقيمت التشريفات الملكية، ورفع العلم المصري على دور الحكومة، وجعل ذلك اليوم عيدا وطنيا عاما.
وكذلك سقطت عن هذه البلاد تلك الحماية التي ضربها الإنكليز عليها في إبان الحرب، والتي جاهدت تلك الوفود، وسعت تلك الشخصيات الكبيرة في محوها، وإزالة معرتها اللاصقة بنا، وكانت تلك المنة الكبرى من صنع رجل واحد اندفع في السبيل وحده غير هياب، ولا مرتعد من رؤية أهل وطنه، وقوفا عن كثب منه ينظرون ولا يمدون إليه يدا، ويشهدون الرجل مستبسلا بكل قوته، متحاملا على نفسه، ويودون لو أنه خيب دونها، ووقع صريعا يائسا راجعا أدراجه قبل بلوغها؛ لأنهم يرون الأشخاص قبل المبادئ، ولا يكبرون المبادئ وإن صلحت وسمت، ومشت مع الحق، واطردت مع الصواب؛ حتى تكون عليها «الماركة» المسجلة التي يحبونها، ولا يريدون شيئا غيرها.
ونحن لم نر شعبا من شعوب الدنيا هو أغرب أمم الله نفسية من شعبنا هذا، فلو أنك صنعت في هذا البلد الصنيع الجميل، وقذفت على أعين الجماهير أكبر المحمدة، وقدمت إليهم أجمل أثر من آثار ذهن خصيب، أو موهبة سامية، أو مقترح طيب، أو مبتدع حسن، ثم لم تنشر على الناس اسمك، ولم يكن لهم بك علم، ولم يتردد على أفواه القوم لك ذكر، فأنت لديهم «نكرة»، وإن كانت فعالك الكبيرة «معرفة»، وإن عملك العظيم، أو مقترحك الجميل سيذهب غير مأبوه به، ويمضي خجلا منزويا لا أحد يمد إليه يده، ولا قوم تطاوعهم أنفسهم أن يتناولوه بالبحث، ويعالجوا فحصه، واستقراء مناحيه، والغاية منه، والنتيجة التي يؤدي إليها، والأثر الذي سيجديه على حياة الشعب ونهضته.
وبجانب ذلك ترى أحقر الآراء قيمة، وأسخف الفعال أثرا، وأوخم المقترحات عاقبة، لا تلبث أن تنتشر وتذيع، إذا جاءت من ناس كبار الأسماء في البلد، مشهوري الألقاب، وإن كانوا أبلد الناس أذهانا، وأغثهم فكرا، وأطيشهم لبا، وهي حرية بأن تجد في الجماهير مزمرين لها، وعازفين، وقمينة بأن تصيب عند الناس من ينهض لها بالتحبيذ والتأييد؛ وهي متساقطة، لا تستطيع الوقوف على رجليها، متماوتة تنبعث منها ريح العفونة، والبلى، والفساد.
وكل شيء في هذا البلد كثير الصياح هو كبير القيمة عند الناس، وكل عمل محوط بالصنائع يحبذونه من ناحية، ويوسعون في فضله الضئيل من الأخرى، هو المخلد عندهم، الظافر بإعجابهم، فالكاتب الذي وثب عند الناس بأدبه التجاري يزجيه في ورق مصقول، ورسوم لطيفة، وطبع أنيق، وأسلوب مخادع، وألفاظ منمقة، لا يستقر تحتها غير معان بخسة لا تساوي التعب الذي يبذله القارئ في اكتشافها؛ لأنها لا تحب ظهورا للعيان؛ خشية أن تتبخر على حرارة الشمس، وتتلاشى أجزاؤها الأثيرية الطائرة، الصغيرة المحتضرة، ذلكم الكاتب الذي يخرج الكتاب تلو الكتاب في فترة لا يستطيع أخصب الكتاب أذهانا، وأنضجهم قرائح، وأغزرهم مادة من المعاني الطريفة وليدة الخاطر السري المتين، الجبار الممتلئ قوة وشبابا وصحة، أن يخرج في مدة وجيزة كتلك، ولا قطعة من كتاب واحد من تلك الأسفار «الأصفار»، وما كان ذلك من أولئك المؤلفين فضل أدب، وسجاحة خاطر؛ وإنما هي عاصفة من الألفاظ اجتمعت كلها تحت نوء واحد؛ فاجتمع منها كتاب طويل عريض، كله رعود وسحائب من السخف والطيش، وبلادة المعاني.
وذلك الكاتب - وهذا شأنه - هو الذي قد احتكر السوق، وبرز في الميدان، وشغل المطابع، وتسابق إليه الناشرون، وأغلب الناشرين في بلدنا هذه أميون، فلا يدركون مما في أيديهم شيئا إلا ملازم «وبنوطا»، وثمن الطبع والورق والإعلان، وما بعد ذلك من ربح، ومتجر نافق، وبضاعة تبهظ السوق، وتأتي بأجزل المكاسب.
وهكذا ترى كل صاحب عمل في هذه الأمة يشتهر ويعمل للشهرة وحدها يصل إلى النجح في عمله بتلك الأساليب التي شرحها «ماكس نوردو» في مقاله عن «النجاح وأساليبه»، ويحتال بتلك الطرق الغاشة الخداعة، التجارية المداهنة التي ذاعت في هذا العصر المادي اللئيم الطبع، النائم الضمير، هو الذي تجده الموفق، وتراه ملء أسماع القوم، وموضوع احترام الجماهير، وإعجابهم به، على حين تشهد في كل صناعة من الصناعات، ومهنة من المهن؛ وفي الأدب والتأليف، والعلم والفنون قوما متخلفين لا عن عجز، مغمورين لا عن بلادة وضعف ويأس، ولكنهم لم يصيبوا في الناس توفيقا؛ إذ أعوزتهم تلك الوسائل التي اشتهر بها غيرهم، وعز عليهم أن يجدوا ما وجده سواهم من طرق الإعلان عن أنفسهم، والاتجار بمظاهر بضاعتهم، لا بالبضاعة نفسها؛ لأنهم أشد من الأمريكان احتيالا على «الركلامات»، والإعلانات؛ فثلاثة أرباع عملهم إعلان، وللبضاعة ربع ليس غير.
وقد ظهرت عوارض هذه النفسية العجيبة في السياسة، وبدت آثارها في هذه النهضة، فكنا فيها عبدة أشخاص، ووثنيين في احترام الأسامي والألقاب، ولقد ماتت في هذه البلد مبادئ شريفة صالحة؛ لأن أصحابها لم يجدوا لهم «مطيبين»، ولم يستطيعوا أن يجلبوا «الحاوي» لإظهار مفاتن مبادئهم، وسحر آرائهم، ويخلقوا من غير شيء شيئا خياليا ذا رواء وطلاء، ومظهر جميل تحته سخف وطيش.
وقد اشتهرت بجانب تلك مبادئ أخرى وخمة ركيكة، غثة غير صالحة، وأقبل عليها الناس يمتدحونها، ويؤيدونها بكل ذات نفوسهم، وكان الحق بأن تحتضر في المهد، وتلفظ أنفاسها وهي في «القمط»؛ لأن حياتها مفسدة وإثم كبير، ولكنها ليست «بنت موت»؛ ولذلك عاشت وطالت، وأينعت وثبتت، وفي الدنيا الشيء الكثير يعيش وينمو، وهو أولى بأن يروح قصير الأجل، مصابا برئتيه، محكوما عليه بالإعدام.
وليس في هذا البلد رجل أعمى القلب، حسير البصر، فائل الرأي، منخوب الفؤاد، يستطيع أن ينكر أننا قد تخلصنا من ذلة الحماية، ورجعت إلينا نعمة السيادة بذلك الاعتراف الصريح الذي نزل عنه الإنكليز، ونشروه في العالم كله، وخابروا دول الغرب به، ولكنا لا نزال نرى قوما يودون لو استطاعوا نكران هذه المنة الكبرى التي ستروح في عنق هذا الجيل كله، وستنحدر منه كذلك إلى رقاب الأجيال القادمة، ولا يزالون متسخطين لا يرضيهم ذلك الاعتراف، ولا يروق في عينهم ما وقع لنا بعده من نعمة البروز في الشمس، واستنشاق أول نسائم الحرية، وما ذلك منهم إلا حسرة على أنهم لم يصيبوا من كل ذلك فخارا لأنفسهم؛ ولم يظفروا منه بمحمدة السعي في سبيله، ولم يأت إلينا عن طريقهم، ولم نصل نحن إليه على أيديهم، ونحن نقول لهؤلاء الأنانيين حتى في الوطنية: إننا نؤمن بوطنيتهم، ولا ننكر أنهم كانوا في المسعى مع المجتهدين، وإننا مدينون لهم بجهادهم، معترفون لوطنيتهم بفضل سعيها وحميتها، وشدة بأسها، وثبات قدمها ، ومغالاتها في رد الحق إلى وطنها، فإن هذا الوزير لم يكن منحرفا عن سبيلهم يوم زالت الحماية، وأكره الإنكليز على الاعتراف بسقوطها، ولم يكن مزهوا عليهم بشيء مما عمل، ولا معجبا بنفسه لما أحدث وقدم، ولم يكن هو من الخارجين على قومه يوم كانوا هم في الداخلين فيهم، ولم يكن خائنا يوم كانوا مخلصين، وليس في هذا البلد رجل واحد لم يكن يود أن يرى تلك الحماية مرفوعة، مهدومة، زائلة، فلما زالت، وانمحت، واندرست انبرى فريق يود لو أنها لم تزل ولم ترفع، حتى يكون هو مزيلها ورافعها، ولو أنها زالت على يده، وعفت آثارها بفضل نضاله وسعيه، لما أطاق أن يرى له معارضا، ولعمله منكرا، ولو وثب إليه قوم فجحدوا صنيعه، وأنكروا يده، راح أولئك القوم خونة في نظره، جاحدين مارقين، عمي البصائر لا يدركون.
ونحن نعلم أن في كل أمة من أمم الحضارة أحزابا سياسية، ونرى أن تلك الأحزاب هي في تلك الأمم المحرك الذي يدور عليه رحى النظام، وتتطاحن تحته الوطنيات بضروبها، فمن غلبت وطنيته اكتسب الحومة، وتناول دفة الحياة، ولقد تضاربت آراء الكتاب والمفكرين، والذين تصدوا للبحث في أنظمة الاجتماع، واختلفت مذاهبهم، وتباينت أحكامهم في فضل الأحزاب في الأمة، أو ضررها الذي ينجم عنها؛ فأما الذين أغلظوا القول عنها، وحكموا عليها أشد الحكم، فقد كرهوا منها ما رأوا تحتها من ذلك الاتفاق المتكلف المصطنع الكاذب، الذي يربط أفراد الحزب الواحد ببعضهم البعض، وما يقابل ذلك من الخصومة المتكلفة، والمخالفة الكاذبة المغشوشة التي يظهرون بها أمام معارضيهم وخصومهم؛ إذ يبقى كل حزب على عناده، مصرا على أن لا يقتنع أو يرضى بحجة الجانب الآخر، على حين يظل الفرد متجمدا مثلج الرأي، مندمجا في حزبه، لا يستطيع انفلاتا ولا تفكيرا لنفسه، ولا استقلالا برأيه عن غيره، وإنما يعيش بعقلية الجميع، وقد يخلو إلى نفسه فيرى باطل ما رآه في الندوة، وفي وسط حزبه، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى الجماعة؛ فينسى نفسه وتفكيره في لجة التيار، وحرارة المجلس ، وهذا الإجماع الذي يبدو به أفراد حزب من الأحزاب لا يزال في نظر أولئك الاجتماعيين المدققين كاذبا، لا حقيقة له، مضرا بالمجتمع، مؤذيا، خطرا على صالح الشعب، ذهابا بالفائدة المرجوة من التعاون على العمل، والتواصل، والترابط في النظر إلى شؤون الأمة، ولأنه يقتل روح حرية الفكر في الفرد، ويميت روح الاستقلال في العمل، وهما دعامة الديمقراطية في حكم الأمم.
وقد قال في ذلك الأستاذ بولدوين سميث: إنه كلما اشتجرت طائفتان، وتطاحن حزبان في أمة من الأمم كان ذلك منهما أشبه شيء بشطر الشخصية الإنسانية شطرين، وتجزئة الطبيعة جزأين، وليس في الدنيا من الوجهة الطبيعية أمر كهذا، ولا وقع في العالم شيء منه.
على أن في الكتاب فريقا يدافع عن وجود الأحزاب السياسية في الأمة، وله في ذلك آراء جد مختلفة، وتلك النظريات التي أقامها المعارضون الذين لا يرون فائدة منها، بل الضرر الأكبر، والشر الأعظم، فهم يقولون بأن شطر الإنسانية أجزاء أمر واقع يمشي مع الطبيعة، ويتفق مع النواميس، ويعللون مبدأهم هذا بأن الإنسان أربعة رجال؛ فرجل يريد العودة إلى سنن القديم، وأساليب الماضي، والاستمساك بأنظمة العصر المنصرم، وعنده أن ما كان هو الحق، وأن ما سيكون الباطل الذي لا نفع منه، وذلك هو الذي تسميه أنظمة اليوم «بالرجل الرجعي»، ورجل يود أن يستمسك بأنظمة الحاضر، وما يعيش في عصره من السنن، والشرائع والقوانين، وذلك هو «الرجل المحافظ»، ثم رجل آخر يبتغي إصلاح الأنظمة الحاضرة، وذلكم هو «الرجل الحري»، وآخر يريد أن يلغيها ويمحوها، ويأتيها من القواعد هدما ونقضا، وهو «الراديكالي»، أي الهدام من الأساس في عرف لغة الاجتماع الحديث، فإذا اتفق في أمر حديث من أمور الشعب الطائفتان الأوليان، واتحد الحزبان الأخيران كان من اتحادهما حزبان سياسيان خطيران، يرتكز كل منهما على مبادئ أساسية يقرها العقل، ويرتضيها علم النفس، وهم كذلك يؤيدون وجود الأحزاب في الأمم بقولهم أنها ليست مخالفة لروح الديمقراطية، بل هي محورها، والعامل الأكبر في نمائها؛ لأنه لا يتيسر للشعب بجملته أن يتولى الزعامة في شؤونه في وقت واحد، بل معنى الشعب وحكومته ورأيه «الأغلبية»، ولا يتيسر لجماعة من الناس أن يصلوا إلى ذلك إلا إذا «اتفق أفرادها على أن ينفقوا»، وتلكم الرابطة على رغم ما يتخللها من روح المصانعة والكذب والتكلف، هي اللازمة الأولى للنظام في الشعب، ولولاها لراحت الأمة فوضى من الآراء الفردية المتباينة، المشتجرة المتعارضة.
