الرسالة السادسة رسالة في نفي التشبيه
Shafi 279
إلى أبي الوليد محمد بن أحمد بن أبي داود
بسم الله الرحمن الرحيم
أطال الله بقاءك وحفظك، وأتم نعمته عليك، وكرامته لك.
قد عرفت - أكرمك الله - ما كان الناس فيه من القول بالتشبيه والتعاون عليه والمعاداة فيه، وما كان في ذلك من الإثم الكبير والفرية الفاحشة، وما كان لأهله من الجماعات الكثيرة والقوة الظاهرة، والسلطان المكين، مع تقليد العوام وميل السفلة والطغام.
وليست للخاصة قوة بالعامة، ولا للعيلة قوة على الأراذل؛ فقد قالت الأوائل فيهم، وفي الاستعاذة بالله منهم:
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: نعوذ بالله من قوم إذا اجتمعوا لم يملكوا، وإذا تفرقوا لم يعرفوا.
وقال واصل بن عطاء: " ما اجتمعوا إلا ضروا، ولا تفرقوا إلا نفعوا " فقيل له: قد عرفنا مضرة الاجتماع، فما منفعة الافتراق؟ قال: يرجع الطيان إلى تطيينه، والحائك إلى حياكته، والملاح إلى ملاحته، والصائغ إلى صياغته، وكل إنسان إلى صناعته. وكل ذلك مرفق للمسلمين، ومعونة للمحتاجين.
وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذا نظر إلى الطغام والحشو قال: " قبح الله هذه الوجوه، لا تعرف إلا عند الشر ".
Shafi 283
وقال الخريمي عند ذكره إياهم، في شعره، بالتعاوي مع المخلوع:
من البواري تراسها ومن ال
خوص إذا استلأمت مغافرها
لا الرزق تبغي ولا العطاء ولا
يحشرها بالفناء حاشرها
وقال شبيب بن شبيبة: قاربوا هذه السفلة وباعدوها، وكونوا معها وفارقوها، واعلموا أن الغلبة لمن كانت معه، وأن المقهور من صارت عليه.
وقد وصفهم بعض العلماء فقال: يجتمعون من حيث يفترقون، ويفترقون من حيث يجتمعون، لا يفل غربهم إذا صالوا، ولا تنجع فيهم الحيلة إذا هاجموا.
Shafi 284
والعوام - أبقاك الله - إذا كانت نشرا فأمرها أيسر، ومدة هيجها أقصر. فإذا كان لها رئيس حاذق ومطاع مدبر، وإمام مقلد، فعند ذلك ينقطع الطمع، ويموت الحق ويقتل المحق. فلولا أن لهم متكلمين، وقصاصا متفقهين، وقوما قد باينوهم في المعرفة بعض المباينة، لم يلحقوا بالخاصة، ولا بأهل المعرفة التامة. ولكنا كما نخالفهم نرجوهم، وكما نشفق منهم نطمع فيهم.
ثم قد علمت ما كنا فيه من إسقاط شهادات الموحدين وإخافة علماء المتكلمين. ولولا الكلام لم يقم لله دين، ولم نبن من الملحدين، ولم يكن بين الباطل والحق فرق، ولا بين النبي والمتنبي فصل، ولا بانت الحجة من الحيلة، والدليل من الشبهة.
ثم لصناعة الكلام مع ذلك فضيلة على كل صناعة، ومزية على كل أدب. ولذلك جعلوا الكلام عيارا على كل نظر، وزماما على كل قياس. وإنما جعلوا له الأمور وخصوه بالفضيلة لحاجة كل عالم إليه، وعدم استغنائه عنه.
