مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
المتوالي الصالح
المتوالي الصالح
تأليف
وديع أبو فاضل
مقدمة
للروايات الأدبية أكبر أثر في الأمة لما تتركه في النفس من عوامل مختلفة؛ فهي تثير الحماسة للخير، وتظهر الباطل بصورة عملية يمجها الذوق وتنبو عنها النفس، وتمثل الفضيلة بأحسن مظاهرها الفتانة؛ فتربي الأخلاق الفاضلة، وتبعد الأميال البشرية عن الوحشية والهمجية والضلال.
ولهذا كان من المترتب على كل من عالج هذا الموضوع من الكتاب ألا ينظر إلى مجرد إيراد قصة تلذ للمطالع؛ بل عليه أولا أن يضع نصب عينيه غاية سامية يمثلها للناس في حياة أفراد محبوبين، فترسخ المبادئ الصحيحة في النفوس المرنة، وتنطبع الأخلاق العالية في أفكار الفتيان والفتيات من تلاوة هذه الروايات، دون أن يكدوا الذهن في درس مبادئ الفلسفة الأدبية أو الاجتماعية، وحفظ القواعد المملة التي أصبح كثير منها بعيدا عن المألوف.
ولما كان من أهم أمراضنا الاجتماعية التفرق أو التحزب الديني أو الجنسي، رأيت أن أعالج هذا الموضوع بمباحث طلية جعلتها في قالب رواية عصرية، أرجو أن تجيء وافية بالغاية التي وضعت لأجلها؛ وهي زرع مبادئ الوطنية الحقيقية في النفوس، والله الهادي إلى سبيل الخير والإسعاد.
الفصل الأول
تمهيد
السكون مخيم على أعالي لبنان، والناس راقدون ساكنون غير حاسبين لغدر الليالي حسابا، وإذا بصوت استغاثة سمع كأنه صادر من أعالي الجبل، تلته طلقات نارية، ثم عاد السكون فشمل كل ما حول تلك البقاع.
هب نفر من شبان قرية مسيحية صغيرة مجاورة لتلك البقعة، وهم يحملون بنادقهم - وساروا نحو مصدر الصوت - فإذا بهم يسمعون أنين مجروح ووقع أقدام خيل من بعيد.
دنوا إلى حيث وجدوا «ناطور» القرية؛ أي خفير كرومها ملقى على الأرض يتخبط بدمائه، فلما شاهد أبناء بلدته، قال: «قتلني المتاولة.» ولفظ النفس الأخير.
ثارت النخوة في رءوس البعض فعمدوا إلى أخذ الثأر في تلك الساعة، ولكن كان بين الحاضرين فتى شجاع باسل عرف بشدة بأسه ومراسه، فلم يكن أحد يتهمه بالجبن، إلا أنه كان عاقلا أريبا، فنظر إلى أصحابه، وقال: مهلا! ليس هذا وقت أخذ الثأر، بل الآن وقت دفن الميت وبعدئذ نبحث عن الغريم؛ إذ لا يصح أن يذهب البريء بجريرة المذنب، فقد يكون للقاتل أو القتلة سبب حملهم على ارتكاب هذه الجريمة الشنعاء.
كان هذا يجري في تلك القرية الصغيرة، بينما كان نفر من شبان قرية متوالية صغيرة عائدين إلى قريتهم، وفي مقدمتهم زعيمهم سلمان أحمد، فأبصر بهم الشيخ صالح كبير أهل قرية العمروسة المجاورة لقريتهم، ودنا منهم وقد رابه أمرهم وأدرك غايتهم، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله! تبا لك يا سلمان أحمد، لقد حملتنا وزرا ووصمتنا بوصمة العار، حتى أصبحنا مضغة في الأفواه، وأقمت البلاد وأقعدتها وعطلت الأعمال، وأوقفت المزارعين عن حصادهم وزدت العداء بيننا وبين من يجاورنا من المسيحيين استحكاما، وكنت يا هذا السبب في جر الكثيرين مكبلين بالحديد إلى غيابات السجون، وبعضهم أبرياء لا ذنب لهم إلا أنهم أبناء بلدتك أو أقرباؤك، أو يدينون بدينك، فبئست القرابة إذا كان ما يجنيه الإنسان منها مثلما جنى أهلك منك، وهل تحسب أن الدين يأمر بمثل ما فعلت؟ حاشا للدين أن يكون كما تفعلون وإلا كان الكفر خيرا منه بكثير.
هذا ما قاله الشيخ صالح كبير قرية العمروسة من قرى البقاع الغربي، حينما رأى سلمان أحمد شيخ قرية مجاورة على رأس عصابة من الرجال الأشداء، وقد عاد من لبنان بعدما أوقع الرعب في قلوب المسيحيين، ونكل بكل من تعرض له في الطريق.
كان سلمان أحمد رجلا شديد المراس شريرا فاسقا عرف ببطشه ودهائه، فاتخذه بعض الحكام الأشرار آلة في أيديهم، وهكذا كان هو يستفيد من هؤلاء الحكام الأشرار فيتخذهم معوانا للشر ولابتزاز الأموال وللربح الحرام.
والذي زاد تحرج الحالة أن جماعة من أعيان المتاولة أسسوا جمعية في بعلبك؛ لنصرة أبناء دينهم ورفع شأنهم، فتحول بعض فروعها تباعا إلى نوادي عصابات تعمل للفتك بأعداء الطائفة، وتهديد الآمنين من أبنائها إذا لم يكونوا من مؤيدي العصابات. فبدلا من أن تعمل الجمعية على لم شعث الطائفة، وإنشاء المدارس والمكاتب لتنوير العقول وتهذيب الشبان، وإقامة الحفلات الأدبية وما أشبه مما كان ينوي القائمون بأمرها أن يفعلوا لرفع مستوى الأخلاق وإعلاء شأن الأمة، أصبحت الجمعية في يد فتيان لا يقيمون للأمور وزنا، ولا يعرفون كيف تعمر البلدان وتصلح الأديان النفوس، فاندس بين أفراد الجمعية السفحة والمجرمون وأفسدوا على المصلحين خطتهم، وضاع ما كانوا يأملون.
ولسوء الحظ أن سلمان أحمد رئيس فرع الجمعية في قريته المجاورة لقرية العمروسة، جعل من الجمعية سلما يرتقي بواسطته إلى أغراضه السافلة.
سار سلمان أحمد في طريقه، وإذا بشاب جميل الطلعة، ممتلئ البدن، تبدو على محياه أمارات الطيبة ومكارم الأخلاق، قد أقبل على الشيخ محييا، وقال: من هؤلاء الذين مروا بك؟ فكأن الشر كان باديا على محياهم، ولولا حرمة الشيخ لكان لي معهم شأن، فقد سمعتهم يشتمون أهل قريتنا ويتوعدون، وعرفت منهم سلمان أحمد، وهو شيخ قريته، وكان الأجدر به أن يتخذ له من الأصحاب غير هؤلاء الأجلاف.
فأنصت الشيخ إلى كلام محمد الهلالي الذي كان يكلمه، وقال: آه يا محمد إن سلمان أحمد زعيم هؤلاء، وهو أكثرهم شرا، وأبعدهم عن الفضائل، وأقلهم رجولية عند اشتداد النوائب؛ فهو جبان يسطو حين لا يجد من يدافع، ويجبن حين يلاقي الشجعان البواسل، وهذه شيمته التي عرف بها، فكم كان علة لخراب بيوت، يتم أطفالها، ورمل نساءها، ثم تظاهر لها بالمودة والإخاء، وأوقع الشر بين أفراد العائلة الواحدة، متهما بالجريمة بعض الأبرياء، وما ذلك إلا حبا بربح يسير، أو بالظهور بمظهر المتنفذ لدى الحكام، أو جرا للمغانم لنفسه ولو على جثث القتلى، فقال محمد - وقد عراه الذهول: ويحه وهو يريد أن يكون لنا صهرا! ثم سكت متألما.
وكان محمد شابا جميل الطلعة، بشوش الوجه، شديد الجسم، مفتول العصب، تلقى مبادئ العلوم على يد الشيخ صالح بعد أن تعلم مبادئ القراءة في مدرسة القرية الصغيرة، أما الشيخ صالح فكان رجلا تقيا فاضلا ، عكف على درس الكتب والتبحر في العلوم، قانعا بعيش رضي بعيدا عن الفخفخة والمجد الباطل، يجول في الصباح في الحقول عاملا بضع ساعات في زراعته مشرفا عليها بنفسه، ثم يعود إلى منزله فيأخذ في الدرس، أو يقصد بعض إخوانه حيث يجتمع به بعض الطلاب الأذكياء من أبناء القرية، فيأخذون عنه مبادئ العلم، وحيث حل الشيخ صالح كان مجلسه مجلس وقار، فإذا تكلم أنصت كل من حضر إلى سماع أقواله وإلقاء الأسئلة عليه، فكان يجيب السائل بما آتاه الله من علم وشاهده في رحلاته الكثيرة من الاختبار.
وكأن الله أراد الخير لتلك القرية، فأوجد فيها ذلك الشيخ الصالح وزوده بعلم غزير، وعقل راجح، وقلب كبير، وصدر رحب، وخبرة واسعة، وأعده لمثل هذه المهمة؛ إذ دعته أحواله العائلية وهو صغير إلى التغرب عن قريته، فقضى سنوات في دمشق في أيام حداثته، ثم عرضت لوالده أمور حملته على التغرب إلى مصر، فحمل ابنه صالحا معه حيث كان يتردد على الأزهر ويدرس على أئمته، ثم انتقل من مصر إلى جهات مختلفة، فكان يخالط علماءها وأدباءها ويستفيد مما يراه علما واختبارا؛ حتى إذا عاد إلى قريته الصغيرة كان قد خبر حلو الزمان ومره، ودرس أحوال العمران، وشهد من غرائب الأمور ما جعله خبيرا بأمور العباد، عالما فاضلا ساعيا للخير مجردا عن الهوى، ورأى تأخر قومه فسعى سعيا حثيثا لإزالة أسباب الجفاء بين العائلات مبتدئا بقريته الصغيرة، فكانت كلمته مسموعة عند الجميع، خصوصا وأنه لم يظهر تغرضا لعائلته، بل كان في كل أموره عنوان التسامح ومكارم الأخلاق، وكان كريما جوادا لا يبخل بماله عند الحاجة، بل يجود بنفسه وماله في سبيل إغاثة الملهوف وإصلاح الأمور.
وكان أول ما فعله أن حث أهل بلدته على إصلاح زراعتهم والاهتمام بأمورهم الخاصة، فأوجد بينهم حركة جدية أدت إلى تحسين زراعاتهم وجودة غلالهم، وتحسين نتاج مواشيهم، فكان ذلك مدعاة إلى تفضيل التجار حاصلات تلك القرية على حاصلات ما سواها من قرى البقاع، فضلا عما كانوا يجدونه من أهلها من التسامح وكرم الضيافة وحسن المعاملة.
وكان يوسف الهلالي والد محمد تلميذ الشيخ أكثر أصدقاء الشيخ اجتهادا في إصلاح أموره الدنيوية والانقطاع إلى أعماله، فكان عنوان الاجتهاد، فوفقه الله في أعماله ووسع عليه رزقه ورزق عياله، وكان منزله بمثابة مضافة لأهل القرية ولمن يقصدها من الغرباء.
وكان ليوسف الهلالي أيضا ابنة حسناء شبت على الفضيلة ومكارم الأخلاق، ومع أنها لم تتلق من العلم إلا مبادئ القراءة البسيطة، كانت إذا جلست تتكلم مع رفيقاتها خلتها على جانب عظيم من العلم والتهذيب؛ وذلك لأن والديها كانا من خاصة القوم؛ فأبوها كان - كما أسلفنا - واسع الخبرة عرف بين أقرانه برجاحة العقل، وأمها كانت من فضليات السيدات، اشتهرت بتدبير منزلها وإخلاصها لزوجها، وحسن قيامها بتربية ولديها، فكأن هيفاء ورثت الكثير من خلال والديها، وكانت نفسها تواقة إلى العلم والاطلاع، وهي سريعة الفهم شديدة الملاحظة، فساعدها ذلك على التحصيل، فكانت تأخذ ما لديها من الكتب وتجلس أحيانا أمام أخيها تقرأ ما يعن لها بصوت عال، وتتوسل إليه أن يصلح هفواتها ويساعدها على تفهم ما استعصى عليها، وفضلا عن ذلك فإنها كانت كلما علمت أن الشيخ صالح عندهم تجلس في غرفة محاذية لا يفصلها عن مجلسه إلا فاصل خشبي، وتصغي إلى أقواله وتعاليمه حينما كان يلقي الدروس على الفتيان الذين يجتمعون مع أخيها للاستفادة من الشيخ، وهكذا أخذت هيفاء عن الشيخ كثيرا من آرائه الفلسفية وتعاليمه المتنوعة، دون أن يشعر بها أحد أو تدرك هي سر تأثير ذلك في نفسها.
الأذن تعشق قبل العين أحيانا
بلغت هيفاء الرابعة عشرة من عمرها، فكانت آية حسن جمعت بين الجمال والكمال، مع ما اشتهر عنها من تدبير المنزل، ولطف الحديث، وعذوبة الصوت، فكانت النساء يتزلفن إليها وكل منهن تود لو تستطيع أن تخطبها لابنها أو لشقيقها، وهي لا تظهر ميلا إلى الزواج، بل كلما فاتحها أحد بذلك غضت نظرها أو خرجت من الغرفة خجلا وتجنبا للكلام في هذا الموضوع، وكانت تشعر أنه ليس بين أبناء قريتها من ملأ قلبها حبا أو قرت عينها بمرآه؛ لأنها كانت تطمح بما لا تجده هنالك.
والذي جعلها تنظر إلى شبان القرية نظرة الإشفاق لا نظرة الإعجاب، ما رأت من الفرق بينهم وبين سليم نجل سمعان إلياس أحد تجار زحلة صديق والدها، الذي كان يأتي كل عام في أيام الموسم فيشتري ما يفيض عن حاجة القرية من الحبوب بأثمان موافقة، كما أن أهل القرية إذا قصدوا محله في زحلة عاملهم أحسن معاملة.
وكان سليم يتلقى دروسه في إحدى كليات بيروت، وقد امتاز بين أقرانه بالذكاء والاجتهاد؛ فأحبه والده لذلك محبة عظيمة حتى كان لا يستطيع مفارقته في أيام العطلة فيصحبه معه أينما ذهب.
جاء هذا الشاب المهذب إلى القرية ظانا أن أهلها لا يزالون في أحط دركات الجهل، كما يتبادر إلى ذهن كثيرين من تلاميذ المدارس إذا زاروا القرى النائية عن العمران، ولكن سليم كان كثير التأدب فلم يظهر الاحتقار لأهل القرية، ونزل مع أبيه ضيفين مكرمين على يوسف الهلالي، ودعي الشيخ صالح لتناول الطعام مع بعض أعيان القرية، فبعد أن أكلوا ما لذ وطاب قاموا إلى بهو كبير حيث جلسوا يتحدثون.
وكانت الثورة التركية في ذلك الحين قد قضت على استبداد عبد الحميد، وأخذ الناس يتحدثون بفضلها ويعظمون قدرها، فقال الشيخ صالح: ما رأيكم فيما آلت إليه الأمور، فلقد سمعت أن القسيس والشيخ تعانقا في بيروت تعانق الإخوان، والله إنني لأحب مثل هذا الاتحاد جدا، ولكنني أخشى أن يكون ما حدث سابقا لأوانه.
ولما كان سليم شابا شديد الحماسة والإخلاص لوطنه، وقد حضر حفلات كثيرة وطنية شهد فيها تآخي الأخوين المتنابذين، وسر كما سر كل متعلم من هذا الاتحاد، وأخذته هزة الطرب ونشوة الحماسة الوطنية، وشعر مع غيره من الشبان أن أمل الشرق في التخلص من العبودية للتقاليد وللجهل أولا، وللاستعباد السياسي ثانيا قد تحقق أو كاد، استفزه قول الشيخ وقال: لم تعتقد يا مولاي أن ما حدث سابق لأوانه؟! - لأن الطفرة محال يا بني، وما ورثناه من التقاليد والعادات من أجيال لا يزول في يوم أو يومين، والنفوس على ما هي عليه، والجهل والتعصب متفشيان في البلاد، فلو اتفق الناس في بيروت وكانوا في دمشق وبقية البلدان العربية على عكس ما هم عليه في بيروت، لا يلبث هذا الاتفاق أن يزول بالسرعة التي تم فيها، ولكننا يا بني نشعر معكم - شبان اليوم - بضرورة الاتحاد متى توفرت أسبابه، وتوطدت أركان المحبة والإخلاص بين الطوائف المختلفة، وتوحدت الغايات واتفق الجميع على خطة واحدة وسياسة عامة يتبعونها، وإلا كانت المساعي عقيمة، وأولئك الذين يتصافحون اليوم بهذه السهولة يعودون إلى الخصام سريعا.
سمع سليم هذا الكلام من الشيخ صالح ولم يكن يظن أن رجلا قرويا يبلغ هذا المبلغ من العلم فبهت؛ إذ كان يتوقع من رجل قروي معمم أن يتكلم بما ينم عن تعصب وجهل، فإذا به يسمع آراء يعجز عن الإتيان بأفضل منها أساتذته، فنظر إلى الشيخ وقال: مهلا يا أستاذ، إن كلامك لهو عين الصواب، ولكننا - نحن الشبان - نرى غير رأي الشيوخ. أنتم تتمهلون ونحن نحب العجلة. - العجلة من الشيطان يا بني. - بل في الحركة بركة - كما يقولون - وهذا ما نراه نحن؛ لأن التمهل والجمود يضران بالقضية المشتركة، فإننا الآن نتآخى ونتعاضد ونتعاهد على العمل متحدين، وبعدئذ نعد الوسائل التي تؤدي إلى الغاية المطلوبة.
فضحك الشيخ، وقال: «بل أنتم يا بني تبنون فوق أسس واهية؛ فما نفع العهود والمواثيق إذا لم يكن ثمت اتفاق على المبادئ التي هي أساس العمل؟ لا أقول هذا إضعافا للهمم ولا تقليلا من أهمية ما تم للآن، ولكن الأيام بيننا وسنتعثر بالخيبة ونعود بالفشل مرارا قبلما يتم لنا ما نريد.»
فوجم سليم عن الكلام قليلا، ثم قال - محاولا إرضاء الشيخ واستجلاب رضاه، وإقناعه بوجوب تأييد الحركة التي كان سليم يعتقد أنها لا تقوم إلا إذا أيدها رجال الدين والعلم وأصحاب النفوذ: قد يكون ذلك، ولكننا نحن الشبان نعتقد أن الشيوخ الذين يفوقوننا خبرة ومعرفة لا يقفون في سبيل الحركة، بل يشجعونها كلما سنحت لهم فرصة وينورون الأذهان ويفتحون القلوب؛ تمهيدا لليوم المنتظر، نعم نحن أقل خبرة وحنكة، ولكن يا حضرة الأستاذ ألا تظن أن المستقبل لنا وبيدنا، وأن العمل يحتاج إلى خبرة الشيوخ، ولكن لا غنى له عن همة ونشاط وحماسة، فإذا اتحد الشيوخ والشبان تم لنا ما نريد.
فافتر ثغر الشيخ وارتاح إلى هذا الحديث، ثم قال: «يا بني، لولا الأغراض وتضارب الغايات لكنا الآن على ما نشتهي ونريد، ولكن ما نفعل بطلاب الوظائف وأرباب الألقاب وزعماء الجماعات ورؤساء الطوائف المتنابذة المتنافرة؟ هل يرضى أحد أن يكون للآخر ظهيرا فيهدم بذلك شخصيته، أو يخسر لقبه ويتخلى عن مقامه وعظمته الفارغة وزعامته الزمنية؟ سر يا بني أنت وأمثالك بحول الله، واطلبوا العلم أينما تجدونه، واجتهدوا في بث الدعوة إلى الاتحاد ونبذ التعصب الذميم، وحب التضحية في سبيل الغايات السامية، فكلما ازددتم عددا وزادت قوتكم قربنا من الغاية المطلوبة، وزال ما بين الطوائف من الجفاء.
اعلم أننا ما دمنا نعمل متفرقين طوائف متعددة مختلفة الغايات، وزعماؤنا يسعون للصعود على مناكب هذا الشعب المسكين إلى إدراك غاياتهم الشخصية، مضحين بالأمة في سبيل مطامعهم الذاتية، لا أمل لنا بالنجاح. ولكن يوم الشرق قريب؛ فسوف تفتح هذه الحركة العيون، ويدرك الزعماء أن تضحية النفس والنفيس في سبيل الوطن وإعلاء شأنه هي غاية الغايات، ويتعلم الشعب أن الاتحاد والتضافر على العمل هما الدعامة الكبرى لتحقيق أمانينا المشروعة، وإحلالنا بين شعوب الأرض الحرة في المنزلة التي نستحقها، ليتني كنت أعيش لأرى تحقيق هذه الأمنية!»
هذا ما دار من الحديث بين الشيخ وسليم، بينما كانت هيفاء تتسقط حديثهما من وراء ستار معجبة بآراء ذلك الشاب النبيل والشيخ الجليل.
الفصل الثاني
السماء صافية الأديم، والأرض مكسوة أبسطة خضراء، وقد برزت الطبيعة بأبواب الربيع البديعة، يزينها الزهر بكل لون زاه وشكل يروق للعين مرآه، ينبعث منه أريج العطر فتطيب به الأرجاء. إلا أن الإنسان الذي أوجده الله ليكون متمما لجمال الطبيعة لا يعرف كيف ينعم بالا ويسعد حالا بمثل هذه المناظر البديعة، فيزيدها حسنا وإبداعا ويتم مقاصد الله فيه.
هكذا كانت الحالة في البقاع في ذلك اليوم الجميل؛ فإن «المعلقة» مركز القضاء كانت غاصة بمئات الناس من شاكين ومشتكين وأرباب الدعاوى والوسطاء الكثيرين، وكان القائمقام غريب الدار من رجال العهد البائد، عرف بأخلاق الناس في تلك الجهة، فاستغل جهلهم وملأ جيوبه بالدراهم التي كان يجمعها من القضايا الكثيرة، التي كانت تنشأ لسبب أو لغير سبب معقول في كثير من الأحيان.
اجتمع أهل قرية العمروسة كلهم تقريبا هنالك، منهم المتهمون بأمر العصابات ومنهم الأهل والشهود، واجتمع عدد من وجهاء المسلمين الذين جاءوا ليتوسطوا في الأمر، وكذلك عدد من وجهاء المسيحيين الذين سئموا حوادث التعدي وأتوا يخاطبون القائمقام بشأنها، وبينهم المطران الذي زار القائمقام وألح بوجوب محاكمة المعتدين والتشديد عليهم، وإيقاع العقاب بهم؛ منعا لتكرار مثل هذه الجرائم المنكرة، وإلا رفع الأمر إلى قناصل الدول جمعاء.