على أنه ليست حالنا الحاضرة شبيهة بحال تلك الشعوب حتى تكون لدينا أحزاب متنافرة، فأولئك إنما يتخاصمون على مصلحة وطنهم؛ لأن كلا منهم يمسك بطرف منها، ويريد أن يمشي بها إلى غاية يراها السبيل القويمة الرشيدة، وليسوا أمام عدو قوي ليس من صفوفهم، يريدون أن يستردوا منه حقا مضيعا، وحرية سليبة، ونحن في حرب أدبية، ونزاع ساكن على الحياة أو الموت، أمام غاصب مستأسد، مستحصد العزم، داهية كثير الحيلة، ولذلك كنا خلقاء بأن نقف صفا صفا حياله، ننازعه ونجالده، ونناضل في سبيل ما أردنا أو نهلك دونه، ونحشد كل قوتنا لنرد قضيتنا ناجحة فائزة موفقة، أما أن ينطلق فريق منا في ناحية، ويسير فريق في وجهة؛ فتتشعب المسالك، وتختلف الطرق، وتتناوح السبل؛ فتلك ضلة وجهالة وطيش، وما رأينا أمة طلبت من مغتصب حقها الذي اغتصب، ثم وقفت في وجهه، وعلى عينه تشتجر أمامه، وتتصايح وتتعارض، وتتفرق منها الصفوف، وليست طلبة هذا البلد غامضة؛ فتختلف في تأويلها الأذهان، وليست هدية نريد أن نستهدي الإنكليز إياها؛ فينفس فريق على فريق ما نال الشعب منها على يد الآخر، بل الحق فيها واضح، والغاية بلجاء صريحة ظاهرة، وليس أحد بطامع في مجد؛ لأن المجد للشعب ذاته، والفخار للأمة وحدها، والخلود للضحايا والشهداء الذين سالت دماؤهم في فزعة الثورة، ووطيس النهضة.
وفي الحق، لقد سقطت الحماية، وتداعى بنيانها إلى الأرض بضربة من عزمات رجل من أهل هذا البلدة، وقد أصبحت بعد ذلك أمة متحررة من الوصاية، متخلصة من معرة الأبد، نقية الكرامة من ذلة المحمي، فإذا كان ما سيتلو سقوط الحماية، وما سيعقب تلك الخطوة الكبرى منقوصا في نظر جماعات من الناس ، ضئيلا مغالطا فيه، ممنوحا في سبيل ظفر الإنكليز بأكثر منه، ومخادعتنا في بقية الحقوق، وإكراهنا على النزول عن عدة من مطالب الحرية، ومستلزمات الاستقلال، فليس على الشعب بجملته إلا أن يقف وراء هذا الوزير متساندين جميعا متصافين، وإلا أن تأتلف القلوب كلها، وتتوحد الكلمة، وتتضامن الأيدي، وتتحاب الأرواح، وتتهادن النفوس حتى يكون الجهاد في سبيل نوال الحق كاملا غير منتقص، ولا مبتور من جوانبه، مستكملا تاما، وحتى نكون جميعا إلبا واحدا على عدونا، لا يرى في صفوفنا ثغرة؛ فيأخذ في توسيعها، ولا يشهد منا فرجة فيزيد هذا النفار احتداما، وينفخ في نار هذا هذا الشجار؛ لكي يكتسب منا الميدان على طول الفترة، وسكون نأمة الحمية، وانصرافنا إلى ما يهدم بناءنا، ويذهب بريح قوميتنا.
ولم يكن صاحب هذه الترجمة رجلا محتكرا في السياسة، يريد أن يستفرد بالجهاد، وتكون الوطنية شعاره وحده، ولم يكن بالمتجافي الغليظ الكبد، حتى ندعه وحيدا يناضل عنا، ونحن من خلفه متحزبون متفرقون، متصايحون مختلفون، فإذا جاء ببعض الحق قلنا له: لقد بعت بهذا البعض بقيته، وإذا رد إلينا قطعة من أملنا المعسول عيبناه بأنه لم يأت بها جملة، وإذا وقف مستبسلا أمام مغتصبي الحق، ينازعهم عليه، ويناهضهم دونه جعلنا نظنه ممالئا لهم على وطنه، وقرفناه بمصانعتهم على مغالطتنا، كأنما كان الرجل يمت إلى أولئك بقرابة، أو يتصل من الاستعماريين بسبب، وكأنه وليد مستعمرة من مستعمراتهم، ومحسوب من محاسيب عظمائهم، وكأنه هو ممن أنجبتهم مالطة، أو نيوزيلنده؛ فانحدر إلى مصر ليبيعها الإنكليز؛ ليتسع سلطانهم، فيتسع مدى زهوه بهم، وعجبه بإمبراطوريتهم، وكأنما كل ذلك الجهاد الشريف الذي حمل أعباءه، واضطلع بخطوبه؛ لكي يظل في رئاسة الوزارة، ويتمتع بسلطان منصبه، وعظمة نفوذه الدهر كله، والأبد بطوله؛ لأنه اتخذ على الله عهدا أن يعمر رئيس وزارة، وينسأ في أجله، وأجل وزارته؛ فتتصل إلى ختام هذا الجيل، وتبلغ الجيل الذي بعده منحدرة إلى القرن الذي يتلوه.
إن أولئك الذين يدسون على هذا الرجل، ويتحيفون جوانب ما فعل في سبيل أمته، لا يريدون بذلك أن يقهروه لكي يستفردوا هم بالعمل، ويخلصوا هم بالميدان، وتنفسح لهم الحومة وحدهم، فلو أن تلك كانت بغيتهم، وذلك كان ما قصدوا إليه لقلنا لهذا الرجل الخطير: اترك لهم ما صنعت لنرى ماذا يصنعون، ودع لهم عملك ليتموه، ويجعلوا ما فعلت بحسن جهادهم، وشرف ديباجتهم، وعظمة وطنيتهم، ونزل عن مكانه لهم، ونهض عن مجلسه لجلوسهم، لما خسر شيئا، ولما شعر بنقص في مكانته من التاريخ، ونصيبه من الخلود، ولكان أحب إليه أن يكون صاحب الصنيع على هذا البلد، وملاقي النكران منه، والجحود من أهله، ولكنا لا نزال نهيب به أن لا تفتر أمام هذا اللجاج عزيمته، ولا تهن حيال تلك الضجة الجوفاء إرادته، وأن يسترسل في وجهه، ويتابع ما هو متابعه، والتاريخ باق يشهد، والحياة ناظرة إليه، والحسنات تكتب له؛ والسيئات تحصى في كتاب لا يضل محصيها ولا ينسى؛ والرجل ليس بالباقي الذي لا يموت، والمعمر الذي لا يفنى.
وقد أدرك هو ذلك، وما كان مثله لينسى هذه الطبيعة الآدمية الواهية التي وقعت في قالب من الفخار الصلصال، ولا تستطيع أن تجلد على عواصف الدهر، ومطالع الشيب، وهجمات الحدثان، وهو القائل في خطبة له: «لقد نسوا أو تناسوا أننا أشخاص زائلون، وأننا لن نبقى متربعين في دست الأحكام إلا برهة من الزمان، ثم نخلي السبيل لغيرنا ...».
الوزير الأول كخطيب سياسي
في حفلة عيد جلالة الملك وقف صاحب الترجمة في وليمة كبرى في فندق الكونتنتال أدب رجل من سروات هذه الأمة، وألقى خطابة له ظلت حديث الناس زمنا ليس بالقصير.
وقد تجلت في تلك الخطبة للمرة الأولى في تأريخ حكومتنا روح الديمقراطية التي فاضت في نفس رأسها، والوزير الأول الذي في يده دفة أمورها؛ إذ ظهر في وسط جمهور منا يحدثهم عن مبادئ حكومته، ويشرح لهم خطط عمله، ويلقي إليهم أنظمة العهد الجديد، وأساليب التشريع فيه والتنفيذ.
ونحن لم نشهد قبل هذا الوزير رئيسا من رؤساء الوزارة في العهد الماضي قد وقف هذا الموقف، وطاوعته نفسه على الخطابة؛ إذ لم يقع لنا قبل هذا الرجل وزير على شيء من الاطلاع بفنون الأدب، ولم نر فيمن جاءنا قبله أحدا من الكتاب المفكرين، بل كان سواد رؤساء الوزارة قبله إداريين، لا أكثر ولا أقل، عاشوا طوال أعمارهم يمهرون القرارات، ويذيلون المراسيم بتواقيعهم، وينفذون هذا الأمر، ويبطلون ذاك، ولئن كان فيهم يوما الكاتب أو القانوني أو الخطيب، فقد كانت تعوزه أساليب الأدب فيما يكتب، وتنقصه ردعة الخطابة، وبلاغة المنحى، وحسن التنسيق، وجلال المعاني، وسحرية الألفاظ فيما يخطب.
ولكن الخطابة للوزراء أول لوازم النبوغ، والسلم إلى المرتبة السامية في الأمم المتحضرة، والممالك الحرة المتخلصة من قيود الإسار، ومعرة الجهل، وذيوع الأمية حتى في الخاصة، وكبار أهل المناصب، ولا يستطيع الرجل في بلاد الغرب أن يبلغ مكانة سامية في الشعب إلا إذا ملأ أسماعهم، وفتن ألبابهم لسعة مواهبه للخطابة، واعتلاء ذوائب المنابر، ولا تجدن الرجل العظيم في أمة كثيرة الكلام، شاعرية النفس، خيالية المزاج، كالأمة الفرنسية، إلا متكلما أبدا، خطيبا متدفقا، كثير الأحاديث، مستفيض البيان، ولا يستطيع أن يعيش حتى يظهر بين الحين والحين على أسماع أمته، فيلقي عليها شيئا من خواطره، ويصدع لها بحججه، وينزل لها عن خواطره.
وإذا كان نزول الوزير الأول عن مكانه إلى الخطابة، والتحدث إلى الجماهير، شيئا طريفا في هذا البلد، حديث عهد، لم يكن له سابقة من نوعه، فإن ما أدهشنا، وأخذ بمجامع أفئدتنا من تلك الخطبة التي ألقاها صاحب الترجمة في ذلك الفندق، رنة الإخلاص التي تتجلى في أضعافها، ومتانة الرأي الذي اجتمع فيها، وغلالة الأدب الرائق الذي احتشد في سطورها، ولكنا لم نلبث أن تبينا أن لا سبيل إلى العجب، ولا حق للدهشة. وصاحب الترجمة كما يعرفه صحابه، والمختلطون به كثير الدرس والقراءة لكتب الأدب، واسع الاطلاع، يلتهم كل شيء من الكتب، ويسيغ كل ضرب من التواليف؛ وإنه من كتابنا الذين لا يقلون عن أكبر كتاب الغرب، وأصحاب الأساليب البليغة، وأهل الترسل والبيان والتفكير، وزعامة الرأي.
وقد تناول الرئيس في تلك الخطابة جملة من الشؤون، وعالج عدة من المعاني، واستطرد في طائفة من أسرار السياسة، ولم ير أن يكتم أمته شيئا مما هو بسبيله، بل تفتح للناس، وتكشف وتراءى لهم على حقيقته صادقا، لا متعمدا كذبا، ولا متجانفا لمغالطة، أو مستعديا الخداع والغش على سامعيه.
وذلكم لعمري هو أوسع معاني الديمقراطية، وأجل أداتها، وأروع مظاهرها، وتلك آية من آيات العصر الجديد، وكانت خليقة بأن تجد عند خصومه ما يحملهم على احترامها وإكبارها، ويغريهم بمعالجتها بالنقد البريء من التحامل، والتخلص من المقصد السيئ.
وقد اعترف الوزير في تلك الخطبة بفضل أولئك الذين جاهدوا قبله، وانحنى انحناءة الإكبار أمام الذين ناضلوا عن حق أمته، وأبلوا أحسن البلاء في نهضة قومه، ولا تكون العظمة الإنسانية معترفة إلا لما هو عظيم مثلها، ولكل جليل جلالها، ومخلص على غرارها، ولم يضرب الله عظيما من عظماء هذه الدنيا بآفة الجحود، ولم يصبهم بمنقصة النكران؛ لأن في نكران العظيم لما يستحق التفاته وجحود لما هو أولى منه بالثناء عليه انتقاصا من قدر نفسه، وريبا من عظمة روحه، ومخافة أن ينقص منه ما يزيده بالثناء على سواه، والاعتراف بالفضل فضيلة في نفسها عظيمة، وقد نقع للصغار فإذا هم كبار خلقاء بالاحترام، حريون بالإكبار، وإذا كانت هي ضربا من العظمة في نفوس الذين لم يظفروا بروح العظمة ومادرتها، فما أحرى بها أن تكون أول مميزات خلق الرجل العظيم، وحسنة عظمته، ومفتنة كبريائه، وما كان مثل صاحب الترجمة ليغمض عينه إزاء العمل النبيل، ويشيح بوجهه عن الفعال الجسام، فإن العظماء لا يشعرون بلواعج الغيرة، ولا يحسون الحسد، ولا ينظرون بالعين الخائنة إلى ما أوتيه غيرهم ليجتذبوه إليهم، أو يقع لهم شيء مما أصاب سواهم؛ لأن الغيرة عاطفة تنم عن العجز، والحسد آفة تنطوي على اللؤم، ودناءة الطبع، وهي نتاج خاطر مظلم معتم، يريد أن يجعل الفضيلة احتكارا، ويكرهها على أن تكون في جزء واحد من الدنيا، ويجعل الجزء الآخر منها معتما غير مضيء.
فإذا كان هذا هكذا فلا غرو أن نرى صاحب الترجمة في خطبته الفياضة العظيمة أبعد الناس عن «الأنانية»، والأثرة، والحسد، وغمط الفضل، وإخفاء الإعجاب، والضن على أهل العمل والجهاد بالثناء والإنصاف.
وقد أثنى على صديقيه عدلي ورشدي، واستفاض في التنويه بما عملا، وتمداح ما قاما به، وجاهدا في سبيله.
