Gangar Tsoho
النبع القديم: لوحات قصصية
Nau'ikan
ربما طافت اليوم على ذهني وضميري هذه الأفكار والتساؤلات، بحكم التقدم في السن وعدم الإحساس بأي صدى حقيقي لآلاف الصفحات التي دوناها، أنا والكثيرون من أمثالي. وقد لجأت إلى مخزون زادي الثقافي المتواضع لتقديم هذه الخواطر عن الإنسان العادي أو الرجل الصغير كما يسمى في بعض اللغات الأجنبية، وكما يتمثل في بعض الأعمال الأدبية التي ترد الآن على خاطري من التراث الغربي، تاركا الكلام عن العامة والمهمشين في تراثنا وتاريخنا العربي والإسلامي إلى فرصة أخرى ...
في أيام شبابي كنت أقبل على قراءة بعض أعداد السلسلة المشهورة، التي كانت تنشر عيون التراث الأدبي والفكري الإنساني، وهي سلسلة «إيفري مان»: «كل إنسان». ظل الشعار المكتوب على الصفحة الأولى منها يهزني ويملك علي كياني، ويدفعني على الدوام إلى تصويب عيني إلى شفتي الإنسان العادي لأتذوق لغته، ووضع أذني على قلبه لأتسمع نبض قلبه وفرحه وهمه: «يا كل إنسان! سأسير إلى جوارك وأكون دليلك كلما اشتدت حاجتك لأن أكون بجانبك.» (وقد وردت العبارة على لسان الرجل العادي أو كل إنسان في إحدى مسرحيات العصور الوسطى الأخلاقية المعروفة بهذا الاسم.)
وفي رجولتي عشقت الشاعر الاشتراكي والكاتب والمخرج المسرحي «بريشت»، وقدمت للقارئ العربي عددا من مسرحياته وقصائده التي كان من أهمها قصيدة ما فتئت أمواجها تفور في أغوار الروح منذ أكثر من أربعين سنة مضت، وهي عن عامل بسيط يسأل أثناء القراءة، وربما تستطيع بعض سطورها أن تقربنا من موضوعنا: «من بنى طيبة ذات الأبواب السبعة؟ في الكتب نقرأ أسماء الملوك، فهل حملوا الأحجار فوق ظهورهم؟ وبابل التي تهدمت مرات عديدة، من الذي أعاد بناءها في كل مرة؟ وليلة تم بناء سور الصين، أين ذهب البناءون؟ روما العظيمة زاخرة بأقواس النصر، من أقامها؟ وبيزنطة التي طالما أشاد بمجدها المنشدون، هل كان سكانها جميعا يعيشون في القصور؟ الإسكندر الشاب فتح الهند، هل كان وحده؟ قيصر هزم الغاليين، ألم يكن معه طاه؟»
وتمضي القصيدة في أسئلتها التي تدور حول الرجل العادي الذي يصنع التاريخ، ومع ذلك أغفله التاريخ الذي كتبه مؤرخو الملوك والأمراء والوزراء والقواد، إلى أن بدأ مؤرخو الحضارة يتذكرونه منذ فولتير على أقل تقدير. وأخذت المدارس الجديدة للتاريخ الاجتماعي والشعبي في عصرنا الحاضر تهتم بدور العامة في صنع التاريخ، وسقوطهم كذلك ضحايا نكباته وكوارثه ونزوات المحركين له.