هكذا كانت حالة القضاء المحزنة في ذلك اليوم العصيب، وبدلا من أن ينصرف القوم إلى أعمالهم، ويعمل أصحاب العقول منهم فيما يعود على البلاد بالخير، كان كل فريق منهم يسعى للإيقاع بخصمه، ويدبر له الحيلة للوقوع في حبائل الحكام، فكان كثير من الأبرياء يذهبون فريسة المساعي، ويفلت القتلة الأشرار من بين يدي العدالة، ويزدادون جرأة على الإيقاع بالخصوم، وتذهب حقوق الأبرياء الضعفاء ضياعا، وكان من بين المتهمين كثيرون من أهل العمروسة وشى بهم المفسدون فسجنوا بحجة أنهم من رجال العصابات، وأفلت سلمان أحمد وجماعته؛ لأنهم هم الذين دبروا هذه الوشايات وأوقعوا غيرهم في غيابات السجون.
وخاف القائمقام من تفاقم الشر، فدعا رجلا من وجهاء البلدة شديد الدهاء، جعله له شريكا وواسطة في أعماله العديدة، فأعرب له عما يخامره من الخوف إذا لم تنته هذه القضية كما يجب، وقال: «ما العمل يا شاكر أفندي والفريقان متشددان؟ إني أرى الخطر قريبا.» - لا خطر يا مولاي؛ فأنا أصرف لك هذه المسألة وتربح من الفريقين. - تبا لك! ماذا تقول؟ - أقول: إن المسألة ليست بذات بال، بل إن هنالك لنا صيدا. - وأي صيد تعني؟ - إننا نربح من المسلمين والمسيحيين على السواء ، ونرضي الفريقين.
قال: إذن أترك المسألة لك، ولكن حذار أن توقعنا في مشكلة جديدة، فأنا لم أجمع للآن ما يكفي لضمانة الحصول على مركز جديد إذا خسرت مركزي هذا بسبب سوء تصرفك إذا زدت النار اشتعالا.
قال: طب نفسا، فسوف أزيل الخصومة وآخذ مقابل ذلك أجرا حلالا لك نصفه.
فتهلل القائمقام وقال: «حقا إنكم أنتم أهل البلاد تزيدوننا نهما وشرها، ثم تقولون: إن الأتراك يرتشون. والله لو لم تفتح عيني الآن لصرفت الأمر بالحزم، وأرضيت ضميري، وأرحت البلاد والعباد، أو تركت الوظيفة لسواي.»
فقال شاكر أفندي: لكنك لو فعلت ذلك «لقطعت رزقنا»، وأوقعت الضرر بنفسك، فلو كان أهل البلاد على شيء من الحكمة، لما وقع بينهم مثل هذه الحوادث المؤلمة، ولكنه صح فيهم القول المأثور «كيفما تكونون يولى عليكم.» والآن ما لنا ولذلك، فأنا ذاهب وسأعود إليك بعد ساعتين، وقد اتفقت مع المسيحيين على أن أصرف لهم هذه المسألة التي آلمتك كثيرا؛ لأنها وقعت في عهدك، وهكذا أفعل بالمسلمين بعد ذلك فتكون موضع الشكران، وأكون أنا من الرابحين.
وهكذا تم الصلح بين الطائفتين ظاهرا، وبقيت الحزازات في الصدور، وانصرف كل من الخصمين وهو أشد حقدا على خصمه مما كان.
الشيخ صالح والصلح
عرف الشيخ صالح بما تم، وما كان من دخائل القائمقام فأرغى وأزبد، وقال: يا للعار! أيقتل الأبرياء، وتيتم الأطفال، وتحول القرى الآمنة إلى معاقل للصوص والقتلة السفاحين، ثم يتهم الأبرياء ويسجنون ويبقى الجاني حرا طليقا، وينتهي الأمر بأن يأخذ الحاكم أجرا على ما كان، إن ذلك لمنتهى الظلم فإن الحاكم الذي لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ليستحق أشد العقاب وحقت عليه لعنة الله واحتقار الناس أجمعين. ثم ركب الشيخ جوادا وسار إلى زحلة فقصد منزل صديقه سمعان إلياس وقابله مقابلة طويلة، وعلم منه أنه مثله مستاء مما كان، عالم ببواطن الأمور ودخائل القائمقام.
فقال: إذن كيف يسكت المسيحيون عن هذا المجرم الذي يدبر أمور الناس؟ قال: وما يفعلون وهم لم يعلموا بما كان حتى انتهت المسألة، وأخذ الناس يتقولون بها وليس من يستطيع أن يتفوه بشيء ضده؛ لأنه لم يثبت على القائمقام شيء وإذا رفع أحد دعوى عليه عرض نفسه لانتقامه وللمحاكمة أمام محاكم قضاتها أكثرهم ليس بأعدل من القائمقام ولا بأكثر منه نزاهة، فكان نصيب الشاكين منه نصيب المجرمين المعتدين.
فقال الشيخ: «لا أرى رأيك وأنا أود أن أجتمع بفريق من عقلاء المسيحيين الذين يهمهم العدل ويسعون إلى الصلاح.» فكان له ما أراد واجتمع في ذلك المساء بعدد من كبار مسيحيي المعلقة وزحلة، وكانوا كلهم حاقدين على المتاولة لما جرى، وظنوا الشيخ من أولئك الذين يسعون في التوسط للمجرمين؛ تخفيفا لعقابهم أو طمعا بنيل بعض المال منهم، فحينما قابلوه كانوا ينظرون إليه نظرة الريبة والحذر.
فأخذ الشيخ يوبخهم لسكوتهم على ظلم الحكام؛ لأن ذلك علة فساد الأحكام، قالوا: ماذا تريد إذن؟
قال: اسمعوا وعوا ولا تقاطعوا حديثي قبلما آتي على آخره «أنتم وجهاء البلاد، ولا أقول وجهاء المسيحيين فقط؛ لأنه لا يجب أن يكون في المعاملات مسيحي ومسلم، بل الكل سواء، فلو رأيتم أن الظلم حاق بكم لوجب أن تقوموا في وجه الظالم، فإذا خشيتم صولته فاجمعوا العقلاء من أهل الرأي في البلاد وخاطبوهم في الأمر، وارفعوا عرائض الشكوى بذلك إلى أولي الأمر موجهين أنظار الحكومة إلى خطر الحالة، فإن أجابوكم فبه وإلا ...» وهنا وقف أحد الحاضرين، وقال: ما العمل إذا كان الظلم من الحكومة نفسها، وهي مسلمة تنظر إلينا كأننا غرباء عنها أعداء البلاد؟
قال: اسمع يا بني «نحن إخوان إذا اختلفنا في الاعتقاد فلا نختلف في الحقوق والواجبات، ولقد أساءت الحكومة صنعا بأن فرقت بيننا وأوجدت بين الطائفتين هوة عظيمة.
فمن هو المسلم ومن هو المسيحي؟ أليسا كلاهما أخوين من بني الإنسان، تربطهما ربط الإخاء والمصلحة العامة ووحدة اللغة والوطن، والله يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في كل دين، فأي مسلم يجسر أن يقول: إن الإسلام يأمر بالتعدي على الأبرياء وقتل النفس التي حرم الله قتلها؟ إن المسلم الذي يقول بمثل ذلك يستحق أن يقطع لسانه، والمسيح جاء الناس بدين المحبة والإخاء، وأمر تلاميذه أن ينشروا تعاليمه بين الناس، فهل أنتم تفعلون بما أمركم به السيد الذي تتسمون باسمه؟ وهل تغفرون للناس زلاتهم حتى يغفروا لكم زلاتكم؟ وهل تنظرون إلى المسلمين كإخوان؟
إذا كان لبعض الرؤساء الدينيين غاية في إيجاد الشقاق، فيجب أن يكون للناس عقول وأفهام، فلا يستسلمون للشهوات ويكونون آلات للهدم في يد الأشرار.
لكل إنسان إرادة وعقل، فإذا وجد من الأمور ما لا ينطبق على الصواب، وجب عليه ألا يعمله أيا كان المحرض عليه، وإذا أساء إليك أخوك المسلم فعاتبه أو استعن عليه بأخ مسلم آخر تجد منه روح العدالة والإنصاف، ولا تجعلوا للمفسدين بينكم سبيلا، فإن ذلك يفسد عليكم أمركم ويوسع بينكم هوة الشقاق، وإذا ظلم مسيحي مسلما فقوموا أنتم عليه قومة واحدة يشعر أنه ظالم مكروه، فلا يعود إلى التعدي فيما بعد.»
فقال أحد الحاضرين: ولكن ما العمل والمسلمون يرون أنهم أفضل منا ويجب أن يكونوا مقدمين علينا في الحقوق؟ فقال الشيخ: «معاذ الله أن يكون هذا من الدين في شيء؛ فإن روح الإسلام هي روح الإخاء، وهكذا هي روح المسيحية، وإن اختلف التعبير لتباين الوسط الذي ظهر فيه الإسلام عن الوسط الذي ظهرت فيه المسيحية، ولكن الإسلام يقول: إن الخلق سواسية، وأحب الناس إلى الله أحبهم إلى عياله؛ أي إن خير الناس هو من كان أكثرهم نفعا للناس، وإنما الجهل هو علة الشقاء، وهو الذي حمل المتعصبين من الفريقين على أن يؤولوا تعاليم الكتب المقدسة - كما يريدون - ألا ترون أن الإسلام في أول عهده كان أكثر تساهلا منه الآن، والمسلمون في ذلك العهد أهل بداوة وعصبية!
إنه لقد حان الوقت الذي فيه يعرف الإنسان أن الدين إنما وضع لخيره ومنفعته؛ حتى يكون له هدى يسترشد به في ظلمات الحيوة، والآن أيها الإخوان، ها أنا أضع يدي بيدكم وأطلب إليكم أن تنضموا إلي في محاربة الشر والتعصب الذميم، وترفعوا من بينكم الأحقاد لنقضي على هذه الروح الشريرة التي تعمل فينا وتخرب ديارنا، وتفسد أخلاقنا وتصرفنا عن أعمالنا اليومية وتولد بيننا الحزازات.»
فوافقه الجميع على ذلك، ووكلوا إليه وضع الخطة الملائمة التي تكون أفضل أساس للاتحاد.
فسر الشيخ بذلك وخرج وكله آمال بالمستقبل رغم ما يبدو من تعقد الحالة وكثرة المعضلات.
الفصل الثالث
فعل الحب في القلوب
ذهب سمعان إلياس - حسب عادته - إلى العمروسة لمشتري الحبوب، وصحب معه نجله سليم الذي أحب مرافقته إلى تلك القرية الجميلة، فلما أطلا عليها من بعيد شاهدا الأهالي يشتغلون بالحصاد، وبعضهم على البيادر (الأجران) يذرون القمح، فوقع ذلك المنظر أحسن وقع في نفس الشاب، وقال: ما أطيب أهل هذه القرية وأشد أجسامهم وأصح أفهامهم! فإنني لا أنسى مطلقا ما سمعته في السنة الفائتة من الشيخ صالح، الذي اجتمعنا به في منزل صاحبنا يوسف الهلالي، فقال: نعم يا بني، إن الطبيعة خصت هذه القرية بجانب عظيم من الجمال، وأهلها أهل دعة وإخلاص رغم ما يبثه فيهم ذوو المآرب والغايات. واعلم يا سليم أن قضية العصابات التي اتهم فيها أصحابنا آل الهلالي وأبناء قريتهم، كان مثيرها الشيخ أحمد سلمان شيخ القرية المجاورة للعمروسة، ولولا مساعدة القائمقام لكان الآن ذلك الشيخ مقيدا بالسلاسل الحديدية. - نعم هو لكذلك.
سمعا هذا الصوت من بستان فوق الطريق فبغتا، ثم التفتا إلى فوق، فإذا بالشيخ صالح وفي يده بعض الفاكهة أعدها لهما، فبادراه بالسلام ورحب بهما، وقال: علمت بقدومكما اليوم فبادرت إلى هذا المكان لموافاتكما والترحيب بكما، فترجلا عن جواديهما وصعدا إلى البستان حيث جلسا مدة يتجاذبان أطراف الحديث مع الشيخ، وعلما منه أن أهل القرية يوجسون خيفة من عصابة شريرة تعبث فسادا في تلك النواحي، وهم لا يعرفون إذا كان أفرادها من المسيحيين أو المسلمين، وقد وقع أحد أبناء القرية في أيدي رجال العصابة فأوسعوه ضربا وسلبوه كل ما كان يحمله، وتركوه عاريا بين حي وميت، ويظن أهل القرية أن العصابة مسيحية جاءت للانتقام منهم؛ ولهذا السبب جئت إلى هنا لأنبهكم لتكونوا على حذر تام فيما تتكلمون، وتساعدونني على تهدئة الخواطر الثائرة.
توجه سمعان إلياس وابنه سليم إلى منزل صديقهما القديم يوسف الهلالي، فرحب بهما هذا الصديق ونجله وأحلاهما على الرحب والسعة، ولكن سمعان لحظ أن هنالك شيئا من الفتور لم يكن يشعر به قبلا في بيت صديقه.
وفي مساء ذلك اليوم توافد الضيوف على منزل الهلالي - حسب العادة - وتحامل بعضهم على المسيحيين غير مراعين أدب المجالس وشعور الضيفين، فكتم سمعان غيظه، وقال لعل ذلك مما جرى لابن قريتهم وهم يحسبون أن المسيحيين فعلوا به ذلك، ولكن الشاب سليم لم يتمالك أن قال: يظهر أن بعض الإخوان لا يعلمون أننا مسيحيان، ونحن ننتظر أن يكرمنا إخواننا المسلمون، كما نكرمهم لو كانوا ضيوفنا ويحبوننا كما نحبهم؛ لأننا نعتقد أنه لا فرق بين مسلم ومسيحي، بل الله والوطن للجميع، ونحن يجب أن نكون كاليد اليمين واليد اليسرى تعاون الواحدة منهما الثانية.
فسر الشيخ صالح بهذا الكلام، وقال «أصبت»، ولكن أحد الحاضرين تهجم على الشيخ وسليم، وقال: «لا، بل إن المسلمين كالرأس والمسيحيين كالحذاء المرقع.»
فنظر الشيخ إليه شذرا وانتهره قائلا: «اسكت أيها الغبي الجاهل! فأنت عدو المسلمين وخزي وعار على الأمة والدين، فلولا أمثالك لكان الإسلام عنوان فخار لنا بين الأمم لا عنوان التأخر والانحطاط، كما يزعم الأجانب عنا والدين براء مما تزعمون وتعملون، لو كان الدم العربي يجري في عروقك لهزتك الأريحية، وجدت بدمك في سبيل ضيف كريم حل في منزل أعز رجل في قريتنا، وله منزلة خاصة في قلوبنا، وضيفنا صديق قديم لم يبادئنا العداء، ولا رأينا منه غير المودة والإخلاص.»
وحدث شغب بين الحاضرين وتكدر صاحب الدار وهم بطرد الرجل لولا أن تداخل سمعان، خشية أن يتفاقم الشقاق، فقال: أخشى أن يكون صاحبنا قال ما قاله متأثرا بأسباب خاصة، والإنسان قد يشتم أخاه وأعز الناس لديه في مثل هذه الأحوال، فأرجو أن ننتهي عند هذا الحد، وانفض الاجتماع تلك الليلة ولم يحدث حادث آخر، ولكن الحاضرين لم يكونوا على مثل ما عهدهم سمعان، فاستغرب الأمر وعزم على ألا يطيل الإقامة في العمروسة هذه المرة، واتفق مع صاحب الدار على أن ينهضا مبكرين جدا في صباح اليوم التالي ويذهبا إلى البيادر لمعاينة الحبوب.
وفي صباح اليوم الثاني نهض سمعان إلياس وصاحب الدار وابنه وساروا إلى البيادر - ولم تكن بعيدة عن المنزل - وتركوا سليما نائما، ولم يكن أحد من الخدم في المنزل؛ إذ ذهب كل في سبيله.
واستيقظ سليم ونهض ليغسل وجهه ويلبس ملابسه ويلحق بأبيه، فإذا به يسمع وقع أقدام لطيفة في غرفة محاذية، وما أتم لبس ملابسه حتى سمع نقرا خفيفا على الباب، فقال «تفضل»، وإذا به يرى فتاة رائعة الجمال لم تفتح العين على أتم منها شكلا، وألطف قواما، وأصح عافية، يكاد الدم يتدفق من خديها والضياء من عينيها وجبينها الوضاء، دخلت الغرفة وحيت أجمل تحية، ثم قالت: «عفوا يا سيدي إذا أزعجتك.»
تلعثم سليم في بادئ الأمر؛ إذ خيل إليه أن الفتاة دخلت على غير علم بوجوده، ثم تمالك روعه، وقال بعد أن رد التحية: «أخشى أن يكون وجودنا سببا لتعبكم وإزعاجكم، وأظن أن والدي ذهب مبكرا فظننت أنني رافقته، فدخلت على غير علم بوجودي، فأنا آسف لذلك جدا.»
قالت: «بل أنا مسرورة من هذه الصدفة التي جعلتني سعيدة بمرآك، وطالما سمعت عن أدبك الجم وأخلاقك الحسان، فكنت أرجو أن تتاح لي مثل هذه الفرصة؛ لأرى الشاب الذي يحبه أهل القرية ويتمثلون به.»
فخشي سليم عاقبة التمادي معها في الكلام، وظن أنها تستدرجه للغرام، وهو يعلم أنه ضيف رجل معروف بكرمه وحسن سمعته وسمعة أهله، ففي وجوده مع فتاة مسلمة منفردين باعث للريبة والشبهة، ثم قال: «هل تسمح لي سيدتي أن أنسحب وألا أكون مثقلا عليك إذا بقيت؟ فأنا أجلك عن ألسنة الناس.»
قالت: طب نفسا وقر عينا، فما أنا من الرعونة بالدرجة التي تصورتها يا سيدي، ولا أنا آتية الآن لأمر يدعو إلى الريبة وليس في المنزل إلا والدتي، وهي بعيدة عنا في المطبخ تعد الطعام، ولكنني جئت لأمر ذي بال دفعني إلى مجاوزة حد اللياقة إذا كان في دخولي عليك في هذا الوقت ما يحسب خارجا عن حدود اللياقة، فأنا أحذرك من خطر قريب لا يعرف به أحد من أهلي سواي، وقد عرفته بالصدفة.
لقد كان والدك أحب الناس لأبي، ولقد سمعتك تتكلم مع الشيخ صالح في العام الماضي، فكان حديثك موضع إعجاب الشيخ الذي طالما حض شبان القرية على التمثل بك في اجتهادك وأخلاقك، فجعلني ذلك أشد اهتماما بأمرك، والآن لا وقت للزيادة، فاحذر أنت ووالدك فإن هنالك مكيدة تدبر لاغتيالكما وأنتما عائدان إلى زحلة، حيث يكمن شقيان لكما في طرف الغابة عند الكهف الكبير، فإذا نويتما العودة فأظهرا أنكما عائدان من تلك الطريق، ثم عودا بأسرع ما يمكن وسيرا بطريق الجبل، والآن أستودعك الله وإياك أن تبوح بشيء مما أقوله لك لأحد، فتسيء إلى من أحسنت إليك.
فقال: معاذ الله يا سيدتي! إن مرآك اليوم بهذه الطلعة البهية كان عندي كشعلة الطور، وصوتك العذب كصوت الملاك المنقذ يحذر من خطر قريب، فشكرا لله الذي أرسلك إلي كما كان يرسل للأبرياء رسله الأطهار، فكيف أستطيع أن أكافئك على هذا المعروف الذي لا أنساه، وما دمت في قيد الحياة فأنا أسير لطفك، بئست العادات والتقاليد التي تأبى علينا الاجتماع، ولكن ثقي يا سيدتي أن صورتك لا تمحى من ناظري وفؤادي، وصوتك العذب يبقى في أذني يرن كلما طابت الذكرى وذكرت المودة والوفاء.
نعم، إننا لا نستطيع الاجتماع ثانية، وقد لا يسمح الزمان بمثل هذه الفرصة السعيدة النادرة، ولكن روحي تبقى محلقة في سماء العمروسة ترصد كوكبها الوهاج.
فهزت هذه الكلمات أعطاف هيفاء، وتذكرت أنها سمعت من الشيخ صالح أن سليم شاعر مجيد، ثم نظرت إلى ما حولها، وإذ تأكدت أن المكان لا يزال خاليا قالت: أرى أن كلامك المنثور كأنه عقود الجمان، وهو يتضمن شعرا تنم عنه كلماتك العذبة التي تسيل رقة وشعورا، وأنا مولعة بالأدب والشعر، وهكذا شقيقي محمد فإذا كنت ترغب في مكافأتي على هذه الخدمة الحقيرة، فأرجو أن تهدي شقيقي كتابا من كتب الأدب يكون لنا خير تذكار منك، وحبذا لو ترفقه بشيء من نظمك فإنني أعدك أنني أتلوه مرات كل يوم ذاكرة لك فضلك على الدوام، لا أستطيع أن أمكث هنا طويلا فأستودعك الله.
خرجت هيفاء وسليم يشيعها بنظراته وفؤاده، وقد سحره جمالها وأسره أدبها وظرفها وكمالها، ثم أخذ يفكر فيما قالته له وحذرته منه، فتعجب كيف يضمر أهل القرية أو أحدهم لوالده شرا وهو أصدق صديق لهم، إن ذلك لمن الطيش والحماقة بمكان - إنسان يقتل إنسانا لم يؤذه في شيء ولا كاد له في أمر، ولم تحدث بينهما عداوة - ذلك عجيب، وخشي أن يقول لوالده شيئا فيضحك والده منه، أو يظهر العناد فيعرض نفسه للخطر وهو يحب والده أشد محبة، ويعرف أنه شجاع مقدام أو يخبر الشيخ صالح أو يوسف الهلالي، فيكون بذلك كمن يبوح بسر هيفاء فسكت على الضيم طول النهار وهو يفكر في هذه الأمور.