وما كان الوزير الأول مجازفا بالثناء مسرفا في المديح؛ لأن العظمة تشفق من أن تبدو أمام الناس طائشة مسرفة، فإنها إذا فعلت ذلك أنقصت من قدر من تثني عليه، وتحيفت جوانب قدرها هي ومكانها، وفي قلة الكلمات التي تقول، وعبارات المديح التي تفوه بها أبلغ صورة من حسن نيتها، ونقاء وجدانها، وصدق سريرتها، وليست كلمة العظيم توزن بألفاظها، وتقاس بأسطرها؛ لأنها لا تفيض كما تفيض الشاعرية؛ فتكذب في سبيل أن تقول الحق، وتقول حقا في صورة يخيل إلى سامعها أنها الباطل بجملته، وأصوله، ومادته، وهي ليست تتطلب من وراء ثنائها على لداتها زلفى إليها، وقربى منها، وصلة بها، وعطاء من لدنها، وإلا كان أحق بها أن تطوف بالرباب، وتجري على توقيعات المزمار والغاب.
وهل كان أروع ما مدح به رجل رجلا، وما أثنى به عظيم على عظيم من تلك الكلمة الفردة الصغيرة التي فاه بها نابوليون بونابرت؛ إذ وقف على أكبر فلاسفة ذلك العصر وشعرائه، ذلك الذي مزق ديوان الشعر قبله، وقذف إلى الخمول جميع من كتب قبله في الفلسفة والتفكير، ونعني به الشاعر الألماني جوث؛ إذ نظر إليه، ثم دار بعينه في وجوه من حوله، ولم يلبث أن قال يمدح ذلك الشاعر: «إنه رجل!».
أجل لقد كانت هذه الكلمة التي فاه بها ذلكم الرجل في رجل كان يمثل دولة الأدب يومذاك لا دولة المدفع والسيف أبلغ من جميع التراجم التي وضعها الكتاب في ذلك الرجل بعد موته، وأعمق من الدلالة على فضله وعظمته من كل ما حشد الكتاب في تحليل شخصيته، وتشريح خلقه، والإسهاب في بيان فضل أدبه على الدنيا، ومتانة تفكيره، وروعة شاعريته.
إن هذا الشيخ الجليل رشدي باشا يستحق من هذه الأمة كل ثناء، ولقد كان وزيرنا الأول أول من أدرك هذا الواجب ، وضرب على نفسه التزام هذا الغرض المقدس، فذكره في مستهل خطابته، ووقف خاشعا أمام ذكر اسمه؛ لأنه وقف أمام عظمة نقية، ووطنية عاقلة، ونفس حر عافت أن ترى نفسها في موقف ذل، وموطن مهانة، ولسنا ننسى ما كان من ذلكم الشيخ الأشيب الوقور، العظيم الروح، إذ انبرى لذلك الإنكليزي الكبير برونيات يوم وصف هذه الشعلة المقدسة التي اضطرمت في كل فؤاد في هذا البلد الناهض، شعلة الوطنية الرهيبة التي أنارت الشرق كله، وأشعت على أهله جميعا؛ فثاروا يطلبون ما ينعم به الطائر على شجره، والوعل في غابه، والوحش في كناسه وعرينه، يوم قال عن هذه الحركة الرائعة: «منها شعلة تطفيها بصقة واحدة»، فيا لعنة السموات لشد ما ثارت حمية هذا الشيخ، وغضبت كرامته، ونفرت عزة نفسه، ونهضت عزته بقومه، فأرسل من قلمه الحار الملتهب بحمية نفسه، وأثر الوطنية التي تغلي مراجلها في حنايا أضلاعه، تلك المذكرة البليغة المستفيضة المخلصة الوفية الخالدة، فراح يفند فيها دعوى الرجل، وفساد نظره، ويبين له مكان مصر في نظر أهلها، وحقها في نظر الغرباء عنها، أولئك الذين نعموا فيها بخفض العيش، وخرجوا منها بالثراء العريض، وملأوا جيوبهم من أموالها، وخزنوا الثروات الطائلة من ثروتها؛ فلم يبق رجل في هذا البلد لم يصفق لتلك النفثة الرائعة، ولم يهتف لتلك الكلمة المتقدة، ولم يطرب لوطنية الشيخ؛ ويعجب بصراحة الوزير، وجرأة الوطني الشهم الباسل.
ولقد ظلت صحيفة هذا الرجل العظيم نقية طوال ماضيه، وهي اليوم أنقى منها حاضرا، وستكون غدا أشد نقاء وصفاء ونصاعة؛ إذ يتم عمله في لجنة الدستور، ويخرج ثمرات تفكيره، وتنعم البلاد بالأنظمة التي نظمها، والقوانين التي اشترعها لمجلس الندوة، وندوة الموالي، وستكون تلك الأنظمة كفيلة بالحرية للشعب في تشريعه، وبالاستقلال المكتمل في برلمانه؛ وإن تخرص اليوم المتخرصون؛ ونقد الناقدون عمى الأبصار والبصائر، وسيرى الناس منه في موقفه الوطني الحاضر، واضطلاعه بهذا العمل العظيم كيف تكون وطنية الشيخ وجرأته في الحق، وسعة اطلاعه بأنظمة الحكومات في ممالك الغرب، وقوانين مجالسها النيابية، ولن ينقصنا من تلك الأنظمة شيئا، ولن يضيق علينا منها مضطربا، وهو يعلم أننا قد نضجنا لمعنى الحياة المهذبة، واكتملت نفوسنا للعيش في ظلال الحرية، ولن نخدع في أمر من أمور حياتنا، ولن يكون هو ومكانه مكانه بخادع لنا، ولوطنيته تلك المواقف، والجولات العظيمة التي لا نزال نستهدي بأعلامها الخفاقة.
ونحن قد قرأنا ذلك التقرير الضافي الذي رفعه عن السودان، ورابطته المقدسة الأبدية بمصر، فإذا هو لا يزال جريئا في عمله، عاملا في وطنيته وطنيا في كل ما يمد يده إليه، ويكلفه من الخطوب الكبار، وهذه المذكرة ستبقى علما على شعور فياض يلم بالنيل العظيم من منبعه إلى مصبه، ويتدفق على ضفافه، وإنما ينصب من عل كالسيل، فلا يقف في سبيله مانع، ولا يسد عليه الطريق حاجز أو حائل.
ونحن ننقل كلمة من تلك الكلمات البليغة المفعمة وطنية وصراحة، التي جاءت في عرض ذلك التقرير المستطيل ... ليس النيل رباط الحياة الوحيد الذي يربط مصر والسودان، بل هناك اعتبارات اقتصادية، فإن الجانب الأكبر من تجارة السودان سيمر دائما في مصر، ومصر هي العميل الأكبر للسودان الآن، وستظل كذلك إلى الأبد، وقد أخذت مصر تغص بالسكان، وأخذت أرضها تعجز عن أن تكفيهم، وليس في الأرض مكان معد بذاته لقبول زيادة السكان في مصر غير السودان، فهو بلاد متاخمة لمصر زراعية بحتة، متصلة بمصر بروابط من كل نوع، ثم إن مبدأ الجنسية المسلم به الآن والذي كان مرشدا وهاديا لسياسة الإنسانية بعد الحرب ينطبق على مصر والسودان؛ لأن أغلبية العنصر العربي يتكلم لغة المصريين، وهو دين أغلبيتهم، وهو متخلق بأخلاقهم. •••
وقد عطف الوزير بعد ذلك في خطبته على صاحب الدولة عدلي يكن باشا؛ فقدره حق قدره، وأبان للناس عن ذلك العمل الكبير الذي قام ذلك العظيم بأعبائه، وذلك الرفض الشريف الذي تجلى من ناحيته في مفاوضات طويلة، كان الإنكليز يريدون منها أن يظفروا بالغلبة علينا.
وإليك ما قال رئيس الوزارة في هذا الصدد: سينشر يوما من الأيام ما طوي من الصحائف، وما خفي من أسرار المفاوضات ، وإذ ذاك يعلم بنو مصر جميعا أنه ما من رجل دافع عن بلده كما دافع عدلي باشا عن مصر أثناء المفاوضات الرسمية، وأن الموقف الشريف الذي وقفه ذلك الوزير الكبير، والوطني الصميم كان في ذاته أعظم تأكيد لشخصية مصر التي صممت على نوال استقلالها، والتي تأبى أن توقع على صك يضعف هذه الشخصية:
إنما الوطنية الصحيحة الوطنية الصادقة؛ تعمل ولا تتكلم، وكل همها موجه إلى جلب النفع للوطن، فلزم عدلي باشا الصمت، وكان خصومه يرمونه بأشنع ما يرمى به إنسان من نقص في الوطنية، وضعف في العقيدة القوية، فكان جوابه الوحيد على هذه التهم العمل على إثبات حق مصر، وأما ماعدا ذلك فلم يكن له عنده من شأن، فكان وطنيا عظيما في صمته عظيما في حسن دفاعه.
هذا لعمري دفاع مجيد من رأس وزارة في حق رجل كان معتقدا مجلسه قبل جلوسه، وهذه هي الوطنية النبيلة المؤثرة غيرها على نفسها المتواضعة في رفق النازلة للناس عن عرضها، ومكانتها وكرامتها؛ لتحفظ عرض وطني عظيم، ومكانته وكرامته.
ونحن لا ندري أية مذمة يستطيع الناس في هذا البلد أن يضعوها عند باب رجل جريء مخلص كالوزير عدلي، وأية جريمة تسول لهم نفوسهم أن يلصقوا عارها به، وأية منقصة يتزرون عليه من ناحيتها، وهو لم يجترح في حق هذا الوطن إثما، ولم يرتكب سوءة، وانطلق إلى داره كريما أبيا، رأى العار يريد أن يلتصق بقومه على يد مفاوضات أكره عليها، وسيق عن كره إليها، فصرخ فيه ضميره المخلد القوي أن يفلت من عمل لا يصيب بلده منه غير الخسار، ولكن كثيرين من العاملين في الثورات، والأحرار المخلصين الذين يعيشون على هدي ضمائرهم، ولا يريدون أن ينزلوا عن استقلال رأيهم للشعب، والقطيع الذي وراءهم، نالهم ما نال هذا الرجل، ووقع لهم ما وقع له، ولكن التاريخ يأبى إلا أن تكون له الكلمة الأبدية، والحكم الفصل، وفي التاريخ يبدو اسم هذا الرجل بريئا من الإثم نقيا من العاب، شريفا ناصعا لا شية فيه، وأما ما لصق به أعداؤه، وما يعيبه به خصومه فجفاء لا يصبر على نقد، وهباء لا يستطيع مواجهة حرارة الشمس، وقد أدرك الناس اليوم فضل هذا الوزير، وحقيقة ما قام به، ورضي هو بالحياة الساكنة الهادئة بعيدا عن العاصفة الهوجاء التي تهز أعالي الشجر، وتمر بصغارها غير مؤذية ولا محطمة. •••
وأجل ما كان من تلك الخطابة روح التواضع التي عمت أجزاءها، وفاضت في تضاعيفها، فلم يستخدم الأساليب الفردية فيما يقول، ولم يتكلم بروح الأنانية فيما بسط من المعاني، وشرح من الأغراض، ولم يستفرد بالعمل فيستفرد بالبيان، ولم يغمط حق أفراد وزارته ليكسب هو الحق في إعجاب الأمة به كاملا، ولم يفرط في روح التضامن، ولم يشذ عن مبدأ التعاون، ولم يجعل نفسه الطوال العظيم، وزملاءه بجانبه الأقزام الصغار، الأغمار المجاهيل، بل استمسك في كل خطابته بصيغة الجمع، وبحق زملائه معه، ولم يمض في شأنه أنانيا متكبرا، ويثير الغيرة منه في نفوس أصدقائه كما فعل الزعماء في الثورة الفرنسية من قبل، فاحتكروا المديح لهم، وقبضوا بكلتا يديهم على المديح بمفردهم؛ فانفض عنهم الكثيرون من زملائهم، وتململ الباقون من صحابتهم إذ رأوا أنفسهم حواشي وذيولا، ووجدوا أسماءهم منزوية في ركن صدئة، وأسماء أولئك بريقة لامعة، مصقولة ذات طلاء ورواء.
وقد اضطلع الوزير في خطبته تلك بعبء المسؤولية، وارتضى أن يكون وحده مسؤولا عن عمل الحكومة وشؤونها، ولم يتحلل من اللائمة، ولم يخلص بنفسه وبوزارته نجيا من الجزيرة، بل نهض مستبسلا لا يخشى تأنيبا، وهو يدرك أنه على الحق، ولا يشفق من عتب، ولا إنكار وسخط ما دام الخير فيما يفعل، والنية البيضاء وراء ما يحدث، وإنها لجرأة عظيمة لا تكون إلا لعظيم يحتملها، وينهد لها، ويرضى أن تصدر عنه، وتنبعث منه، والجرأة صفة أولى في العظماء، ولازمة من لوازم المتصدي لقيادة الشعب المتربع في دست الحكم، وماذا كان هذا الوزير ليخشى من وقعه، أو يفرق واعدا من نتيجته، وهو لا يريد أن يدس على الأمة في الظلام، ويحتال الحيل على خديعتها، وذر الرماد في عينها ، وإنما اتصل بسبب من الحق، وأدرك خير الأمة في ناحية، وتبين له السبيل السوي؛ فسكن إلى خطبته، واطمأن إلى عقيدته، وسعى سعيه، ونشط نشاطه، وكان من كل هذا ما رأينا، وما علمنا.
ولو أن رجلا آخر منا في مكانه لما جسر أن يقول أنا المسؤول، ولما طاوعته نفسه على التصدي لحمل هذا العبء؛ لأن الناس في مصرنا يرعشون خشية من هذه اللفظة الكريهة إليهم، وهي «المسؤولية»، وترجف أفئدتهم من وقعها ونتائجها، ولم نر وزيرا من وزرائنا السابقين في موقف من مواقفه نهض على أسماع الأمة يقول ما قال صاحب الترجمة في تلك الخطبة، بل لقد اعتدنا أن نرى وزراءنا يرمون المسؤولية عن أكتافهم، ويتهربون من إسنادها إليهم، أو أخذهم بكلماتها، بل ما فتئوا كلما عاتبتهم الأمة، وأنكرت عليهم عملا من أعمالهم، وسخطت على شأن من شؤون وزاراتهم يتشكون من الإنكليز، ويحيلون الذنب إليهم، ويرجعون اللائمة عليهم، ويقولون في عرض أحاديثهم الأسيفة برنة الألم والندامة، والحسرة واللهفة: ماذا لعمركم نفعل، ونحن سليبو الإرادة، مكتوفو الأيدي، لا نستطيع شيئا، ولا نجد لدينا استقلالا للعمل، وحرية في التفكير والسعي؟ إنكم أيها اللائمون إنما تتكلمون على هواكم؛ لأنكم لم تقعوا تحت تلك الإرادة، ولم تجربوا ما جربنا، ولم تعانوا ما عانينا، إنما تلك مقاعد نعتقدها، وكراسي ينبغي أن تملأ فحللنا في فراغها، وليس لنا من مناصبنا هذه إلا المرتب؛ لأننا مثلكم أصحاب «عيال»، وإلا لقب «المعالي»، وإن «سفلنا» في نظركم، وإلا الأبهة الفارغة الجوفاء ما دمنا لا نستطيع أن ننعم بالملأى الحقيقية الصادقة.
