وبالوسع تصور مقدار الفجيعة التي أصابت ذئبنا الضبع وهو يرى جهوده ووسامته وذكاءه تذهب سدى أمام جبروت هذه الفلاحة البيضاء، وانطوائها على نفسها وإغلاق ذاتها دونه، حتى لقد استحالت المسألة عنده من مغامرة كان يعتقد أنها بسيطة عابرة إلى خوف من الهزيمة، واهتزاز كامل بالثقة بنفسه، حتى أصبح عليه لا أن يخوض مغامرة، وإنما أن يثبت لنفسه أنه لا يزال ذلك القادر الذي ما استعصت امرأة عليه قط، ولا فشل مرة.
الأيام تمضي بسرعة مذهلة، حتى لقد مضى على قراره شهران، وهو لا يزال قرارا لم ينجح لخطوة صغيرة واحدة في طريق تنفيذه. وتفكيره في المغامرة، وفي «فتحية» دائب صباح مساء، حتى أصبح هذا الموضوع أهم ما يشغله في حياته، بل لم يعد في حياته سواه. أحيانا كان يفيق لنفسه، ويستنكر أن تكون هذه حاله، وأن يكون هو نفسه الذي جاب مملكة النساء بسمائها وأرضها ونجومها، وجربهن جميعا من الأميرات إلى الغسالات، بل والسائلات، هو نفسه الذي يهب كل ذلك الوقت والمجهود والتفكير لامرأة ك «فتحية»! إن هناك خطأ في الموضوع لا يعرف سره، ومن المحال أن يفشل، حتى لو كلفته هذه المغامرة عمره. وأحيانا يفيق ليواجه سؤالا لم يوجهه لنفسه أبدا: أيكون قد أحب «فتحية»؟ إذا قيس الحب بمقدار الكم من الوقت الذي يقضيه المرء يفكر في حبيبه، فهو إذن ليس في حالة حب فقط، ولكن في حالة حب عظيم نادر؛ فلم يحدث من قبل أن تفرغ إنسان للتفكير في إنسانة كما يفعل هو مع «فتحية»، بل وها هو ذا حين يجد صدها له كاملا حاسما نهائيا، وليس ابن يومه فقط أو لحظته، وإنما من الواضح أنه سيظل هكذا إلى الأبد، حين أدرك هذا ويئس تماما من كل محاولاته أصبح كل همه وأمله ألا يحادثها أو تحادثه، ولا حتى أن يحلم أن يوقعها، وإنما أن يراها، مجرد أن يراها. وحتى هذا الطلب البسيط الشديد التواضع أصبح عسيرا هو الآخر صعب المنال؛ فلقد تزايد خوف «فتحية» وتزايد بالتالي حذرها إلى الدرجة التي أصبحت نادرا ما تغادر فيها الغرفة، حتى إذا غادرتها مضطرة، فلتعود إليها مسرعة لهفى، وكأنما في أثرها سرب من التماسيح. وأصبح على ساكننا لكي يراها أن يلجأ للصدف وحدها تدبر له الأمر، ولكي يزيد احتمالات الصدف كان عليه أن يمضي أطول وقت في المدخل أو في باب العمارة أو قريبا من باب شقته، وأن يفعل هذا و«حامد» موجود مسألة لا بد تدعو للشك؛ ولهذا كان عليه أن يرسله في مشاوير، ولكيلا يفعل هذا بكثرة تثير ريبته، وبحجج دائما وجيهة ومعقولة، كان عليه ألا يرسله كثيرا؛ وبالتالي يقلل من احتمال وجوده قريبا من باب حجرتهم، مشكلة عويصة كانت تستنفد من وقته وجهده الأيام الطوال لكي يتمكن فقط من أن يراها، وحتى لم يكن يراها، كان فقط يلمحها، يلمح شيئا يرتدي الجلباب الأسود الذي عادت إليه صاحبته تتحصن فيه، بعد أن كانت قد خلعته ولبست مثل أهل مصر، الملون والمشجر. •••
وفي ظهر ذلك اليوم من أيام الصيف في وقت القيلولة تماما، وقد انتظر أسبوعا بأكمله ليتمكن من إرسال «حامد» إلى مشوار في شبرا، كان الحب والوجد والقلق قد استبد به إلى درجة لم يعد يحتمل فيها الأمر لثانية أخرى. كان قد انتهى تماما وأصبح مستعدا لأي شيء من أجل أن يظفر ولو بكلمة واحدة منها، مستعدا أن يبوح لها بحبه، وأن يعرض عليها الزواج، وأن يتزوجها في الحال، وأن يقتلها إذا رفضت، وأن يقتل «حامد» إذا تعرض له، كان قد بلغ مرحلة اليأس الكامل المطبق، ولم يعد أمامه إلا أن يقتحم عليها الحجرة وليكن ما يكون.