السفر والعودة إلى العمروسة
في صباح اليوم التالي نهض سمعان وسليم مبكرين وامتطيا جواديهما وسارا عائدين إلى زحلة، بعدما ودعا صديقهما يوسف الهلالي ونجله محمد وشكراهما على ما أظهراه من الكرم والإكرام، وما أبعدا قليلا عن القرية حتى قال سليم لوالده: «يا أبي، أفضل أن نسير بطريق الجبل ريثما نجتاز أعالي الغابة، ثم نعود إلى استئناف السير بالطريق العادية بعد ذلك بقليل حيث تتقاطع الطريقان، فإن في أعالي الغابة نبع ماء سمعت بعذوبة مائه وأحب أن أشرب منه.» فقال والده: «لا، بل نسير في نفس الطريق التي جئنا منها.» فتوسل إليه سليم حتى أجاب والده طلبه دون أن يعرف حقيقة الدافع الذي دفعه إلى هذا الإلحاح.
وما توسطا الجبل حتى رأيا جزع شجرة كبيرة يسد الطريق، ثم سمعا جلبة وراءهما وفوقهما فالتفتا حولهما وإذا بهما بين عصابة من اللصوص وقطاع الطريق.
وكان سمعان ونجله سليم من الشجعان البواسل، ولكن اللصوص لم يتركوا لهما مجالا لإظهار شجاعتهما، بل صوب بعضهم البنادق إلى صدريهما وتقدم زعيم اللصوص، فقال: «اشلحا.» «سلما تسلما.»
فنظر سمعان إلى سليم ، وقال: افعل كما أفعل، والتفت حوله فلم يجد سبيلا للنجاة، فالطريق شعب ضيق في الجبال ولا منفذ منه إلا حيث سد بالشجرة الكبيرة التي لا يستطيعان أن يمرا فوقها، ومن ورائهما وفوقهما اللصوص، وقد صوب بعضهم البنادق، فالمقاومة لا تجدي نفعا؛ لأن هؤلاء الأشرار لا يمهلون الرجل إلا ريثما يتحرك حتى يكونوا قد أطلقوا النار عليه فأردوه قتيلا، فنظر إليهم سمعان، وقال: يا أولادي، نحن إخوان لكم، جئنا هذه القرية بتجارة وقد دفعنا كل ما لدينا من المال ثمنا للحبوب التي اشتريناها، فإذا كنتم بحاجة فالله كريم منان، ونحن لا نبخل عليكم بما تبقى معنا، إنما إذا كان لكم ثأر على أهل القرية فنحن غرباء. قال ذلك؛ لأنه ظن أن هنالك عصابة مسيحية تعبث بالأمن في تلك الجهة انتقاما من المتاولة، كما كان يعتقد أهل القرية أنفسهم، ومع أنه رأى من أزيائهم ما غير اعتقاده إلا أنه حسب أنهم ربما غيروا ملابسهم، وتعمم البعض منهم تعمية للناس.
فتقدم زعيم اللصوص وقال: «لا تضيعا الوقت، فنحن لا نريد بكما شرا، إذا أجبتما طلبنا حالا، فانزعا ملابسكما واتركا جواديكما وكل ما تملكان لنا، وإلا فإذا حاولتما الاستغاثة أو المقاومة فليس أمامكما إلا الموت الزؤام.» فتقدم سمعان، وقال: «رويدكم أيها الإخوان! أما الجوادان وما لدينا من مال فنتركه لكم عن طيب خاطر إذا كنتم تتركوننا بملابسنا؛ إذ إنه من العار أن نسير عاريين ونحن غرباء عن هذه الديار، فنستحلفكم بالله ألا تشددوا علينا، وهاكم ساعتي وخاتمي فخذوهما.» فقال الزعيم: «يظهر أنكما رجلان طيبان، فانزعا ملابسكما الخارجية فقط، وأبقيا قسما مما تلبسان لستر عورتكما وسوف نربطكما بشجرة ريثما نبعد عنكما، ويبقى بقربكما رجل منا فإذا رفعتما صوتكما بالاستغاثة، فتك بكما، فإياكما أن تفعلا شيئا، والآن ترجلا حالا فلا موضع لإطالة الكلام.»
فما انتهى من كلامه حتى ارتفع صوت امرأة تستغيث، وتقول: «شباب، شباب، اللصوص اللصوص!» ثم تلا ذلك إطلاق بندقية، فجفل الجواد الذي كان يركبه سليم - وكان جموحا - وجرى مسرعا به، فضرب بصخر بارز ، ثم انقلب به في حفرة كائنة في أسفل الطريق، فأغمي على سليم ولم يعد يعي على شيء.
الفصل الرابع
اليقظة
فتح سليم عينيه بعد نحو نصف ساعة فإذا به يرى نفسه وقد أفاق من غشيته نائما على فراش وثير، فنظر حوله، وإذ لم يجد والده صرخ: «أبي، حبيبي، أين أبي؟ بالله قولوا أين هو وأين أنا الآن؟»
فتقدم محمد الهلالي، وقال: «طب نفسا، فأنت في منزلنا، ووالدك هنا يكتب كتابا للطبيب في بعلبك لقربها منا، فالحمد لله على سلامتكما.» ثم علم سليم أن أهل البلدة حينما سمعوا استغاثة المرأة أسرعوا بأسلحتهم وتبادلوا إطلاق النار مع رجال العصابة، فجرحوا اثنين وألقوا القبض عليهما وعلى ثالث من رفاقهما وفر الباقون، فعرفوا اللصوص - وهم غير مسيحيين كما كانوا يحسبون - وقد وجدوا معهم بعض ما سرقوه من القروي الذي سلبوا ماله من قبل.
وكان الألم الذي يشعر به سليم شديدا، فخف أحد الرجال إلى بعلبك وعملوا لسليم الإسعافات الأولية كما يفهمها أهل القرية، وشغل بال سمعان - ولكن ابنه طمأنه - وحاول أن يخفف من انشغال بال والده، فقلل من أهمية ما أصابه، وتحمل الألم بصبر وطول أناة.
وبعد الظهر بساعتين جاء الطبيب فوجد أن حالة سليم تستدعي مزيد العناية والراحة التامة، وأن هنالك كسرا في العظام يوجب عدم نقله من مكانه مدة عشرين يوما.
فصعب هذا على والده، أما سليم فسر؛ إذ كان يرجو أن يرى هيفاء مرة ثانية فيخفف ذلك من آلامه.
وعاد الرجلان اللذان ذهبا للتربص لسليم ووالده في طرف الغابة، وعلما بأمر العصابة الأخرى، وفهما أنها عصابة مسلمة فندما على ما فرط منهما من التسرع، وعلى ما كانا ينويان عمله؛ لأنهما تواطئا مع بعض أغرار البلدة المجاورة على قتل التاجر وابنه انتقاما لابن بلدتهما، الذي كانوا يحسبون أن المسيحيين تعدوا عليه وسلبوه ماله، وعلم الشيخ صالح بالأمر فدعاهما إليه ووبخهما، وأنذرهما بشر العقاب إذا هما عادا إلى التفكر بمثل هذه الأمور، واجتمع أهل القرية في منزله فأظهر لهم خطر الحالة، وفساد فكرة الانتقام الوحشي، وما يجر هذا العمل من الوبال عليهم أجمعين.
وكان الشيخ صالح أكبر مساعد على تخفيف المصاب على صديقه سمعان، وما زال حتى جعله يشعر كأنه بين أهله وإخوانه، بعد أن كان قد نقم على أهل القرية لما جرى، خصوصا حينما علم أنه لو لم يقع بين أيدي اللصوص لوقع فيما هو أشر منه وأدهى، فشكر الله على ما كان، وشعر بالفرق بين رجل صالح يفهم معنى الصلاح، ورجل متعصب جاهل يتخذ من الدين سلاحا لارتكاب الشرور، وانتهاك الحرمات، وقتل النفوس البريئة، وخدمة مآربه الشخصية، فعظم الشيخ صالح في عينيه وود لو أن جميع الناس - خصوصا رجال الدين منهم - كانوا على شاكلته؛ فقد كان دينه ظاهرا بأعماله الصالحة، وعلمه بينا ساطعا بأقواله الحكيمة وتصرفاته الممدوحة، وكلماته الحلوة الناطقة بإخلاصه وصدق اليقين.
لم يستطع سمعان أن يطيل مكثه في العمروسة؛ لاضطراره إلى العودة إلى زحلة للإشراف على أعماله واستلام ما كان قد اشتراه من الحبوب، فترك نجله المحبوب تحت عناية صديقه يوسف الهلالي وأهل بيته، وأوصى به الشيخ صالح الذي أصبحت له في قلب سمعان مكانة عظيمة لم تكن له من قبل.
مرت ثلاثة أيام وسليم لوحده في منزل الهلالي لم يستطع أن يرى هيفاء، أو يشعر بوجودها بعد سفر والده، وإن يكن في العناية بما يقدم إليه من الطعام ما يدل على اهتمامها به؛ والسبب في ذلك أن الهلالي ونجله محمد وأهل البلدة لم يكونوا يتركونه لحظة واحدة؛ ظنا منهم أن ذلك يسره ويخفف عنه ألمه، ويجعله يشعر بأنهم قاموا بواجب الضيافة، وكان كدر الجميع عظيما خصوصا؛ لأن المعتدين من المتاولة.
وفي اليوم الرابع علم سليم أن في القرية مأتما وقد ذهب جميع من في الدار لحضور المأتم بعد أن نظروا في حاجته، ووفوه حقه من الإكرام، وأوصوا به أجيرا كان يشتغل في زراعة الهلالي.
فاغتنمت هيفاء هذه الفرصة وكلفت الأجير بقضاء عمل خارج الدار يستغرق وقتا طويلا، وانسلت من غرفة داخلية إلى حيث كان سليم نائما يئن متوجعا ، فدقت الباب بلطف ثم دخلت واجفة فحيت سليم، وقالت: «سلامتك. لقد آلمنا مصابك كلنا، وكان له أشد وقع في نفسي؛ لأنني أحببت أن أنقذك من خطر فوقعت فيما هو شر منه، أما الشريران الجاهلان اللذان كانا ينويان الشر لكما فلما علما بما كان، ندما أشد الندم على ما أصابك، وعلى ما كانا ينويان عمله.»
فأجاب سليم: «إنني سعيد بما أصابني؛ لأنه مهد لي السبيل إلى مثل هذا اللقاء السعيد، وكنت أظن أن أبي سيرسل والدتي إلى هنا، ولكنه - على ما أرجح - لم يشأ أن يخبرها بما أصابني حتى لا يشغل بالها، وهو لو عرف بما أنت عليه من الظرف والكياسة لما تأخر عن إرسال والدتي إلى هنا، وما كان أسعدها لو تعرفت بك؛ فهي تحب الفتيات النبيلات مثلك حبا جما، ولكني أقر أمامك الآن أنني كنت السبب لهذا التأخير.»
فاحمرت وجنتا هيفاء، وقالت: «كنت أود أن أراك على غير هذه الحال، والله كريم فسوف تشفى قريبا بإذن الله.» - لكنني متى شفيت سأفارق القرية وأحرم من مشاهدتك عند ذلك. - ليتني كنت أستطيع أن أقوم بالعناية بك بنفسي وتمريضك مدة إقامتك هنا، فكنت أجد في ذلك كل لذة، ولكن العادات لا تجيز لنا حتى خدمة الإنسانية المعذبة. - بئس العادات؛ فإننا لولاها لكنا أسعد الناس، ولم يكن في حديثي معك ما نؤاخذ عليه أو يدعو إلى الريبة، بل إن محادثة فتاة نبيلة مثلك ترفع النفس وتلجم اللسان عن التفوه ببذيء الألفاظ وتدمث الأخلاق، ولكن ثقي بأن هذه القيود سوف تزول بالتدريج، فأنا أعرف أن شبان المسلمين في المدرسة كلهم متحمسون مثلنا لفك هذه القيود، وللخروج من سجن العبودية المظلم إلى نور الحرية وعالم المساواة والإخاء. - ولكن الدين يمنع اختلاط الجنسين. - لا أرى رأيك في هذا الأمر، والناس يؤولون أقوال الكتب المنزلة حسبما يتراءى لهم. نعم إنني أوافقك على عدم جواز التعجيل بفك القيود دفعة واحدة، ولكن العلم يزيل الجهل والتعصب الذميم، ويبطل كثيرا من القيود التقليدية التي تفصلنا الآن، والتهذيب يزيل ما علق في النفوس من الفساد ويرفع مستوى الأخلاق؛ إذ ما يمنع أن أكون صديقا لك كما أنا صديق لأخيك؟! أما منع اختلاط الجنسين لمنع الشر والفساد فهذا لا يأتي بالفائدة؛ لأن الممنوع مرغوب فيه، بل إن اجتماع الجنسين يزيل الميل البهيمي، والحشمة أقوى من الحجاب، والمرأة الشريفة العاقلة تحترم نفسها وتحافظ على كرامتها من الامتهان، فلا تشجع الرجل على التهجم عليها، بل تجعله يحترمها ويحبها لسمو أدبها أكثر مما يحبها لجمالها، ونحن نعتقد أن حبس النساء في المنزل لا يمنع عنهن الشر، بل إن ذلك يقوي فيهن الميل إلى الخروج من هذا السجن الضيق، فإذا سنحت لهن الفرصة كن أسرع إلى الشر من المتبرجات. وهناك مثال أقدمه لك؛ فإننا نحن في مدرستنا نعطى الحرية التامة ونعامل كرجال أحرار، ومع أنه يجري أمور كثيرة في المدرسة لا تحمد مغبتها، فإن مستوى الأخلاق عند متخرجي مدرستنا أعلى من مستوى أخلاق متخرجي المدارس الأخرى التي تشدد على التلامذة كثيرا؛ وذلك لأن التلامذة في مدرستنا يعودون على الاستقلال والاعتماد على النفس صغارا، فإذا خرجوا من المدرسة إلى العالم لم تبطرهم الحرية، ولا استسلموا للشهوات والأباطيل. وهكذا تكون الحال لو أفسح المجال للبنات، وأطلقت لهن الحرية ضمن حدود الحشمة وتحت رعاية والديهن، وأحطن بجو صالح من الفضيلة والعفاف.
كان لهذا الحديث أفضل وقع في نفس هيفاء، وكانت تربيتها لا تسمح لها بالتمادي أكثر، وخافت أن تطيل مكثها لدى سليم فيحضر من يراها هنالك، فخرجت إلى غرفة ثانية؛ لترى من النافذة إذا كان أحد قادما، تاركة سليم غارقا في تأملاته، وقد شعر أن قلبه يخفق خفقانا شديدا.
لم ير بين جميلات زحلة وبيروت ممن عرفهن من ارتاح إلى رؤيتها، كما ارتاحت نفسه في تلك البرهة إلى حسناء العمروسة؛ فقد رأى في محياها الوسيم وجمالها الطاهر آيات من الجمال، يفهمها من قرأ سفر المحبة واطلع على أسرار الغرام.
فكأن في كل حركة من حركاتها وسكنة من سكناتها آية من الآيات التي تبهر العقل وتأخذ بمجامع النفس.
عادت هيفاء بعد أن تأكدت أن لا خطر عليها من البقاء بضع دقائق أخرى تسمع من أقوال سليم ما انغرس في فؤادها وطبع في ذاكرتها، وأحست أن هنالك قوة داخلية تدفعها إلى حيث كان، فلم تتأخر أن دخلت فبادرها بقوله: «ليتني كنت على غير هذه الحال فأقابلك كما تستحقين.» فتورد خداها؛ لأنها قرأت بين عينيه الوضاءتين ما كان يجول في خاطره، وللقلوب لغة تتفاهم بها دون أن تنطق الشفتان، ولكن الحب الشريف يقترن بالحشمة والعفاف، فيقف المحبان عند حد المودة والعفاف وهما مشمولان بالحب، تحيط بهما المسرة والهناء.
تذكرت هيفاء في تلك اللحظة الشاعر، فقالت: سمعت أنك تجيد النظم والشعر ريحانة النفوس، وكنت أود أن أسمع منك شيئا من منظومك، أو أحصل عليه مكتوبا فأتلوه في ساعات الوحدة، فليس كالشعر الرقيق محركا للنفس، منهضا للعزائم مرقيا للأفكار؛ ولذا تراني قد حفظت كل ما وقع تحت يدي من المنظوم، فأنا أحفظ أشعار الفارض ومنتخبات أشعار أدبية والبردة، وبعض الأشعار العصرية.
قال: وهل تقرئين الجرائد والمجلات العصرية؟
قالت: لا يوجد لدينا منها شيء إلا ما يقع تحت يدي عرضا من حين إلى آخر، فإذا توفقت إلى شيء من ذلك أتلوه بلهفة وشوق.
قال: سوف أهدي شقيقك جريدة يومية ومجلة شهرية وبعض الكتب الأدبية، فتستطيعين أن تطالعيها وتطلعي على أمور العالم إجمالا، فأكون قد وفيت بعض ما علي من الدين لهذا البيت الكريم.
قالت: «هذا خير ما أريد، وحبذا لو استطعت أن أدخل مدرسة عالية حيث أتلقى العلم الذي تتعطش إليه نفسي.» - خاطبي والدك بالأمر، فلا أخاله يرفض مثل هذا الطلب. - بل والدي لا يسمح بذهابي خارج المنزل إلا مع والدتي، أو صحبة الخادم العجوز التي ربتني، ولا يرغب في ذهابي خارج البيت إلا إلى الكرم أو البستان. - ليتني كنت أستطيع أن أخاطبه بشأنك. - إذن بي إليك حاجة. - وما هي؟ فإنني طوع أمرك. - هي أنني أرغب في الدخول إلى مدرسة عالية دون أن يعلم أحد من أهلي بمحل وجودي؛ لأنهم كلهم ضد فكرة تعليم البنات . - هذا ما لا أستطيعه؛ إذ أكون ناكرا للجميل، خائنا لعهد المودة والإخلاص؛ لأن الناس إذا عرفوا أن سليم إلياس اختفى بهيفاء الهلالي تقولوا بشأننا، وعدوا عملي خيانة. وفرارك مع أجنبي عار وشنار تلحق وصمته بوالديك الكريمين، ولا يصدق أحد أنك إنما سرت معي لغرض شريف وغاية نبيلة، فإذا كنت تطلبين العلم فخاطبي والدتك بالأمر لعلها تساعدك، وأنا أضمن لك مساعدة والدتي إذا قدر لك النجاح، ولي ابنة عم في مدرسة الأميركان تكون لك أعز من أخت، أو إذا شئت الدخول في أي مدرسة أخرى فكلنا نستطيع مساعدتك، وأنا أضمن نجاحك؛ لأنك وأنت بعيدة عن وسائل العلم ومناهل المعرفة تظهرين من الرغبة ما تظهرين رغم ما يعترض سبيلك من العقبات.
قالت: «إن أبي وأمي وأخي جميعهم يعتقدون أنني لم أخلق للمدرسة، وهم من الآن يهتمون في أمر زواجي، وأنا أكره إرغامي على الزواج بمن لا تروق عشرته لي ولا أزال صغيرة السن، فإذا أتيح لي فرصة للتعليم نلت ما تطمح إليه النفس.»
قال: جربي أولا إقناع أهلك ونرى بعدئذ ما يكون.
ودعت هيفاء سليم بعد أن جرى بينهما هذا الحديث الطويل، وهي تود ألا تخرج من أمامه لولا خوفها من الفضيحة والعار، وكان هو أكثر منها قلقا؛ لأنه كان يعتقد أن وجودها في غرفته باعث للريبة مع أنه كان سعيدا جدا برؤيتها، مبتهجا بسماع كل كلمة من كلماتها.
مر عليه يومان كانا كأنهما سنتان، لم ير في خلالهما هيفاء ولا علم شيئا عن والده.
وفي صباح اليوم الثالث حضر الطبيب ونزع الرباط وطمأنه بأنه يستطيع أن يغادر العمروسة بعد أسبوع؛ لأن الكسر قد جبر وأنه يستطيع القيام قليلا في غرفته والمشي خطوة بعد أخرى، وبينما هو يحاول القيام، إذ لم يكن أحد في المنزل، شعر بحركة خارج الغرفة، ثم سمع صوتا لطيفا، يقول: «الحمد لله على السلامة.» فالتفت إلى الوراء ورأى هيفاء تبتسم له، وتقول: «شاء الحظ أن يخدمني اليوم أيضا، فأنا وحدي الآن هنا، وقد جئت لأرى ماذا تحتاج إليه من الخدمات، ولأرى إذا كنت رأيت شيئا في قريتنا حرك قريحتك الوقادة فأسمع منك ما يحلو ويطيب.»
قال: أي شعر ينظمه رجل متألم موجوع؟!
قالت: يظهر أن قريتنا لا تحرك القريحة الشعرية، ومن فيها لا يستحقون نظم الشعر، وسكتت قليلا.
فحار سليم في أمره، وقال: لا، بل أرجو أن تسنح لي فرصة أخرى أكون فيها صحيح الجسم والعقل، فأنظم في وصف العمروسة ومن فيها من الشعر ما يليق بالمنظوم لأجلهم، والآن ما لنا وللشعر، فالشعراء في كل واد يهيمون، وأنا الآن كطير في قفص لا يحلو له التغريد، فدعينا من الشعر وأخبريني هل نجحت مع والدتك ورضيت أن ترسلك إلى المدرسة؟
قالت: لا، بل إن والدي لم يسمحا لي بذلك، ولما فاتحت شقيقي بالأمر هزأ بي، وقال: إنه سوف يرسلني إلى مدرسة العالم أتعلم فيها الأمومة عند زوج غني، وأنا أعلم ذلك الزوج المقصود، فهو خامل الذكر مجرم أثيم، جمع من المال مبلغا كبيرا جله، اجتمع لديه من عرق الفلاحين المساكين الذين كانوا يشتغلون له ليلا ونهارا، ثم يأكل أجورهم وتعبهم متعللا تارة برداءة العمل، وأخرى بمحل الموسم أو الخسارة، وهو معروف بلؤم طباعه وخسته، ويقال: إنه كان في بادئ أمره سفاحا أثيما، فلما جمع ثروته أخذ يتظاهر بالوجاهة، وما هو إلا أفاك لئيم. - ولكن الناس إذا رأوا رجلا غنيا احترموه وأحبوه دون أن يعلموا أو يبالوا بمعرفة الطريقة التي توصل بها إلى غناه. - لا وقت لدينا الآن للإطلالة، فأنا أثق بك وأعلم أنك كأبيك صدقا وإخلاصا، وحيث إنني أطلعتك على سري فأرجو أن تمدني برأيك الصائب، ولا تتركني فريسة الأقدار؛ فإنني أفضل الموت ألف مرة على أن أكون زوجة لذلك الغني الشرير، أو بالأحرى عبدة لشهواته فيلتصق اسمه المخزي بي، وإنني أقول لك الحق الصراح، وهو أنك الوحيد الذي فاتحته بهذا الأمر الذي يتوقف عليه مستقبل حياتي، ولا أعلم ما جرأني على ذلك أو دفعني إلى مثل هذا العمل، ولكن ما سمعته عنك جعلني أن أثق بك وأعتمد عليك ، ففي كلمة منك سعادتي أو شقائي.
