كأنّما مُنْثَني أقماعِ ما مَرَطَتْ ... منَ العَفاءِ بِلِيتَيْها الثآليلُ
فقلت: لا والله، فالتفت إلى يحيى وقال: أوَجَبَ؟ قال: وجَبَ. قال: أفأزيدُك؟ قال: وأيُّ خيرٍ لم يزدني منهُ أميرُ المؤمنين؟ قال: قول النابغة الجَعْدي:
رَمى ضِرْعَ نابٍ فاستهلّ بطَعْنَةٍ ... كحاشيةِ البُرْدِ اليَماني المُسَهَّمِ
ثم التفت الى الفضْل فقال: أوجبَ؟ قال: وجب، فقال: أأزيدُك؟ قال: ذاك الى أمير المؤمنين، قال: قول الأعرابي:
بها ضرْبُ أنْدابِ العَفايا كأنّه ... ملاعِبُ وِلدانٍ تخُطُّ وتصْمَعُ
ثم التفتَ الى جعفَر فقال: أوجَبَ؟ قال: وجبَ. قال: أفأزيدك؟ فقال: لأمير المؤمنين عُلوّ الرأي، قال: قول عديّ بن الرِّقاع:
تُزْجي أغَنَّ كأنَّ إبرةَ رَوْقِه ... قلمٌ أصابَ من الدَّواةِ مِدادَها
قال: ثم أطرقَ الرّشيد، ورفعَ طرْفَه وقال: يا أصمعي، أتُراك، تغبُنُني عقلي بانحطاطِك في هواي؟ فقلت: كلا والله يا أمير المؤمنين إنّك لتَجِلُّ عن الحَرْش قال: انظرْ حسنًا، قلت: قد نظرتُ، قال: فالسبق لمَنْ؟ قلت: لأمير المؤمنين. قال: قد أسهَمْتُك منه العُشُر، والعُشُر كثير، ثم رمى بطرفِه الى يحيى فقال: المالَ، تهَدُّدًا ووعيدًا، فما كان إلا كلا ولا، حتى نُضّدت البِدرُ بين يديه فكادَت تحولُ بيني وبينه، ورأيتُ ضوءَ الصبح قد غلبَ ضوءَ الشمعِ، فأشار الى خادمٍ على رأسه فدفعَ إليّ من المال، وهو ثلاثة ألف ألف دِرهَم، ثلاثين بَدْرة، فانصرفتُ بها الى المنزل، ونهض عن مجلسه. فكانت أسعدَ ليلةٍ ابتسمَ بها صباحٌ عن ناجزِ الغنى.
قال بشار: ولما نظمتُ قولي كأنّ مثار النّقْعِ البيت وقد تقدم ذكرُه، عُدتُ أوردتُ المعنى في أقرب لفظٍ فقلت:
من كلِّ مُشتَهِرٍ في كفِّ مُشتهرٍ ... كأنّ غُرَّتَهُ والسّيفَ نجْمانِ
فشبّهْتُ غُرّةَ الرجل والسيفَ بنجمين. وتبعهُ مسلم بن الوليد فقال:
في جحَلٍ تُشرقُ الأرضُ الفضاءُ به ... كالليلِ أنجمُهُ القُضْبانُ والأسَلُ
وأخذَه منصور النَّمِريّ فقال:
ليلٌ من النّقْعِ لا شمسٌ ولا قمرٌ ... إلا جَبينُك والمَذْروبةُ الشُّرعُ
ولرجلٍ من بني أسد يقول:
حلَقَ الحوادثُ لمّتي فترَكْنَني ... رأسًا يصِلُّ كأنّهُ جُمّاحُ
وزَكا بأصداغي وقَرْنِ ذُؤابَتي ... قبَسُ المَسيبِ كما زكا المِصباحُ
جُمّاح: وجمعه جَماميح، وهو سهمٌ صفر لا زُجَّ له، يُجعلُ في رأسه طين كالكتلة يلعبُ بهاالصبيان. وقريب من هذا التشبيه قول الآخر وله حكاية:
ورُحْتُ برأسٍ كالصُخَيْرةِ أشرفَتْ ... عليها عُقابٌ ثمّ طارَ عُقابُها
وراح بها ثوْرٌ ترِفُّ كأنّها ... سلاسِلُ برقٍ وبْلُها وانسكابُها
وأنشد أبو زيد:
كأنّ مُلْقى زِمامٍ عندَ ركبتها ... على الجَدالةِ أيْنٌ غيرُ مُنسابِ
وقال أبو دؤاد الإيادي:
تنازعُ مَثْنى حضْرَميٍّ كأنّهُ ... حُبابُ نقًا يتلوهُ مُرتَجِلٌ يرمي
وقال النابغة الذُبياني:
مَقذوفةٌ بدخيسِ النّحضِ بازِلُها ... له صريفٌ، صَريفَ القَعْوِ بالمَسَدِ
هذا يسمّونه أهلُ البديع التشبيهَ المُعرّى، فإذا شبّهوا ما لهُ حركة وجرسٌ نَصَبوا كما قالوا: صريفٌ صريفَ، نصبًا، وإذا لم يكن كذلك رفَعوا كما يقول القائلُ: له رأسٌ رأسُ الأسدِ، رفعًا.
ومنه تشبيهٌ بالفِعْلِ وهو قولُهم: هو يفعَلُ فِعْلَ الكرامِ، ويحْلَمُ حِلمَ الأحنف. والمعنى: يفعَلُ فِعْلًا كفعلِ الكرامِ، ويحْلُم حِلْمًا كحِلْمِ الأحْنَفِ. ومنه قوله تعالى: (وترى الجِبالَ تحسَبُها جامدةً وهي تمرُّ مرّ السّحابِ) . وقال عنترة في تشبيه الألوية:
كتائبُ تُزْجى، فوقَ كلِّ كَتيةٍ ... لواءٌ كظِلِّ الطّائِرِ المتصرِّفِ
وله في تشبيه القتلى:
كأنّهم بجَنْبِ الشِّعْبِ صرْعَى ... تساقَوْا بينهم كأسَ المُدامِ
وله في تشبيه الدّمعِ:
أفَمِنْ بُكاءِ حمامةٍ في أيْكةٍ ... فاضَتْ دُموعُك فوقَ ظهْرِ المحْملِ
كالدُرِّ أو نظْمِ الجُمانِ تقطّعَتْ ... منهُ مَعاقِدُ سِلْكِه لم يوصَلِ
1 / 29