Shafi 285
فلم يزل - أكرمك الله - كذلك حتى وضع الله من عزهم، ونقص من قوتهم. وليس لأمر الله مرد، ولا لقضائه مدفع. وحتى تحول إلينا رجال من قادتهم ومن أعلامهم، والمطاعين فيهم، وارتاب قوم ونافق آخرون. وحتى تحولت المحنة عليهم، والتقية فيهم. وذلك كله على يد شيخك وشيخنا بعدك - أعزه الله - بما بذل من جهده، وعرض من نفسه، وتفرد بمكروهه، وغرغر مراره، صابرا على جسيمه؛ يرى الكثير في ذلك قليلا، والإغراق تقصيرا، وبذل النفس يسيرا. على حين خار كل بطل، وحاد كل مقدم، وعرد كل رئيس، وأضاف كل مستبصر، وطاح كل نفاج، واستخفى كل مراء. وحتى صاروا هم الذين يشيرون عليه بالملاينة، ويحسنون عنده المقاربة، ويخوفونه العاقبة، ويزعمون أن لكل زمان تدبيرا ومصلحة، وأن إبعادهم أتقر لطبائعهم، وإن إطلاقها أنجع فيما يراد منهم. وحتى سموا المداهنة مداراة، وإعطاء الرضا تقية، والشدة عند الفرصة خرقا، والانحياز مع صواب الإقدام رفقا، وموالاة المخالف مخالفة، والمصافاة معاشرة، والمهانة حلما، والضعف في الدين احتمالا. كما سمى قوم الفرار انحيازا، والبخل اقتصادا، والجائر مستقصيا، والبلاء عارضا، والخطل بلاغة. فكذلك كانوا وكان. وعلى هذا افترق أمرهم؛ وذلك مشهور عنهم.
Shafi 286
ثم يصول أحدهم على من شتمه، ويسالم من شتم ربه، ويغضب على من شبه أباه بعبده، ولا يغضب على من شبه الله بخلقه، ويزعم أن في أحاديث المشبهة تأويلا ومجازا ومخارج، وأنها حق وصدق. فإذا قيس ...... طلب لهذا المجاز ظلم، وقال ما يليق بلفظ الحديث، فيكون بشهادته لصحة أحاديثهم مقرا، فيصير فيما يدعي من خلاف تأويلهم مدعيا. ولو كانت هذه الأحاديث كلها حقا كان قول النبي صلى الله عليه وسلم: " سيفشو الكذب بعدي، فما جاءكم من الحديث فاعرضوه على كتاب الله " باطلا.
وهذا المذهب لمن ينتحل طريقتنا، زعمه سبيلنا، جور شديد، ومذاهب قبيحة، وتقرب فاحش.
وليس ينبغي لديان أن يواد من حاد الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم.
فمتى إذن تزول التقية، ويجب إظهار الحق والنصرة للدين، والمباينة للمخالفين؟! أحين يموت الخصم ويبيد أثره ويهلك عقبه ويقل ناصره، ويزول جميع الخوف ويكون على يقين من السلامة. وكيف يكون القائم حينئذ بالحق مطيعا، ولله معظما؟!
فقد سقطت المحنة وزالت البلوى والمشقة. وهل المعصية إلا ما مازجه الهوى والشهوة، وهل الطاعة إلا ما شابه المكروه والكلفة، وكيف يتكلف مالا مؤونة فيه، وكيف يحمد مالا مرزئة عليه. وكيف يكون شجاعا من أقدم في الأمن، وتكمن في الخوف. أو ليست النار محفوفة بالشهوات، أو ليست الجنة محفوفة بالمكاره. وكيف صاروا في باطلهم أيام قدرتهم أقوى منا في حقنا أيام قدرتنا.
Shafi 287
وقد علمت - أرشد الله أمرك - أن التشبيه وإن كان أهله مقموعين ومهانين وممتحنين، فإن عدد الجماجم على حاله، وضمير أكثرهم على ما كان عليه، والذين ماتوا قليل من كثير. ونحن لا ننتفع بالمنافق، ولا نستعين بالمرتاب، ولا نثق بالجانح، وإن كانت المبادأة قد نقصت فإن القلوب أفسد ما كانت.
وقد كانوا يتكلمون على السلطان والقدرة، وعلى العدد والثروة، وعلى طاعة الرعاع والسفلة؛ فقد صاروا اليوم إلى المنازعة أميل، وبها أكلف؛ لأنهم حينما يئسوا من القهر بالحشوة والسفلة، وبالباعة، وبالولاة الفسقة، وقلوبهم ممتلئة ونفوسهم هائجة. ولا بد لمن كانت هذه صفته، وهذا نعته، من أن يستعمل الحيلة والحجة، إذ أعجزه البطش والصولة. وكل من كان غيظه يفضل عن حلمه، وحاجته تفضل عن قناعته، فواجب أن ينكشف قناعه، ويظهر سره، ويبدو مكنونه.
وقد أطمعني فيهم مناظرتهم لنا، ومقايستهم لأصحابنا. وقد صاروا بعد السب يحفون، وبعد تحريم الكلام يجالسون، وبعد التصام يستمعون، وبعد التجليح يدارون؛ والعامة لا تفطن لتأويل كفها، ولا تعرف مقاربتها. فقد مالت إلينا على قدر ما ظهر من ميلها، وأصغت لما ترى من استماعها.