فأجاب سليم: «آه! ما أحرج مركزي الآن! فأنا بين عاملين؛ يدفعني الواحد لإنقاذك من هذه الحالة الوبيلة، ويجعلني الآخر أنظر إلى الأمور نظرة عملية وأترك المسألة لتدبير الله وشعور والديك، وما أخالهما يسمحان بشقائك إذا علما أن هذا الزواج لا يحلو في عينيك، ولا أظنهما يرغمانك على قبول هذا الزوج اللئيم.» - أنت لا تعلم العادات، فهما لا يرغمانني بالقوة، بل يجعلاني في حالة لا أستطيع معها التخلص من هذا الزوج السمج الفظ، الذي يظن أن النساء إنما خلقن لخدمة الرجل وإشباع شهواته، ولقد تزوج أربع نساء لا يستحق أن يكون خادما لإحداهن لو كان للأخلاق والصفات قيمة عندنا، وهن الآن يندبن حظهن العاثر، وطلق إحداهن منذ بضعة أيام بعد أن أشبعها إهانة وعذابا، ولعل ذلك تمهيدا لزواجه الجديد. - قاتله الله! فلن ينال قلامة ظفر منك.
قال سليم ذلك، وقد شعر بنار الغيرة تأكل قلبه، ودفعته الحماسة إلى أقصى حد؛ إذ تمثل لديه ذلك الملاك الطاهر في قبضة شيطان رجيم وفاجر شرير، يذل نفسها ويميت عواطفها الإنسانية، ويحط من أخلاقها العالية ويسبب لها الشقاء الأبدي. ثم عاد إلى نفسه، وقال: إنني أتداخل بما لا يعنيني، وهذا يجر إلي مشاكل لا مبرر لها. ثم نظر إلى هيفاء فرأى نور الذكاء يتوقد بين عينيها، وأثر الهمة والإقدام باديا عليها، فقال: وهل يليق أن تكون هذه الفتاة الفتانة امرأة رجل لا يرعى حرمة، ولا يحترم النساء ولا العواطف، ولا يعرف للطهارة والشرف معنى، ولم يعد يملك صوابه، فقال: لا تكونين - بإذن الله - إلا لمن تحبين وتريدين، ولمن يجل مقامك ويرعى حرمتك، ويحبك حبا يقرب من العبادة، فلا يكون له إلاك، وتكونين أنت ملاكه الحارس وفردوسه الأرضي، ومبعث سعادته وهنائه.
فدنت منه، وقالت بصوت خافت: «أواه! ليت ذلك ممكنا!» وأجهشت في البكاء، ثم عادت، فقالت بصوت متهدج: «أنا أتعس بنات جنسي؛ لأنه قدر لي أن أحب من لا أستطيع أن أبادله الحب وأشاطره حلو الحياة ومرها، جرح قلبي وهو لا يعلم بما فعل وتملك فؤادي وهو لا يبالي بي.»
لم يعد سليم يستطيع السكوت، فقال: «بل هو يهواك بكل جارحة في الفؤاد، وهيهات أن ينساك وإن يكن نصيبه منك البعاد.» ثم فتح يديه كأنه يحاول أن يضمها إليه، ثم تذكر مركزه فعاد إلى الوراء قليلا ورآها ترتعش وقد ارتسمت على محياها دلائل المسرة والابتهاج ممتزجة بالخوف والحذر، ثم قالت: «أواه! لقد تطوحت كثيرا وما كان يليق بي أن أفوه بمثل هذا الكلام وأنت غريب عني للآن، ولكنني أرى أن قلبينا قريبان، ويكاد ما نفتكر به أن يكون واحدا، والفكر والمبدأ إذا اتفقا في اثنين يجعلانهما أكثر قرابة من بعضهم البعض، ممن تربطهم القرابة والنسب إذا كانوا مختلفين في المبادئ والأذواق والأفكار. والآن قل لي بربك ماذا أعمل وكيف أنجو مما أنا فيه، فأنت أكبر مني عمرا وأكثر اختبارا، ولقد فتحت لي قلبك فلا تستطيع أن تغلقه فيما بعد، وإذا لم يكن لنا سبيل للاتحاد في هذه الحياة، فليكن حبنا الطاهر خير رابطة تربط القلبين برابطة الذكرى المفرحة، واعلم أينما سرت أن لك في العمروسة أختا تسر بنجاحك وتبتهج بسعادتك، وتغتبط إذا سمعت عنك خيرا.» وهمت بالانصراف فلم تقو رجلاها على حملها، ثم سمعت نقرا على البوابة الخارجية فأسرعت من داخل العلية الكبيرة إلى داخل البيت، ثم سارت من الجهة المقابلة ففتحت للطارق، فإذا به الشيخ صالح.
وكان أبوها يشتغل في مناظرة فعلة يعملون في حقل له قريب من البيت، فبادرت هيفاء إلى حيث كان ونادته ثم عادت إلى حجرتها تتأمل فيما جرى.
دخل الشيخ صالح على سليم فوجده جالسا على المقعد قلقا، فطيب خاطره حاسبا أنه متضايق من الإقامة في تلك القرية، ثم جاء يوسف الهلالي فأقام الثلاثة يتكلمون في شئون مختلفة، وبعد قليل قال الشيخ ليوسف: «إذا كان لديك شغل يوجب التفاتك للعمال فاذهب للحقل، وأنا أقيم هنا مع سليم أفندي قليلا ريثما تعود.» فقال: إذن أترككما ساعة ثم أعود.
الشيخ الفاضل والشاب العاقل
افتتح الشيخ صالح الحديث ، فقال: «إن قلبي يطفح بشرا يا بني كلما شاهدتك، فأنت مثال للشبان في أخلاقك وآدابك العالية واجتهادك؛ ولهذا جئت الآن لكي أراك وأباحثك في أمر هام.» - هذا فضل منك يا سيدي، والشاب العاقل هو من يحترم آراء الشيوخ ويعمل بنشاط الشباب. - يا بني، إن التكتم ليس إلا مكرا مضرا، فأنا أمقت التكتم والتستر، وسوف أفتح لك قلبي وأود أن تصارحني الكلام. - سمعا وطاعة سأكون عند إرادتك يا مولاي. - ربما علمت بما كان من أمر العصابات واتهام محمد الهلالي وغيره، ولقد قدر لهذا العاجز أن يخدم بلاده وبني جنسه خدمات إذا لم تثمر كثيرا، فأقل ما يقال فيها إنها كانت صادرة عن إخلاص.
تذكر يا بني ما جرى لنا من الحديث في العام الماضي، ولقد قلت حينئذ: إن الاتحاد لا يكون إلا متى توفرت الوسائل وزالت أسباب النفور والاختلاف، فهاك ما جرى في هذا العام من الحوادث، ألم يأت كله مصداقا لما قلت؟ ألم تكن أعمال العصابات دليلا على فساد الأخلاق ووجود التعصب الذميم؟ ومن هو الذي ينفخ في بوق التعصب، هل من مصلحة أولئك الفقراء الصعاليك الذين ليسوا إلا آلات مسخرة، أم هو من مصلحة الناس الآمنين في بيوتهم العاملين بجد ونشاط، أن يكون مثل هذا الخلاف المستفحل والشر الذي استعصى داؤه ودواؤه؟ إذن أنا منبئك بشيء لست تعرفه.
كاد محمد الهلالي أن يقع في فخ بعض الزعماء ولولا تدخلي في الأمر قبل استفحال الشر، لكان الآن أكبر زعيم للصوص وقطاع الطرق والأشرار، وكانت آخرته إما صريعا من يد شقي آخر أو طريحا في السجون مكبلا بالحديد، ولكنني تمكنت من إقناعه بالعدول عن هذه الخطة، فثاب إلى رشده وعاد أبناء قريتنا كل إلى عمله، وإنني واثق - كل الثقة - أن قريتنا الصغيرة أفضل قرى البقاع حالا، وأوفرها غنى وأكثرها مواشي، والفضل في ذلك عائد إلى انصراف الأهالي لأعمال الزراعة بهمة ونشاط، وأصبح أهل القرية الآن أكثر الناس كراهية للصوص، ألم تر كيف نكلوا بالأشقياء الذين حاولوا سلبكما أنت ووالدك؟ وهنالك أمر لا أعرف إذا كنت عرفت حقيقته، وهو أن اثنين من شبان القرية كانا يحاولان ترصدكما وأنتما عائدان إلى زحلة، وسلبكما مالكما وإيقاع الأذى بكما؛ اعتقادا منهما أنهما بذلك يخدمان الإسلام والمسلمين، ويحفظان هيبة الطائفة وينتقمان من أعدائهما بإيذاء مسيحيين، فلما علمت بأمرهما دعوتهما ووبختهما، فندما على ما فرط منهما وأصبح أهل القرية اليوم بعد أن جمعتهم وشرحت لهم ما نالني في أسفاري وغربتي مدة عشرين سنة في أكثر بلدان الشرق، وبعض بلدان المغرب من غير الدهر وعبره، وما رأيت من فضل الاتحاد وشر التحزب والتفرق أشد الناس تمسكا بالاتحاد، واعتقادا بأن الناس إخوان وأن كل إنسان يجب عليه أن يعمل على قدر طاقته في سبيل الإصلاح لا متواكلا معتمدا على سواه.
وقد بينت لأهل القرية أن إيواء اللصوص ومساعدة الأشرار إذا كانوا من طائفتنا لا خير فيهما؛ لأن ذلك يشجع غيرهم على الانضمام إليهم، وبالتالي يكثر المجرمون والأشرار في الطائفة ويبعث في نفوس الطوائف الأخرى على الكراهية والمقت، فضلا عن الخوف منا، فيؤلفون العصابات مثلنا لمقاومة أشرارنا، فنكون أكبر معوان على الشر وفساد الأخلاق، وهدم ما قام به السلف الصالح من المدنية والعمران، بيد أننا لو كنا حربا على الأشرار لما تجرأ شرير أن يعتدي على بريء، ولعاش الناس سعداء أحرارا يعاون الواحد الآخر، ويعمل الكل على استجرار المنفعة لنفسه ولأخيه، ثم تمثلت بكما، إذ قلت: هاكم سمعان إلياس وابنه فإنهما أحب إلي من أهلي، فهما أكثر الناس نفعا لقريتنا الصغيرة مع أنهما مسيحيان لا تربطنا بهما رابطة قرابة ولا علاقة طائفية، ولكن الناس إخوان والدين المعاملة، فهل رأى أحد أهل قريتنا في هذا التاجر إلا الخير والنفع؟ هل قصده أحد لأمر إلا وساعده؟ وهل رأيتم في نجله إلا فتى كبير الهمة، صحيح العقل، ماضي العزيمة، يسير على خطوات أبيه في حبه للخير وخدمة الناس، وهو مع حداثة سنه ملم بالعلوم العقلية والنقلية إلماما يجعله مستعدا لتقلد أكبر المناصب، فهل تعلمون السبب في ذلك؟ فسكت الحاضرون، وقلت: إن ما جعل هذين الرجلين كما هو أخلاقهما العالية، والعلم الذي جعلهما عاملين شريفين يعملان لتحصيل المال وإنفاقه في أقوم السبل، والله إنني لم أر أكرم منهما نفسا ولا أقل منهما ادعاء، ولقد استفز هذا الكلام صاحب الدار، فقال: وما قولك في إرسال محمد إلى المدرسة وهو الآن في الثانية والعشرين من عمره؟ فقلت: لا كبير على العلم، ثم قال: وابنتي، وهي في الرابعة عشرة، هل تظن أن التعليم ينفعها؟ قلت: إن تربية الأمة لا تكون إلا بتربية بناتها وتدميث أخلاقهن، وتعليمهن العلوم التي تؤهلهن لتربية رجال الأمة. والآن ما رأيك يا بني فيما قلت؟ وهل تعرف مدرسة تناسب محمد وأخرى تناسب هيفاء بنت صاحب الدار؟ ولقد بلغني أنها تحسن القراءة والكتابة، وقد اطلعت على كتاب كتبته لأبيها مرة يدل على استعداد فطري نادر.
فأبرقت أسرة سليم، وقال: إن ما يراه الشيخ هو خير ما أراه، ولقد تفضلت يا مولاي فجعلت لنا مقاما لا نستحقه، وأنت البادئ بالفضل والإحسان، فما فعله والدي كان لمصلحته الخاصة، وأما أنت فقد صنعت جميلا لأهل قريتك وأحسنت الظن بنا حبا بالخير، ولو كان يوجد كثيرون مثلك في هذه الديار لما كنا كما نحن الآن، ولكنني أرى أن آمالنا أصبحت قريبة المنال بفضل من هم مثلك علما وفضلا واختبارا.
أما ما تسألني عنه بشأن محمد وشقيقته فالمدارس كثيرة، وأنا أفضل المدارس الأميركية أو المدارس العالية التي يديرها بعض الوطنيين، الذين تربوا في المدارس الأميركية وأشربوا روح تلك الأمة العظيمة وتعاليمها، وقدموا الوطنية والأخلاق العالية على كل اعتبار؛ لأن الأميركيين لا غاية سياسية لهم عندنا، وهنالك مدارس للبنات توافق ابنة صاحبنا الهلالي، وهذه المدارس تعلم البنات مبادئ العلوم العصرية، وتثقف عقولهن وتربيهن التربية القويمة، وتعدهن لتكن زوجات صالحات وأمهات فاضلات، ونساء يفتخر الوطن بانتمائهن إليه، ولا أخفي عليك أمرا، ربما لا تعرفه، وهو أن الفضل في تربيتي وتعليمي العلوم العالية راجع إلى والدتي بالأكثر؛ لأن أبي كان يرغب أن أنضم إليه حينما انتهيت من الدروس الابتدائية، ولكن والدتي، التي كانت قد أرضعتني حب العلم منذ الصغر، واهتمت بتربيتي اهتماما عظيما، ألحت على والدي أن يرسلني إلى الكلية، ووعدته أن تقتصد من مصروف المنزل وتقطع عن نفسها من الزينة والملبوس، وغير ذلك ما يكفي لسد نفقات المدرسة، وهكذا تمكنت بفضل والدتي العاقلة من استئناف الدرس.
فقال الشيخ: «نعم الأم ونعم الأب والابن، وما أسعد البيت الذي تكون ربته خير رفيق ومعوان لزوجها، وأكبر معلم ومرشد لأولادها! فحيث تعلمت والدتك فهنالك تتعلم هيفاء، وما العبرة يا بني بالمدرسة، بل باستعداد الطالبة ورغبتها، فالمدرسة تمهد السبيل أمام الطلاب وعليهم هم التحصيل، فمن أحب العلم ورغب فيه نال منه ما أراد، وسوف يعود رب الدار عما قليل فساعدني على إقناعه.»
وشعر سليم في تلك اللحظة بوقع خطوات خفيفة في الغرفة المحاذية، فعلم أن هيفاء كانت تنصت لأقوالهما وتسمع ما دار بينهما من الحديث فاغتبط؛ لأنه علم أنها ستنال ما تطلب وترغب فيه.
ثم جاء يوسف الهلالي ففاتحه الشيخ صالح بأمر تعليم ولديه، وما كان من رأي سليم فأظهر الميل إلى ذلك، ولكنه استصعب إدخال محمد إلى المدرسة وهو في الثانية والعشرين من عمره، أما بشأن ابنته، فقال: إنها أصبحت كبيرة على المدرسة ولا يرى فائدة من إرسالها خارج البيت؛ لأن ذلك يضحك أبناء القرية ويبعث على استخفافهم به والسخرية منه، فضلا عن أن هنالك من يود الاقتران بابنته، وقد عرض مهرا يوازي أضعاف ما يأخذه غيره من الوالدين مهرا لبناتهم.
فضحك الشيخ، وقال: ومن هذا الزوج الذي تود أن تبيعه ابنتك بأقل مما تباع به فرس أو بغلة، ثم تقول إنك والد كريم تحب أولادك وتسعى إلى خيرهم، وتحرم ابنتك وفلذة كبدك من العلم والفضل؛ لأجل زوج كهذا تخشى أن يفلت منك، فمن هو يا ترى؟!
قال: هو سلمان أحمد، صاحب الأراضي الواسعة والثروة الكبيرة، وأخشى من أن ابنتي تذهب إلى المدرسة فتحرم من مثل هذا النصيب، فانتصب الشيخ صالح واقفا، وقال: «أف لك يا يوسف! أترضى أن تكون ابنتك الوحيدة المحبوبة امرأة رجل كسلمان، لا تجهل أنت كيف جمع ماله بطرقه الدنيئة، وهو أخبث رجل عرفته نفسا وأحط قدرا، فالمال لا يشتري السعادة والهناء ولا يرفع قيمة الإنسان، فضلا عن أن صاحبك متزوج وله أربع زوجات عدا المحظيات، وإنه لو كان عندي عبدة ربيت في بيتي لما رضيت أن أعطيها لهذا الوغد الزنيم، فكيف ترضى أن تجعل ابنتك تعسة كل أيام حياتها من أجل بضع ليرات، واعلم أنك إن زوجتها بمثل هذا الرجل الفاسق، جلبت على نفسك العار وعلى أهلك التعاسة والشقاء، فكيف تكون ابنتك راضية بهذا الزواج، وهي تجد أمامها رجلا فاسقا قاسي القلب، عديم الذمة والمروءة، لا هم له إلا إشباع بطنه وشهواته، وهو ينظر إلى النساء كما ينظر إلى الأنعام فدونك، وهذا الزواج الفاسد إذا كنت تريد لابنتك خيرا ولنفسك وأهلك راحة وصفاء. فإذا شئت التخلص من وعدك، ابعث بابنتك إلى المدرسة تشتري لها ولأهلك الراحة والسعادة بثمن قليل.»
الوداع
كان سليم على أحر من الجمر في ذلك الأسبوع؛ فقد برح به الشوق إلى والدته وأهله كما أخذ يشعر بحب حقيقي لتلك القرية الجميلة ومن فيها، وأصبح لا يفكر بشيء كما يفكر برؤية هيفاء قبل الفراق.
مضى عليه يومان لم يخل بنفسه ولا تركه الضيوف وأصحاب الدار ساعة واحدة منفردا، وفي اليوم الثالث شعر أنه يستطيع أن يمشي قليلا مستعينا بعكاز، فخرج إلى البستان المجاور للبيت وجلس تحت ظل شجرة صفصاف كبيرة يتأمل في الماء المتدفق أمامه، وكان يوسف في ذلك الوقت قد أخذ بعض العمال، وذهب إلى كرم بعيد عن البيت فلم يكن أحد قريبا من سليم، وبينما هو كذلك، إذ سمع وقع أقدام ورأى هيفاء مقبلة نحوه وهي تميس بين الأشجار كأنها عود بان.
فخفق قلبه وشعر أن لبه قد طار، ثم أقبلت نحوه وحيته بصوتها العذب الذي كان يضرب على أوتار قلبه فيرن رنات أين منها رنات المثاني والعود!
فحيته وشكرت الله على سلامته، فأجابها بأحسن تحية، وقال: وهل مثل هذا الموقف لا يعيد الحياة إلى الموتى، فكيف بي وأنا أراك واقفة أمامي وقد اجتمع ما تمناه الشاعر مما ينفي عن القلب الحزن ويطرب له الفؤاد.
قالت: هذا ما خطر لي حينما رأيتك واقفا أمام الماء في ظل هذه الصفصافة الغضة ينبعث السرور من محياك، فهل هذا لأنك مفارقنا عن قريب أم عادت إليك العافية فسررت، وحسن لديك منظر بستاننا الصغير.
قال: بل كل شيء عندكم جميل والطبيعة تحب التناسق، وكأن الله شاء أن يجمع في بيتكم وما حوله جمال ما صنعت يداه، والآن اسمحي لي أن أبشرك بأن أباك رضي أو قد يرضى بإرسالك إلى المدرسة، وتعهد الشيخ صالح بإقناعه، وأنا تعهدت بتدبير المدرسة وتسهيل وسائل التحصيل.
قالت: سمعت ما دار بينك وبين الشيخ بالصدفة، فجزاكما الله عني خيرا، وإن والدي لم يعد يهتم بذلك الغني الشرير الذي طالما ألح علي بقبوله، فإذا وفقني الله ودخلت المدرسة كنت أسعد الفتيات.
لا أستطيع الوقوف هنا طويلا، ولكنني غدا سأراك على انفراد؛ لأن أبي وشقيقي ذاهبان إلى بعلبك بدعوة خاصة لحضور عقد زواج نسيب لنا هنالك، وربما صحبتهما والدتي أيضا فأستودعك الله إلى اللقاء، وسارت يتبعها بنظراته وأفكاره وفؤاده الملهوف، وهو يسمع خرير المياه ولا يرى أمامه إلا شكل المحبوب يملأ الفضاء، مضى ذلك اليوم وكأنه جيل على سليم. وفي صباح اليوم التالي، بينما كان منفردا في غرفته يفكر في لقاء هيفاء، إذا به يسمع وقع حوافر الخيل، فأطل من النافذة ورأى ثلاثة جياد، فعلم أن الوالدة ذاهبة أيضا فرقص قلبه لذلك، وما ابتعد وقع حوافر الخيل حتى أقبلت هيفاء عليه، وكانت هذه المرة أجمل في عينيه من كل مرة أخرى فنهض مسلما، وقال: «يعز علي أن أفارق هذا البيت قريبا، ولكنني سأترك فيه فؤادي الذي لا يستطيع مغادرة العمروسة، ومتى حرمت الفؤاد فماذا بقي مني؟ أواه! ليتني أستطيع أن أبقى هنا أراك إذا سرت، فأطرب لرؤياك وتلذ لي الحياة بقربك، فالوداع الوداع، لقد قضي علينا أن نفترق بجسمينا، وأما قلبانا فسيبقيان مجتمعين وروحانا متمازجين إلى أن نجتمع بعد القبر حيث لا فراق، أو يجمعنا التوفيق حيث يحلو اللقاء، قاتل الله التقاليد فإنها فرقت بيننا وحرمتنا لذة الاجتماع وسعادة الحياة.» فأجابته هيفاء: «سنفترق عن قريب، وقد يكون هذا الاجتماع آخر فرصة تسنح باللقاء، ولكن ثق أن هيفاء لا تنساك وتنسى هذه الأخلاق العالية، واعلم أنك أنت الذي حببت لي المدرسة، وجعلتني أرى نور العلم الوضاء. وما نفع الحياة مع رجل شرير لا هم له إلا الأكل والشرب، فهو كالبهيم لا يعرف معنى للاجتماع، ولقد اطلعت على مقالات في المجلة التي وصلتك منذ بضعة أيام في الأدب والاجتماع، فصرت لا يطيب لي العيش إلا في وسط من يفهم معنى هذه الأوضاع، فليتك تعدني أن تساعدني على الخروج من هذا المأزق الحرج إذا رفض والدي أن يرسلني إلى المدرسة، وشاء أن يزوجني بذلك البهيم الذي تراه في صورة إنسان، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وهل تلام إذا ساعدت فتاة تطلب العلم إذا حققت رغباتها وسهلت عليها السبيل.»