وتقلبت بي صروف الأيام والأعمال، فاطلعت على أعمال أخرى تضع «الرجل الصغير» في بؤرة الاهتمام، بل تجعله معيار الحكم السليم النابع من الحس والذوق الفطري السليم كلما جنحت بعض المدارس والاتجاهات الفكرية (مثل فلاسفة المثالية الذاتية) إلى الشطط، وأنكرت وجود الواقع المباشر أو جعلته معلقا بإدراكنا له، أو كلما أسرفت أجنحة الأدباء والفنانين في التحليق فوق سحب الغرائب والعجائب أو في الهبوط إلى أغوار المفارقات والمتناقضات تحت الواقع والشعور أو فوقهما. ولا يتسع المجال المحدود إلا للإشارة إلى رواية «أيها الرجل الصغير، ما العمل الآن؟» ل «هانز فالادا» (1893-1947م)، التي صورت هزيمة زوجين شابين بريئين وموتهما ضحية المحن الاجتماعية والأخلاقية خلال الأزمة الاقتصادية الطاحنة في أوائل الثلاثينيات، وكذلك الإشارة المخلة إلى «فلسفة الرجل العادي» التي أسسها رائد الفلسفة التحليلية الإنجليزية جورج مور (1873-1958م) على الثقة بالحس السليم أو «الكومون سنس»، الذي اعتمد عليه الناس دائما في حياتهم اليومية، واستندوا في أحكامهم على مقاييس صدقه وصوابه، واستمدوا منه مجموع آرائهم وقيمهم واقتناعاتهم.
إن التوجه للرجل العادي في حياته اليومية، والتعلم من شفتيه ومن همومه وآماله ورؤاه وإحباطاته الفردية والجماعية، ومحاولة النطق - كما يقول نيرودا - بصوت أولئك الذين صمتوا والتغني بأغاني الذين لم يعرفوا الغناء، ثم الاحتكام في كل ما يقال ويكتب أو يخطط للرجل العادي (الذي لا أحدده بالطبقة الاجتماعية بل بالانتماء للأرض والتاريخ) يمكن أن يمدنا بالإجابة الصحيحة على الكثير من أسئلتنا الحائرة. وربما يأخذ بأيدي الكثيرين منا ومن شباب الأدباء والفنانين والمثقفين، خارج متاهات الغموض والضياع والادعاء والتجارب العشوائية. قد يبدو «مرجع» الاحتكام هذا شيئا تحيط به هالة المجهول، التي تحيط عادة بما نسميه الشعب أو الجمهور. لكنني أقصد ببساطة أن نسأل أنفسنا على كل المستويات: لمن يتوجه هذا القول أو العمل، وعلى من يعود؟ هل يمكن أن يصب في نهر الجموع ويغير من حياتها المادية والمعنوية؟ إن الرجعة الحاسمة لما أسميه بالرجل العادي أو الرجل الصغير يمكن أن تكون هي المنطلق الأكيد، كما تكون هي التوجه والغاية من كل ما نحاول اليوم ونحقق فيه بعض التقدم أو نتعثر فيه: إصلاح التعليم والاقتصاد، استزراع الصحراء، إنقاذ القيم الثابتة من السقوط اليومي في مستنقعات اللاقيم الأنانية المسعورة، تحقيق خطوات حقيقية - لا إعلامية - على طريق النهضة والاستنارة والتقدم ... إلخ. وحين نرجع إلى الرجل العادي، لا أتصور أن يكون رجوع الأوصياء عليه، فبهذا المنطق قهرناه وحرمناه طويلا من حريته وحقوقه الأولية، ولا حتى بزعم التعلم من كنوز حكمته، فبهذا المنطق أيضا خدعناه وخدعنا أنفسنا، وأقمنا إمبراطورية الوهم والزيف والثرثرة، التي تتسلل داخل بيته وعقله وعقول أبنائه؛ لتكريس المزيد من الخداع والغيبوبة والضياع. إنما ينبغي التوجه إلى ضمير الرجل الصغير، الذي حمل أحجار تاريخنا على ظهره - الأهرامات والمعابد قديما، والإنشاءات والعمارات الشاهقة حديثا - وقنع بالنوم في المقبرة الطينية وفي الكوخ والبيت الشعبي الآيل للسقوط أو على الرصيف. الرجل الذي خرج ليلة النكسة ليشد بلحمه العاري أزر نظام مستبد فاشل، ومزق ثوبه أو جلبابه الوحيد في الجنازة المأسوية الشهيرة حزنا على البطل المأسوي، الذي آمن بصدقه، وأحس - على الأقل في بداية حكمه وبالرغم من طغيانه وأخطائه الجسيمة - بأنه يعيش له ويريد أن يغير ظروف حياته البائسة ...