Shafi 288
وقد كتبت - مد الله في عمرك - في الرد على المشبهة كتابا لا يرتفع عنه الحاذق المستغني، ولا يرتفع عن الريض المبتدئ. وأكثر ما يعتمد عليه العامة ودهماء أهل التشبيه من هذه الأمور ويشتمل عليه الفضل من حشوة الناس، ويختدع به المحدثون من الجمهور الأعظم، تحريف آي كثيرة إلى غير تأويلها، وروايات كثيرة إلى غير معانيها. وقد بينت ذلك بالوجوه القريبة، والدلالات المختصرة، وبالأشعار الصحيحة والأمثال السائرة، واستشهدت الكلام المعروف، والقياس على الموجود.
وهو مع ذلك كله كتاب قصد، ومقدار عدل، لم يفضل عن الحاجة، ولم يقصر عن مقدار البغية. على أن الكلام لا ينبغي أن يكثر وإن كان حسنا كله، إذا كان السامع لا ينشط له، وجاز قدر احتماله؛ لأن غاية المتكلم انتفاع المستمع. وقد قال الأولون: " قليل الموعظة مع نشاط الموعوظ، خير من كثير وافق من الأسماع نبوة، ومن القلوب ملالة ".
وقال بكر بن عبد الله المزني: ليس الواعظ من جهل أقدار السامعين، وإنابة المرتدين، وملالة المستطرفين.
وقال علي بن أبي طالب، رضوان الله عليه: " إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان، فابتغوا لها طرف الحكمة ".
Shafi 289
وقد كان يقال: إن للقلوب شهوة وإقبالا، وفترة وإدبارا؛ فأتوها من حيث شهوتها وإقبالها.
وكان يقال: إذا أكره القلب عمي.
وقال واصل بن عطاء: طول التحديق يكل الناظر، وناظر القلب أضعف منه.
وزعم عمران بن حدير قال: قال قسامة بن زهير: روحوا هذه القلوب تع الذكر.
وقال عبد الملك بن قريب: قال أبو الدرداء: إني لأستجم نفسي ببعض الباطل كراهة أن أحمل عليها من الحق فأكلها.
وكتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهما، وهو بالقادسية: أن جنبهم حديث الجاهلية؛ فإنه يذكر الأحقاد. وعظهم بأيام الله ما نشطوا لاستماعها.
وقالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة.
ولذلك أمروا بالجمام وزيارة الغب.
Shafi 290
ورووا أن شر السير الحقحقة.
ولأن ينقص الكتاب عن مقدار الحاجة أحب إلي من أن يفضل عن مقدار القوة؛ لأن الملالة تبغض في الجميع، وتزهد في الكل.
فأنا أسألك - أكرمك الله - أن ترى هذا الكتاب وتقرأ ما خف عليك منه. فإن يصلح الكلام وكان كما وصفت وكما ضمنت، حثثت على قراءته وعلى اتخاذه، وعلى تخليده وعلى تدوينه، وأمرت من يحتاج إلى المادة، وإلى حسن المعونة من الموافقين والإخوان الصالحين، أن ينظروا فيه، وأن يبثوه ويشيعوه.
وقد كنت أنا على ذلك قادرا، وبه مستوصيا؛ ولكن الرجل الرفيع إذا رفع الشيء ارتفع، كما أنه إذا وضع الشيء اتضع.
وإن كنت فيه غلقا أو لعلته مستكثرا، كان لك بحسن نيتك وصلاح مذهبك، والذي رجوت عنده من المنفعة وصلاح قلوب العامة، الأجر الكبير، والثواب العظيم، مع ما تقضي بذلك من ذمام المتحرم بك، والمتحلي من بيتك؛ ومع اليد البيضاء والصنيع المشكور.
Shafi 291
وحرام على كل متكلم عالم، وفقيه مطاوع، وخطيب مفوه إن كان عنده من الأمر شيء، إلا أن يأتيكم به، ويذكركم بما عنده، قل ذلك أو كثر، وصادفمنكم شغلا أو فراغا، لأن ذلك من عندكم أنفق، والناس إليه أسرع، والقلوب إليه أسكن، وهو في العيون أعظم، لما جعل الله عندكم من حسن الاختيار، والعلم بمنافع العباد، ومصالح البلاد؛ إذ كنتم المفزع والمقنع، والأئمة والمنزع. ولولا ما قلدتم من أمر الجماعة، والقيام بشأن الخاصة والعامة، وأن الشغل برعاية حقها والدفاع عنها، لم يبق في قواكم فضلا للدعاء والمنازعة، ولوضع الكتب بالجواب والمسألة لبدأ بكم الفرض، ولكنتم أحق بهذا الأمر.