فأجابها سليم متأثرا: «مهلا يا هيفاء، سوف أبذل الجهد في رضاك وعمل ما يسعدك حالا، ولا أرى أصلح من الشيخ صالح لإخراجك من الظلمة إلى النور، فربما يساعدنا على تحقيق الآمال.»
ثم وقف الاثنان، وفي صدر كل منهما نار آكلة، ولكن نفسيهما الشريفتين أبتا عليهما أن يزيدا على ما كان، فمد سليم يده مصافحا، وقال: هل تسمحين لي أن أصافحك كأخ يودع أخته العزيزة عند الفراق؟ فمدت يدها فتعاهدا على ألا ينسى الواحد منهما الآخر حتى الممات، وشعر كل منهما باللهيب المتصاعد من صدر الآخر، ولكنهما لم يزيدا تلك النار استعارا.
الفصل الخامس
الوالدة وابنها
ليس من يجهل رقة عواطف الأم وحنوها وتفانيها في سبيل أولادها، فكيف بها إذا كانت كأم سليم على جانب عظيم من العلم والفضل ورقة العواطف والانعطاف.
كانت على أحر من الجمر لغياب ابنها عنها، وهي تسأل زوجها كل يوم عنه، وهو يحاول أن يجد الأعذار لتغيب سليم مخافة أن تعلم والدته بأمره فلا ترضى أن تتركه وحده حيث هو، ولم يكن يرغب في أن تذهب إلى «العمروسة»؛ خوفا من ألا توافقها الإقامة أو لا تطيب لها عشرة نسائها، ولم يكن يعلم شيئا من أمر هيفاء وأمها؛ وإلا لما تأخر عن إنباء امرأته بما كان، والسماح لها بالذهاب إلى حيث تستطيع أن تمد يدها لمساعدة وحيدها الذي تفديه بالروح.
وحدث أن سليما أرسل كتابا لوالده مع أحد أهل العمروسة الذي ذهب إلى زحلة لقضاء بعض الحاجات، فلم يجد الرجل سمعان إلياس في محله، فقصده إلى منزله، فعلم منه أهل الدار بما كان، ولكن طمأنهم أن الطبيب سيسمح لسليم بالعودة قريبا، فقلقت والدة سليم وأرسلت، فاستدعت زوجها، وأعربت عن كدرها الشديد لعدم إخبارها بما كان، وقالت: كيف يصاب ابني الحبيب بمكروه ولا أكون إلى جانبه أضمد جراحه وأسليه في وحدته؟ آه! ما أقسى قلوب الرجال! كيف تكتم عني مثل هذا الخبر؟ والآن يجب أن أذهب حالا إلى حيث يكون ابني وآتي به بأول فرصة ممكنة، فلا يقيم بين أولئك القساة القلوب.
قال: «بل هم أعطف من أهله عليه وأطيب الناس أخلاقا، ومتى عرفت الحقيقة من سليم تجدين أن الجماعة الذين أقام بينهم هم مثل أهله يعاملونه كما نعامله نحن لو كان بيننا.» فأصرت على الذهاب، وأخيرا رضخ لإرادتها راجيا أن تنتظر إلى صباح اليوم التالي ريثما يدبر أشغاله، ويرسل خبرا لسليم وأصحاب الدار التي يقيم فيها، ويعد عربة توصلهما إلى أقرب نقطة تسير فيها العربة، ويوصي على جوادين يقابلونهما إلى هناك، واشترى سمعان هدايا فاخرة لصاحبه يوسف وأهل بيته، وأرسلها مع المكاري.
وفي صباح اليوم التالي ذهب مع امرأته إلى العمروسة، وكان سليم ينتظرهما على أحر من الجمر، فلما وصلت والدته ووجدت دلائل الصحة والعافية بادية عليه سري عنها، وشكرت أهل البيت لعنايتهم به.
وأقبل أهل القرية للسلام على سمعان وامرأته، فكان الرجال يقصدون علية كبيرة فرشت بالسجاد، ووضع على أرضها طنافس مختلفة وما يسمونه في تلك الجهة «طراريح» كثيرة حول الغرفة وقرب العامود الذي يتوسطها، وكانت النساء في مقصورة الحريم التي يفصلها فاصل خشبي عن محل إقامة الرجال، فلقي والد سليم ووالدته من الإكرام ما جعلهما يشكران أهل القرية، وشعرت والدة سليم بعطف خاص نحو أهل تلك القرية، وأحبت امرأة يوسف الهلالي وابنتها اللطيفة حبا جما، ولما اجتمعت في المساء بزوجها وابنها على انفراد أعربت عن سرورها، وقالت: إنها لم تكن تظن أنها ستجد في تلك القرية النائية عن العمران مثل هذا النظام والتدبير في المنزل، وكانت قد شاهدت بستان صاحب الدار الكائن أمام منزله، وهو يروى من ماء نبع غزير يمر في وسطه، فأعجبها تنسيق الأشجار، ولحظت الفرق بين هذا البستان في ترتيب الأشجار وعدم الإكثار من الزرع وحسن الذوق في اختيار المتناسبات وبين بقية البساتين التي مرت بها في الطريق، وكانت قد سمعت عن الشيخ صالح وماله من التأثير على أهل قريته، فقالت: لا بد أن يكون لهذا الرجل الصالح نفوذ أدبي كبير على أهل قريته فهو بعلمه وفضله وسعة اطلاعه وما شهده في الخارج كان أكبر معوان لأهل القرية على إصلاح أمورهم وانصرافهم للأعمال المنتجة مستعينين بأفضل الطرق وأتمها نظاما.
وأعجبت أم سليم بامرأة مضيفها وابنتها، ولم تكن تعلم بأية علاقة بين الفتاة وابنها، فانفردت به يوما، وقالت: لم أكن أظن يا بني أنك تقيم بين قوم متمدنين، بل كنت أحسب أهل هذه القرية فلاحين قذرين - كما يظن أكثر الناس - ولكنني وجدت أهل هذا البيت على خلاف ذلك، فهم لا يفرقون في شيء عن أهل زحلة من حيث النظافة وحسن الضيافة، وإن اختلفوا عنهم قليلا في العادات، وامتدحت أمامه صاحبة الدار وابنتها التي قالت: إنها أحبتها كواحدة من أهلها، وشعرت من أول نظرة أن هنالك جاذبا قويا يربطها بها، وأخبرته أن الفتاة تميل إلى دخول المدرسة، وأنها أقنعت والدتها بفائدة ذلك، ووعدتها أنها إذا قبلت تأخذها معها إلى بيروت، وتجعلها تحت عنايتها مدة إقامتها هنالك كما لو كانت ابنتها، فطربت الفتاة لذلك، وأما أمها فبقيت صامتة، ولكنها شكرت أم سليم لاهتمامها بالأمر.
نزلت هذه الكلمات على قلب سليم نزول المطر على الأرض العطشانة، وأصبح أمله كبيرا بأن تفوز هيفاء بأمانيها وتحقق رغائبها، وتسنح لها الفرصة التي ترتجيها للدخول إلى المدرسة، فتظهر عبقريتها وما فيها من ذكاء.
وفي اليوم التالي لهذا الحديث برح سمعان إلياس وزوجته وابنه العمروسة شاكرين أهلها - وخصوصا آل الهلالي - لما لقوه في منزلهم من الكرم والإكرام، وتمنوا لو كان لهم حظ أوفر بالبقاء أياما في تلك القرية الجميلة، ودعوهم أخيرا للذهاب إلى زحلة؛ حيث يكونون أعز الأضياف عليهم وأقرب الناس إليهم.
المدرسة
في أوائل شهر أكتوبر قبل افتتاح المدارس ببضعة أيام، بينما كان سمعان إلياس وأهل بيته جالسين في صباح ذات يوم على شرفة منزلهم، يتناولون قهوة الصباح، وإذا بهم ينظرون رجلا وامرأتين مسلمتين من بعيد، وهم يدنون نحو منزلهم، فنهض سليم لفتح البوابة، وكان قلبه دليله، وقامت والدته لإعداد ما يلزم، ولما تبين أهل الدار القادمين خف سمعان إلياس نحو صديقه يوسف الهلالي، فحياه ورحب به وبمن معه، ودعاهم للدخول إلى المنزل، ثم أقبلت أم سليم ترحب بالسيدتين، وأدخلتهما على الرحب والسعة، وأظهر جميع أهل البيت مزيد السرور بالضيوف الكرام.
وبعد أن استقر المقام بالضيوف، رجا يوسف الهلالي أن يسمح له بمخاطبة ربة الدار، فجاءت من الغرفة المجاورة؛ حيث كانت مع هيفاء وأمها، فجلست مع الرجال، ثم خاطبها يوسف الهلالي قائلا: «أتسمحين لي يا سيدتي أن أعهد إليك بابنتي الوحيدة التي أحبها كأخيها العزيز، ولقد جئت بها إليك على غير علم أهلي؛ لأنهم يرغبون في تزويجها بمن لا تريد ولا أريده أنا لها، وإن يكن ظاهر الرجل على ما يرغب الآباء. وابنتي الآن راغبة في الدخول إلى مدرسة تتلقى فيها مبادئ العلم، وتكون محافظة على أخلاقها، وأرجو منك أن توصي رئيسة المدرسة ألا تتعرض لدينها، وتعاملها بالرفق واللين؛ لأنها لم تدخل المدارس بعد، ولا ألفت النظم التي تسير عليها، ولكنها إذا تعودت الحياة المدرسية أرجو أن تكون في مقدمة البنات طاعة لمعلماتها واجتهادا في دروسها.» فوعدته السيدة خيرا، وقالت : ثق أنها تكون كابنتي، وسأبقيها عندي بضعة أيام لأعدها لدخول المدرسة التي ستفتح قريبا.
عاد يوسف الهلالي وزوجته في اليوم التالي من زحلة سعيدين بما لقيا من الإكرام، كئيبين لفراق ابنتهما التي كانت زينة منزلهما، وقرة أعينهما، وسلوة والدتها طول النهار.
وبعد ذهابهما فكرت أم سليم في وسيلة تسر بها الفتاة وتسري عنها، فقالت: هيا بنا يا بنيتي نذهب إلى الكروم ولا موجب لوضع الحجاب، فتوجهين إليك الأنظار هنا في هذه البلدة المسيحية، فهاك «طرحة» ضعيها على رأسك، فإذا رآك أحد ظنك إحدى قريباتي أو من بنات الجيران، فمانعت أولا ثم اقتنعت بعد أن أفهمتها أم سليم أنها سوف تفعل كذلك في المدرسة، فلا تكون منفردة في شكلها وزيها.
ذهب سليم أمام والدته وضيفتها الحسناء الصغيرة إلى الكرم، وهو يكاد لا يصدق أن ما يراه حقيقة بل يكاد يعتقد أن ما يراه حلم من الأحلام الجميلة التي تتلوها اليقظة المرة، فسار سابحا في عالم الخيال والأوهام، وسبق والدته إلى الكرم، وقصد جهة ظليلة، فلما وصلت والدته وضيفتها إلى هنالك وجدتاه قد أعد لهما حجرين كبيرين للجلوس وبعض العنب اللذيذ للأكل، وقدم لهيفاء عنقودا من العنب اللذيذ، تناولته منه بأيد ترتجف، ثم قام الثلاثة يجولون في الكرم، ويقطفون ما لذ وطاب من العنب إلى أن تعبت أم سليم، فقالت: سأجلس قليلا تحت ظل هذه الشجرة، فسيرا واجمعا لنا قليلا من العنب اللذيذ للبيت، فتناول سليم السلة وسار وهيفاء تتبعه كظله، فلما خلا لهما الجو وأبعدا عن أم سليم نظر الواحد منهما إلى الآخر، وكأن السعادة والهناء تسطع في عيني كل منهما فتبسما، وقال سليم: إنني سعيد مثلك بسماح والديك لك بدخول المدرسة، وسأبذل الجهد في هذين اليومين - إذا شئت - لأساعدك على الاستعداد في الدروس التمهيدية؛ حتى تدخلي صفا أعلى إذا أمكن، ثم أخذا يجولان بين الدوالي ويتبادلان إهداء ما لذ وطاب من العنب، ثم أطلا على «الصفة» من أعالي شاهق، فنظرا الناس يذهبون بالمئات إلى تلك الجهة الجميلة وقد غصت القهوات بمن فيها، فقال: سنذهب غدا إلى تلك الجهة فتشاهدين ما يسرك.
وفي اليوم التالي جاءت أم سليم وهيفاء إلى النهر صباحا وتبعهما سليم، فلما لحق بهما كانتا قد وصلتا إلى آخر قهوة، فأحبت أم سليم أن تجلس هنالك للراحة عند صاحب القهوة وهو من معارفهم، فامتنعت هيفاء عن الجلوس، وقالت: إنها تفضل أن تسير بجانب الماء قليلا فرافقها سليم وجلست أم سليم تستريح.
سار سليم وهيفاء بين الأشجار الباسقة وهما يسمعان خرير المياه، ويتأملان بالشلالات الصغيرة التي يحلو منظرها للعين، ثم ينظر الواحد إلى الآخر غير مصدق أنه يمشي وإياه على انفراد، وكم تكلمت العيون في تلك اللحظات، وطابت نفساهما بهذه النزهة القصيرة التي مرت كأنها طرفة عين، وبعد أن مشيا قليلا جلسا على صخرة كبيرة، وأخذ سليم يشرح لهيفاء أحوال المدارس، وما قد تلاقي في بادئ الأمر من الصعوبات، ولكن كل ذلك يزول حينما تألف الحياة المدرسية، وعادا بعد قليل إلى حيث كانت والدة سليم، وقد امتلأ قلباهما بالحب، ولكن الحياء منعهما من مفاتحة بعضهما البعض بما كان يتضرم في الفؤاد من لواعج الغرام.
وبعد ذلك بثلاثة أيام نزلت أم سليم وابنها إلى بيروت ومعهما هيفاء، فدخلت مدرسة عالية، وعاد سليم إلى مدرسته، وصرفت أم سليم نحو الشهرين في المدينة عند شقيقها وهي لا تفتر تزور هيفاء كلما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وتشجعها وتوصي بها، وكل مرة تسمع من مديح المعلمات وإعجابهن فيها ما زادها تعلقا ولها حبا وبها ولعا، وقبلما عادت إلى زحلة ذهبت لتودع هيفاء، فلما قابلتها هيفاء وعلمت بما تنوي بكت، وقالت: أنت لي كوالدة ثانية، ففراقك يعز علي كثيرا. فأخذتها أم سليم بين ذراعيها، وضمتها إلى صدرها، وقبلتها كما تقبل الوالدة ابنتها، وعلمت من رئيسة المدرسة أنها كانت أكثر بنات المدرسة اجتهادا وأوفرهن ذكاء، حتى إنها اجتازت صفين بمدة شهرين، وربما نقلت إلى الصف الثالث بعد امتحان نصف السنة.
وطلبت أم سليم الإذن لهيفاء لتأخذها معها للسوق لتشتري بعض ما يلزمها، ولكي تنزهها قليلا؛ لأنها قالت إنها تكون متعبة من كثرة الدرس، فسمح لها بذلك، وكان سليم أيضا حرا طليقا في ذلك اليوم، فنزل الثلاثة إلى السوق، ثم ركبوا عربة إلى «الحازمية»؛ حيث صرفوا ساعتين مضتا على سليم وهيفاء كدقيقتين، ثم عاد كل إلى مدرسته وهو لا يفكر إلا باجتماع آخر.
الفصل السادس
الجريمة
مضت على هذا الاجتماع تسعة أشهر، فحاز سليم شهادته العالية، وعاد إلى زحلة يتمتع بالراحة التي يحتاجها جسمه، فقضى شهرا كان أسعد أيام الحياة.
وسافر مع رفيق له إلى دمشق لمشاهدة تلك المدينة العظيمة التي تاقت نفسه لمشاهدتها من قبل، وعاد بعد أيام فوجد أن والده ذهب إلى العمروسة، فود لو أنه يسير إلى هنالك إلا أن والدته أخبرته أن والده عائد في المساء، فانتظر للمساء ولكن والده لم يعد في ذلك المساء ولا في صباح اليوم التالي فقلق سليم ووالدته، وذهب سليم إلى السوق ليرى بعض الأصحاب، فسمع أن هنالك قتيلا مسيحيا على طريق بعلبك، وقد أرسلت حكومة المعلقة قوة للتحقيق، فزاده هذا الخبر قلقا، ونزل إلى المعلقة؛ ليستعلم عن حقيقة الحادثة دون أن يخبر والدته، وإذا به يرى محمد الهلالي وبعض أهل العمروسة مكبلين بالحديد، فسأل عن السبب فقيل له: إن هؤلاء قتلوا تاجرا من زحلة، فأصبح النور في عينيه ظلاما، وكاد يسقط على الأرض لو لم يمسك به صديقه، قائلا: «تشدد فلا تخف فسوف تظهر الحقيقة.»
ثم وصلت عربة وفيها جثة القتيل، فأسرع سليم ليرى الجثة، فعلم أن القتيل إنما هو والده، فصرخ صرخة دوى لها الفضاء، وجرى نحو العربة رغم ممانعة الجند، ورمى نفسه على والده يبكيه.
اجتمع فريق من أعيان زحلة وكبارها، ونزلوا إلى المعلقة، وقابلوا القائمقام، وأعربوا له عن استيائهم مما جرى، ومن تعدي الأشرار على أبناء طائفتهم، وقالوا: إن هذه الأمور لا ترضي الحكومة، ولا تريح بال الأهالي، فإذا لم تتخذ الحكومة الاحتياطات الوافية لقطع دابر الأشرار وتأديبهم عم الفساد، فوعد القائمقام القوم بالاهتمام، وخرجوا من لدنه ساخطين.
احتفل بدفن سمعان إلياس في زحلة احتفالا شائقا يليق بمقامه، ومشى بجنازته كثيرون من علية القوم في زحلة والمعلقة، وكان بجانب سليم شيخ مسلم رقيق الجسم عالي الجبين، تدل سيماؤه على خلق طيب وذهن وقاد ونية صافية، فتساءل الناس: ومن يكون هذا الشيخ الذي يمشي بجانب ابن قتيل قتله المسلمون؟! وما معنى وجوده في مثل هذه الحال؟! هل ذلك كما يقولون «يقتل القتيل ويمشي بجنازته؟»
ولكن الشيخ كان يسير الهوينا، وهو مطرق في الأرض يفكر في أمر هام، غير مكترث بما يقول الناس فيه وما يفتكرون، عاد الناس إلى منازلهم، وعاد الشيخ مع سليم والناس متعجبون من أمره؛ لأنهم رأوه واقفا مع أهل الفقيد يستقبل المعزين، وكأنه من ذوي الفقيد وأقرب الناس إليه، ولما اجتمع الناس عرف بعض الوجهاء الشيخ الذي جاء إلى المعلقة في العام الماضي في حادثة العصابات.
واحتشد في المساء في منزل الفقيد عدد كبير من الوجهاء، وكبار البلدة، وجلسوا يتحدثون بما كان من أمر الجريمة الفظيعة التي قامت لها البلاد وقعدت، وما يجب اتخاذه من التدابير لمعاقبة المعتدين، وكان بين الحاضرين شاكر أفندي صديق القائمقام الحميم، فقال: إن القائمقام شدد جدا على أهل قرية العمروسة، وأمر بإلقاء القبض على محمد الهلالي نجل الرجل الذي كان ينام عنده المرحوم وزعيم عصابة من عصابات الأشرار؛ لأن الشبهة وقعت عليه، وألقي القبض على عدد من أصحابه أيضا، وسمعت أن هنالك من ساعد الحكومة وأبلغها أمر القاتل والمخبر وجيه كبير له صلة بالقائمقام.
فنهض الشيخ صالح، وكان متأكدا من براءة آل الهلالي، وعارفا أنهم آخر من يفكر بمثل هذه الجريمة، وقال: «حبذا العمل، ومن يكون هذا الوجيه الذي ساعد الحكومة هذه المساعدة الكبرى؟» فقال شاكر أفندي: «هو سلمان أحمد شيخ قرية مجاورة للعمروسة، ورجل معروف بثروته وجاهه، وقد خشي أن تقع الشبهة على الأبرياء من أهل بلدته، فأرسل للقائمقام كتابا سريا أنبأه فيه بما فعله الهلالي فيما مضى، وقال: إنه يعتقد أن محمد الهلالي هو القاتل طمعا بمال القتيل، ويرجح أنه لحقه إلى أن خرج من القرية فقتله هنالك ليضلل المحققين.»
فتأثر الشيخ صالح لهذه التهمة الباطلة، وثارت ثائرته، ثم وقف، وقال: «أيها الإخوان، أنا أعرف الناس بآل الهلالي فهم أبرياء.» وهنا قامت ضجة بين الحاضرين، فهذا يقول من جاء بهذا الشيخ الممخرق، وذلك يقول دعونا نسمع ما يقول وهلم جرا، فنظر الشيخ إلى الحاضرين مليا حتى سكنت جلبتهم، ثم قال: «لم يكن من رجل أحب إلي من المرحوم، فهو أعز الناس لدي ولدى أهل قريتي العمروسة، فليس بينهم من يبغض المرحوم أو ينقم عليه؛ فقد كان أكرم الناس أخلاقا وأطيبهم قلبا وأحسنهم معاملة، ومع أنه تاجر يهمه الربح، فقد كان أبسط التجار كفا، فلم يكن يرضى إلا بالربح الحلال، وهذا ما جعله محبوبا لدى الجميع، وقد تركنا منذ يومين، وودعناه جميعنا بقلوب طافحة بالمحبة والإخاء، فليس بيننا من ينظر إليه كغريب عنا؛ لأنه مسيحي كما سمعت بعض الحاضرين يهمس الآن.