ولقد فعل.
ولأن الطفل الكبير كان قد فتح الباب الذي أغلقته أمه، وخرج إلى الحارة الجانبية ليلعب، فما كاد يدفع الباب حتى انفتح، وحتى وجد نفسه وجها لوجه أمامها، وكانت واقفة تحمل الرضيع بجوار رأس السرير، وبرغم كل ما كانت تحفل به نفسه من هموم وقرارات ومشاغل، برغم الكلام الذي كان قد جهزه ليحاصرها ويمطرها به، فإن كل شيء ما لبث أن تبخر من عقله تماما، لا لمرآها، وإنما لما حدث لها لحظة رؤيته؛ فالأشباح نفسها إذا ظهرت لها ما كان يمكن أن تحدث نفس الأثر، لا حتى ولا الموت نفسه لو رأته مجسدا! لكأنما رأت شيئا أعتى من الشيطان والموت والأشباح، وكل شرور الدنيا. لقد كانت مطمئنة اطمئنانا كاملا إلى كل الإجراءات التي اتخذتها لتصبح في مأمن منه. كانت شيئا فشيئا قد بدأت تثق أنها انتصرت على الهاتف والقدر والمكتوب، واثقة أنه قد أصبح مستحيلا على الواقعة أن تقع ما دامت قد أحاطت نفسها بسياج الاحتياطات تلك، حتى أصبح مستحيلا على ذلك الأفندي مجرد رؤيتها. أما أن تلتفت فجأة لتجده أمامها وجها لوجه، في حجرة خالية، بينما «حامد» بعيدا جدا في شبرا البلد. أما أن تحس أن قدمها قد زلت بغتة من مكانها الحصين المرتفع، وأنها في طريقها إلى أن تهوي إلى سابع أرض، إلى القاع. أما أن تدرك أن إرادة الهاتف انتصرت على إرادتها، وأن الأفندي ها هو، كأنه القدر، كأنه المقدر، كأنه النداهة من دم ولحم ووجود، فهي الصاعقة التي انقضت على عقلها فصعقته. لا، لم تكن إنسانة مرعوبة تلك الواقفة، إنما هي إنسانة مصعوقة، مشلولة، منتهية، في ومضة واحدة انتقل لونها من البياض إلى الصفرة الرمادية الكاملة، صفرة الموت الرمادية، ومن إنسانة ترى وتسمع وتشعر إلى إنسانة أصابها الصمم، وتوقف اللسان في حلقها وتضخم حتى كاد يملؤه. صاعقة بترت تماما صلتها بالحياة، كأنها الصاعقة التي انقضت على «حامد» حين رآها، والموت الذي تلا كان كالموت الذي داهمه، وبتلقائية غريزة البقاء وحدها مدت يدا قد بدأت ترتعش ارتعاشا ظاهرا يرعب مشاهده، تمسك برأس السرير تتشبث بها، بينما الطفل من فوق صدرها ينزلق، وبالغريزة وحدها تحميه بيدها من السقوط المفاجئ، فيصل إلى الأرض سالما قد بدأ يبكي وينتحب. وما كاد هذا يحدث وتطمئن الأمومة، حتى لم يعد للحياة نفسها أو التماسك قيمة، فبدأ الجسد يتمايل ويدوخ، وينزلق مهددا بالسقوط، بل سقط سقطة لم تتم؛ إذ في الحال وبجهد خارق كان ذئبنا الضبع هناك يتلقاها بيديه الاثنتين، وقد فغر فاه بالدهشة؛ فآخر ما كان يتصوره أن يحدث هذا، وأن تسقط الثمرة من تلقاء نفسها بين يديه دون مشقة أو تعب، دون كلمة، دون حتى حركة واحدة أقدم عليها أو جهد ولو ضئيلا بذله. لقد جاء وفي نيته أن يحارب معركته الأخيرة بكل قواه، واستعد ليواجه ليس فقط «فتحية» أو «حامد»، وإنما العالم كله، استعد لأي شيء، للفضيحة أو القبض أو القتل، جاء وهو يائس تماما أن يظفر منها بشيء؛ فالتي تضن عليه بمجرد أن يلمسها أو يراها، هل من المعقول أن تنيله مهما فعل شيئا أكثر من هذا؟ أكثر من أن تتاح له فرصة أن يراها، مجرد أن يراها، ولو كان ثمنها فضيحته أو مصرعه، فإذا بها بين يديه طرية كالخرقة، مستسلمة تماما، متاحا له منها كل ما يمكن أن يحلم به، إذا بها أقرب ما تكون إلى جثة، جثة لم تفعل أكثر من أنها أيقظت فيه ذلك الضبع القديم الذي يسيل لعابه لمرأى الجثث. الضبع الذي كان قد اختفى في أعماق شخص بلغ به الحب والوجد والشوق إلى «فتحية»، مستوى رفعه إلى مرتبة المحبين الكبار، محب مدله جرب السهد والسهر والغيرة والشك والعذاب، العذاب الذي نال منه وأوهن جسده، حتى رق ودق وارتقى بمشاعره، حتى أصبح يحس ويفكر ويتصرف كشاعر! فجأة نفض الضبع الكامن الذي يكاد يختبئ ويموت تحت ما ترسب فوقه من مشاعر وطبقات، نفض عن نفسه هذا كله، وانتصب تلمع عيناه ببريق الفوز، ويرتجف جسده ترقبا لمائدة المتعة الأكيدة المرتقبة، لا يفصله عنها إلا لحظة زمن يريد بكل ما يملك من شر وجشع أن يختصره حتى ليلغيه تماما، ويبدأ يلتهمها ويتلمظ.
وهكذا، ومنتهزا فرصة الغيبوبة الكاملة العابرة كان قد أرقدها على الأرض، ودفع الطفل بغل فأبعده، وأطلق الطفل صراخه مذعورا عاليا لا يأبه له، بل إنه ليضيف كثيرا من البهار إلى المائدة الجثة. وبيد حديدية مدربة طوقها، وبيد مرتعشة بالرغبة مبهورة بالانتصار الساحق السريع تكاد لا تصدق نفسها أو ما يحدث، دفع بنطلونه دفعة واحدة تعرى على أثرها تماما، وبنفس اليد مزق ملابسها وهو يحس بالصوت الصادر عن التمزيق بنشوة دونها أي نشوة أخرى على وجه الأرض، وحتى لو كانت في طريقها إلى الموت على أثر نزيف مثلا أو سكتة لكانت من غيبوبة الموت الحقيقي قد استيقظت، فللغريزة الحارسة للغريزة سلطان على الجسد أقوى من أي سلطان آخر.
وهكذا ما كاد يحاول أن يصل بانفعاله إلى آخر مدى، حتى كانت وكأنما مسها تيار مكهرب موقظ قد صحت، ومع أن الصحوة كانت صحوة عقل وإدراك إلا أنها بجماع ما تملك من طاقة وقدرة، بآخر رمق، بذلك الكم الضئيل من القوة التي يدخرها الجسد ليقول بها آخر «لا» في حياته، قاومت. تململ جسدها يقاوم مقاومة لم تفعل أكثر من أنها استدعت إلى الوجود كل قوى الذئب الضبع الكامن وحشدها في ساقيه وذراعيه، حتى التفت حولها كقيود من فولاذ لا يرحم، وبآخر ما تملك أيضا تململت، وبكل ما يملك أطبق. وكان ممكنا أن تصرخ تستنجد بالناس أن يقاوموا لها، ولكنها رفضت وأبت؛ فالمعركة معركتها وحدها، ولن يفعل إدخال الناس أكثر من فضحها؛ إذ السهم الآن نافذ فعلا، والمكتوب قد حدث، وقد يمنع الناس استمرار حدوثه، ولكنهم أيضا سيكونون شهود حدوثه، وتلك هي الكارثة التي تواجه الموت أو السقوط الخاص الذي لا يعرفه أحد، ولا تواجهها.