ولقد كان هذا نجاء الوزراء لصحابتهم، أو أهل سرهم، وندمائهم على الشراب، والمتمكنين من ودهم وصداقتهم، وكانت تلك الكلمات نعرفها عنهم، ونتخيلها طالعة من أفواههم.
ولكن مثل هذا الوزير الذي نترجم له الآن أشد الناس ثورة على السكون والتطامن لو أنه أريد على أن يجلس في كرسيه جامد الحركة، وأن يروح في يد الإنكليز أداة يحركونها هم كيف شاءت لهم السياسة، واقتضت مطالب الحكم؛ لأنه يأنف أن يذل لغيره، ويخفض رأسه لسواه ، فإذا أعطي عملا، فإما أن يترك له ليعمله، وإما رفضه وخرج بنفسه من معرة العجز، والتواكل، والرضى باسمه، تذيل به القوانين، وتمهر به الشرائع، وتختم به المراسيم والأنظمة دون أن يكون هو الذي اشترعها، ودون أن يضع يدا في وضعها، ولم يتول يوما في حياته الحكومية عملا وقنع منه بالوظيفة، ورضي منه بالاسم واللقب؛ لأن في أعماق نفسه إحساسا جياشا يغريه بالحركة والعمل، وعاطفة متقدة لا تربطه بالكرسي الذي يشغله، ولا تقيده إلى المنصب الذي يقلده، ولو مضى عليه يوم واحد من غير عمل يتناوله، أو تفكير ينكمش إليه، أو كتاب يقرأه، أو قطعة يكتبها لكان ذلك عنده أشد أنواع المرض، ولاحترق جثمانه من أثر حرارة روحه، والنار المشبوبة في فؤاده، وإذا تخلى رأس الوزراء، وأول رجل في الحكومة عن المسؤولية عن عمله، كان خليقا بأحقر رجل فيها، وبالشرطي الواقف في الطريق أن يتهاون في عمله، ويتحلل هو أيضا من مسؤولية حراسته وواجبه، وإذا حدث هذا في حكومة من الحكومات خرجت ولا ريب عن معنى الحكومة، وكان أولى بنا أن نسمها بطابع الفوضى، ونحشرها في الموتى، وقد رفع هذا الوزير عن أمته علم الحماية، وذلة الوصاية، وكان مسؤولا عن مهمته تلك فأداها على وجهها، ولم يكن يخشى بعد ذلك من مسؤولية إتمام ما بعدها، واستكمال أساليب الحكم الدستوري التي لا غناء بعد تلك الحماية عنها، ولقد وقعت بعد ذلك أحداث كبار، وحدثت غيلات لكبار البريطان وأخطار، وغضبت حكومة الإنجليز، وحق لها أن تغضب، وعتبت على وزارة هذا الوزير، ولفتت أنظارها إلى هذه الدناءة التي تغتال الناس وهم أبرياء، وتشوه جمال هذه الحركة، وتفسد عليها فضيلتها؛ لأننا لا نريد وطنية قاتلة، ذباحة ساقطة الروح، دنيئة تقتل ثم تعدو طالبة الفرار، مختبئة في الأزقة؛ لأن الوطنية الصحيحة لا تختبئ وإن قتلت، ولا تكمن في جحر مظلم، أو عش بعيد مجهول، وإن افترست لأنها وطنية لا تخشى الموت، والوطني الصادق المستبسل يموت والابتسامة على شفتيه، ويلاقي المنون ضاحك النواجذ، والغيلة دناءة، وإن أسماها المجانين مذهوبو الرشد جرأة، وراحت لديهم خليقة بالمديح، مثيرة فيهم الإعجاب؛ لأن هؤلاء الذين ماتوا وقضوا نحبهم ماتوا ودماؤهم باردة؛ لأنهم أخذوا على غرة، ولم يدافعوا عن أنفسهم، والرجل الباسل النبيل الروح يأنف أن يموت عدوه بارد الدم في هدوئه الطبيعي، وغفلة خواطره، والرجل الذي يموت منهم يرتحل عن الحياة مستشهدا؛ لأنه مات وهو يعمل لوطنه بالحق كان وبالباطل، والقاتل من صفوفنا خائن في حق وطنه، أثيم شنيع في أمته، فنحن بآثامنا هذه إنما نمهد لرجالهم سبيلا للشهادة، ونسجل على أمتنا كلها الخيانة، والجبانة بكل ألوانها.
وإذا كنا قد رأينا الإنكليز قد غضبوا لتلك الأحداث الرهيبة، وشهدنا نائب ملكهم في كتابه إلى صاحب هذه الترجمة مهددا منذرا، يحمل هذه الوزارة مسؤولية هذه الحوادث، وجريرتها، فقد وجدنا هذا الوزير ثابت الجأش، لا يفر في رسالته إلى نائب ذلك الملك من حمل مسؤولية الأمة بأسرها، ولا يتململ، ولا يتزعزع عن مكانه، ولا ينخلع فؤاده حيال التهديد، والنذر التي جاءته، بل أحسن في رده، وأخذ بالحزم والبسالة فيما كتب، وكذلك ارتكب رجل ذو لوثة جرمه الشنيع، وضرب الأمة في مقاتلها، وهو يحسبه محسنا صنعا، مجديا على وطنه، فلم يكن من رئيس الوزارة الجريء الباسل الثبت المقدام إلا أن حمل جرمه، ورفع للأمة كرامتها، وأجمع نيته إلا أن يأخذ بأشد ألوان القصاص، وينفذ أقسى ضروب العقوبة، وقد فرح الذين عمت بصائرهم عن رؤية الحق بذلك الحادث، لا في وقعه، ولا في مقدار ما أثار من الغضب، وأحدث من السخط لدى الذين قتل الرجل من صفوفهم، بل حسبوها ناهزة نهزت لتبعث الوزارة على الخوف من أمرها، والخشية والرعدة من عواقبها على مكانتها، وظنوها حادثا مغريا بالفرقة والتنافر بين الوزير والإنكليز، الذين اقتسرهم اقتسارا على استقلال البلاد، والتسليم بحريتها، وحقها الأبدي، ورفع حمايتهم المهينة المؤلمة عن أفقها، وما نعلم أن في دور المخلوطين في عقولهم قوما تقع لهم أمثال هذه الفكرة الطائشة الهاذية المحمومة، ولكن لهؤلاء المجانين الأحداث الأغرار جنونا مبتكرا طريفا، ليس على مثال ما في سجلات المجاذيب من مدهشات، فإن هذا الوزير قد قام بفرائض منصبه غير مستأن، ولا مستخف، وقد وقعت أمثال هذه الأحداث في الوزارات التي قبله، وهو لم يجلس مجلسه إرضاء للإنكليز حتى يتركه ترضية لهم، ولم يكن في مكانه ذاك بوحيهم قبل أن يكون يوحي ضميره، ومنبعثا وراء وجدانه، وما كان مثل هذا الوزير في نبل روحه، وفيض عاطفته ليترك مكانه؛ لأن بضعة أشخاص من المعارضين، ونفر من الخصوم، قالوا له: قم عن مكانك، واترك مجلسك، ولقد انهزموا أمامه، وهزمتهم الأمة حياله، فلم تسمع لهم؛ ولم تعرف لهم مكانة بينها، وليسوا ممثلين لرأيها، ولا غطاريف في أهلها، ولا سادة الرأي إذا الرأي سؤل، ولا قادة الأذهان إذا طلب وحي الأذهان، وكيف يصح للمنتصر أن يدع مكانه للمنهزمين، ويترك الحومة للهاربين، ويعلن هزيمته وهو قد أمسك بالنصر في يده، وبعلم الفوز يلوح به فوق رأسه، ولو أنه فعل فنزل على أمر هؤلاء، ورضي أن يسمع لهم، وتخلى عن المنصب لشهوة أنفسهم، وفر من الواجب الذي في عنقه لراح خائنا لبلاده، مستهزئا بحقوق أمته، ضعيف الحيلة في خدمة مبادئه، ولا نعرف شيئا من هذا يصح أن ينسب إلى صاحب الترجمة، أو يشتم من خلقه، ولقد وقف في مواطن أشد إحراجا من هذه فسرب منها، وشق غبارها، ولم يستطع شيء أن يترك أثرا في همته، وعظمة نفسه للعمل، وإخلاصه إلى رأيه، ودأبه على فكرته.
وإذا كان هذا هكذا فلا غرو أن يقول صاحب الترجمة في خطبته: «إننا لم ننتظر إنفاذ النظام البرلماني حتى نأخذ المسؤولية على عاتقنا، بل نحن قد أخذناها على عاتقنا من أول لحظة، وأصبحت إدارة شؤون البلاد في يدنا بتمام الحرية، فلم يبق للمستشارين هذا الأثر الذي كلكم كنتم تعرفونه، وتحسون به، وأصبحت كلمتهم لا تخرج عن حد المشورة.» «والخلاصة في هذا الباب: أن مصر الآن من الوجهة الداخلية أصبحت أمورها بيد أبنائها، وأنها ستصبح في القريب العاجل ذات نظام دستوري على أحدث النظم العصرية».
ولا تزال كلمة الإخلاص التي قالها في تلك الخطبة في أذهاننا، تلك الكلمة الكبرى المستفيضة صدقا، وعاطفة، وضؤولة أمام عظمة القدر، وفناء الفرد بجانب خلود الشعب، إذ يقول: لقد نسوا أو تناسوا أيها السادة أننا أشخاص زائلون، وأننا لن نبقى متربعين في دست الأحكام إلا برهة من الزمن، ثم نخلي السبيل لغيرنا، أما النظام الدستوري فهو نظام ثابت دائم ...!
نعم، تلك نفثة رجل صادق يدرك أن الحياة لا تستحق أن تعاش إذا لم يكن الإنسان قوة خالدة تفتدي نفسها في سبيل خير غيرها، وأن المرء وإن عمر في هذه العاجلة فما هو بمغنيه في حكم التاريخ أن يعمر، ولقد راعنا من هذه الكلمة المؤثرة الجياشة الحزينة الرنين، الأليمة الوقع ما انطوى تحتها من رنة الإخلاص، وروح الصدق، وبلاغة التعبير، وجلال الوفاء، ولم يكن الوزير من الشعراء حتى يقال تلك أكذوبة جميلة من أكاذيب القصيد، ولم يكن في موقف من مواقف الشاعرية حتى تستهويه وترسله، يتدفق في ألفاظ طلية ضئيلة المعنى، وإنما كان في ذلك الموطن رجلا سياسيا، وعاملا خطيرا في بناء هذه الأمة، ورأى بعض الخصوم يكذبون عليه، وعلى أمتهم، ويتقولون الأقاويل الخاسرة الواهية الظنينة في نفسها المتجنية، ويرمون الوزارة بما هي منه بريئة الكف، نقية الروح، ويدسون عند الأمة عليها أنها ستتعرض لحرية الانتخابات، وأن دار الندوة ستكون عند منال يدها، ولعبة في كفها.
ولقد أحسن الوزير في رفع تلك الفرية؛ لأن الوزير لم يطعن بها بمثل ما طعنت الأمة، وأهينت، وسخر منها، وشهر بها عند أمم الغرب.
ولقد قال الوزير حقا إذ قال في خطبته: إنهم بذلك إنما يرمون أمتهم بأشنع التهم، وأنكر الشنائع؛ إذ ينسبون إليها أنها تقتاد سهلة ذلولا في يد من يسوقها، وأنها لا تجتمع إلا على طغام كالنعام، يتبعون أول ناعق، وأنها تستسلم استسلام الأعمى حتى فيما يعود على الأمة بالضر والذلة.
أولئك هم الذين يودون أن يتراءوا للأمة قادة مخلصين، ويبدوا مصلحين صادقين، وتتجلى الغيرة المتقدة من نواحيهم، وتظهر الحمية الملتهبة من جوانبهم، على حين يسيئون إليها ، ويستخفون منها، ويضللون فيها الرأي، وينكرون وضح الشمس، ولكن الأمة لم تعد طفلة تغريها بالنوم مناغاة أولئك المراضع، والأمة التي نهضت للثورة، وثارت للحياة الصحيحة المنتعشة القوية، وصاحت فيها النسوة يطالبن بمقاعد لهن في مجلس الإنابة، لا يقع عندها الخداع، ولا تستمع لأحداث الخيانة المرتدية أثواب الصدق، والغيرة، والوفاء. •••
ولو أن صاحب الترجمة كان يخشى شنشنة هؤلاء الثرثارة، ويخاف خصومة أولئك الخصوم، ويضطرب من تألب هؤلاء المستنفرة، ويرعد من عداوة الأفاكين، وأهل القلوب المرضى لكان أولى به أن يصانعهم، وكان أخلق به أن يلاينهم، وينزل على أحكامهم، ويهرب من خصومتهم، ويسعى جهده في سبيل سكوتهم، ولو أنه طلب ذلك، ووضع هذا المقصد نصب عينه لطاوعه ما أراد، وضمهم إليه، وساقهم إلى جواره، ولكن أبى إلا أن يكون فردا، ويعمل فردا، ويدأب منقطعا إلى نفسه، خاليا إلى عزلته، فإن انتصر له قوم أدركوا أن الحق في جانبه؛ فنعمت النصرة، وإن هزمه قوم، وخذله فريق، فما كان ليخشى خذلانهم؛ لأنه يعلم من نفسه أكثر مما يعلمون، وهو خليق بأن يصطبر لهم، ويتمهل عليهم، ويرتقب رجعتهم إلى الحق؛ لأن الحق عائد بأهل الضلة إليه، وإن بعدت المسافة، وتراخت الشقة، ولكنه - كما قلت - لا يخشى من جانب أولئك الخصوم شيئا؛ لأنه يعيش أبدا على ضميره، ويتلقى وحي الحق من وجدانه، ولقد قال في خطبته: «إني أيها السادة لا أكره المعارضة، بل إن عزت علي تلك المعارضة فإنني أعمل على خلقها، ذلك جلال العبقرية السياسية التي تستقبل خصومها مرحبة بهم، مؤهلة بخصومتهم، فرحة بتألبهم، واجتماعهم عليها، وتضافرهم على سمعتها، عالمة أن كل ضربة لا تقتلها تفيدها، كما قال نيتشه في بعض تواليفه، وما رأينا قبل هذا وزيرا مصريا صرح بكلمة مستبسلة كهذه، ولا شهدنا رجلا خطيرا وقف هكذا مناديا الناس إلى مخاصمته، صائحا على أعدائه أن يقبلوا على حواره ومناقشته مهيبا بهم أن يحشدوا كل ما أوتوا من قوة لمكافحته؛ لأنه لا يستطيع أن يقنع الناس جميعا بنقاء وجدانه، وصفاء نفسه، وطهر ما يخرج من يده .