وأنتم تعلمون أن عصابة من أشقياء المسلمين هاجمته في العام الماضي هو وابنه، فكان أهل العمروسة حربا على الأشقياء، وقد ألقوا القبض على بعض أفراد العصابة، وساقوهم إلى السجون، وأنا أعرف آل الهلالي كما أعرف أهلي، فهم يحبون المرحوم ويكرمونه وينزلونه في منزلهم كلما ذهب إلى قريتهم، فلا يعقل أن يرتكبوا مثل هذا الوزر مع صديقهم وأكثر الناس نفعا لهم بعد أن عاد من قريتهم صفر اليدين، ودفع كل ما كان يحمله من المال ثمنا للحبوب وهم أعرف الناس بذلك، وإذا لم يكن لهم مطمع بمال، فأي سبب يحملهم على قتل صديق صدوق، ولو شاءوا أخذ ماله لتربصوا له قبل دخول القرية لا بعد خروجه منها ودفع ما لديه، أما إذا كان أحد الوجهاء دس دسيسة سافلة فتلك مسألة أخرى، وهل يود حضرة المتكلم أن يفهمنا ما عرف الوجاهة عنده؟ فإذا كانت مواجهة الحكام عندما يزورون القرى أو كثرة المال الذي يجتمع لدى الإنسان فهذا ما لا نتفق عليه، فوالله إن صاحب الوجاهة المزعومة الذي تكلم عنه حضرة الأفندي لهو أحقر من كلب إذا قيس بابن الهلالي، فهذا رجل كريم النفس، طيب الخلق، عالي الهمة، جمع ماله بجده ونشاطه وحسن تدبيره، وذلك رجل سافل غدار، جمع ماله بالتقرب من الحكام، وظلم الناس، وتسخير الضعفاء لقضاء حاجاته وأغراضه.
إننا نود معرفة الجاني أو الجناة، وأن تصل يد العدالة إليهم فتقتص منهم لا أن نوسط فريقا من الوجهاء المداهنين الذين اتخذوا الرشوة وسيلة يتعيشون بها.»
فوقعت هذه الكلمات وقوع الصاعقة على شاكر أفندي، وكأنها قيلت له مع أن الشيخ صالح كان يقولها بإخلاص عن سلمان أحمد، ولم يعلم من أمر شاكر أفندي شيئا، فأجاب هذا بكلمات مبهمة، ثم اغتنم أول فرصة وانسحب من المجلس، وسار إلى القائمقام خلسة، فوصل إلى المعلقة بالعربة في آخر السهرة، وكان القائمقام لا يزال ساهرا، فأخبره شاكر أفندي بما كان. (1) من الجاني؟
بغت أهل العمروسة كلهم حينما سمعوا بمقتل صديقهم سمعان إلياس، وما كان أشد دهشتهم حينما رأوا الجنود تطوق منزل الهلالي، وتقبض على محمد الهلالي وعلى بعض المقربين منه، فلم يمانع أحد من هؤلاء، وساروا مع الجند عالمين ببراءتهم، راجين أن يطلق سراحهم حال وصولهم للمعلقة.
وكان التحقيق الذي جرى عند وجود الجثة غير كاف، وحاول القائمقام وصاحبه شاكر أفندي أن يستغلا هذه الحادثة حسب عادتهما، ولكن وقوف الشيخ صالح في وجهه، وتأييد وجهاء المسيحيين له حال دون ضياع معالم الجناية حسب العادة، ونجاح ذلك الحاكم الظالم ووسيطه الشرير.
وكان في زحلة رجل عرف ببعد النظر واستنباط الحيل لمعرفة الجناة، فكلفوه البحث والتحقيق بطريقة غير رسمية والدفاع عن الأبرياء؛ لأن سليم والشيخ صالح كانا متأكدين من براءة آل الهلالي، فذهب فارس أفندي هذا إلى العمروسة، وقضى يوما كاملا في البلدة، فعلم من أهلها كل ما يعرفونه من أمر التاجر وآل الهلالي، فعرف سر الجناية، ولكنه أراد أن يجعلها بشكل قانوني، فعاد إلى المعلقة، وقد اجتمعت لديه معلومات تنفي الشبهة عن آل الهلالي وغيرهم من المتهمين، وتوقع الشبهة على ذلك الوجيه الكذاب الذي عمل القائمقام بأقواله، وألقى القبض على محمد الهلالي بناء على كتابه.
وكان بين رجال الجندرمة في المعلقة رجل نشيط متعلم، تعود مطالعة أخبار البوليس السري والطرق المختلفة التي كانوا يستعينون بها، فقابله فارس أفندي واتفق الاثنان على أن يعيدا النظر في هذه الحادثة من أولها لمعرفة حقيقتها، فذهبا إلى حيث وقعت الحادثة، ودرسا المكان وما حوله، فوجدا أنه يستحيل في مثل ذلك المضيق الذي وقعت فيه أن يجتمع أكثر من رجلين في وقت واحد وأن القتيل كان مترجلا يقود جواده حينما دهمه القاتل من وراء صخر عند منعطف الطريق، فأخذه على حين غرة، وطعنه بخنجر طعنة نجلاء، ثم أجهز عليه وتركه يتخبط بدمه.
فعاد الاثنان إلى زحلة، وطلبا الإذن من أهل القتيل لفتح المدفن ومعاينة الجراح التي كانت قاتلة، فلاحظا أن الضربة الأولى كانت في الصدر قرب الثدي الأيمن، وهنالك خدوش في العنق تدل على أن القاتل أمسك بعنق المجني عليه وطعنه بخنجره، فكانت الخدوش في الجهة اليسرى من أعلى الكتف والعنق، والطعنة فوق الثدي الأيمن وبانحراف داخلي إلى جهة اليسار، ولاحظا أن أظافر القتيل مهشمة فاستدلا من ذلك أنه أمسك بتلابيب خصمه حينما دهمه ليفتك به.
ولاحظا أن الضربة الثانية كانت بذات الآلة في ظهر القتيل بعد أن أكب على الأرض، وقد أصابت الجانب الأيسر مع انحراف إلى اليمين، وكأن القاتل حاول بهذه الطعنة أن يتأكد من موت عدوه، فطعنه هذه الطعنة القاتلة، ثم فر هاربا تاركا كل شيء وراءه.
فتحقق لديهما أولا: أن القاتل أعسر، وثانيا: أن الجريمة لم ترتكب بقصد السرقة، واستنتجا أيضا أن قتل رجل طيب ليس له عدو في تلك الجهة لم يقصد به إيقاع الأذى به بل بآخرين للتشفي والانتقام، ثم إن إرسال كتاب من سليمان أحمد يتهم فيه محمد الهلالي جعلهما يحولان الشبهة نحوه، فإذا لم يكن هو القاتل بعينه، فقد يكون أحد أعوانه وأخصائه المقربين.
فاتفق الاثنان على زيارة سلمان أحمد بحجة أنهما يريدان مساعدته لمعرفة الحقيقة ومساعدة الحكومة على اكتشاف سر هذه الجريمة الشنعاء.
فركبا وقصدا القرية التي يقيم فيها بعد أن مرا بالنقطة التي وقعت فيها الحادثة، فلاحظا أن هنالك شعبا ضيقا يوصل من محل وقوع الجناية إلى منزله وسط دغل كثيف يستطيع الإنسان أن يسير فيه دون أن يراه أحد أهل القرية، وأطلا من شرفة الدار فلاحظا أن طريق العمروسة إلى زحلة مكشوفة من هنالك، فيستطيع الإنسان من سطح المنزل أن يرى الذاهبين من العمروسة إلى المعلقة أو زحلة، ثم تسير الطريق في منعرج جبلي إلى حيث وقعت الجناية، فيستطيع الإنسان بكل سهولة أن يصل من منزل سلمان أحمد إلى تلك النقطة قبلما يصل الراكب إليها.
وبينما هما جالسان هنالك أقبل بعض أصحاب سلمان أحمد لزيارته ومشاهدة ضيفيه فقدمت القهوة، وما أشد دهشة فارس أفندي؛ إذ رأى رجلا عبل الساعدين مفتول العصب يقدم القهوة، ثم أصلح فنجانا بيده اليسرى مما استدل منه على أنه أعسر، فنظر إلى رفيقه، فرآه يحدق به بصره، فعرف أنه يفكر بمثلما يجول بخاطره.
ثم تأمل الرجل مليا فلاحظ أن هنالك أثر خدوش في الجهة اليسرى من عنقه، يحتمل أن تكون أثر أظافر يد، فوقعت الشبهة على هذا الرجل، وكأن الرجل شعر بأن فارس أفندي يحدق به، فارتجفت يداه، وكادت الصينية التي كان يحملها أن تسقط من يديه. (2) المحاكمة
اجتمع الناس في المعلقة لسماع محاكمة محمد الهلالي ورفاقه المتهمين بقتل سمعان إلياس، وأحضر عدد من الشهود الذين شهدوا أن محمد الهلالي كان زعيم عصابة معادية للمسيحيين، وأنهم شاهدوه أكثر من مرة يجول على أطراف لبنان للتعدي، وكان هؤلاء الشهود ممن دبرهم سلمان أحمد تشفيا من آل الهلالي، وبينهم اثنان من أفراد العصابة التي فرت من أمام أهل العمروسة يوم هاجمت سليما ووالده في العام الماضي استعان بهما سلمان لينتقم من أخصامه.
فتليت ورقة الاتهام، وأخذ المستنطق يورد الأدلة التي تثبت الجريمة على المتهمين، ثم أخذ القاضي يسأل المجرمين عما نسب إليهم، كلا بمفرده، فأنكروا جميعا، وقال أحدهم: إنهم أبرياء وهم أكثر الناس حزنا على المرحوم؛ لأنه كان أكبر صديق لهم، ولو عرفوا القاتل لمزقوه إربا إربا، فضحك القاضي، وقال: هذا الكلام يثبت الجرم عليكم، ويدل على أنكم قتلة سفاحون، وإلا كيف تقول هذا القول.
وكان فارس أفندي قد طلب أن يتولى الدفاع عن المتهمين فوقف، وقال: ليسمح لي فضيلة القاضي أن أدفع هذه التهمة الشنعاء عن هؤلاء الأبرياء، فإنه إذا ثبتت هذه التهمة على أهل العمروسة كانوا أفظع الجناة الأثمة، بل كيف يعقل أن يقتل الإنسان صديقا أحسن إليه وعاشره مدة طويلة دون أن يثير خاطره أو يسيئه بشيء، أو أن يكون له من وراء ذلك ربح مادي، ولهذا أرجو من عدالة المحكمة ألا تعجل بالحكم قبلما تقف على بواطن الأمور.
ليس لأهل الهلالي أعداء، ولكن لهم حسادا أشرارا، دبروا مكيدة شريرة للقضاء على هذا البيت الكريم، وأهل قرية اشتهروا بالجد والنشاط.
عرف سمعان إلياس بدماثة أخلاقه، وحسن معاملته، وصدق مودته، فأخلص له أهل العمروسة الود، واختصوه بالمعاملة دون سواه، وتمكنت بين الفريقين عرى المودة والاتفاق إلى أن أصبح محله في زحلة بغية الطلاب ومقصد صاحب كل حاجة من أهل العمروسة فضلا عن أنهم هم لا يبيعون حاصلاتهم إلا له، فهذه الصفات الممتازة التي عرف بها الفقيد والمنفعة المتبادلة بينه وبين أهل القرية كانت سببا في تعلق أهل القرية به، فليس ثمة من دافع يدفعهم لقتل رجل بريء لم يؤذ أحدا منهم، بل كان يمد يده لمساعدة كل فرد من أفراد هذه القرية قصده لحاجة أو طلب مساعدته في شأن من الشئون.
بقيت مسألة أخرى وهي السرقة وسلب المال.
لو كان الدافع الذي دفع الجاني إلى هذه الجريمة سلب المال لكان ترصد للقتيل قبل وصوله إلى القرية، وهو يحمل مبلغا كبيرا من المال، لا بعد عودته خالي الوفاض، وقد دفع كل ما كان في يده، وبقي عليه جزء من الثمن (وهنا أبرز أمام المحكمة أوراقا تثبت ذلك).
وأؤكد لكم أنه لم يؤخذ من جيوب القتيل شيء البتة؛ لأنه وجد مبلغا صغيرا في جيبه وساعته وبقي خاتمه الذهبي في يده، فلو كان الجاني أحد اللصوص لما ترك هذه الأشياء ولما ترك الجواد وملابس القتيل وكل ما كان يحمله معه، فالجريمة إذن مرتكبة عمدا، والدافع إليها شخصي، وهو إما الانتقام من القتيل أو إيقاع الأذى بسواه، ولما كان القتيل رجلا مسالما طيبا فالقتل لم يكن انتقاما منه، بل على ما أرجح انتقاما من آخرين.
ثم تبين من التحقيق الذي قام به أحد رجال الشرطة، ووافق عليه بعدئذ جميع الذين شهدوا موضع الحادثة أنه ليس من متسع لأكثر من شخص واحد يقابل المعتدى عليه حين وقوع الجناية، إذن لا يكون القاتل إلا رجلا واحدا وهو أعسر كما تبين لنا من البحث والاستقصاء (وهنا قامت ضجة في المحكمة وضحك بعض الحاضرين)، فقال القاضي: كيف تبين لك ذلك؟! فقد فقت الذين اشتهروا بالقيافة من العرب، ولعلك تورد لنا الأسباب التي حملتك على هذا الظن.
قال: إن القتيل بشهادة الطبيب (وهنا أبرز ورقة وسلمها للقاضي) قتل بآلة حادة؛ أي سكين، وقد طعن بها طعنة في صدره وأخرى في ظهره، أما الدليل على أن القاتل أعسر فهو أن الضربة الأولى كانت في الجهة اليمنى من الصدر، وقد انحرف الجرح نحو اليمين وهذا يدل على أن الضربة كانت باليد اليسرى، وهنالك خدوش في عنق القتيل وأعلى كتفه الأيمن، ويظهر من ذلك أن القاتل أمسكه بيده اليمنى وطعنه باليسرى، وهذا لا يكون إلا إذا كان القاتل أعسر.
ثم إن الضربة التي أصابت القتيل في ظهره كانت بعد أن أكب القاتل عليه، فكانت الطعنة في ظهره من الجهة اليسرى مع انحراف إلى اليمين.
وقد فحصنا جميع المتهمين، فليس بينهم واحد أعسر، فهم أبرياء من هذه التهمة الشنيعة.
وهنا ليسمح لي القاضي أن أبين له وللمحكمة كيف أن هنالك مساعي لتضليل المحققين؛ فقد ورد لسعادة القائمقام بلاغ من أحد الوجهاء يتهم فيه هؤلاء الأبرياء فلماذا؟ ذلك لأن هذا الوجيه الذي اتخذ السعاية له ديدنا هو المحرض على القتل لغاية في نفسه، حاول هذا الرجل أن يتزوج ببنت الهلالي فرفضوا مصاهرته، فأضمر لهم الشر، وانتقم منهم متهما محمد الهلالي بقتل أكبر صديق للعائلة، فجرح قلوب آل الهلالي بقتل صديقهم العزيز، ثم جرهم إلى السجون بتهمة فظيعة، جعلتهم في أحرج المواقف.
وظهر من تتبع آثار هذه الجناية أن لهذا الوجيه الذي فعل فعلته الشنعاء أجيرا اسمه «حامد» له صلة قرابة بسيده الذي يثق به كل الثقة، وهذا الأجير أعسر، وهو من أشد الرجال جسما، وأصلبهم عودا، وأقساهم قلبا، وأسرعهم إلى ارتكاب الشر، ولحسن الحظ ألقي عليه القبض أمس بتهمة أخرى لا شأن لها بحد ذاتها، ويستطيع الشرطة أن يحضروه إلى هنا، فمتى مثل أمام القضاء تظهر الحقيقة لديكم، ومتى ظهرت صحة قولي أمامكم يا حضرات القضاة أرجو أن تطلقوا سراح هؤلاء الأبرياء، وتأمروا بإلقاء القبض على المحرض الحقيقي الذي هو علة الشقاء.
فأمر رئيس المحكمة بإحضار «حامد»، ولما دخل إلى وسط المحكمة لم يبق عند أحد ريب في أنه هو القاتل الأثيم، وكانت آثار الخدوش لا تزال بادية على عنقه، فقال فارس أفندي: «هاكم آثار الخدوش بادية على عنق هذا المجرم الأثيم.» ثم نظر إلى حامد، وقال: «يا هذا، أسألك الآن أمام هيئة القضاء التي تمثل العدالة في هذه البلاد، وباسم الدين الذي يأمرك بالمعروف وينهى عن المنكر، وبحق كل ما هو عزيز لديك، أن تتكلم الصدق، فقد ظهر للمحكمة أنك كنت في يوم السبت الماضي واقفا على سطح منزل سلمان أحمد، فرأيت فارسا من بعيد، عرفت أنه سمعان إلياس التاجر، وهو عائد من «العمروسة» إلى «زحلة»، وطريقه يسير في مضيق في الجبل أقرب إليك منه، فجريت ومعك خنجر حاد، ومررت بدغل يفصل بين المنزل والطريق حتى وصلت إلى وراء صخرة بارزة تكاد تسد الطريق؛ حيث كنت ترى ولا ترى، فلما دنا سمعان إلياس - وكان قد ترجل عن جواده لوعورة المسالك - انقضضت عليه، وأمسكت بيدك اليمنى عنقه وطعنته بيدك اليسرى طعنة نجلاء خر على أثرها صريعا، وانكب على وجهه، ولم تكتف بذلك، بل أجهزت عليه بطعنة أخرى في ظهره، وعدت من حيث أتيت غير مشفق عليه أو راحم زوجته وابنه.» فوجم حامد ووقف شاخصا إلى السماء، وظن أن سيده أقر عليه؛ لأنه لم يعرف بسر الحادثة سواه وتفوه بهذه الكلمات: «من ذا الذي شهد ما حصل؟» فقال فارس أفندي: «إن الله يرقب الظالمين، وهو الذي يأخذ بيد الأبرياء المخلصين، ويعاقب المجرمين، والآن فلا يجديك الإنكار نفعا، فقد وضح الأمر، وليس لديك إلا أن تقرر الحقيقة خدمة للقانون والعدالة، وهذا يخفف من جرمك، ولعل المحكمة ترأف بك بعد ذلك.»
فصمت قليلا، ثم قال: يا مولاي ماذا أقول؟! إنه لم يكن موجودا حينما ارتكبت الجريمة طير يرف، وقد عرفتم تفاصيلها كما لو كنتم حاضرين، فكيف أنكر الحقيقة بعد ذلك، وليس هنالك إلا أحد أمرين؛ إما أن الله أنطق الجواد الذي فر حالما هجمت على سيده، أو أن الشيخ سلمان أحمد خانني؛ خوفا من أن تقع الشبهة عليه «هذه فعلته والله، فكم خان صديقا ووشى بصديق! لعنه الله، فقد كان أخبث الناس، وهو الذي دفعني لارتكاب هذه الجريمة الشنعاء تشفيا من آل الهلالي الذين لم يؤذه أحد منهم طول حياته.»
فقال فارس أفندي: «أرجو من المحكمة أن تقرر ذلك، وأنا أترك أمر هؤلاء الأبرياء للعدل يجري مجراه، ولسوف يعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.»
فكتب القاضي أمرا بإلقاء القبض على الشيخ سلمان أحمد، ولكنه كان قادما إلى المعلقة للسعي في تبرئة خادمه حامد، فقابله الجنود في الطريق، وعادوا به مكبلا بالحديد إلى حيث لقي ما يستحق من القصاص العادل، وأطلق سراح الأبرياء، فعادوا إلى قريتهم يشكرون للشيخ صالح وآل القتيل الذين سعوا في إنقاذهم، وساروا هم ووجهاء القرية لتعزية آل الفقيد، وأقاموا للمرحوم مأتما ثانيا في العمروسة دل على ما كان له في نفوس أولئك القرويين البسطاء من المحبة والإخلاص. (3) سفر سليم إلى أميركا
سئم سليم الحياة في بلدته بعد مقتل والده، فسلم محل أبيه لعمه، وسافر إلى أميركا.
وقبل مغادرته بيروت ودع هيفاء، فحزنت لمغادرته الوطن، وقالت: كيف أستطيع أن أفكر بسفرك وحرمان والدي من صديقه الحميم المرحوم والدك وسفرك أنت، وقد كنت لنا مع المرحوم خيرا من الأهل، وأنا هنا أعتبر كواحدة من أفراد عائلتكم، وابنة عمك سعدى تنظر إلي كأنني أختك، وتحبني كما تحب الأخت أختها، فلم أعد غريبة عنك كما كنت تقول، والحق يقال: إن أسعد أيامي هي الأيام التي قضيتها عندنا والتي قضيتها أنا في زحلة، فهل تعود تلك الأيام الحلوة ثانية؟! وهل تعود فتفكر بنا وأنت في العالم الجديد؟! أم تنسى العالم القديم ومن فيه؟!
قال: وهل ينسى الإنسان قلبه، فأنت حيث حللت وأنى سرت تبقين ضمن شغاف القلب وطياته بل في سويدائه، وسوف أكتب لسعدى ابنة عمي، وهي تكتب لي عنك دائما، وإذا بقيت في المدرسة، فأكتب إليك بإمضاء سلمى؛ لأنني لا أريد أن يعرف أنك تكاتبي رجلا، وألسنة الناس شديدة على الحسان.
قالت: ليس لي إلا بضع دقائق أقضيها معك الآن، ثم تسافر إلى حيث لا أراك، فما أشد لوعة الفراق! ولكن الفراق للمحبين كالنار للذهب، يمتحن فيها صفاؤه، فإن أحرقتنا نيران البعد والجوى، فليس أعذب من لذة اللقاء، ولكن أين يكون ذلك ومتى يكون؟
قال: «لا أعلم متى أعود ولا ما يقدر لي الله في ديار الغربة، ولكن لي همة الشباب وحبك الذي سيكون أكبر معوان لي على اقتحام المخاطر وتحمل المشاق، وهو الذي يشحذ ذهني، ويشدد عزيمتي، ويهون علي الصعاب، ألا ليتك كنت تستطيعين أن تذهبي إلى العالم الجديد، فهو جدير بك وأنت جديرة به.» فخطر لهيفاء خاطر مر ببالها بسرعة البرق، ثم قالت: «نعم! إن العالم الجديد جديد في كل شيء، فلا تقاليد قديمة، ولا قيود كذابة تفصل الأخ عن أخيه، فعسى أن نجتمع فيه، فلا يكون هنالك ما يكدر صفاءنا، ويبعد عنا السعادة والهناء.»
