ولكن ما أبشع ما خاب أملي حين لم ينكشف الكازينو إلا عن ازدحام آخر، واحد من عشرات الازدحامات التي كان يحفل بها البلاج! نظرت بحدة إلى الصديق وإلى عينيه اللتين كانتا قد احمرتا تعبا، أو من يدري؟ ربما غيظا، وربما لهذا انطبقت شفتاه في حدة راسمتين في خطوط قاطعة شكل فمه.
أين رأيت ملامح كهذه مرسومة بحدة كتلك الحدة يا ربي؟ أين؟ والهمهمة الصادرة عن هذا الازدحام نفس هذه الهمهمة وثيقة بنفس الملامح، وأيضا بشيء يشبه المعجزة، أين ومتى حدث لي هذا يا ربي؟ لا أعرف، هذه اللحظة عشتها قبلا، بالتأكيد حدث هذا، ولا بد أنه ذلك الشعور الذي دأب على زيارتي في الفترة الأخيرة، الشعور بأن الكون يكاد ينتهي، والصمت المطبق بدأ يحل، صمت سيمتد إلى آلاف وملايين السنين المقبلة، آخر علامات الحياة تختنق، الحركة الهائلة التي حفل بها الكون طوال وجود الإنسان قد انقرضت، وسيعود السكون الأبدي ولا يبقى إلا الشمس والقمر، والليل والنهار، والريح والرمال. الأجساد متراصة موزعة مختلطة لا تكاد تستطيع تمييز ساق الرجل من ساق المرأة، تبدو في أحيان كثيرة خالية من الشعر، والجميع كأنهم يبحثون عن إبرة سقطت في قلب الرمل، ليسوا منحنين فقط، ولكنهم ممددون تماما، وقد استندوا بأذرعتهم إلى الأرض، وانكفئوا على الرمال عيونهم تكاد تخرج من محاجرها بحثا عن شيء لا بد أنه مخبأ بطريقة ما في الرمل.
الأطراف كثيرة، كل حركة منها تثير ثائرة الرمل، فيملأ العيون ويسد الأنوف، وتتصاعد صرخات الاحتجاج؛ لأن شخصا وقف أو سار أو تحرك، وأثار بحركته زوبعة صغيرة في ساكن الرمال. المعجزة، معجزة العصر، الشي الصغير الكائن والموجود في حياتنا منذ وجودها الأول، إنما لكونه صغيرا، فالجميع يعبرون به دون أن يحسوا له بأي انفعال أو احتفال، أقدامهم تدميه أو تصطدم به دون أن تشعر أو تحس أنها صدمت شيئا أو تعثرت بشيء، والشي دائم الصراخ والعويل، إنه كائن وموجود، دائم الرجاء أن يحظى منها بالتفاتة، أن يتلقى إشارة واحدة من طفل أبله تفيد أنه رآه أو سمعه أو أحس به بلا فائدة. الناس انغماسهم في مشاكلهم أقوى وأكبر من أن يدعهم ولو للحظة يفيقون إلى ما حولهم، ويتأملونه بنظرة خالي البال. إننا لم نعد أحرارا في رؤيتنا، أصبحت أنظارنا قصيرة موجهة إلى ما تعرفه أو إلى ما تود معرفته؛ أي إننا لم نعد نرى ما ينعكس من داخلنا إلا ما يعكس اهتماماتنا وتفكيرنا وأحلامنا، فقدنا تلك القدرة البكر على تلقي ما هو خارج النفس كما هو، بروعته وتلقائيته وعمقه وبساطته والانفعال له أو عليه، وبناء آرائنا ومعتقداتنا من خلاله، لا نرى إلا لكي نثبت أو نبرهن به أننا على صواب، ولكن في العادة دائما ما يحدث شيء، حدث يعرض مصادفة، شيء لا بد رغم إرادتنا يرغمنا على أن نلوي أعناقنا، وننظر فنفاجأ أننا أمام حدث خارق للعادة، أننا أمام شيء، وإن يكن صغيرا إلا أنه بالغ الدلالة، وحينئذ تفلت من أحدنا صرخة الإدراك الأولى، ومعها تجر الانتباهات إلى انتباهات ليصبح ذلك الشيء بعد يوم وليلة محور اهتمامنا الأول، ونكتشف وندرك كم نحن بحاجة إليه، وكم كانت تفتقده حياتنا، وكم هو لازم حيوي لها، ونندفع حينئذ اندفاع من فقدوا العقول نهتم به اهتماما مبالغا فيه، ويصبح أمل الإنسان منا أن يحظى منه بنظرة، أو نراه رأي العين. هل أصبتم بخيبة أمل؟ أنا نفسي حدث لي ما حدث لكم، ولدى الإدراكة الأولى كدت أهيم على وجهي يائسا خائب الأمل. لنحاول إذن ألا نخطئ خطأنا الشهير الأول، الشيء خارج ذواتنا، الشيء لا كما نريده وإنما كما هو موجود وقائم، وكما كان يمضي الناس عنه غير مهتمين أو مدركين، إنه ليس حشرة غريبة أو قطعة من معدن نادر، كان في الحقيقة بشرا مثلي ومثلك له أذنان وعينان وأنف وفم وأسنان ولد بها جميعا، والمفروض أنه لا يزال إلى لحظتنا هذه يمتلكها. أنا لا أهزل أو أقول غير الحق؛ فآلاف المواليد تخرج كل عام على هيئة مواليد شاذة، بعضها ملتصق ببعض في أحيان، وأحيانا بطن واحد بصدرين ورأسين من أعلى، ومن أسفل بحوضين وأربع سيقان وأرجل. كل الاختلاف أن الشيء في حالتنا هذه كان جنينا صغير الحجم، وهذا كل ما هنالك، لا، لم يكن في حجم كرة القدم ولا حتى في حجم البرتقالة، إن شئتم الدقة كان في حجم نصف عقلة الأصبع، ومع هذا فهو كامل الأعضاء متناسبها باستطاعته أن يصرخ ويرقص ويرضع، كل ما هنالك أنه يصرخ بصوت لا تستطيع سماعه، عليك لكي تسمعه أن تقربه كثيرا من أذنك، وحبذا لو وضعته كله داخل أذنك؛ لكي تسمع صراخه أوضح ما يكون، صراخ عصبي متشنج يحاول النص نص «هكذا سوف نسميه» أن يفرض إرادته علينا وعلى الحياة. كان صغيرا إلى درجة أن أمه لم تلحظ أنها ولدته، انزلق منها مع الماء الذي كان يملأ الرحم دون أن تحس به، وحسبته الداية قطعة من المشيمة، ولكنها حين تناولته وتأملته صرخت صرخة أرعبت سكان المنزل جميعا، ولم تسقط فاقدة النطق، وإنما إلى الأبد فقدت النطق. •••
وما أتعس الأم! كانت قد حملت به بعد أربعة عشر عاما من العقم، وطوال حمله كادت تجن وهي تصلي إلى الله أن يجعله ولدا يقر به عين أبيه، وعلى هذا لم تجرؤ على إطلاعه عما أتت به، وزعمت له أن الحمل كان كاذبا، وبعد أن كانت قد قررت أن تلقي بالجنين مع الماء القذر صعب عليها الضنى، وأخفته تحت الوسادة، وبالحقنة الرفيعة كانت تستطيع العثور على فمه وتغذيته، وضبطها الزوج ذات يوم وهي ترضعه، وانهارت واعترفت، وبعد أن ثاب الأب إلى رشده، وأيقن أن الخطأ - إن كان هناك خطأ - ليس منه أو منها، وأنه يجب أن يرضى بما قسمه الله، رضي وسكن. تلك كانت ظروف ولادته، أما كيف تربى وتعلم؟ فتلك قصة أخرى؛ فلقد سمع الأب ذات يوم أن السلطان يهوى جمع التحف النادرة، وأنه يدفع مكافأة سخية لكل من يحضر له تحفة أصيلة ما امتلكها أحد قبله.
ولم يكن في قلب الرجل لل «نص نص» حب أي حب، فحب الابن مسألة يتعلمها الوالد، ويكتسبها مثلما يتعلم الولد المشي أو النطق، وكما يعلم الأب ابنه كيف ينطق فالابن يعلم أباه كيف يحبه، فكيف يستطيع «النص نص» أن يعلم أباه، وأبوه يحتاج إلى عدسة كي يرى وجهه، أو يعرف بطنه من رأسه؟ الأم وحدها هي التي كانت تحبه، ولهذا كان على الأب أن يساهيها ويأخذه، وأن ينفق جزءا من المبلغ الذي أعطاه له السلطان في شراء ملابس لها ومصاغ. أما السلطان الذي كان يعاني من الفراغ الممتد في حياته وأمور بلاده يسيرها وزيره ورعيته هادئة سلسة، فقد وجد في «النص نص» غايته ومبتغاه، والشيء الذي يستطيع أن يكرس له كل نفسه ووقته، ويجد في هذا كل المتعة.