ولو أنه عمل عملا صالحا، ورأى الناس حوله سكوتا، لا تتحرك شفاههم بكلمة نقد، ولا تجري أقلامهم بمعارضة، أو رد لتلتلج في خاطره أن الناس لم يفهموا عمله على حقيقته، ولم يدركوا وجه الخير منه، فلا يفتأ يستثير القوم إلى إبداء آرائهم، والمصارحة بخواطرهم حتى تهدأ نفسه على عمله، ويتلقى من الناس التشجيع على المتابعة، والتعضيد للتقدم، والمؤازرة على النهوض والسعي، وأنه لأفرح بالنقد منه بالمديح، وأروح خاطرا بالمعارضة منه بالمؤازرة؛ لأن المديح لا يكاد يصل إليه؛ لأنه في شغل عنه، ولأن الثناء عليه لا ينال منه غير التجهم، ولا يصيب منه الرضى؛ لأنه يعلم مقدار ما في هذا الثناء من خديعة، ويدرك أن التمدح لا يزيده شيئا، ولا يكمل منه نقصا، ولا يخلع عليه فضلا طريفا، ولا يزداد به ثقة بنفسه، وثباتا على عقيدته، ولكن النقد يظفر منه بالابتسام، ويثير في نفسه السرور، ويشع في نواحي روحه، ويفتح شهيته للعمل؛ لأنه يدرك من نفسه أنه لم يتخذ على الحق عهدا أن يؤاتيه في كل يوم، ولم يكتب بينه وبين القدر وثيقة وعقدا مبرما أن لا يسير إلا على هواه، ولا يأتمر إلا بأمره، بل هو يعمل متوخيا الخير جهده، متحريا الحق بكل قوته، فإن لم يصبه فعلى الناس أن يصيبوه معه، ويعينوه على الظفر به، ولا يتوفر له ذلك إلا بنقد الناقدين، ومعارضة المعارضين المخلصين، وهذا هو الذي بعثه على أن يقول كلمته تلك؛ لأنه لا يدعي لنفسه السيادة على الأذهان، والسيطرة على الضمائر، وهو ليس بالوطني الأوحد، والقوم من خلفه كذبة خونة منافقون، ونحن لم نر هذا الوزير يوما جانحا إلى الاستبداد بأمته، وإملاء رأيه عليها، وإكراهها على أمر لا ترغب فيه، ولا تشاء المضي في سننه.
ونحن لسنا منه حيال دكتاتورية مطلقة عنيدة الرأي، شديدة الوطأة، حديدية اليد، وإلا لما جلس في مكانه أكثر من يوم أو من شهر، ولما ثبت في مجلسه، وتمكن من منصبه، ووجد الأمة الحقيقية التي لا تنجلي في صحيفة، أو صحيفتين ، وفي أنهار ورقة يومية أو ورقتين، بل الأمة التي تجلس في الطريق، وتعيش في الشارع، وتسكن القصور، والأكواخ، والدور، والعشش، ساكنة مطمئنة إلى عمله، صابرة مستأنية؛ حتى يتحقق كل مطلب من مطالبها، وتنفذ كل أمنية من أمانيها، وإذا قال قائل من خصوم الوزارة: إن هذا السكوت من جانب الأمة عن عجز، وصبرها عن ضعف واستسلام، وسخط مشلول، مفلوج الحركة، فنحن نقول لأولئك: إن الأمة التي لا تستطيع أن تزيح رجلا عن مكانه، وتعجز عن أن تحمل وزيرا إلى بيته من فوق مجلسه، لا تستحق الحياة، ولا تستأهل أن تطالب بالحرية فتنالها، ولكنا نعلم من أمر هذه الأمة، ومن مزاجها، ونفسيتها ما شهدناه من تلك الثورة الرهيبة التي وقعت منذ أعوام، وعمت القطر من أقصاه إلى أقصاه، والأمة التي وقفت أمام المدافع، وحملت ضحاياها إلى المقابر تحت صيب من القذائف، وسقط أبناؤها وشبابها جرحى وقتلى، والابتسامات على شفاههم، والكلمة الحلوة «لتحي الأمة» تتحير على ألسنتهم، لا يمكن أن تكون كاذبة على نفسها، مخدوعة في أمرها، صابرة على ما لا تحب، مكرهة على ما لا تريد، وإنما هي أدركت أن الوزير لم يأثم في حقها حتى تأثم هي في حقه، وتتجنى عليه، وتتململ من حكومته، ولم يقل لها لقد رفعت عنك الحماية، ثم رأت الحماية لا تزال باقية، ولم يعلنها بأن سيادة الإنكليز قد راحت سيادة مصر على مصر، ثم شهدت أن ذلك كان جملة من الأكاذيب، لا نصيب لها من الحق، ويوم تظن أن في كل ما فعل الوزير ظلا ضعيفا من الباطل، تروح ثائرة متمردة غاضبة، ويوم تغضب الأمة يغضب الوزير من نفسه؛ فيحمل محفظة أوراقه الخاصة إلى منزله، ويتخلى عن عمله، ويندمج في صفوف الشعب، ويدخل في غمار الجماهير، ويدع المكان لغيره، ولو أراد القدر بهذه الأمة سوءا لكان ذلك، ولوقع ما نقول، ويومذاك يرتفع إلى رئاسة الوزارة رجل قزم أعرج الإرادة، دميم الرأي، ويومذاك نشهد ما سيكون بعد الذي كان، ونرى الأمة معولة ناشجة نشيج الأطفال؛ إذ أسقط في يدها، وأسلمت مقادتها إلى أيد ضعيفة راعشة؛ لأنه إذا كان في هذه الأمة رجل يستطيع أن يمشي بها في محرجة أمرها هذا، ويمسك بيدها فيأخذها إلى حيث تريد، وينطلق بها إلى ما تبغي؛ فذلكم هذا الوزير الذي تترجم له الآن، فهو أقدر رجل تولى الرئاسة في وسط هذه الزوبعة الهوجاء، وهو أمتن أهل هذا البلد شخصية، وأدهاهم رأيا، وهو جبار الذهن، عظيم الروح، لا يتطامن، ولا يخفض رأسه، ولا يبيع الناس ضميره ليشتري به حقا ضئيلا من حقوق هذا الشعب، ولا يستطيع الإنكليز أن يستلينوا قناته، ويجمعوا خدائعهم لاختلاب فؤاده، ويكسبوه من ناحية ليخسر هو أمته من الأخرى، ويأتوه بالباطل ليدلي به إلى وطنه في صورة الحق، ويوعدوه بالنذر ليعد هو بالأماني، ويقولوا له: افعل كما تؤمر به، أو دع مكانك؛ فيغلب مكانه على مكانته في أمته؛ لأنه كما قال في خطابته شخص زائل، وإنسان سيحتضر، وعمر سينفد، وما تنفد الأمة، وما تفنى، وحقيق به أن يفني عمره في خلود وطنه قبل أن ينطلق عن هذه العاجلة، فاني الذكر، خلق الاسم، سيئ الأحدوثة.
وقد رأينا فريقا ضئيل العدد، يحاولون أن يقنعوه بترك عمله، والتخلي لهم عن منصبه؛ ليضربوا القرعة فيما بينهم على من يتولاها منهم بعده، وليقتسموا بينهم أسلابها، وأبهة روائها، وليجعلوا رئاسة الوزارة مأوى للضعفاء، وملاذا للملهوفين، ونزلا للطاعمين الكاسين، ولتكون أشبه شيء بالتكايا للمقعدين المعوزين؛ ولو أن رئيس هذه الوزارة رضي لنفسه أن يكون بجانب ذلك رئيس مطعم، أو صاحب فندق لاستطاع أن يجيء بهم إلى صفه، ويستهويهم إلى جانبه؛ إذ ينزل على مطالبهم، ويعطيهم كفاف رغائبهم، ويجلسهم في دور الحكومة، ويوظف عليهم الوظائف، وينثر عليهم البدر، ولكن الأمر ليس مساومة، وليست شؤون الأمة تجارة نافقة؛ فيربح أولئك، والأمة بهم خاسرة.
ولقد قال الوزير - كما قدمنا - أنه يريد أن يخلق المعارضة إذا لم يجد أثرها، وكان يرتقب أن يرى معارضين يمسكون بطرف من الحق، ويشادونه فيه، ويتجاذبونه بينه وبينهم، وكان يتوقع أن يجد أمامه خصوما أبرياء من الأنانية ، ومجادلين بالحسنى، غير خارجين على سلطان أنفسهم، وأمناء في السياسة إذا الأمانة وجبت، وأوفياء في العقيدة؛ لأن الوفاء أول لازمة هذه النهضة، وكان أحق أن يشهد معارضين شرفاء الدخلة، صادقي الوطنية، مؤمنين بحق أمتهم، فلا يثيرونها هوجاء حمقاء طائشة، تعمي الأبصار، وتحجب الأعين، وينطلق الحق متبددا، تذروه الريح السافية، ونقف بهم أمام الإنسانية العاقلة المتحضرة ضحكة هزأة نشتجر، والأمر ظاهر بين، ونتماسك بالتلابيب، ونتواثب للخصام، ونتهالك على النفار في موطن رهيب، كان أولى بنا فيه أن نتساند، ونقف صفا صفا أمام عدونا؛ حتى لا يخترق الصفوف، ويتسرب من الثلمة، فتذهب ريحنا، وتتفرق جموعنا، والعدو ضاحك منا، ساخر من طفوليتنا، ولكنه لم يجد من كل ذلك شيئا، ولم ير قبالته أشخاصا يمثلون رأي الأمة، ويشرحون له عاطفتها، ويتكلمون بلسانها، ولم يستفد من كل تلك الأبحاث التي خرجت بها الصحف كما تخرج الصبية بطيارات الورق تهفو بها الريح، وكان يريد أن يستهدي بالنقد الحق، والرأي المخلص، والكلمة الوفية، والمعنى الأمين؛ فلم يجد في كل أولئك المعارضين الضعاف الأحلام هاديا طيب النفس، بعيد النظر، واقتصرت تلك المقالات العاثرة التي أسموها معارضة، وخلقوا منها حزبا معارضا، خرج إلى نور الشمس جنينا ميتا على أهواء ومنازع كاذبة تغالط نفسها، وتريد أن تغالط الأمة معها؛ فبقيت الوزارة في مكانها ثابتة كالصخرة في عرض اليم، وتحطمت تلك السفن الصغيرة التي ركبها أولئك المعارضون، وغالبت الريح، والريح غالبة؛ فكسرت رأسها عند قدمي تلك الصخرة المكينة، وظلت الصخرة راسخة تضحك من أطفال اليم، وزوارق البحر التي جاءت في النوء تناوئها، ونحن لا نريد بهذا أن تموت في الأومة مادة المعارضة، وروح النقد السياسي؛ لأن في المعارضة دليل الحياة، وفي النقد معنى النشاط والبصيرة اليقظة الساهرة، وإنما أردنا أن نرى معارضة مجدية علينا، مهذبة شريفة، كما ابتغى الوزير وتوقع؛ حتى نتم بها ما نقص، ونقصرها على سد ما قصرنا فيه، وننتصح بنصيحتها إذا أعوزت النصيحة، ونسير على هديها في ظلمة موقفنا؛ فلم نجد من كل ذلك ولا أثارة من عقل ، ولا ظلا من رشد؛ فاستحقت هذه المعارضة المخلوطة في ذهنها المتساقطة عياء وضعفا من أثر النقرس الذي يفت في ساقها، وتسري برودته في جميع نواحيها؛ حتى تعيش من نفسها في المنطقة المتجمدة، وأهلها تحت سماء حارة، وشمس ذات وقد. نعم، ما كانت هذه المعارضة إلا لتستحق الاستخفاف بها ما دامت لا تزيدنا شيئا، ولا تنقص من أمرنا شيئا.