وتسألني الآن، والشك والسخرية يطلان من عينيك: ما هذا الحلم المستحيل؟ وأين هو الرجل العادي أو الرجل الصغير الذي تزعم أنه صنع تاريخنا ولا يزال يصنعه، ويحافظ على قيمه وثوابته في وجدانه النقي البسيط؟ ألم يتم تخريبه هو أيضا وإفساده بكل أشكال القهر الظاهرة والخفية طوال العقود الأخيرة؟ ألم يرد إلى المستوى الطبيعي والحيواني حتى كان أن يتحول - كما قال توفيق الحكيم رحمه الله في مذاكرات وقته الضائع - إلى بطن يحشى بالطعام وجيب يحشى بالمال؟ ألم ترزح فوق صدره جبال الإحباط واليأس من صلاح الأحوال، حتى افترسه ما تسمونه - أيها المثقفون - بالاغتراب والاستلاب والاقتلاع من الجذور، والمرارة والقلق وغير ذلك مما تثرثرون فيه؟
الحق، إن هذه الأسئلة وأمثالها لا تدل إلا على فقدان الثقة والإيمان العظيم بذلك المجهول الحاضر أبدا، وهو الشعب. وتلك في تقديري هي أشنع الخطايا التي يمكن أن يسقط فيها حامل القلم، حتى ولو لم تشعر جموع هذا الشعب - لأسباب كثيرة - بما يكتبه ويعانيه للاقتراب منه والتعبير عنه (اللهم إلا في أعمال قليلة استطاعت أن تنفذ إليه من خلال السينما والإذاعة والتليفزيون). وإذا كنا لم نتعلم بعد كيف نفهمه ونعبر عنه، ولم نذهب بعد (وفي أيدينا السبورة والطباشير كما نصحنا سارتر بعد نزهة قصيرة في شارع السد بالسيدة زينب) إلى أهلنا في الريف والأحياء الشعبية، ولم نشارك مشاركة حقيقية في رفع المعاناة التي نتحدث عنها دون أن تخف عن كاهله مثقال ذرة، فإن الدعوة لاتخاذ الرجل الصغير مقياسا ومعيارا وميزانا - يذكرنا بميزان الحقيقة والعدل في يد ماعت! - لتمييز الحق من الباطل مما يدور في حياتنا. ربما تستطيع أن تحسم معظم المعارك أو أشباه المعارك التي نتصارع حولها ونهول من شأنها، ونعصب بها أعيننا عن رؤية الواقع اليومي ووجه الإنسان العادي. ومن يدري؟ ربما يكون الرجوع لهذا الرجل الصغير هو باب التوبة والتطهر من تجاهلنا له، وآثامنا في حقه وحق ما نسميه بالفكر والعلم والتعليم والفن والأدب والثقافة. وربما يكون كذلك بداية الطريق للعودة إلى ذواتنا الحقيقية، التي لن تجد نفسها إلا عندما تتوحد بهذا الآخر العزيز، وتلتحم به في «نحن» واحدة صلبة ومتماسكة.
وأخيرا، فإن الكلام عن «الرجل الصغير» وحقوقه علينا وواجباتنا نحوه، يمكن أن تتعدد شجونه وتتشعب مسالكه، ويمكن أن يثير من المشكلات والأسئلة أكثر بكثير مما يقدم من أجوبه. لكنني أشعر أن الرجوع إلى الإنسان العادي، أو الرجل الصغير بمثابة الرجوع إلى الحق بعد الضلال في متاهات الوهم والتضخم والتجاهل والجحود وخداع الذات ...
Shafi da ba'a sani ba