مد سليم يده ليصافح هيفاء فمدت يدها، ونظر الواحد إلى الآخر دون أن ينطق أحدهما ببنت شفة، بينما كانت العيون تنقل إلى القلوب والألباب معاني تلك النظرات، وشعر كل منهما كأن سلكا كهربائيا سرى في جسمه، فارتعش الاثنان، ونظر سليم الدمع في عين هيفاء يترقرق، فقال: «صبرا يا حبيبة القلب، الوداع يا قرة العين، صبرا فسوف تجمعنا الأيام.» ولم يعد يقوى على نفسه، فتغلبت عواطفه عليه، وقد دنا الواحد منهما من الآخر، ووقعت العين على العين، وأحس الواحد بأنفاس الآخر ولهيب الحب يتضرم، فقال سليم: «ما أحلى وقوع العين على العين، وليس أفضل منه إلا التقاء الثغرين.» وضمها إلى صدره وقبلها، وأحس بشفتيها تتحركان، ولكنها بقيت صامتة، فسار وفي قلبه بركان يتضرم. (3-1) الشاب السوري في أميركا
وصل سليم إلى نيويورك حيث كان له قريب قصد تلك البلاد من مدة، فحل سليم على قريبه ضيفا إلى أن توفق إلى عمل بسيط في بادئ الأمر، فكان يصرف ساعات العمل مكبا على أعماله دون انقطاع، فإذا انتهى منها قصد المجتمعات الأدبية والمكاتب العمومية يسمع ويرى ويطالع ما يزيده علما واختبارا.
وكانت معرفته للإنكليزية أكبر معوان له، فلم تمض مدة قصيرة حتى أصبح كل صاحب عمل عرفه وعرف أخلاقه يرغب في استخدامه والاستعانة به، وكأنه ورث عن أبيه الميل للتجارة، فحالما سنحت له فرصة اشترك مع صديق له كان في البلاد من قبله وخبر أحوالها، ولكنه لم يكن يحسن القراءة والكتابة بالإنكليزية فسد سليم هذا النقص، ولم يمض عليهما إلا مدة قصيرة حتى أصبحا في مقدمة التجار السوريين سمعة ونجاحا.
ونشبت الحرب الأوروبية، وأخذ ينسحب من سوق نيويورك الواحد بعد الآخر من التجار الأجانب الذين كانوا مسيطرين على بعض الأسواق التي كان يشتغل بها السوريون أيضا فحل هؤلاء محلهم، وكان لسليم وشريكه نصيب كبير من هذا العمل فأثريا وجمعا مبلغا كبيرا من المال في مدة قصيرة، وأنشآ معملا لصنع البضائع التي كانا يشتغلان بها في «ماديرا»، فاتسعت تجارتهما، وبلغت أرباحهما ألوف الجنيهات.
لم يبطر الربح المادي سليم ولا أنساه هيفاء، بل كتب إليها مرارا قبلما نشبت الحرب، ثم انقطعت أخبار هيفاء، ولم يعد يعلم من أمرها إلا قليلا، وآخر ما علمه عنها أنها تستعد للامتحان النهائي لنيل الشهادة المدرسية، ثم دخلت أميركا الحرب، فلم يعد يعلم من أمرها شيئا، إنما علم أن أخاها محمدا انضم إلى الجيش التركي، وأرسل إلى ميدان القوقاس، ثم انقطعت أخباره عن الأهل، فخامرت والديه الهموم والأحزان، وضعفت همة والده، وعجلت الكآبة عليه الشيخوخة، فانقطع عن العمل، ولزم بيته يفكر في مصير وحيده، ويلعن الساعة التي نشبت فيها الحرب، ودعي فيها محمد إلى الجهاد.
وذهب في أحد الأيام، وقد أخذ منه الحزن كل مأخذ إلى دمشق، يستفهم عن نجله من رجال الجندية هنالك، وكان كلما حادث فريقا يشكو إليهم همه ويلوم الدولة لدخولها هذه الحرب التي أقفرت الدور، وخربت البلاد، وجرت على الناس الرزايا والويلات، وحدث أنه كان سائرا ذات يوم في أحد الأسواق، فرأى جماعة من اللبنانيين وقد عضهم الجوع، وجار عليهم الدهر فلجئوا إلى دمشق علهم يجدون فيها ما يسد الجوع ويدفع المكروه، وكان بين هؤلاء رجل عرفه يوسف الهلالي وهو ابن نعمة لم تقو رجلاه على حمله، فوقع على الأرض مغميا عليه، فتقدم يوسف الهلالي ليرفعه عن الأرض، وإذا بجندي دنا منه قائلا: «دع أيها الشيخ، هؤلاء الكلاب يموتون جوعا، فإنهم خونة ملاعين.» فنظر إليه الشيخ شذرا، وقال: «دع عنك هذه الأقوال يا بني، فإن مرض الدولة القتال هذا التعصب الذميم، ولولاه لما كنا في أسوأ حال، ولما تفرقنا طرائق وتمزقنا شيعا وأحزابا، فما ذنب هذا المسكين فتميتونه جوعا، أما إنه لو عرف السلطان بما تفعلون لأمر بعقابكم أشد عقاب.» ثم هم برفع الرجل الجائع فلطمه الجندي، وقال: خذ هذا جزاؤك على عملك هذا، ورفس الآخر رفسة أفقدته الرشد، وتركته لا يعي شيئا، وسار كأنه لم يفعل شيئا.
أطار هذا العمل صواب يوسف الهلالي، فرفع رأسه إلى السماء، وقال: «اللهم ارحم هذا المسكين واجز بعدلك الظالمين.» وكان على مقربة منه رجل عرف بالمداهنة والرياء، فاغتنم هذه الفرصة، وسار توا إلى أقرب نقطة للبوليس، وشكا أمر يوسف الهلالي، وقال: إنه سب الدولة ورجالها الكرام، ولعن الساعة التي نشبت فيها الحرب، وجرت الناس إلى البلاء، واستشهد ببعض المارة الذين رأوا يوسف الهلالي يساعد ذلك الجائع البائس المسكين، الذي رق له قلبه فأحسن إليه، فلم يكن إلا بضع دقائق حتى رأى يوسف الهلالي بعض رجال البوليس يحيطون به، فظنهم أولا قادمين لمساعدته وإنهاض ذلك البائس الذي رثى لحاله ورق له قلبه؛ إذ تصور مصير وحيده، وما قد يكون حل به في أرض الغربة وما فيها من مصاب وبلاء، ولكنه دهش؛ إذ رأى الجنود يقتربون إليه دون اكتراث بذلك الرجل البائس الذي تركوه بين حي وميت، واقتادوا الهلالي إلى السجن وتركوه فيه لا يعرف له ذنبا، ولا اهتم أحد أن يعرف من أمره إلا أنه خائن مفسد شرير.
مضى عليه ساعات وهو في سجنه لا يعلم لذلك سببا، وظن أن ذلك الجندي الجبان شكاه إلى الحكومة خوفا من أن يسبقه هو في الشكاية، فأخذ يزعق وينادي «العدل» «العدل يا ناس.» فكان يحمل كلامه على غير محمل، وكلما سمعه واحد ظن أنه ثائر أو أنه خائن يستحق أشد العقاب.
ودخل عليه السجان بعد برهة وبيده كرباج، فقال: ما لك يا شيخ السوء تزعق وتزعج الناس بهذا العواء؟ وهم بضربه، فقال: «صبرا» إما أن أكون أنا مجنونا أو جن الناس أجمعون.
قال: لا بل أنت المجنون؛ ولهذا ترانا مجانين. فقل لي ما أمرك؟ فأنا أراك ذاهلا لا تعلم ما أنت فيه، ولا تفهم سوء مغبة ما تقول.
قال: هل يلام في عرفكم من يحسن إلى الناس؟ قال: بل يكافأ على الإحسان بمثله. قال: وهل السجن جزاء الإحسان؟ قال: لا، بل هو عقاب المجرمين. قال: إذن لماذا أنا مسجون، فإني قدمت أسأل عن ابني وهو جندي من جنود الدولة الأمناء، فرأيت رجلا مسكينا سقط أمامي من الإعياء والجوع، فانحنيت لأرفعه عن الأرض وأساعده، وخيل إلي أن ابني قد يكون بحالة مثل حالته، فيجد من يعينه وينصره كما أعنت هذا البائس المسكين، وإذا أنا بجندي لطمني على خدي، ثم رفس الرجل رفسة مؤلمة، وتركني ذاهلا ألعن الساعة التي قست فيها القلوب وماتت فيها الضمائر، وإذا أنا بالجند يطوقني، وأقاد إلى السجن ذليلا مهانا، فهل أنا في يقظة أم في منام؟ فطالما جئت «للشام»، فلم أر مثلما رأيت، ولا عوملت كما عوملت هذه المرة، بل نحن نحب أهل دمشق الذين اشتهروا باللطف والدعة وحب الضيافة والعطف على الغريب، ولم أر في حياتي ولا سمعت أن أحدا عومل في دمشق كما عوملت.
فرجع السجان إلى الوراء مذعورا، وأحس أن هنالك غلطة ارتكبت، ولكنه لم يكن يملك أمرا بإطلاق سراح ذلك الشيخ البريء، الذي ظهر له أنه ضحية وشاية وسعاية، أو أن هنالك من يريد أن يوقع به الأذى، فكاد الدمع ينهمر من عيني السجان، وخرج دون أن يرى الهلالي ما به من تأثر، وسار إلى غرفته يفكر فيما آلت إليه الأحوال، وكيف يظلم الأبرياء، وليس في وسعه إلا أن يكون منفذا لأوامر رؤسائه، فود لو أن في استطاعته إطلاق سراح الشيخ، ولكنه خشي أن يكون في الأمر جريمة توقعه تحت طائلة العقاب، فانتظر ريثما يرده علم من المراجع العليا. وفي اليوم التالي دخل على الهلالي ضابط كبير، وقال: «من تكون؟» فقال: أنا يوسف الهلالي من قرية العمروسة، وقد جئت أستفهم عن ابني، وهو جندي من جنود مولانا أمير المؤمنين، فرأيت رجلا مسكينا واقعا في الطريق، فمددت إليه يد المساعدة، فقادني الجند إلى هذا المكان، وأنا لا أعلم لي ذنبا، قال: بل ذنبك عظيم، فأنت متهم بسب الدولة ورجالها والتفوه بألفاظ تعد جريمة عظيمة؛ لأنك تثير الكراهية في نفوس السامعين.
قال: يا مولاي صبرا، فما أنا إلا شيخ طاعن في السن لم أتدخل في السياسة في حياتي، ولولا وجود ابني في الجندية لما جئت إلى هذه المدينة زائرا، وهل يعاقب - يا مولاي - رجل أحسن إلى رجل بائس؟ قال: كلا! بل يكون مثل هذا رجلا كريما. فأشرق وجه يوسف الهلالي، وقال: «الحمد لله؛ فقد أرسلك الله إلي منقذا.» ثم قص عليه قصته كما هي من أولها إلى آخرها، فكاد الضابط يتميز من الغيظ، وقال: «لعن الله هؤلاء السفلة الخونة الأغرار، فهم علة العلل ومرض الدولة الذي لا يشفى، فسوف أنكل بهم تنكيلا.» وخرج وبعد قليل دخل السجان بأمر الإفراج عن يوسف الهلالي، فهنأه، وقال: «إياك أن تقيم في هذه البلدة يوما إلا إذا كنت بحاجة إلى أمر، وحاذر من كل إنسان، ومن كل كلمة تفوه بها، فللحيطان آذان وللصخور عيون.»
فتركه وعاد إلى البلدة، فقصد الخان الذي كانت فيه دابته، وجمع حوائجه وما اشتراه من الشام، ثم خرج لا يلوي على شيء عائدا إلى العمروسة، وفي صدره بركان من الغيظ يتأجج.
فلما وصل إلى العمروسة قابله الشيخ صالح، وعلم منه ما كان، فتأثر جدا وقال: «هذا هو الداء العياء الذي ليس منه شفاء، هؤلاء الذين يغارون على الدولة والدين هم أعداء الدولة والدين. ألا من منقذ من هؤلاء! العلم! العلم! نور العرفان! وهدى للذين يؤمنون. قاتل الله الجهل، فهو علة هذا الشقاء! ألا من مصلح عاقل حازم يقضي على الجهل والتعصب الأعمى، فيريح العباد ويصلح البلاد ويرقي الأخلاق؟»
وبينما هو يحدثه بمثل هذا الكلام إذا بهم يرون بعض أبناء القرية قادمين نحوهم، فهنئوا الشيخ يوسف الهلالي بعودته سالما، وسألوه عن محمد، فقال: لم أعرف عنه شيئا، ولا استطعت أن أستفهم من أحد، فأخذ أحدهم جريدة قال إن طيارة رمت بها من حالق، ففتحها الشيخ صالح وقرأها، فإذا بها جريدة مصرية قذفت بها الطيارة من حالق؛ لتعلم الناس بأمر الحرب، وفيها أن جيش القوقاس قد حلت به نكبة كبيرة ففني معظمه وتشتت الباقون، فوقع هذا على الجميع وقوع الصاعقة، ولعنوا الساعة التي اشتبكت فيها الدولة بهذه الحرب الهوجاء، ثم علموا ما كان من أمر الشيخ يوسف، وما جرى له في دمشق فتأثروا جدا، وهنئوه بالسلامة وانصرفوا مكتئبين.
مضت سنة على هذه الحادثة وأهل العمروسة كلما ذكروها تأثروا مما جرى للشيخ يوسف، وفي أحد الأيام جاء بلدتهم رجل من حوران، وأخبرهم بأن العرب انضموا للإنكليز الذين فتحوا بئر السبع وكسروا الأتراك وأن لهم أعوانا في البلاد يؤيدونهم سرا، فنظر الشيخ صالح إلى يوسف الهلالي، وقال : «هل تظن أن العرب قاموا على الأتراك عبثا؟» ثم أنشد متأثرا:
أعطيت ملكا فلم تحسن سياسته
وكل من لا يسوس الملك ينزعه
هذا ما قاله الشاعر، وهذا ما أصابنا.
لقد كانت دولتنا أكبر الدول شأنا وأعظمها قوة، فأصبحت لا حول لها ولا طول، ولولا أموال الألمان وقواد الألمان لاندحر الجيش التركي من قبل، ولكن تأكد يا يوسف أن الجندي التركي الباسل يقاتل بكل ما أوتي من عزيمة وصدق نية وإيمان، ولكن ما رأيت في الشام ترى مثله في بيروت وأكثر منه في الأستانة، فالناس هنا وهنالك سواء، بل كل يسعى إلى غرضه غير ناظر إلى مصلحة سواه، وكل يقول «من بعدي الطوفان.» فكيف تصلح حال بلاد والناس فيها غير معتقدين بإصلاح الأحوال، بل إن فريقا يحب أن يتخلص من هذا النير الثقيل، نير عدم الاستقرار، ويود لو أن البلاد تخرج من هذه الحالة التي لا قرار لها إلى حالة يعلم الإنسان منها ما يكون، ولو لم يكن ذلك على حسب ما يشتهي ويريد «الله أكبر» وا خيبتاه! وا ذلاه! ضاعت أمانينا وآمالنا بالإصلاح الداخلي، فهل يرسل لنا الله خيرا ممن نحن فيه؟ أم نخرج من الظلم والاستبداد، ثم توضع في أعناقنا أغلال الاستعباد، نخلص من الاستئثار، فنقع في الاستعمار، نخلص من استعباد أخينا الجاهل، فنقع في أسر عدو عاقل.
هل لنا أمل في تكسير الأصفاد والخروج من هذا الاستعباد؟
إن العرب لم ينضموا للإنكليز عبثا، ولا بد أن يكونوا قد نالوا من الوعود ما حملهم على القيام ضد دولتهم، ولكن وعود المستعمرين خلابة وأعمالهم على عكس ما يعدون.
ثم وجم قليلا، وقال: «يا يوسف، استبشر خيرا، فالإنكليز أفضل المستعمرين، وإنهم إذا دخلوا البلاد أصلحوها، وأغنوا أهلها، ولم يتعرضوا لدينهم أو لتقاليدهم، فهم من هذا القبيل أفضل الأسياد، ولقد علمت أن الشريف انضم إليهم، وهم وعدوه بتأييد في إنشاء دولة عربية، فعسى أن يتم ذلك فنكون قد جنينا من الحرب ثمرة الجهاد، وحققنا أملا طالما جال في الفؤاد، فهاك مصر إني زرتها قبل الاحتلال الإنكليزي وزرتها من عهد قريب، فأين العهدان؟! فالناس اليوم أحرار في مصر أكثر مما هم أحرار في سوريا أو أي بلاد إسلامية مستقلة، وهم لا يكادون يشعرون بالاحتلال إلا إذا خرجوا عن القانون، أو أرادوا استعمال سلطة لا خير منها للبلاد، ولولا ما تهيم به النفوس من حب الحرية والاستقلال لقلت: إن مصر المحتلة أكثر حرية من تركيا المستقلة وإيران المستقلة، وأي بلاد إسلامية أخرى، بل إن شيوخ الدين في مصر أفضل حالا وأوفر نعمة وأسعد حظا من سواهم في بقية الأقطار؛ فهم يضمنون مرتباتهم ويأمنون على أرواحهم وأرزاقهم، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
إن الحرية كلمة عذبة اللفظ شديدة المعنى، فطالما استعملها المتشدقون لقضاء الأوتار وسفك الدماء والانتقام من الخصوم، الحرية كلمة مطاطة؛ فهي تكون كما يريدها من بيدهم الأمر، أو من يسعون لقلب نظام الحكم وينجحون، فكم من دماء بريئة أهريقت في سبيل الحرية! وكم من جريمة ارتكبها الأدعياء باسم الحرية المقدس حتى إذا ظهر للناس ما يبطنون كانوا أشد ظلما واستبدادا من الظالمين الذين قاوموا الحرية التي يسعى لها الناس وتخفق لها القلوب!
إن الله مدبر الكائنات، وهو واهب الملك لمن يشاء، فمن يعدل في الناس يدم حكمه، ومن يظلم الناس يهلك رعيته ويضعف ملكه، فيئول به ذلك إلى البوار. فلقد أسس المسلمون ملكهم على العدل، فبسطوا سلطانهم على الشرق كله، واتسع ملكهم حتى الأندلس في الغرب، ثم زاغت القلوب وضل الحكام سواء السبيل فضاع الملك وفقدوا الأمصار.
فهل من سبيل لإرجاع ما ضاع أو حفظ ما هو باق للآن؟
عسى أن يكون لله يد في هذا الانقلاب، فيعيد للعرب سلطانهم، ويؤيد ملكهم، ويمنع عنهم كيد الكائدين، فقد مزقت هذه الدسائس جسم هذه الأمة الحية تمزيقا، ولكن القوة لا تزال في الصحراء، وهي كامنة كمون النار في الحجر.
ليت التاريخ يعيد نفسه، فيخرج ابن النبي من مكة لتجديد عهد الإسلام، ورفع المظالم عن المسلمين.
هذه آمال تجول في الصدر، ولكن لتحقيق هذه الرغبات مصاعب تحول دونها؛ منها ما هو داخلي؛ ففي الجزيرة أمراء وأسياد لا يرضى الواحد منهم بالآخر سيدا، وكل يضمر للآخر السوء، فكيف تتحد البلاد ومقاليدها في يد هؤلاء، والعرب أطوع لزعمائهم من البنان، ولكل زعيم قوة من الخارج تؤيده لتربح بواسطته نصيبها من التوسع في بلاد الدولة الواسعة الأطراف المضعضعة القوى، وأكثر هؤلاء الزعماء يعيشون بالمال الأجنبي، ويبقون على سلطانهم بهذا المال، فكيف يكونون مستقلين، وهم عبيد المال أعداء الحرية التامة والاستقلال؛ لأن الحرية تنير عقول الأنصار، فينفضون عن مثل هؤلاء الزعماء، ويصبحون بلا حول ولا طول، اللهم ارفع عنا الحيف، وهب العرب زعيما كريما واسع الصدر، وأيده بقوة من عندك حتى يتغلب على نفسه، فلا يكون عبدا للشهوات، وليتغلب على ما يقف في سبيل بلاده من العقبات، فيتمكن بواسع حيلته من استمالة القلوب والأعوان وبعدله ونزاهته من تعمير البلدان وتقريب القلوب.»
وبينما الشيخان يتكلمان بمثل هذا الكلام جاءهما صديق يخبرهما بوفاة أحد الكبراء في قرية مجاورة، فسار كل في سبيله يستعد للذهاب إلى القرية المجاورة لقضاء واجب العزاء.
ذهب الشيخ صالح ويوسف الهلالي وجمهور كبير من أهل القرية لحضور المأتم الذي أقيم في قرية مجاورة لكبير من أهل تلك القرية؛ حيث ضم المأتم ألوف الخلائق من أهل القضاء، وبينما الناس مجتمعون في ذلك المأتم إذا بطيارة تحوم فوق الرءوس، فخاف القوم شرها، وظنوا أنها ستصب عليهم نارا حامية، وإذا بهم يرون أوراقا متناثرة تسقط من الطيارة فوق الرءوس، فرآها البعض والتقطوا بعضها وتلوا ما فيها، فإذا بها تخبر القوم باحتلال جنود الحلفاء للقدس الشريف، وتبشرهم بأن قوات الحلفاء بمساعدة حلفائهم العرب ستدخل البلاد فاتحة عما قريب، وتطمئن الخواطر، وتدعو الناس إلى الإخلاد إلى السكينة، فقرأ كل من يعرف القراءة من الحاضرين هذه الأوراق ومزقوها تمزيقا؛ لأنهم خافوا من سوء المغبة بعد ذلك، وكانوا محقين في تخوفهم؛ لأنهم أبصروا بعد قليل نفرا من الجنود ومعهم ضابط استخبارات جاءوا إلى حيث كان المأتم، وأخذوا يستقصون أخبار الطيارة وما رمت من الأوراق ، وفتشوا البيوت والجيوب، وأخذوا في التحقيق، ومع أن جميع الحاضرين أفهموهم أن الطيارة جاءت من نفسها، وأنهم لعنوا من فيها؛ لأنهم رموا بأوراق شريرة لإفساد أفكارهم بما فيها من الأكاذيب، فإنهم لم يصدقوا، واقتادوا لرياق عددا من الوجهاء عوملوا معاملة المجرمين، وأبقوا تحت الحفظ أياما دون أن يعرفوا سببا لهذه المعاملة، والناس يتوسطون دون فائدة، حتى إذا كان ذات يوم وأحد المشايخ الذين أوقفوا يقول: ماذا جرى بنا؟! أنبقى في هذا الأسر ولا نعلم لنا ذنبا؟! أطل عليه السجان، وكان من أهل تلك الناحية، وقد ساءه معاملة أبناء مركزه بمثل هذه القسوة والفظاظة، فقال: «طب نفسا فالفرج قريب»؛ لأن الجيش على وشك الرحيل، وسأفرج عنكم حالما أصبح حرا من القيود، قال: وما تعني بالقيود؟ قال: الجيش يستعد للرحيل سرا والعرب والإنكليز أصبحوا على قاب قوسين منا، وربما أطلقت سبيلكم في الليلة المقبلة، وسرت معكم إذا رأيت من محذور يصيبني، فاستعدوا للفرار، والآن ادخلوا إلى حيث أنتم مخفورين، ولا تظهروا قلقا، ولا تخشوا محذورا، فاجتمع السجناء السياسيون في غرفهم، وأخبروا بعضهم البعض بما كان، وأصبحوا ينتظرون الفرج، ويدعون لله أن يعجل دخول العرب البلاد بعد أن ذاقوا الأمرين في أيام الحرب السوداء.