والحجة التي يستعد بها هؤلاء المعارضون على الوزارة، ويحرشون بعض القوم عليها قولهم: إن الأحكام العرفية لا تزال باقية بقوتها وبطشها في أمة قد استقلت بنفسها، وملكت زمام أمرها؛ فلم تغب عن ذهن الوزير حجتهم تلك، ولم ينس خشيتهم هذه، فألم بها في خطبته، واعدا الأمة أن يجد طريقه إلى رفعها، وإراحة البلاد من أثرها، وأن الأمة خليقة بأن تعينه على مطلبها باعتزامها الهدوء، وأخذها بأسباب النظام، وإخلادها إلى السكينة في ظل القانون؛ حتى تقنع واضعي تلك الأحكام أن ليس بها من حاجة إلى إبقائها، ولا ضير عليهم من زوالها؛ لأن أمر إلغاء تلك الأحكام في يدها، وفي القضاء على عوامل الفتنة والاضطراب، ولكن منيت هذه البلاد بأنفس شريرة، وأرواح خبيثة تستتر تحت حجب الظلام، وتحاول إضرام نار الفتنة، وتعمد إلى اغتيال الأبرياء، وكلما ساد السكون في ربوع هذا البلد ردحا من الزمن، واستتب النظام، وعم الهدوء، حتى كادت الوزارة تتحين الفرصة السانحة لإظهار حسن موقف الأمة، والاستناد إلى سكينة الشعب في العمل على تعفية آثار القوانين الاستثنائية، لم نلبث أن يدهمنا حادث سيئ، وتقع غيلة جديدة، وينبري رجل مفتون فيفسد تلك الفرصة، ويقضي على تلك السانحة، ويحرج موقف الأمة والوزارة معا، ويثبت عقيدة الإنكليز في وجوب بقاء تلك الأحكام على حالها، والتزام العمل بها، والالتجاء إليها؛ لقمع هذه الروح الفردية القاتلة المجنونة المتمردة، وقد تضعف هذه الحوادث الأليمة من حجة الوزير، ودفاعه ونضحه عن واجب الأمة، وسعيه لإلغاء الأحكام، وإبطال القوانين الاستثنائية، فإذا كانت الأمة تريد حقا أن تزال عنها، وتتحرر من شرها، كان أولى بها الاعتصام بالسكينة، وإذا كانت الأمة لهذه الأحكام العسكرية كارهة مجتوية باغضة، فإن الوزير لها أكره، وأشد اجتواء، وأبغض الناس لأثرها في أمته؛ لأنه يأبى أن تكون في البلاد سلطتان، ويمشي في القطر حكمان؛ لأن عظمة نفسه لا تقنع بنصف الحكومة، وترى النصف الآخر معتديا على حقه هو وسلطانه، ولا يرتضي لنفسه أن يرى عملا في الأمة لم يشترك هو في وضعه، وأحكاما لم يسأل رأيه في إنفاذها؛ لأنه لم يتول رئاسة الحكومة ليقنع من الحكم بلفظة الوزير الأول، وبكلمة الرئاسة الجميلة الوقع، بل إنه ليتألم الألم كله، ويثور في أعماق نفسه، كلما وقع في القطر حادث يوجب إنفاذ شيء من تلك الأحكام، وهو لا يريد أن يقف في سبيل إنفاذها، ويشتجر عليها مع أصحابها؛ فيفسد سمعة حكومته، ويرمي وزارته بتشجيع الفتنة، والرضى بأعمال القتل والعنف.
ولقد كان الوزير قاضيا، وجلس من قبل في مساند القضاء، واشترك يوما في اشتراع القوانين، واستنان الأنظمة، وكانت روح العدل التي استمدها من الجلوس في مجالس القضاء تأنف من هذا الحكم العرفي الذي لا يستند على نظام، ولا يجري على سنن؛ ولا يمشي على قصد، بل هو في نظر القانون خروج على القانون، واعتداء على سلطته، واستخفاف بمنصبه، والحكم الذي لا يهب المتهم الواقف أمامه شيئا من الحرية للدفاع عن نفسه، ويخشى على نفسه قبل خشيته على المتهم الذي حياله، لا يصيب من رجل مشترع غير الاستنكار والاشمئزاز.
وقد صدرت في خلال الحرب، وبعد سكون تلك المجزرة تشريعات هامة، استمدت سلطة القائد العام لتكون سارية على الأجانب والمصريين معا، وحيل بين المحاكم الأهلية والمختلطة، وبين النظر في مسائل داخلة في اختصاصها، وتولتها محاكم عسكرية؛ فأصدرت أحكاما، وأنفذت قرارات بنيت على أساسها حقوق وتعهدات، وصدرت أوامر إدراية، وتدابير تتعلق بالأمن، أو النظام العام، واشتركت هذه السلطة في أعمال التشريع، والقضاء، والإدارة العادية للبلاد بسبب الامتيازات الأجنبية، وبسبب نشوب تلك الحرب، فضلا عن المركز الخاص الذي تهيأ بسبب معاهدات الصلح؛ فأصبحت تشبه النظام العادي، بالرغم من أن الأحكام العرفية بطبيعتها أداة استثنائية .
وقد قال الوزير: «إن ما بني على هذا النظام لا يلبث أن ينهار، ويتداعى بناؤه إذا زال أساسه، فإذا ألغيت الأحكام العرفية سقطت كل التشريعات التي اتخذت بمقتضاها، وأصبح من الممكن أن تنقض كل الحقوق المدنية التي بنيت على أحكام تلك السلطة وأوامرها، بل يصبح من الممكن أيضا أن تفتح على السلطة أبواب مسؤولية واسعة، ولم يصبح أمر إلغاء الأحكام العرفية مرهونا بإرادة السلطة العسكرية، بل هو اليوم بيد الحكومة المصرية من وجهة المبدأ، ولكن الشروط التي لا يشك أحد في وجوبها لإلغاء تلك الأحكام لا تتحقق بين غمضة عين وانتباهتها، وليس منا من لا يرغب في إلغاء الأحكام العرفية، وهذا تأخير، ولكن كل منا يشعر بأننا لا يمكننا إلغاؤها دون إقرار التصرفات الماضية، ولا عبرة بما يراه غير المسؤولين الذين يرون أنه يكفي أن تطلب فتجاب.» «عرف الناس ذلك، وسمعوا أنه يجب إصدار قانون لإقرار التصرفات الماضية، فقال قوم: إنه إنما أريد به تقرير الحماية، وتنظيم أحكامها، وهم يعلمون أن ذلك القانون لا يخرج أمره عن أن يكون تصفية للماضي، ولا علاقة له بالنظام المستقبل، وتسمية هذا القانون بقانون التضمينات هي التي أفسحت المجال للمضللين أن يذهبوا في التأويل ما شاءوا، وحقيقة الأمر أن ذلك القانون يسمى بالإنكليزية
Bill of Indemnity ، ومعناه الصحيح: القانون الذي يقيل من المسؤولية ويرفعها.» «على أن بعض الذين يشكون من وجود الأحكام العرفية، ويطالبون بإلغائها يعملون في الوقت ذاته على عرقلة مساعي الحكومة في ذلك، وقد وعدت هذه الوزارة بأنها اعتمادا على حسن موقف الأمة ستسعى في الحصول على الرجوع فيما اتخذ من التدابير المقيدة للحرية طبقا للأحكام العرفية، ولكن الذين لا يرعون حرمة الأمة يحرضون على الفتنة، ويشجعون على الإخلال بالنظام، وأعمال التهييج والاضطراب، فهل ترون في ذلك شيئا من الخير للبلاد؟! ولكن هذه الحكومة لن يمنعها مانع من القيام بواجبها، وستمضي في عملها بما تمليه عليها ذمتها وضميرها، ولا تلقي بالا لهذه الحركات التي لم يقصد بها وجه الله، أو مصلحة الوطن؛ حتى إذا فرغت من عملها، وتقدمت به إلى الأمة أدرك كل باغ ومعتد أن صفحتها بيضاء، وأن إخلاصها عظيم.»
هذه عدة الوزير، وتلك عهوده، وما كان الرجل العظيم ليعد الناس ثم يخلفهم، ولم تصب العظمة في تاريخها برجل ضعيف الذاكرة ينسى ما قال، ويمطل الناس ما يعد، ويسكتهم بالمنى الكاذبة لينال منهم ما يريد، ولا يريد أن ينالوا هم منه شيئا، وليست ضعف الذاكرة تعيش إلا بجانب ضعف الذهن؛ لأن الذاكرة لا تزال حجرة من حجرات العقل، فإذا كان هذا واهي الأساس، متداعي البناء؛ ضعفت تلك وتساقطت، ولم تستطع تماسكا، ولم تقدر على النهوض بنفسها، ولن يتحلل صاحب الترجمة من تلك الدعوة؛ لأن في ذلك التحلل إهانة لضميره، ولن يرجع فيما قال؛ لأن الرجوع في القول ليس من ديدنه، وإنما هو يتمهل للفرصة، ويضع الأمة تحت الاختبار، وهو منجز وعده يوم النجاز، بار بعهده يوم توفى العهود، فأما أولئك الذين يريدون أن يستعجلوا القدر، وينفذ ما تريد الأمة في طرفة عين وانتباهتها كما قال الوزير ووصف، فأولاء ليسوا مخلصين في استعجالهم، صادقين في احتثاثهم بيض النية في إغرائهم، وإنما هم يتخذون هذه الشكاة ذريعة، ويستمدون من أناة الوزارة عجلة السخط، ومن حزم الوزير طيش الطلب، على حين يدركون أن أمتهم اليوم في عصر تطور اجتماعي خطير، تغشاه المخاطر، وتحف به الخطوب، وأن الحكومات في عصور كهذه لا يخلق بها العجلة، ومسارعة الأمور، والجري ركضا إلى التغيير والتبديل، بل لا غنية لها عن الحزم فيما تقدم، والصبر على معالجة ما بين يديها، وقد ترى الشدة واجبة في حين يرى القوم الملاينة حاسمة، ولا يكون لهؤلاء القوم من مأرب في تلك الملاينة، ومقصد إلى حض الحكومة على العرف والرفق، إلا لتفسح المجال لهم حتى يركبوا رؤوسهم، ولكي تخلو الطريق أمامهم لمتابعة أهوائهم؛ إذ تكون الحرية الفسيحة الميدان الموسعة، الموطأة الأكناف مفسدة، ومبعثا للخطر، ومثارا للفتنة والشغب، والبلاء المحقق.
في سبيل البرلمان
عهد صاحب الجلالة الملك في أمره الكريم الذي وجه فيه رئاسة الوزارة إلى صاحب الدولة ثروت باشا بإعداد مشروع النظام الدستوري لهذه البلاد، وقال له في نطقه الكريم: أن يعمل على أن يكون ذلك النظام كفيلا بأن يحقق مبدأ التعاون بين الأمة والحكومة.
فكان أول ما توفر عليه الوزيران يحقق تلك الرغبة، وينفذ ذلك الأمر غير متوان، ولا متمكث، ولا متمهل في الانصياع إلى أمر الملك، فلم نلبث أن شهدنا الحكومة تجد دائبة جهدها لتضع للبلاد تلك الأنظمة التي تسقط الحكومة الماضية عن سيطرتها القديمة، وتدنيها إلى الشعب، وتجعلها راكعة عند قدمي الأمة، نازلة على أمرها، متلقية منها إرادة الحكم، وكلمة السلطان، وقد اعترف هذا الملك الدستوري الذي لم يعش في ماضي حياته يوم كان يلقب بلقب الإمارة، وينعت بنعوت السمو على أرستقراطية الأمراء، ولم يخلد إلى عزلة النبلاء، وينكمش إلى عيشة القصور، ويتجلى بكبرياء الملوك وأشباه الملوك، بل لقد عرفناه في ماضي حياته، وفي بضع السنين التي اعتلى فيها منصب السلطنة، رجلا ديمقراطيا يحب الشعب، ويعمل للشعب، وطالما ألفيناه يضع يده في خدمة الأمة، ويلقي باله وعنايته في سبيل رقي الحضارة في وطنه، وإعلاء كلمة العلم في ربوع بلاده، ولقد أشرف على جامعة الشعب أميرا، ورعى العلم وأهله سلطانا، ونزل إلى الأمة خادما، كما نزل فردريك العظيم، يوم نودي به ملكا، وهو لا يدين بعقيدة الملوك الذين يدعون أن مناصبهم إلهية، وأنهم جاؤوا من قبل ملك السماء؛ ليكونوا بالنيابة عنه ملائك الأرض، بل هو يزري بهذه العقيدة التي لم تصل إلى السماء، ولم تسقط إلى الأرض؛ لأنها لا تجد هناك مكانا، ولا ترى لها في هذا الكوكب عابدين قانتين، وإن رأت لها في الناس مالقين منافقين، وهو لم يكن يوما ممن يؤمنون بحقوق الملوك المقدسة، بل يعلم من نفسه، ومن الروح الديمقراطية التي نشأ عليها، ومن الوسط الذي تربى فيه، ومعاهد العلم، والجامعات التي درس في باحاتها، أن عقيدة الحقوق المقدسة قد أصبحت اليوم عقيدة حقوق البرلمانات المقدسة، وهو يدرك أن لويس الرابع عشر، الملقب بالشمس على عظمة سلطانه، ومجد مملكته، واتساع مدى حكومته، لم يكن يوم قال كلمته المعروفة عنه ... «أنا الحكومة!» أروع ولا أعقل، ولا أحكم، ولا أنصف من فردريك ويليم في كلمته المتواضعة الشعبية المخلصة المفعمة ديمقراطية متينة، وروحا صادقة، متفانية في أمتها، وهي: «أنا خادم الأمة!»
وإذا كان مليكنا المحبوب ينزل إلى شعبه، يتقرب من أمته، ويسعى سعيه المحمود لخير بلاده، فما كانت تلك كلها منه بالأمر المستغرب الذي يصيب من أهل هذا العصر دهشتهم وحيرتهم، فقد عاش أكثر شبيبته في بلاد الغرب، وعرف كيف يحترم حقوق الشعب، ويقدس حرية الأمة، وهو الذي نشأ في إيطاليا التي جاهدت عدة السنين في سبيل الظفر بحريتها، وديمقراطية أنظمتها، ومجلس برلمانها، ثم لا يزال الإخلاص إلى الشعب، والدأب على مصالح الجماهير، والسهر على رعاية شؤون الأمة في دمائه متغلغلة في صميم روحه، آخذة بكيانه، متمكنة من مزاجه الطبيعي؛ لأنه سليل ذلك الأمي العظيم الذي بز العبقريين، حفيد ذلك الرجل الخطير الذي أدهش أساطين العلم، بأمية غريبة؛ هي أجل وأروع من كل ما أخرجته الأذهان الجبارة، وأنتجته العقول المريعة الفياضة.
ولا تزال تلك الأمية التي «كتبت» لنفسها المجد، ورفعت مصر إلى مصاف أكبر الأمم، وعمت هذه البلاد نورا وعلما، وقوة وفخارا، هذه الأمية التي فتحت المدارس الكبرى، وبعثت البعوث، وأرسلت الإرساليات إلى جامعات الغرب، معجزة من معجزات العبقرية القوية بنفسها، التي لا تجد لها من غيرها غذاء، ولا تستمد من المواهب المكتسبة ما ينميها، ويكمل جوانبها، ويجمل حواشيها، بل هي عظيمة من نفسها، جليلة بمبتكر جلالها، تستمد ريها من تلك الدماء القوية الخالصة التي تجري في عروقها، ومن الروح الخشنة المستحصدة المفتولة التي أشبهت التربة التي نبتت منها ... تلك الصخور الشم التي طلعت من ناحيتها، وذلك الجو الجاف القاسي الذي اشتمت هواءه، وتلك التربة الصلبة التي ظهرت فيها، ولقد خرجت تلك العبقرية في العصر الذي وثبت فيه على ألوف من الأميال منها عبقرية أخرى حربية مثلها، ولكنها كانت جندية، لا يزال نصف عبقريتها وليد «سان سير»، ونتاج الفنون التي تعلمتها في المدرسة ، وتلقنتها على عديد الأساتذة، ولكن عبقرية محمد علي العظيم كانت أنبل وأمتن وأغزر من العبقرية البونابرتية؛ لأن تلك لم تحطم نفسها، ولم تكسر على منزع الغرور جناحها؛ ولم تنطح الصخر برأسها، بل توفرت على إصلاح أمة، وانكمشت إلى ترقية شعب، وتفانت في سبيل خير مملكة، فمضت بذكرى طيبة؛ وأثر صالح، ولم تمت كالعبقرية النابوليونية عقيمة جدباء، غير ذات زرع وثمر، مريضة محصورة، حبيسة في جزيرة قفر نائية.
