وقال أبو الفتح: قال أبو عليّ: سألتُ أبا بكرٍ عن الأفعالِ يقَع بعضُها موقعَ بعض فقال: كان ينبغي للأفعال كلِّها أن تكون مِثالًا واحدًا لأنها لمعنىً واحد، ولكن خُولِفَ بين صِيغها لاختلاف أحوالِ أزمنَتِها، فإذا اقترنَ بالفعل ما يدلُ عليه من لفظٍ أو حالٍ جازَ وقوعُ بعضِها موقعَ بعضٍ. قال أبو الفتح: وهذا كلام من أبي بكر عالٍ سديدٌ فاعْرفْهُ. وقال أعشى باهِلة:
فإنْ يُصِبْكَ عدوٌّ في مُناوأةٍ ... فقد تكونُ لك المَعْلاةُ والظَّفَرُ
وضع تكون في موضع كانت. وقال آخر:
قالتْ جُعادةُ ما لجسمِكَ شاحبًا ... ولقد يكونُ على الشبابِ نَضيرا
أي: ولقد كان.
ويجوز للشاعر المولّدِ تأنيثُ المذكّرِ وتذكيرُ المؤنث على المعنى وهو أفشى في العُرْفِ والاستعمال من أن يُؤتى عليه بشاهدٍ أو مثالٍ، قال الشاعر:
أتَهجُرُ بيتًا بالحجازِ تلفّعَتْ ... به الخوفُ والأعداءُ من كلّ جانبِ
أنّث الخوفَ لأنه ذهب به الى المخافة. ومثله بيتُ الحماسة:
يا أيها الراكِبُ المُزْجي مطيّتُه ... سائلْ بني أسَدٍ ما هذه الصّوتُ
أنّث الصوت لأنه ذهب به الى الاستغاثة، وإذا جازَ تأنيثُ المذكر في كلامِهم حمْلًا على المعنى، وهو منهم حمْلُ الأصْل على الفرْعِ، كان تذكيرُ المؤنث أجدرَ بالجَوازِ من حيثُ كان الأصلُ هو التذكير. ومنالحسَنِ الجميلِ ردُّ الفروعِ الى الأصول.
ومن تذكير المؤنث قوله تعالى: (السماءُ مُنفَطِرٌ به) . لأنه تعالى أراد بالسماء السّقْفَ لقوله تعالى: (وجعلنا السّماءَ سَقْفًا محفوظًا) . قال الشاعر:
فلا مُزنَةٌ ودَقَتْ وَدْقَها ... ولا أرْضَ أبْقَلَ إبْقالَها
فذكّر لما عَنى بالأرضِ المكانَ، غير أنه ردّ الهاءَ على لفظِ الأرض.
وقال زهير:
لَها أداةٌ وأعوانٌ غدَوْنَ لها ... قِتْبٌ وغرْبٌ إذا ما أُفْرغَ انْسَحَقا
غدَوْنَ مؤنثٌ، وإن كان للأعوانِ، لأنه أنّثَ على معنى الجماعة كما تقول: هذه رجال، والقِتْبُ قِتْبُ السّانية، وانسحقَ انصبّ. وأنشد المفضَّل:
فلو كنتُ بالمغلوبِ سيفِ بن ظالمٍ ... فتكتُ لعادت قبرَ عوفٍ قرائبُه
ولكن وجدتُ السّهمَ أهونَ فُوقَةً ... عليكَ فقد أودى دمٌ أنتَ طالبُه
جعل الفُوق مؤنثًا؛ لأنه أراد ذروته وهي أعلاه، ومثل ذلك كثير.
ومما يجوزُ للشاعر المولّدِ استعمالُه حذف الهمزة عند الضرورة. أنشد سيبويه لعبد الرحمن بن حسّان:
فكنتَ أذَلَّ من وَتِدٍ بقاعٍ ... يُشجِّجُ رأسَهُ بالفِهْرِ واج
يريد واجئ. وقال ابنُ هَرْمة:
ليتَ السِّباعَ لنا كانت مجاوِرَةً ... وأنّنا لا نرى ممّن نرى أحَدا
إنّ السِّباعَ لتهدا عن فرائِسِها ... والناسُ ليسَ بهادٍ شرُّهُم أبدا
يريد ليس بهادئ. وقال آخر:
تقاذَفَهُ الرُوّاد حتى رَمَوْا به ... ورَا طَرفِ الشامِ البلادَ الأقاصيا
أراد: وراءَ طَرفِ الشامِ، فقَصرَ الكلمةَ وكان ينبغي ألا يقصُرَها؛ لأن الهمزة أصليةٌ فيها. إلا أن الضرورة ألزمته فقلبها ياءً. وأنشد أبو علي:
إنْ لم أُقاتِل فالبسوني بُرْقُعا
ويجوزُ للشاعر المولّد حذفُ همزةِ الاستفهام للضرورة مع دلالةِ الكلام عليها، كما قال الكُمَيْت:
طَربْتُ وما شوْقًا الى البيض أطْرَبُ ... ولا لعِبًا مني وذو الشَيْبِ يلعَبُ
أراد: أو ذو الشيب يلعبُ. وقال عِمران بن حِطّان:
وأصبحتُ فيهم آمِنًا لا كمَعْشَرٍ ... أتوْني فقالوا من ربيعة أو مُضَرْ
أراد: أمِنْ ربيعةَ أو مُضر. وقال ابن أبي ربيعة:
ثمّ قالوا تحبُّها قلت بَهْرًا ... عدَدَ القَطْرِ والحَصا والتُرابِ
أراد: أتُحِبُها. وقيلَ في قوله تعالى (نِعمةٌ تمُنُّها عليّ) إنّ المُراد: أوَتلكَ نعمةٌ، وإذا صحّ ذلك فقد زالَتِ الضرورة من الشِّعر.
1 / 50