على أننا لم ننطق إلا بألسنتكم، ولم نحتذ إلا على مثالكم، ولم نقو إلا بما أعرتمونا من فضل قوتكم. وعلى الرواة من الأدباء، وعلى أهل اللسن من الخطباء، معاونتكم ومكاتفتكم، والجلوس بين أيديكم والاستماع منكم، وعلى أن يطيعوا أمركم، وأن ينفذوا لطاعتكم، وأن يخلصوا في الدعاء، وأن يمحضوا النصيحة، وأن يضمروا غاية المحبة، وأن يعملوا في كف الغل والحسد، وأن لا يرضوا من أنفسهم بالنفاق، وأن يعلموا أن الحسد لا يقع إلا بين الأشكال، وأن التنافس لا يكون إلا مع تقارب الحال.
وقد كان يقال: لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا، فإذا تقاربوا هلكوا.
وكان يقال: ثلاثة توجب الضغن وتكثر من الغل: المجاورة في المنزل، والاستواء في النسب، والمشاكلة في الصناعة.
Shafi 292
ولذلك قال شبيب بن شيبة لرجل ادعى محبته ونصيحته: " وكيف لا يكون كما وصفت وكما ذكرت، ولست بخطيب، ولا جار قريب، ولا ابن عم نسيب ".
وقال بعض الحكماء: لو لم تعرفوا من لؤم الحسد إلا أنه موكل بالأدنى فالأدنى. وليس يقع ذلك بين المتباينين، ولا يجوز في المتقاربين.
ولا يكون الطلب إلا بالطمع، ولا يكون الطمع إلا بالسبب. فإذا انقطع السبب انقطع الطمع، وفي عدم الطمع عدم الطلب. وكيف يتكلف الطيران من لا جناح له، وكيف يرجو صلاح أمر العامة وترتيب الخاصة من عجز عن تدبير بيته، وقصر عن تدبير عبده؟!
وإنصاف اللسان قليل، وإنصاف القلب أقل منه.
ونحن نرغب إلى الله في صلاحهم؛ فإن في صلاحهم صلاح قلوبنا لهم.
وقد جعل الله الشكر موصولا بالمزيد، ومن الشكر على نعمة الله علينا بكم أن نعظم ما عظم الله من أمركم. ومن صغر ما عظم الله فقد عظم ما صغر الله. ولا يفعل ذلك إلا الصغير القدر، والخامل الذكر، والجاهل بالأمر.
وكيف لا تكونون على ما خبرت وكما وصفت، وقد أغنيتم من العيلة، وآنستم من الوحشة، وجمعتم الشمل، وأعدتم الألفة، ورددتم الظلامة، وأحييتم السنة، وأبرزتم التوحيد بعد اكتتامه، وأظهرتموه بعد استخفائه، واحتملتم عداوة الجميع، ووترتم المطاعنين في تقويتنا.
Shafi 293
ونحن لا نطالب ما كنتم قياما، ولا نذكر ما كنتم شهودا. ونحن مع قلة علمنا لا نجد أبدا عملنا إلا مقصرا عن علمنا. وأنتم مع اتساع قلوبكم، أعمالكم وفق علومكم؛ لأن كل من بذل كل مجهوده، وخاطر بجميع نعمته، وكانت الواحدة من نعمه كالجميع من نعم غيره، مع خذلان الموافق ونكوص المؤازر، ثم لم تزده الشدائد إلا شدة، والوحدة إلا أنسة حقيق بالتفضيل والتعظيم ، والإنابة له بالتقديم.
ولعل قائلا أن يقول: أدخله في جملة صفات أبيه، وجلة مشيخته وأقربيه، حيث خصهم بالتقديم، وأبانهم بالتعظيم. بل كيف يقدم من صغرت سنه وقلت تجربته على من تقاربت سنه وكثرت تجربته. وكيف تمكن الطاعة الكثيرة في الأيام القصيرة والشهور اليسيرة؟ وهل يقول ذلك صاحب تحصيل ومقايسة، والبعيد من الملق والمخادعة.