نعم، لقد اعترف ملكنا المفدى لأمته بحقها عليه؛ ووهبها من نفسه ما كانت تصبو إليه، ونزل لها عن ملكيته لديمقراطيتها؛ وأوحى إلى وزيره الأول أن يعمل لنظامها، ويغلب حقوقها على حقوق وزارته، فحق على الأمة أن تلتف حول عرشه، وتؤيد ملكه، وترفع علم الإخلاص إلى سدته، وحق على الوزير أن يدين له، ويستهل خطابته بالوفاء إلى العرش، وتأييد صاحب الجلالة؛ فالأمة كلها اليوم صافة حول مليكها، تفتديه بأرواحها، وتؤيده بقلوبها، وترفع أكف الضراعة إلى الله أن يحفظ جلالته، ويرعى عرشه، ويعلي شأن بلاده، ويمده بقوته، ويتم في عهده عصر النور والحرية، والنظام، والرفاهية، والاستقلال.
ونحن نعلم أن الملك في أمره الكريم قد نزل للأمة عن مطلقية حكمه، ووهب صاحب التاج شعبه دستورها، فهو صاحب الحق قد منحه، وسيد الدستور؛ ومؤسس الديمقراطية؛ وكان هو الذي أحق بأن يشرف على وضع الدستور، ويعهد إلى حكومته بأن تقوم على تنسيق أساليبه، ووضع خططه، ولكن لم تكد الحكومة تبدأ العمل، وتخطو الخطوة الأولى، حتى ثارت في البلاد دعوة غريبة، وخرجت فكرة طائشة، ووقف وراءها قوم يؤيدونها، ويحشدون أساليب الدفاع عنها، وهي تأليف جمعية وطنية، ينتخب أعضاؤها من أفراد الأمة لتضع دستور البلاد، وتهيئ أنظمة التشريع والتنفيذ، حتى إذا أتمت عملها، وأكملت ما وكل إليها؛ انفرطت، وتلتها الانتخابات العامة لمجلسي الشيوخ والنواب، وما أقاموا نظريتهم تلك، وما أسسوا فكرتهم التي بسطناها إلا على حجة واحدة، وهي أن الأمة ينبغي أن تقيم أساس الدستور الذي تريده بنفسها؛ ولا ينبغي لأحد أن يشرف عليها في عملها، ولا صاحب الحق نفسه ، ولا الوزارة التي قامت بأمره، ولا يجب أن يكون ثمت حدود لرغبتها، أو مرشد يرشدها، أو أمثلة عليا تقدم إليها لتحتذي حذوها، ولم يكن أولئك الذين بثوا تلك الفكرة، وحاولوا ترويجها؛ قد أصابوا بها الحق، وسهلوا بها مصاعب العمل، وذللوا الطريق إلى بلوغ الغاية، بل لقد أرادوا أن يفسحوا بها مجالا واسعا للأنانية، ويرسلوا في البلاد ريح الفتنة، والاهتياج السياسي، والتطاحن بين أفراد الشعب على نوال صوت من الأصوات في تلك الجمعية الوطنية، كأن لا حساب على الوزارة من هذا الدستور نفسه يوم يعمل به، ويوم تقف أمام نواب الأمة مسؤولة عما عملت، مطالبة بتبرئة نفسها، أو الدفاع عن خططها إن هي أخطأت، أو تبين للنواب أنها وهمت، وجارت، وأفسدت، وكأنها ستجمع لتأليف الدستور، وتنظيم أساليب الحكم جموعا من عامة الناس، وستسقط على أجهل الناس لتقول للأمة: هؤلاء أعلم القوم بأساليب الحكم، وأنظمة الدول، وآخر ما اهتدى الساسة والمشرعون إليه من شرائع الدستور، وكأنها تحسب تأليف لجنة لوضع قانون البلاد لا يزيد شيئا عن هيئة تكلف بتنظيم قانون لمحاكم الإخطاط!
ولكن كيد هؤلاء الناس لم يحدث في الأمة أثرا؛ لأنه ظاهر الغرض، بين القصد، ولأن النفوس التي تكيد به معروفة عند الشعب بسوء الدخلة، وسواد النية، ولم تحفل الوزارة بأن تقنع هؤلاء المحرشين، أو تدفع عنها كيدهم؛ لأنها تعلم أن الأمة لا تتأثر، ولا تتسخط ما دام كل شيء سيبسط أمامها يوم يجتمع برلمانها، ويحتشد نوابها في صعيد واحد.
وكذلك تألفت لجنة لوضع الدستور قليلة العدد؛ لأن كثرة العدد لا تجدي في أمر كهذا، ولا تفيد، ممثلة فرقا متعددة من الشعب، وطوائف مختلفة؛ لكي يدفع كل ممثل إلى إخوانه برغائب فرقته، وأهل صناعته؛ والوسط الذي يعيش فيه.
ونحن نعلم أن كثيرين من أعضاء اللجنة ظفروا فيما مضى من تاريخ الجمعيات التشريعية في هذه البلاد بمقاعد النيابة عن دوائر مختلفة، وطوائف متعددة، وتمثيل مصالح فرق كثيرة من هذا الشعب، وطبقات عديدة من الأمة، وفيهم أصحاب العقول الناضجة، وأهل الاطلاع الواسع، والمادة الغزيرة ، وفيهم العلماء والروحيون، والمحامون، والقضاة، والكتاب، والفنيون، والسروات، والمزارعون، ورؤوس القبائل والعشائر، والمتكلمون عن الألوف، وقواد المئات من أهل البلاد، ولكن لم تكد مذكرة الوزير تنشر على الأمة، ويعرف القوم أسماء الأعضاء، حتى انبرى جمع قليل ممن نعرفهم يتصدون لكل عمل صالح ليهدموه، وينبرون لكل فكرة منتجة ليعطلوا نموها؛ فتناولوا هذه الأسماء بالنقد والتجريح، وهم يعلمون أنهم بذلك يبعثون في القطر صيحات الفتنة، ويكرهون طبقات الأمة في بعضها البعض، ويسعون بالبغضاء بين الفئة والفئة، والنفور بين الفرقة والفرقة؛ لأن لكل عضو من هؤلاء عددا عديدا من الأمة يناصرونه، ويعيشون تحت زعامته، ويفزعون إليه في ملماتهم وشؤونهم، وأحوال حياتهم، وكل رجل من هؤلاء إذا غضب غضبت لغضبه ألوف من الناس، لا يدرون لم غضب، وهؤلاء أحرص الناس على كرامة رأسهم، ومكانة وليهم، وكلما سمعوا عنه ما يكره كرهوا هم من نقده، واستنفرهم الطعن عليه، واستفزتهم الحمية لأجله، ويوم تكون طبقات هذه البلاد أعداء بعضها البعض، ومجاميع الأمة متجنية على أخواتها، ولداتها، والأمة متنافرة متطاعنة، متسابة متشاتمة، وتنقلب الروح النيابية التي تريد أن تزكو في هذا الأفق، وتمتن وتنمو، وتثبت في مكانها؛ فوضى هوجاء طائشة اللب، مخلوطة الذهن، عمياء صماء، لا تستمع للعقل، ولا تبصر أين مواضع الرشد.
وقد جعل بعض هؤلاء القوم الذين نقدوا انتخاب الوزارة، وقدحوا في اختيار هؤلاء الأعضاء، يتلومون وينبعثون قائلين: إن منهم من لا يعرف مبادئ القراءة والكتابة، كأنما غاب عن الوزير علم ما علموا، ونسي إذ اختارهم شخصية من اختار، أو أملي عليه أن ينتخب من لا يعرف، ويذكر في مذكرته من يجهل حقيقته، ولا يدرك شيئا من ماضي حياته، ونحن نقول لهؤلاء المتعلمين الذين رموا بعض هؤلاء الأعضاء بالأمية: إن أميتهم تلك أنبل وأشرف قصدا، وأعز في الوطنية مكانا، وأثبت في البلد قدما من علمكم هذا، وسعة اطلاعكم تلك، فذاك علم خائن دساس، ملوث الروح، مساء الاستخدام، شرير النزعة، رمحكم يوم ركبتم ظهره، وأعنتكم يوم أردتم إظهاره، وطوح بكم إلى منازع الطيش، وركض بكم في حلبة الغرور، والنفج، والعزة الآثمة، ومن الأميين في هذه البلاد أذهان قوية، تستمد عظمتها من الفطرة، وتنمو على الخبر والتجربة، وتعلمها الحوادث ما لا تعلمون قليلا منه من الكتب، وفي طبقات الفلاحين والصناع في بلدنا، وهم سواد الأهلين، وأغلبية السكان وطنية أمية من ناحية أذهانها، عبقرية من ناحية قلوبها، وللقلوب والعاطفة الإنسانية عبقرية حارة ملتهبة، لا تستطيع الكتب أن توقد جزءا ضعيفا من لهيبها وحميتها، أو تخلع على قرائها شيئا يداني ذكاءها ولباقتها، وسرعة إحساسها، وتنبهها لما يفيدها، ومعرفتها لما يضيرها، وفي الناس عظماء أذهان تنهض على قلوب من الطين، وأرواح متأودة ضعيفة، شريرة خبيثة المنزع.
ونحن نعلم كذلك أن الرجل في بلاد الغرب لا ينبغي أن يكون متبحرا في العلم، واسع مادة الاطلاع، أستاذا في فنه، عارفا بالجغرافية، والتاريخ، والبيولوجيا، والفسيولوجيا، وما إليها من مختلف العلوم قبل أن يرتفع إلى مجلس الإنابة، ويظفر بمقعد له في البرلمان، بل لا يزال في مجالس نواب الإنكليز، وغيرهم من أمم الغرب نواب لا يعرفون شيئا أكثر من أنهم جاءوا بالنيابة عن القرية، والولاية التي ولدوا فيها، وطالت زروعهم في أرضها، وامتلكوا مساحة واسعة في إقليمها؛ فهم يدافعون عن الإقليم بوحي الإقليم، ويرعون مصالح أمتهم في البرلمان بألسنة الولاية التي جاؤوا منها، وقد يكون هؤلاء جميعا من القرويين؛ فلم يروا غير قروية نبيلة، ذكية الفؤاد، وإن لم تؤت شيئا كثيرا من العلم؛ فآثروها على غيرها، وأنابوها عنها في رعاية شؤونها.
وكذلك كانت هذه القروية البادية التي ظهرت في لجنة الدستور؛ فهي لم توضع في تلك اللجنة إلا لتكون صوتا يعبر عن خواطر مئات الألوف من المزارعين، والعاملين في الأرض، وهي تعرف ماذا تريد الأمة، وإن لم تقرأه أو تكتبه، وتدرك مطالب الشعب، وإن لم تتصفحها في تلك العرائض، والاحتجاجات، والمقالات، والأبحاث الكاذبة المتظاهرة المتكبرة، المزهوة بعلم أصحابها، ونفخة كتابها، وهي تستهدي بما يقال أمامها؛ لتدلي بما يقول لها ضميرها، ويكلمها به وجدانها، وما كان صوت الضمير شريرا فيخطئ، وما كان إلهام الوجدان كاذبا فيؤذي ويضر.
ومما تناولته اللجنة في جلساتها موضوع الأقليات، وهي كلمة لم نكن نعرفها، ولم نشعر بوجودها يوم تناولنا عقائدنا الدينية من مكانها، وألقينا بها في زاوية من جوانحنا، وقلنا: ديننا الأول وطننا، وأن مصر للجميع لا للعقيدة دون العقيدة، ولا لملة دون ملة، وطائفة قبل طائفة؛ لأن جامعة الوطن أمتن من جامعة الدين؛ فتلك تستمد متانتها وصلابتها وقوتها من الأرض التي نبتت منها، وارتبطت بها، وهذه لا سبب لها إلا من السماء؛ وإن جامعة الوطن هي علاقة الفرد بالفرد، والأخ بأخيه، والعشير بعشيره، وإن جامعة الدين ليست إلا الرابطة والعلاقة بين الله والناس، وهذه صلة خفية كمينة مستسرة في أعماق النفس، تطلع إلى السماء، وتنظر إلى العالم المجهول، ولا حق لها أن تفسد ما بين أهل الأرض الواحدة، وأصحاب الوطن الواحد، ويوم انضوينا تحت علم الوطنية، ومشينا جندا محضرين لحرية البلاد، وتحرير أرضنا، لم يكن يخشى قليل كثيرا، ولم يتلجلج في خاطر فرد واحد منا أن أخاه يوم الحرية سيروح عاسفا حقه، ظالما له منكرا فضل وطنيته، جاحدا عمله، مستفردا بالتشريع، مغلبا حقه على حقه، ولكن السادة الإنكليز هم الذين خلفوا هذه الكلمة النكراء اللئيمة الطبع؛ أملا أن تثير في النفوس ألما، وتوسع لهم ثغرة ينفلتون منها إلى تفرقة الأمة، واستنفار بعضها على بعض؛ ليتواتى لها ما تريد، ويحق لها ما كانت تبتغي، ولكن هذه الأمة التي أصبحت تدين بدين الوطنية، قبل أن تكون قبطية ومسلمة ويهودية لم تعد تخدع بهذه الكلمات، أو يدق عليها مغازي السياسة، ومقاصد أساليب المستعمرين، فمرت تلك الكلمة ذاهبة مع الريح؛ لم تحدث أثرا، ولم تصل إلى مكان العقيدة من النفوس، وكانت هذه الأقليات نفسها التي تصدى السادة الإنكليز لحماية مصالحها، ونادوا برعاية حقوقها، أول الناس خروجا على الكلمة القلقة النافرة الشريرة الدنسة، واحتجاجا على أثارتها، وتفنيدا لمزاعم قائليها؟
ونحن لا يسعنا إلا أن نشهد لهذه اللجنة بتلك الهمة العالية التي ظهرت من جانبها، والتخفف للعمل، والتلبب للبحث، وادخار قوة التفكير، واستجماع الخاطر ، والغيرة في التدقيق، واستقصاء نقط البحث، واستيعاب المناقشة في أمهات المسائل، وإن أنكر عليها كل ذلك المتعجلون المتسخطون، كأنهم حسبوا أن وضع دستور البلاد عمل هين، حسبه عدة الأيام، وقلائل الأسابيع، وتكفي فيه الجلسة والجلستان، والمقنع في النظرة دون النظرتين، والرأي الفطير دون الرأي المختمر، وكأننا صبرنا على الذل والخسف عدة السنوات، والجيل والجيلين، وكادت الحياة تخمد فينا؛ وتعطل في كياننا روح السخط على ما كنا فيه، ثم يزعجنا أن نتمكث للأناة، ونصطبر الشهر والشهرين لإعمال الروية، ومتابعة الحزم، وطول التفكير، وتوفية البحث.