كان عليه أن يعلمه كيف يتكلم وينطق، ثم بعد هذا كيف يقرأ ويكتب، واعتبر أنه لو حقق هذا لأصبح يمتلك تحفة معجزة يستطيع أن يفرج عليها خلانه وأصدقاءه، وأن يمنحهم ويمنح نفسه بهذا متعة دونها أي متعة أخرى.
كل خوفه كان أن يكبر «النص نص» بمضي الزمن، ويصبح عند البلوغ مثلا أو إذا أصبح رجلا مجرد قزم ضئيل الحجم، ربما يكون أقصر الأقزام وأقلهم حجما، ولكنه حتما سيفقد أهم ميزاته. غير أن «النص نص» كفاه مئونة القلق، فلم يكن ينمو مع الأيام، أو يزداد حجمه، أو حتى تتغير ملامحه، بل إنه حين قارب سن الرجولة لم يحدث له أدنى تغيير سوى أن لحية نبتت له فجأة، لحية فيها بالضبط عشر شعرات ما كان أسعد السلطان وهو يحلقها له بنفسه، أو وهو يجتث منها خمس شعرات، ويترك خمسا لتنمو وتكون ذقنا بديعة صغيرة كذقون العلماء.
وتعلم «النص نص» النطق، فأصبح يحسن استخدام الجهاز الترانزستور، الذي كان يضخم صوته، ويجعله مسموعا، وفي نفس الوقت يقوم بمهمة الأذن له، بحيث يخفف من موجات الصوت ويهذبها كي تصل إلى أذنه الدقيقة، وتصبح في متناول سمعه.
بهذا الاتصال الذي تم مع «النص نص» أمكن للسلطان أن يعلمه القراءة والكتابة، وأن يبدأ معه سلم المعرفة الطويل. وفيما عدا ساعتين كان يقضيهما «النص نص» في تناول الإفطار والتريض رياضة عنيفة، يسير في أثنائهما فوق المسطرة القدم من أولها إلى آخرها، ويقطعها في رقم قياسي لا يتعدى نصف ساعة، أو يزاول العوم لمدة ساعة وأكثر في كوب الماء، ويستطيع أن يدور حول محيطه ثلاث مرات، وأحيانا أربع مرات.
فيما عدا هذا كان كل وقت «النص نص» متروكا للدراسة والتحصيل، وقد أتاح له السلطان أساتذة كبارا مما جعله ينتهي من المرحلة الابتدائية، وهو لم يبلغ الخامسة، وفي العاشرة انتهى من الدراسة الثانوية، واستعد لدخول الجامعة. هنا فقط بدأت إمكانيات «النص نص» المعجزة تظهر؛ فقد وجد أن منهج كلية العلوم التي اختارها ليدرسها أقل بكثير من أن يستغرق كل وقته، بل إن الطب والعلوم والزراعة معا كانت أقل من وقته، فأخذ بجوارها الآداب والقانون والفنون. وفي السنة الثانية مثلا نجح في تشريح ثانية طب وميكانيكا، ثانية ميكانيكا وكهرباء ومدني، ثانية كهرباء ومدني، وكل القوانين المقررة على ثانية حقوق، وفي البكالوريوس قدم في جميع بكالوريوسات الجامعة وليسانساتها، وبتفوق نجح فيها جميعا، حتى إن خطابات التعيين جاءته ليعين معيدا في أربع عشرة كلية في وقت واحد. وحين ذهب فرحا ليتسلم مهام أول مناصبه بدأت أشباح مأساته تتراءى؛ إذ لم يجد أحدا يأبه له أو يعيره اهتماما، أو حين ينجح في إثارة اهتمامه والحديث معه ينجح في إقناعه بجدية طلبه، كان الجميع ينظرون إليه نظرتهم لا إلى إنسان دفعه حظه السيئ إلى أن يكون صغير الحجم ليس إلا، وإنما باعتباره ظاهرة شاذة، وكأنه حشرة قد نجحت في النطق كالآدميين.
Shafi da ba'a sani ba