Shafi 294
وما قلت ذلك - حفظك الله - ولا انتحلته، إلا وبرهاني حاضر، وشاهدي شاهد. وذلك أن للشباب سكرة وطماحا، وقراعا وصولة. والهرم داخل على جميع الأعضاء، وآخذ بقسطه من جميع الأجزاء. ألا ترى كيف يكل ناظره وسامعه، وذائقه وشامه، وهاشمه وعامله؛ وكيف تنقص على مرور الأيام قوته، وكذلك قلبه وكل ما بطن من أمره، على قدر ما نقص من قوى جسمه وتنقص من قوى شهوته. ويخف عليه مخالفة هواه، ومحاربة نوازعه. ومن حمل على نفسه في كمال شبابه وأيام سكرته، وفي سلطان حدته وكمال قوته، فظلفها مرة وكبحها أخرى، وعاين تلك التكاليف، وغلب تلك الريح كان أبرز طاعة؛ إذ كان أحمل للمشقة.
وعلى قدر المشقة تكون المثوبة، وتعظم عند الله المنزلة، وتقع له في قلوب الناس المحبة. ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص، حين وجهه إلى العراق: " يا سعد بني وهيب، إن الله إذا أحب عبدا حببه إلى خلقه. فاعتبر منزلتك من الناس، واعلم أن مالك عند الله مثل ما لله عندك. ونحن نعتبر حالك عند الله بالذي نجد لك في قلوب عباده. وقد ملك الله بعض الناس أبدان بعض، ولم يملك القلوب أحدا غيره ".
وأما قولهم: إن الغرارة مقرونة بالحداثة، والحنكة موصولة بطول التجربة، فإن الذهن الحديد والطبع الصحيح، والإرادة الوافرة، ينال في الأيام اليسيرة، ويدرك في الدهور القصيرة، ما لا تدركه العقول المخدوجة، ولا الطبائع المدخولة، والإرادة الناقصة، في الأيام الكثيرة، والدهور الطويلة.
Shafi 295
وربما صادف القائل مع ذكائه وكثرة قراءته وجودة اعتباره، زمانا أكثر عجبا، وأكثر معتبرا، وإن كانت شهوره أقل، وأيامه أقصر، فينال مع قلة الأيام ما لا ينال سواه مع كثرتها، ولا سيما إذا أعين بحفظ، وأحس من نفسه بفضل بيان.
وليس من نظر في العلم على الرغبة والشهوة له كمن نظر فيه على المكسبة به والهرب إليه؛ لأن النفس لا تسمح بكل قواها إلا مع النشاط والشهوة، وهي في ذلك لنفسها مستكرهة ولها مكابدة. والسآمة إلى من كانت هذه صفته أقرب، وله ألزم. ولولا ذلك لما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل اليمن، وجعل إليه قبض الصدقات، ومحاسبة العمال، وقلده الأحكام وتعليم الناس الإسلام، وهو ابن ثماني عشرة سنة. ولا يدفع ذلك صاحب خبر ولا حامل أثر.
وعلى مثل ذلك عقد لأسامة بن زيد الإمرة، وأبانه بالتقدمة على جلة الأنصار وكبار المهاجرين، وخيار السلف المتقدمين.
Shafi 296
وعلى مثل ذلك ولى عتاب بن أسيد مكة، وبها عظماء قريش وكبراء العرب وذوو الأخطار من كل قبيلة، وذوو الأسنان من كل جيل. ومكة فتح الفتوح، وأم القرى، وخاتمة الهجرة وقبلة العرب، وموضع الحرم والموسم الأعظم والحج الأكبر، والأصل والمفخر.