وقد استغرق وضع عدة أنظمة وقوانين صغيرة الأهمية بجانب وضع الدستور العام، وبعض العام، ولسنا الآن حيال وضع قانون الخمسة الأفدنة، أو أجور المساكن، أو حيازة الأسلحة؛ حتى يتألم قوم منا من الزمن الذي مضى على اللجنة إلى اليوم، وهي في عملها ذاك.
فلما أقبل الصيف، واشتدت وقدة القيظ، ووجبت الإراحة من العمل، وإعفاء اللجنة من متابعة الجهد في الصيف القائظ، الملتهب الأفق؛ عاد أولئك الساخطون يتذمرون، ويعبثون باللجنة، ويحسبونها ستنطلق من المدرسة للفسحة التي لا عقل لها، والعطلة التي لا تفكير في خلالها أشبه شيء بطلبة المدارس، وأولاد «الكتاب»؛ إذ لا يلبثون بعد الفراغ من السنة الدراسية، ودق ناقوس العطلة أن يعدوا إلى اللعب مارحين، هازئين بالحياة وبالدرس، وبما كانوا من قبل فيه من مذاكرة ومواصلة عمل، وإخلاد إلى كتبهم وكراساتهم، ولكن الأطفال يعيشون بضمير الطفولة، وأذهان السذاجة، وكراهية التفكير والملل من الرزانة والجد والتعقل، وهؤلاء الأعضاء لا يستطيعون أن يتخلصوا في ساع فراغهم، وفي خلواتهم إلى أنفسهم، وفي مشياتهم إلى النزهة، واستقبال نسائم الصباح، وعلائل الماء تحت الشجرة الظليلة، وعلى ساحل البحر الخضم، وفي الملهى المكتظ بالناس، وفي الضجيج والعجيج، والهدوء والسكون، من ذلك النداء الذي يسمعون صيحته من أعماق قلوبهم، يهيب بهم إلى التفكير فيما قدموا من عمل لأمتهم، والتروي، وتقليب ألوان الرأي فيما بقي عليهم أن يؤدوه، وفي الفريضة التي تحتم عليهم القيام بها، وهم يوم يعودون إلى العمل - وقد عادوا اليوم - يقبلون أقوى نفوسا مما كانوا، وأخف إلى العمل مما خفوا من قبل إليه، وفي جعبة تفكيرهم خواطر طريفة لم يكونوا في جلساتهم الأولى، ودورهم الماضي قد اهتدوا إلى مثلها، وآراء جديدة، ومواضع للنقد غابت من قبل عن أذهانهم.
والناس الذين تسخطوا، والقوم الذين استعجلوا، يدركون ذلك كله، ويعلمون جميع هذا وغيره، ولكنهم يتذرعون بكل وسيلة، وإن وهت ورثت أسبابها لنقد الوزارة، والإساءة إليها، وتحريش الأمة بها، ولكن الوزارة لا يسوءها شيء مما يقولون، ولا يسوء ظن الأمة بها لما يدعون؛ لأنها تعلم أنها لا تلبث أن تحمل بيدها إلى مجلس الإنابة بسطة ما قدمت وأخرت؛ إذ هي ليست السلطة المطلقة آخر الحياة؛ وليست اليد المحركة طول العمر، وقد اجترأت على احتمال عبء المسؤولية، وستسأل عنها، وعن الأمانة فيما أودع من حق الأمة في ذمتها، فليقل هؤلاء ما تشاء أنفسهم أن يقولوا، فإن الأمة مجتمعة في ندوتها، قائلة بعد ذلك كلمتها، صادعة بحكمها الفصل، وقولها الذي لا نقض له. •••
وكذلك ظلت هذه اللجنة جادة في عملها، غير مستمعة لشيء غير ما تمليه عليها وطنيتها، وقد ألقي إليهم عمل خطير، وقلدوا منصبا تعتوره المسؤولية من جميع جهاته، ولم يكونوا بالقوم الذين يستهينون بعملهم؛ فيمضون فيه ركضا، ويوفضون فيه مغذين السير، لا يهمهم غير أن ينتهوا منه على أي وجه ساروا به، وأية نتيجة ستكون منه؛ لأنهم في موقف من مواقف الظفر بالخلود؛ إذ يضعون للأمة الخالدة مشروعا لدستور خالد، ويدركون أنهم إذا قصروا وتهاونوا فلن يصيبوا غير سوء السمعة، واحتقار الشعب، وهم من سعة الإدراك، ونبل الوجدان، وشرف العاطفة، وصدق الوطنية بحيث لا يتقبلون أن تجرح كرامتهم إذا جلسوا مجلس المذعان إلى سلطان غيرهم عليهم، وما كان صاحب الترجمة وهو هو عزة نفس، وسمو وجدان، ومتانة إخلاص بالرجل الذي يعمد إليهم مجتمعين أو منفردين فيهمس لهم في آذانهم أن اكتبوا في الدستور هذا، وامحوا ذاك، وتشبثوا بتلك، وعارضوا سوادكم في هذه؛ لأنه لا ينزل نفسه هذه المنزلة، ولا يرضى أن يكون الهامس المشاء بالخديعة ، وهو لم ينتخبهم من الطريق حتى يكونوا أداة صامتة تتحرك بمشيئته، وليس لهم من وراء عملهم جعل فيغريهم أن يزيدهم عليه جعلا، وليسوا يسألون جزاء فيكال لهم الجزاء كيلين، وإنما هم يتوقعون أن يرضوا الأمة، وإن أسخطوا الوزارة، فهم يخشون إذا هم انحرفوا عن هذه البغية، وسلكوا غير هذه السبيل أن لا يصيبوا منها غير السخط، والغضب واللعنات.
ولهذا لا غرو إذا كان الوزير وأعضاء اللجنة قد مضوا في عملهم قدما، لا يثنيهم شيء عن واجبهم، فأما الوزير ففي سبيله إلى رد حقوق الأمة كاملة، وإن جشمه هذا الواجب كل مصعبة، وركب له كل شامس جموح، وأما أعضاء اللجنة فمنكمشون إلى مهمتهم، مرتقبون أن يحسنوا إلى أمتهم غير مسيئين إلى أنفسهم، ومكانتهم فيها، وسيرى الله أعمالهم، وستشهد الأمة غدا ما فعلوا، وها هم أولاء قد أوشكوا أن يتموا العمل، ويفرغوا من سن قانون الانتخاب، فإذا ابتدأت الانتخابات للمجلسين النيابيين فلن تشترى رجال من الأمة ليبيعوا الأمة كلها، ولن تدس هذه الوزارة يدا خفية تحت الانتخابات؛ لتجتمع لها في مجلس الإنابة الأبواق، والقيثارات، والأعواد مترنمة بها، حتى تكون الندوة مصلحة من مصالح الحكومة، للتغني بعمل الحكومة بجملة مصالحها وإداراتها، فإننا لا نظن هذه الأمة التي تصرخ طالبة الحياة الصحيحة المكتملة الناهضة بائعة غدا نفسها للمشتري، وإلا إذا هي فعلت فقد سجلت على نفسها خجلة مناقضة، شائنة معيبة سافلة، وليس هذا الوزير بالرجل الذي تسول له نفسه أن يفسد على هذه الأمة خلقها؛ لأن فساد الخلق لم يمتزج بنفسه، حتى يجعل الأمة صورة من طبائعه، ومرآة تتراءى فيها نفسيته؛ بل هو لا يملك في هذه الأمة غير وجدانه، وجهده ونيته، واعتزامته، وللأمة ضميرها طليق، لا حكم لأحد عليه، وهي قمينة أن تتبع ضميرها، فلا تنتخب غير من تريد ليكون لها في ندوة الإنابة ما تشاء من سلطان، فلن تكون حلقات الانتخاب أسواقا للمتاجرة بالأصوات، ولن تجد الحكومة دلالين يقفون على ثنيات السوق، وتلعاتها؛ ليظفروا لها بالمشايعين، والممالئين في المزاد؛ وما دام هذا الوزير رجلا نبيلا كما عرفناه، شريف الدخلة كما تبينا من خلقه، وما دامت الأمة حريصة على مطلبها المقدس، وغرضها الأسمى، فالحرية في الانتخاب مكفولة، ومجلس الإنابة غدا مكتظ بالنواب العاملين الأحرار، الصادقين في الوطنية والجهاد ...
الخاتمة
ما كان لنا أن نكتب اليوم كلمتنا هذه عن المترجم به، وما كان لنا أن نستعجل القدر، ونستقدم من عظمة هذا العظيم ما تأخر، فغدا سيسجل التاريخ، وغدا سيشهد الزمن، وفي غد سيكتب الشعب، وتدون أقلام الخلود، ويفتح سجل الأبد، ولكنا قسنا بما كان ما سيكون؛ وتوسمنا فيما فعل الخير فيما سيفعل؛ فإن عظائم الفعال لا تزال أمامه، وحسام الأمور على مرتقب منه، وفي العمر - إن شاء الله - بقية، وفي الأجل نسيئة، ومن قوة الرجولة مدخر، ومن النشاط والخفة إلى خدمة هذه الأمة مجتمع ومختزن، ولقد أدى الوزير لبلاده أعظم صنيع، وأسدى إليها أكبر منة، وفي الحق لقد تجلت مقدرته السياسية في فترة قصيرة محرجة، عصيبة رهيبة، بما لم تتجل به عبقريات أكبر ساسة الدنيا في بضع سنين، وعلى فترة من الزمن متراخية متطاولة، حتى لقد عجز الخصوم الذين حاولوا أن يفسدوا عليه عاطفة أمته، فلم يبلغوا شيئا مما أرادوا، عن إنكار مقدرته، وتجاهل قوة عارضته، وجلال بديهته، وسعة حيلته، ولم يستطيعوا أن يكذبوا على مواهبه، أو يدعوا الجهل بعبقريته، وحدة تفكيره، وسرعة إنفاذه، وتوقد ذكائه.
وكان خليقا بأمة كأمتنا أن لا يكون فيها فريق يختصم فريقا، وحزب يناضل حزبا، وأن تصبح الأمة - كما رأينا - طرائق وشيعا، كل يقول: زعيمي بالزعامة أولى، ورأسي بالولاية.
ولقد كنا أقوياء ملتئمي الصفوف، مكتملي الوحدة، مؤتلفي القلوب، متصافي الأفئدة، يوم الثورة الكبرى، وعهد النهضة المتقدة الجياشة، المستعرة يوم طاح الردى بالشباب، وسكن الذين اضطجعوا تحت الثرى دفاعا عن الذين فوقه، وكنا خلقاء بأن نكون اليوم أكثر اتحادا، وألم شعثا، وأقل خصومة، وأجمع كلمة؛ حتى تتم لنا بقية الحقوق، وتتحقق جملة المطالب، وحتى نناضل صفا واحدا الغاصب، ونقف سدا في وجه العدو، ولكنا وا ضلتاه لا نزال نقول وزاريين ومعارضين، وحكوميين ومتخاصمين، والوطن واحد يطالب أهله أن يكونوا شيعة واحدة، ومصر للجميع، وحقها على الجميع، وكان الجمع كله مخلصا، والشيعة بجملتها بالعقيدة الوطنية مؤمنة.
وما أردنا - علم الله - بهذا الكتاب كما قلنا في مستهله أن نرفع هذا الوزير، وأنصار هذا الوزير على مكانة أحد، ونهدم من هذا الوطن جانبا لنعلي بنيان جانب، فإن سعدا وصحبته، وثروت وفرقته كلهم بنو أب واحد هو النيل العظيم، المستفيض الضاحك المبتسم، وأولاد أم واحدة هي مصر، هذه العزيزة الحبيبة إلى كل نفس، ولم نضع كتابنا هذا ليكون قصيدا جميلا خالي النزعة، كاذب الدخلة، فما كان هذا نصب عيننا يوم أمسكنا بالقلم، ولا نحن بالخارجين على الأمة فننادي الجميع إلى الخروج، ولا بالذين يمشون في الصفوف بكلمة الفرقة، والنفار، والاضطراب، والخصام، والاشتجار، بل رأينا الروح الحزبية الهوجاء المقيتة قد سرت في النفوس، واستحوذت على المشاعر، ودين الوطنية الصادقة قد خرج عليه ألوف من الملاحدة، والناكرين، والكافرين، وهذا شر ما تصاب به أمة في بهرة حركتها، وأقتل ما تفجع به بيئة في مستحر نهضتها، ولكن الحق قمين بأن يبدو لهؤلاء الذين أنكروه، وخليق بأن يعيد إلى الأمة من عارضوا أنصارها، ومشوا بالخصومة بين أهلها.
اللهم ما ظلمنا أمتنا، ولا أنكرنا عمل مخلص من أبنائها، ولا جحدنا فضل زعامتها، ولكنا أردنا أن نقرب بين الأخوين، ونمتهد للحق طريقا معبدا، وننادي الناس إلى إكبار شخصية عظيم من عظمائنا لم يأثم، ولم يقعد عن السعي في سبيل أمته، ولم يمالئ عدوا على وطني، ولم يحاول قتل وطني لإحياء عدو، وقد برزت هذه الشخصية إلى الميدان قوية ناهضة منتعشة، تسعى إلى الخلود؛ فكان حقا على الأدب أن يظهر للناس ما خفي من هذه العظمة المقدسة الإلهية.
Shafi da ba'a sani ba