وحين فتحت عينيها - وقد ذهب الرعب وحل الغضب - تريد التفرس في قاهرها، واتسعت عيناها دهشة وحقدا وخوفا؛ فعلى بعد قراريط من وجهها كانت ترى وجهه لأول مرة وتتفرس فيه؛ فهي أبدا لم تر وجها مثل وجهه حليقا ناعما أحمر وسيما، وعيناه خضراوان لهما رموش طويلة، ورائحة حلوة، وأسنان بيضاء مرصوصة بدقة، وفمه حلو يتمنى أي فم أنثى أن يقبله، وابتسامة كبيرة، ابتسامة فوز وفرح تحتل الوجه كله، وتظهر له غمازتين عميقتين على جانبي الوجه وطابع حسن، ابتسامة داعية ناعمة كأنها واحدة من آلاف الابتسامات التي كثيرا ما حلمت بها هي والأيدي الممدودة تدعوها في لطف وإصرار إلى ترك بر الأمان والغوص إلى القاع، حيث الأشباح والطين، ابتسامة ما إن رأتها حتى بدأت تتململ مقاومة من جديد إذ أحست وكأنها ابتسامة القاع نفسه، يدعوها وبخبث ونعومة ودهاء يريد التغرير بها، مقاومة لم تفعل أكثر من أنها مكنته تماما منها، حتى أصبح كل جزء فيها ملتصقا وملتحما بكل جزء فيه. لقد ظلت تخاف من العفريت، حتى طلع لها، ومن وسوسة الهاتف حتى تحققت. ظلت تصمم وتصر وتحتاط حتى نفذ السهم، ووقع المحظور وانتهى كل شيء، والخوف المستمر الدائم والهاتف والحلم والحقيقة كلها قد التقت الآن في لحظة واحدة، لحظة غريبة مفعمة مليئة محشودة بآلاف اللحظات والخلجات، لحظة أخطر ما فيها أنها تدرك أنه لم تعد هناك فائدة، حتى الرعب والخوف أصبح لا فائدة منهما، والمقاومة لم يعد لها داع بالمرة؛ فالسهم نفذ.
ولم يعد أمامها إلا أن ترجوه وتستعطفه، لم يعد أمامها إلا وسيلة العاجز، أن تبكي، ولقد بكت، وأن تتذلل، وأنا في عرضك، أنا صاحبة عيال، جموع وكلمات لم تكن تفعل إلا أن تضيف إلى الأكلة كل ما يتمنى الضبع العجوز إضافته من شطة وسلطة وعصير ليمون وخل، وحين استمرت تبكي وقد ازدادت حرقة البكاء ولوعته لم تكن تريد به مزيدا من رجائه واستعطافه، إنما كانت في الحقيقة تبكي من أعمق أعماق قلبها على نفسها وعلى عجزها، بكاء يا للعجب! لم يستمر طويلا.
فقد بدأت تحس بأشياء غريبة عجيبة تنفذ إلى ذاتها وجسدها، أشياء جديدة مذهلة كبريق مصر الخاطف، أشياء أحست معها كما لو أن كل النيون الأحمر والأزرق والبنفسجي ومهرجان الأضواء والألوان، كل الوجوه الحلوة الحليقة والملابس الغالية الأنيقة، كل الروائح العطرة المنعشة المخدرة، والشوارع الواسعة المزدحمة النظيفة، والمتنزهات، والأشجار، حتى الأشجار مجففة الأوراق مقصوصة كتسريحات السيدات، كل الترمايات والعربات الفارهة، والسينمات والوجوه الخارجة من السينمات، والكباريهات والراقصات، كل الأطفال الأصحاء النظيفين والأمهات والأجزخانات والأرتستات، كلها تتجمع وتتسرب إليها، إلى داخلها المرتعش الخائف المهزوم المبهور، وهي حتى في عجزها وإدراكها ويقينها بالهزيمة التامة الساحقة بكل ما أوتيت من قدرة تقاوم ولا تكف عن المقاومة، والأشياء الغربية الكثيرة لا تكف عن التسرب، فتعود تقاوم مستميتة أكثر، تقاوم مدينة بأكملها تتسرب إليها، ورغما عنها تتسلل إلى كل خاف فيها ومستتر، وكان لا بد في النهاية أن تكف عن المقاومة تعبا ويأسا، ثم يقينا تاما من اليأس، ويأسا تاما من أن معجزة ما لم تحدث وتنقذها في نهاية الأمر، وإن بإرادتها وبغير إرادتها، تماما كما كان الهاتف يؤكد، قد حدث كل شيء. أما ما لم يذكره الهاتف، ولا كانت تتصور للحظة أن من الممكن أن يحدث، أما أن تبدأ تتحول من استسلام مغلوب إلى استسلام مستمتع، فهو رغم حدوثه الشيء الذي كان لا يمكن حتى وهو حادث أن تصدقه، فالمشكلة أنها ما كادت تبدأ تحس بهذا، حتى كان الباب قد فتح، وعلى عتبته وقف «حامد» طويلا رفيعا، مصعوقا أسمر غامق السمرة. •••
Shafi da ba'a sani ba