وقد رأيتم ما بلغ بخالد بن يزيد في السودد والمحبة، وقود الجيوش والهيبة، وهو ابن خمس عشرة سنة. وقد ذكر ذلك الكميت بن زيد فقال:
قاد الجيوش لخمس عشرة حجة
ولداته عن ذلك في أشغال
قعدت بهم هماتهم وسما به
همم الملوك وسورة الأبطال
فأما ابن بيض فقال:
بلغت لعشر مضت من سني
ك ما يبلغ السيد الأشيب
فهمك فيها جسام الأمور
وهم لداتك أن يلعبوا
Shafi 297
وعلى مثل ذلك قال الفرزدق في يزيد بن المهلب:
ما زال مذ عقدت يداه إزاره
ودنا وكان لخمسة الأشبار
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم
خضع الرقاب نواكس الأبصار
وعلى خذا المجرى مدح الشاعر فقال:
ما زلت في عقل الكبي
ر وأنت في سن الصغير
وقد رأيتم ما بلغ محمد بن القاسم من الفتوح العظام والأيام الجسام، والقهر للأعداء، وبلوغ المحبة في الأولياء، وهو ابن خمس عشرة سنة. وقد ذكر ذلك زياد الأعجم فقال:
ما إن سمعت ولا رأيت عجيبة
كمحمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لخمس عشرة حجة
يا قرب ذلك سوددا من مولد
Shafi 298
وقال الآخر:
إذا المرء أعيته المروءة ناشئا
فمطلبها كهلا عليه عسير
وقال آخر:
إذا ما ترعرع فينا الغلام
فليس يقال له من هوه
إذا لم يسد قبل شد الإزار
فذلك فينا الذي لا هوه
ولي صاحب من بني الشيصبان
فطورا أقول وطورا هوه
وزعموا أن عمرو بن سعيد قال له معاوية - وذلك قبل أن يبلغ ويحتلم - إلى من أوصى بك أبوك؟ قال: إن أبي أوصى إلي ولم يوص بي. وقال: فيم أوصاك؟ قال: أوصاني ألا يفقد إخوانه منه إلا وجهه.
Shafi 299
ولو لم يعرف ذلك إلا بعبد الله بن العباس وحده كان ذلك كافيا، وبرهانا شافيا، فإن الأعجوبة فيه أربت على كل عجب، وقطعت كل سبب. وقد رأيتم حاجة عمر إليه، واستشارته إياه، وتقويمه لعثمان رضي الله عنهما وتغييره عليه. ولو لم يكن للفضيلة من بين أقرانه مستحقا، وبها مخصوصا، ما خصه الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة المستجابة، ولما خصه بعلم الكتاب والسنة وهما أرفع العلم، وأشرف الفكر. ويدلك على تقديمه للغاية، وإيثاره للتعليم والاستبانة، قوله حين قيل له في حداثته وقبل البلوغ في سنه: ما الذي آتاك هذا العلم وهذا البيان والفهم؟ قال: " قلب عقول، ولسان سؤول ".
وقد عرفتم تحاكم العرب في الجاهلية في النفورة، وفي غير ذلك من المخايرة والمشاورة، إلى أبي جهل بن هشام في أيام حداثته وفتائه؛ ولذلك أدخلوه دار الندوة، ودفع مع ذوي الأسنان والحنكة من بين جميع الشبان، ومن بين جميع الفتيان.
Shafi 300
ولذلك قال قطبة بن سيار حكيم فزارة حين تنافر إليه عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة: عليكم بالحديد الذهن، الحديث السن. يعني أبا جهل. فهذا كله دليل واضح، وبرهان بين.
ولعل قائلا أن يقول: إنما الفضل في خشونة الملبس؛ وليس ذلك لمن مدحت، ولا هذه صفة من وصفت.
وهذا باب - أبقاك الله - قد يغلظ فيه العاقل ما لم يكن بارعا، والفطن ما لم يكن ثاقبا، والأريب ما لم يكن كاملا . ولو كان الفضل والرياسة والقدر والنباهة على قدر قشف الجلدة وبذاذة الهيئة، وكثرة الصوم، وإيثار الوحشة والسياحة لكان عثمان بن مظعون متقدما لأبي بكر الصديق رضوان الله عليه، ولكان بلال بن رباح غامرا لعثمان بن عفان رضي الله عنهما.
وقد قال ابن شهاب الزهري: ليس الناسك إلا من غلب الحرام صبره، والحلال شكره.
فهذا ما حضرنا من القول، وأمكننا من الاحتجاج. وما أشك أن من خبر أمرك أكثر من اختباري كان عنده أكثر من علمي. وعلى أن منظرك - أسعدك الله - يغني عن المخبر، والفراسة فيك تكفي مؤونة التجربة لك. وقد تقيلت بحمد الله أخلاق شيخك، واحتذيت على مثالهكما احتذى على مثال من كان قبله. ولو لم يتعقبوا أمرك، ويتصفحوا سيرتك في نفسك ثم في خاصتك وعامتك، لكان في صدق الفراسة وظهور المحبة ما تقضي به النفوس، ويستدل به المجرب.
وظن العاقل كيقين غيره.
Shafi 301