هكذا مهدت السياسة للخلفاء سبيل الدخول إلى سوريا برضى أهلها، فالمسلمون ناقمون لما أصابهم من الظلم والخسائر المادية، ولفقدان زهرة الشباب في حروب لا خير فيها لأحد، والمسيحيون ناقمون لما ذاقوا من الظلم والاستبداد والخوف على الأرواح والأموال.
دخل الحلفاء سوريا فاتحين، فقابلهم الأهالي حيث حلوا بالترحيب، وكان أكثرهم سرورا بذلك هيفاء؛ لأنها كانت تنقم على الأتراك لما أصاب والدها في دمشق، مما زاد في حزنه على وحيده وعجل منيته، فقضى مبكيا عليه من كل من عرف أخلاقه الطيبة؛ ولأن الحرب جرت عليهم النوائب، وقضت على شقيقها العزيز ووالدتها المحبوبة وحرمتها من أخبار سليم، فكان أول ما فعلته حين دخل الحلفاء بيروت - حيث كانت في ذلك الحين - أن كتبت إلى سليم كتابا رقيقا هذا مؤداه:
لا أدري ماذا أكتب الآن، ولم يعد لي في هذه البلاد من أحد ألوذ به وأعتمد عليه، فقد قضت الحرب على شقيقي العزيز، فقضى شهيد الواجب، رحمه الله. وكان مصابنا الفادح علة اعتلال صحة أبي الذي قضى إلى رحمة الله حزنا وأسى على محمد، ولم تمهل المنية والدتي إلا مدة قصيرة بعد ذلك، فترى كيف نزلت بنا النوازل، وكانت والدتك لي كأم حنون، فشاء الله أن يحرمني إياها وعم المصاب، ولولا بقية أمل بلقياك لكنت الآن في عداد من ذكرت، رحمة الله عليهم أجمعين.
ولقد شاهدت سعدى ابنة عمك منذ أيام، فعلمت منها أنك تسأل عني، فعلمت أن لي في العالم الجديد سندا يعوض علي ما خسرته في الوطن العزيز.
وإن ما نزل بي من الكوارث أثر على صحتي فاعتلت قليلا، ولكن تغيير الهواء أياما وما علمته عنك قد جدد همتي وحسن صحتي، وأرجو أن أراك قريبا في نيويورك؛ لأنني ذاهبة لحضور مؤتمر للتعليم، وربما أبقى هنالك إذا ساعدني الحظ، وتوفقت إلى دخول مدرسة في تلك الديار، فأستودعك الله إلى اللقاء في نيويورك في آخر الشهر القادم.
تلا سليم هذا الكتاب مرارا، ورأى أن هيفاء حافظت في كتابها كل المحافظة على ألا تذكر شيئا عن حبها له، فعلم أنها لم تختر في تلك الفرصة التي أنبأته فيها بوفاة والديها وشقيقها ووفاة والدته وتعزيته أن تطيل الكلام عن الشوق والغرام، ولكنه علم من كتابها أنها باقية على العهد لم تفتكر بسواه، وهذا ما كان يرجو أن يعلمه من أمرها، فأصبح يعد الأيام والساعات للقاء.
اللقاء
علم سليم بميعاد وصول الباخرة التي تقل هيفاء، فكان أول من ذهب إلى الميناء غير مصدق أن هيفاء ستصل إلى نيويورك قريبا، وكاد قلبه يطير شعاعا حين سمع صفير الباخرة، ورأى المسافرين ينزلون إلى البر، وكان قد بذل جهده مع موظفي قلم المهاجرين لتسهيل نزول أعضاء المؤتمر من السوريين. وبينما هو يتأمل وجوه المسافرين رأى سيدة جميلة، ظنها أول الأمر أوروبية تدنو منه، وتنظر إليه فحول ذلك بصره نحوها، فعرف هيفاء واقترب منها، وبغتت هي؛ إذ رأت سليما، ولم تكن تنتظره في ذلك المكان، فتصافح الصديقان وضغط على يدها، ثم خرج من دائرة الجمرك إلى حيث تنتظرهما سيارة سليم فركباها، وسار سليم بهيفاء إلى حيث أعد لأعضاء المؤتمر مكان خاص به، وما كان أعظم سرورهما بالاجتماع.
أوصل سليم هيفاء إلى حيث كانت تقصد، وقال: سأتركك الآن ريثما تستريحين من تعب السفر وتغيرين ملابسك، وسأعود إليك مساء حينما تكونين قد انتهيت من العمل، فآخذك في سيارتي لمشاهدة هذه البلدة العظيمة.
فشكرته ومضى وهي تفكر في كيف مهد الدهر لها سبيل الاجتماع بسليم بعد هذا الفراق الطويل، وكيف أن حوادث السنوات الماضية مع ما فيها من نكبات حلت بها انتهت إلى هذا اللقاء السعيد، فشكرت الله الذي بدد أحزانها، وأحيى في قلبها الرجاء بعد اليأس، ومهد لها سبيل اللقاء بمن يحبه قلبها، ويحبها بكل ما في قلبه من حرارة ووداد. واستراحت قبل اجتماع المؤتمر أياما شاهدت في خلالها سليما مرارا، فجددا ما بينهما من مودة، ووجد كل منهما في الآخر ما كان يرجو أن يجده فيه من حب وإخلاص وأنفة وأدب وعلو نفس وحسن تربية، وغير ذلك مما يقرب بين القلوب.
ولما حان ميعاد عقد المؤتمر الذي جاءت سعدى لأجله استعدت لإلقاء محاضرة عما كلفت بدرسه، وعرضت ما كتبته على سليم، فسر جدا بآرائها، وشجعها على إلقاء محاضرتها الإنكليزية بصوت جهوري دون أن تأخذها روعة أو تخشى كثرة المجتمعين.
علم سليم من هيفاء كل ما جرى لها ولأهلها، وكيف نكبت بأخيها ووالديها، وكيف كان الشيخ صالح في كل تلك الأدوار عنوان الصداقة والإخاء وأكبر معز لوالديها حتى حم القضاء، وأنها لم تعد تقدر أن تذهب إلى قريتها بعد كل ما أصابها، وقد زارها الشيخ صالح قبل سفرها، وكلفها إهداء سليم سلامه القلبي، فقال سليم: لا أنسى الشيخ صالح ما دمت في قيد الحياة، فهو الذي كان سبب إنقاذك من ذلك الفاجر الشرير، وأكبر مساعد على إرسالك للمدرسة، فنعم الرجل هو.
وعقدت الجلسة الأولى للمؤتمر، فكانت حفلة افتتاحية فقط، اقتصرت على توزيع البروغرامات للاجتماعات العديدة في الأيام التالية، ثم انصرف الأعضاء كل في سبيله، فمضت هيفاء إلى غرفتها، وأعدت نفسها لمقابلة سليم، وذهبت إلى قاعة الاستقبال تنتظر قدومه بشوق ولهفة.
وكان هنالك «بيانو»، فجلست تضرب نغما شجيا؛ إذ تذكرت مصائبها التي تنوء تحتها الجبال، فدخل سليم دون أن تشعر به، ووقف يستمع منصتا، ثم عادت فضربت لحنا عربيا مطربا، فرقص فؤاده ودنا منها حتى كاد يلمس جسمها، ثم أحست بأن هنالك شخصا بجانبها، فأدارت وجهها إلى الوراء مجفلة فأبصرت سليم، وكم كان سروره عظيما لسماع تلك الألحان من هيفاء، ورأى الفرق العظيم الذي تفعله المدرسة في النفوس، فطلب إليها أن تستمر في عملها هذا، ثم وقف وراءها يسمع والطرب ملء الفؤاد، وغنى معها قسما من تلك الأنشودة المطربة، ثم جلس وتركها تعزف على البيانو، وكتب على ورقة صغيرة هذه الأبيات:
اضرب على أوتار قلبي والعب
باللب لعبك بالبيانو المطرب
وأعد أناشيد الغرام فإنها
خطرات فكر بالهيام مؤدب
فالشعر لولا وحي حسنك لم يطب
وكذا الغنا لولا الهوى لم يعذب
يا من جمالك قبلتي ومحجتي
وإلى محياك الجميل تقربي
أدنو إليك وقد عرتني هزة
والقلب يخفق من جوى وتهيب
حتى إذا ثمل الفؤاد وساقني
داع إلى ريا عبيرك غر بي
جردت لحظا كالحسام بحده
وطعنت عمدا صدر من لم يذنب
فأعود حيرانا وقلبي داخلي
عاص علي بجنده المتألب
فالشوق يدفعني إليك وصبوتي
واللحظ يمنعني وفرط تأدبي
يهتاج قلبي الشوق لكن الإبا
ء يصون نفسي عن وعورة مطلبي
فأروح أنشد معك أنغام الهوى
متهللا بالروح قرب معذبي
أتلو كما شاء الغرام قصائدا
تروي حديث القلب فاسمع واطرب
ودع الصدود فقد كفى ماضي الجفا
وارفق بمضناك المحب المعجب
وترك هذه الورقة على المكتب تحت محفظة هيفاء، وسار مودعا بعد أن اتفقا على الذهاب في اليوم التالي إلى حدائق نيويورك العمومية، فلما سار سليم أخذت هيفاء محفظتها، وإذا بها ترى تلك الورقة فتلتها مرارا وقبلتها تكرارا، وأصبحت تعد الساعات للاجتماع بسليم.
وفي الميعاد المضروب أقبل سليم والبشر يطفح من محياه، فتصافحا وخرجا إلى حيث كانت سيارته بالانتظار، فاستقلاها وسارا بين الشوارع العظيمة التي كانت تبدو كأنها أودية صغيرة مسطحة بين جبال مرصوصة عن الجانبين، ثم خرجا من تلك المنطقة إلى ضواحي البلدة، فانتهيا إلى حديقة غناء حيث نزلا من السيارة، ودخلا إلى الحديقة يسيران الهوينا، ولا يصدق الواحد منهما أن من يمشي بجانبه هو الشخص الذي طالما تمنى أن يراه على هذا الحال.
فبدأ سليم الحديث، وقال: كيف رأيت هذه البلاد العظيمة؟ قالت: أرى كل شيء فيها جديدا، فعسى ألا تكون تغيرت فيها، قال: إن ما هو مألوف عندنا من بقاء القديم على قدمه غير مألوف هنا، بل ترين كل شيء متحولا متحركا متجددا والبلاد سائرة بخطى واسعة إلى الأمام، ولكن القلوب لا تتغير والحب لا يتبدل والأفكار لا تتحول إذا رسخت على قاعدة الحب، بل يزيد اجتماع المحبين توقدها، فما أحلى هذا الاجتماع، والآن قد أصبحنا أحرارا في هذا العالم الجديد، فهل تودين البقاء هنا فتشبعين نفسك المتعطشة إلى العلم، وتشبعين نفسا أخرى متعطشة إلى لقياك، وهو اللقاء الذي قال فيه الشاعر العصري:
فلقاء يكون منه دواء
قالت: أراك الآن تميل إلى الشعر، فهل زالت القيود التي كانت تحول دونك ودون النظم أيام كنت في العمروسة؟ قال: تلك أيام مضت كان يحول فيها بيني وبين النظم ما تحظره علينا العادات والتقاليد، أما الآن فنحن في العالم الجديد حيث الناس إخوة مهما اختلفت نزعاتهم وعقائدهم، وليس ما يقف في سبيل اتحادنا بعد الآن إلا إرادتنا، فهل تودين أن تسمعي من الشعر ما طالما تمنيت أن أسمعك إياه قبلا ولم تسمح بذلك الأيام؟
قالت: قل ما بدا لك، فإنه لا أحلى وقعا في أذني من كلامك، فنظر إليها نظرة أحرقت فؤادها، وقال: ليس كلقاء المحبين بعد الفراق، ولا أرق من حديث الغرام لمن برحت به الأشواق وحركت فؤاده العيون.
لم أستطع أن أنظم لك في العمروسة شيئا لأسباب تعلمينها الآن، وأما في هذا اليوم البهيج فقد انطلقت القريحة من عقالها، فانظري حولك إلى هذه الأشجار الباسقة والأزهار الزاهية والخضرة النضرة والمياه المتدفقة الصافية، فكأنها أعدت لهذا اللقاء السعيد.
تتمايل الغصون بأزهارها كما تتمايلين، ولكن أنى لها من معاني الحياة وجمال التكوين ما لهذا الجمال الساحر الفتان، وهاك الطيور تغرد، ولكن أين نغماتها من صوتك العذب الرنان الذي يضرب على أوتار القلب فيحرك الشجون.
يذكرني ذلك يوم خلونا معا في كروم لبنان نتدانى بين الأغصان ونتهادى عناقيد العنب، ونحن لاهون ثملون بما تقر به العيون.
بل ما أحسن ذكرى ذلك اليوم الذي وقفنا فيه أمام الشلال وهو يقذف بلآلئه الدرية من شاهق، ثم تجتمع تلك اللآلئ الحسان، وتسير كأنها مجار من البلور المذاب، فتمر بين مخضل العشب الأخضر، وأزاهر الرياض الناضرة، وأغصان الصفصاف المتدلية التي كانت تظللنا عن أعين الرقباء حينما كان قلبانا كأنهما ساعتان دقاقتان تخفقان معا من شدة الطرب والسرور، وأنا أتبعك محاولا الوصول إليك ونظراتك الحادة تفصل بيننا، ومهابة جمالك تلقي حولك درعا منيعا يقي هذه المحاسن الغراء، فبورك في جمالك ما أبهاه، وبورك في طهرك ما أسماه، وبورك في يوم تلاقينا فيه فكان أفضل أيام الحياة.
هاك قلبي المضطرم أطرحه أمامك على مذبح الحب الطاهر، وهاك قريحتي التي أضرمت فيها نار الذكاء أقدمها لك عربون المحبة والولاء، وهاك لساني الذي علمه جمالك الفصاحة والبيان، لا ينطق إلا بما توحين ولا يستعذب إلا ذكر اسمك المحبوب الذي هو أحلى ما ينطق به بين الأسماء.
فهل ترغبين في أن يكون هذا اللقاء فاتحة الاتحاد والسعادة؟ وهل تسمحين لي أن أنظم في جيدك عقدا من الآلئ الحسان يحلو منظره في هذا الجيد الناعم الفتان، وتسمحين لي أن أضع في يدك هذا الخاتم الذهبي الذي أعددته ليكون أفضل علامة للمحبة والإخلاص؟
ثم وقف وأخرج من جيبه عقدا جميلا فطوق به عنقها، وخاتما عليه اسمه وضعه في يدها، وقال: لك الحرية أن يكون القران مدنيا أم دينيا، إنما أرجو أن تقبلي هذه الهدية، فتجعلين هذا العاجز أسعد الناس.
فتأثرت هيفاء حتى كادت تسقط عن المقعد الذي جلست عليه، ثم نظرت إلى سليم، وكأن الحب قد تمثل في صورتها البشرية، ثم قالت: آه! ما أحلى كلماتك العذبة! فقد آسيت بها قلبي المكلوم، وجعلتني أشعر بدبيب الحياة الجديدة في صدري، فما أقوى سلطان الحب على القلوب، وما أفعل الشعر في النفس إذا كان صادرا من شاعر يتكلم بقلبه لا بلسانه، أنا أحب نفسك؛ لأنها جميلة وأقوالك لأنها عذبة ومعانيك الحسان لأنها تفتن فؤادي، وتهيج بي عاطفة الاستحسان فالشكران، فالميل إليك دون سواك من عباد الجمال.
أنت تعشق بقلبك وعقلك ونفسك، وأما أولئك فيعشقون بنفوس ملؤها الشهوات، وكم رأيت من الرجال من يتظاهرون بالحب، ويتقربون إلي وهم مملوءون رجاسة وخبثا، هم يحاولون أن يشتروا قلوب العذارى، وأما أنت فتأسر القلوب بالمعروف، وترفع قدر العفاف، وتحيي الذكر الخامل، فيبقى حبك خالدا لا يموت.
فقد أحببتك من أول نظرة، ولكني لم أكن أرجو أن يتم لنا هذا الهناء، ونجتمع بعد طول الفراق، حيث لا يمنع اتحادنا شيء، فهل قدر لنا أن نجتمع فلا نفترق فيما بعد؟ أم إن هنالك ما يكدر هذا الصفاء والهناء؟ ولقد سرني منك أنك لم تنس لغتك ووطنك وأصحابك القدماء، وأنا لم يبق لي في الوطن إلا الشيخ صالح أنظر إليه كأنه والدي الحبيب، وأنت لي بعده كل شيء، وإنني منذ عرفتك، وأنا أنظر إليك كأخ حبيب، بل أكثر من الأخ.
فضمها إلى صدره، وقال: «بل أنت لي كل شيء في الدنيا.» وافترقا ذلك المساء على ألا يفترقا فيما بعد، بل يكونان روحا واحدة في جسمين يعيشان الواحد للآخر، وكلاهما لله وللوطن، فعاش ذلك الحب خالدا في طيات القلبين، وخلده سليم وهيفاء بأول عمل عملاه بعد أن وطدا النفس على الإقامة في العالم الجديد بأن أرسل سليم إلى الشيخ صالح صديقه القديم كتابا رقيقا، هذا مؤداه:
تحية واحتراما وبعد، فقد وصلت إلى نيويورك هيفاء كريمة المرحوم يوسف الهلالي تحمل لي منك سلاما، هو عندي سلام الوالد إلى ابنه البعيد عنه المتشوق إلى لقياه، وكم كانت تطيب لي أنباؤكم لو كان آل الهلالي كما كانوا حين عرفتهم سعداء يبسم لهم الدهر، فشاء الله أن يشتت شمل هذه العائلة الكريمة التي يحتاج الوطن إلى مثلها كثيرا، فقد كان أفرادها عنوان المروءة، والنخوة، والضيافة، والصدق، والولاء، وهذه أهم ما تحتاجه البلاد من الأخلاق، مع ما كانوا متصفين به من الاجتهاد في الأعمال والاستفادة من خبرة ذوي الاختبار، فقد كانت زراعتهم أفضل زراعة، وحاصلاتهم أفضل الحاصلات، وبيتهم أكرم البيوت.
وشاء الله أن أتقدم هيفاء إلى هذه الديار لأسهل مهمتها، كما شاء أن يعيد صداقة البيتين وعلاقة العائلتين بما هو خير حافظ لذكرى الود القديم، والصداقة التي دامت جيلا كاملا؛ فقد كان آل الهلالي أحب الناس إلى والدي، وكان هو أحب الناس إليهم، فلما شاهدت هيفاء تذكرت تلك الصداقة القديمة ورأيت بها من علو الكعب في الأدب وكرم الطباع وسمو المدارك، ما جعلني أشعر أنها أفضل من أعرف من النساء اللواتي أتين من الوطن العزيز إلى هذه الديار، وتأدبن بآداب الغرب، وحافظن على تقاليد الشرق، واكتسبن من العلم درجة عالية، ومن الأخلاق ما ليس بعده من مستزيد، فكان هذا مما زادنا تقربا، وتعاهدنا على أن يكون الواحد منا للآخر.
ولقد ترددت في بادئ الأمر عن أن أفاتحها بالحب أو أنظر إليها إلا نظرة الأخ إلى أخته؛ لما بيننا من الفروق الدينية التي توجب في الوطن الابتعاد عن بعضنا البعض، ولكننا في العالم الجديد غير ما نحن عليه في الوطن، فالناس هنا إخوان لا فضل لمسلم على مسيحي أو لمسيحي على مسلم، إلا بأخلاقه ومنفعته لأمته وشعبه وللعالم.
نحن ننظر الواحد إلى الآخر نظرة الأخ إلى أخيه، وطالما فكرت في أن مبادئ القوم هي مبادئ الشيخ صالح الراقية، فكما سمعتك تقول: إن الناس إخوان، وإن أفضلهم عند الله أقربهم إلى عياله وأكثرهم إحسانا، وإن الدين المعاملة، وعاملوا الناس كما تريدون أن يعاملكم الناس، وما أشبه ذلك من التعاليم العالية التي غرست في نفسي، فلا أرى فرقا بين أبناء طائفة وأخرى. وإنني أشعر بأن من تخلق بأخلاقي وتهذب مثل تهذيبي، وكانت مبادئه قريبة من مبادئي أقرب إلي من أهلي الأقربين إذا لم يكونوا كذلك.
والحق يقال: إن هيفاء أقرب الناس إلي ذوقا وأخلاقا وتهذيبا، واعتقادا بالمبادئ الإنسانية السامية، فنحن نكاد نرى الأمور بمنظار واحد، ولقد حرمت من أهلي وحرمت هي من أهلها، وكلانا ينظر إليك كأب ثان، ونرجو أن تبارك هذا القران وترضى عن هذا الاتحاد الذي نرجو أن يكون سببا لسعادة الاثنين، وخير ما نستطيع أن نفعله الآن؛ دليلا على حبنا لأهل العمروسة وإخلاصنا لك، هو أن أرسل من هيفاء تنازلا عن كل ما يخصها من تركة والدها؛ لأنها مع شدة حبها لأهل بلدتها لا تستطيع أن تعود إلى هنالك وتقيم في بلدتها؛ لما فيها من التذكارات المؤلمة لها؛ ولذا أحبت أن تترك ما لها لأبناء قريتها، وأنا أزيد على ذلك حوالة مالية من عندي لتوزعوا قسما من المال على المعوزين، وتنشئوا مدرسة في العمروسة تحت إشرافكم تعلم حب الوطن والاتحاد بين الأفراد وطوائف البلاد، وتكون مثالا للمدارس التي تخدم الله والوطن.
انتهى المؤتمر الذي جاءت هيفاء لحضوره، وكان لهيفاء نصيب كبير في نجاحه، وقبل انفراط عقد المدعوين وصل إليهم دعوة لحضور حفلة إكليل سليم على هيفاء، فبوغت الجميع بهذا الخبر الفجائي، ولما حان الموعد المضروب حضر جمهور كبير من السوريين المقيمين في نيويورك وأصدقاء سليم وهيفاء من الأمريكيين، وتجلت في تلك الحفلة الوطنية الصحيحة والإخلاص بما كان يبدو على العروسين من الهناء، وود كل من حضر لو أن هذه الروح التي ظهرت بأتمها في نيويورك تتمشى في سوريا، فيشعر الجميع أنهم أبناء وطن واحد وشعب واحد ولغة واحدة، وأن الله والوطن للجميع.
Shafi da ba'a sani ba