* بسم الله الرحمن الرحيم
* وصلواته على نبيه
** 1 مسألة :
اعلم أن كل فعل لا تعلم صحته ولا وجه دلالته إلا بعد أن يعرف حال فاعله ، « ولا يمكن (1) أن يستدل به على إثبات فاعله ولا على صفاته ، وإنما يمكن أن يستدل به على ما سوى ذلك من الأحكام ، لأنه إن دل على حال فاعله ، ولا يعلم صحته إلا وقد علم فاعله ؛ أدى ذلك إلى أنه لا يدل عليه إلا بعد المعرفة به ، ومتى علم الشيء استغنى عن الدلالة عليه!
ويبطل ذلك من وجه آخر : وهو أنه يؤدى إلى أن لا تعلم صحة القرآن إلا بعد معرفة الله تعالى ، ولا يعرف تعالى إلا بعد معرفة القرآن ، وذلك يوجب أن يدل كل واحد منهما على ما عليه ، وأن يكون دليلا على نفسه!
فإن قال : ومن أين أن صحة القرآن لا تعلم إلا بعد معرفة الله؟
قيل له : لأن الخبر لا يعلم بصيغته أنه صدق أو كذب « حتى إذا علم حال المخبر صح أن نعلم ذلك (2)» وقد علمنا أن ما أخبر جل وعز عنه فى القرآن لم يتقدم لنا العلم بحال مخبره ، فيجب أن لا يعلم أنه صدق إلا بعد العلم بحال المخبر وأنه حكيم. والقول فى الأمر والنهى كالقول فى الخبر.
فان قال : ومن أين أن وجه دلالته لا تعلم إلا بعد معرفة الله تعالى؟
Shafi 1
قيل له : لأنه إنما يدل بأن يصدر من حكيم لا يجوز أن يختار الكذب والأمر بالقبيح ، ومتى لم يكن فاعله بهذه الصفة لم يعلم وجه دلالته ، فيجب أن يعلم أولا أنه عز وجل حكيم لا يختار القبيح ، حتى يصح أن يستدل بالقرآن على ما يدل عليه ، وذلك يمنع من أن يستدل به على إثباته تعالى وإثبات حكمته.
وبعد ، فليس يخلو من خالف فى ذلك من أن يقول : أخبار القرآن تدل ، مع التوقف فى لونها من قبيل الصدق ، أو يقول : إنها لا تدل إلا وقد علم أنها صدق.
ولا شبهة فى فساد الأول ، لأن كل خبر كونه كذبا غير دال على حال مخبره ، وإذا صح ذلك فلا بد من أن يعلم [ كونه ] صدقا ، ولا يخلق العلم بذلك دون (1) أن يرجع فيه إلى نفس الخبر ، أو إلى خبر سواه ، او إلى دليل العقل.
ولا يصح أن يعلم أن الخبر صدق بنفسه ، لأنه إنما يدل على حال غيره لا على حال نفسه.
وإن علم أنه صدق بخبر آخر لم يخل من أن يكون واردا عن الله عز وجل أو عن غيره ، ولا يجوز أن يرجع إلى خبر غيره. وخبره عز وجل إذا رجع إليه ولما علم حاله فى الحكمة فكأنه استدل على أنه صادق فى سائر أخباره ، ومتى جوز فى سائر أخباره الكذب يجوز فى هذا الخبر مثله ، فلا يصح النقد به. ولذلك قلنا : إن المجبرة إذ (2) جوزت عليه عز وجل أن يفعل القبيح لا يمكنها المعرفة بصدقه عز وجل ، لا من جهة العقل ، ولا من جهة السمع!
Shafi 2
وكل ذلك يوجب أن يرجع فى دلالة القرآن إلى أن يعرف تعالى بدليل العقل وأنه حكيم لا يختار فعل القبيح ، ليصح (1) الاستدلال بالقرآن على ما يدل عليه (2).
فإن قال : إن صح أن يستدل عليه تعالى بسائر أفعاله قبل أن يعرف ، فهلا جاز أن يستدل بالقرآن عليه قبل أن يعرف (3)؟!
قيل له : قد بينا أن الكلام لا يدل على ما يدل عليه لأمر يرجع اليه ، وإنما يدل لكون فاعله حكيما ، ولذلك لم يدل كلام النبى صلى الله عليه وسلم على الأحكام إلا بعد العلم بأنه رسول حكيم لم يظهر المعجز عليه إلا لكونه صادقا فى سائر ما يؤديه ، وليس كذلك دلالة الفعل (4) على أن فاعله قادر ، ولأنه إنما يدل « لأمر يرجع (5) إليه لا يتعلق باختيار مختار. وهو أن الفعل إذا صح
Shafi 3
من واحد وتعذر على من هو بمثل حاله فلا بد من أن يختص بأمر له صح الفعل منه ، وهذه الجملة لا تتعلق بالاختيار ، فلذلك يصح أن يستدل بالحوادث التى لا يجوز أن تحدث من الأجسام على الله تعالى وعلى أنه قادر عالم ، وليس كذلك حال القرآن.
يبين أيضا ما ذكرناه أنه لا شبهة فى أن فعل النبى صلى الله عليه وسلم قبل ظهور المعجز يدل على أنه قادر عالم ، ولم يجب أن يدل كلامه على الأحكام على هذا الحد بل احتيج إلى ظهور المعجز ومعرفة حال المرسل وحكمته ، وكذلك القول فيما قدمناه.
فإن قال : إن كان الأمر كما ذكرتم فيجب أن تكون الأخبار الواردة فى القرآن ، الدالة على الله عز وجل وعلى حكمته ، عبثا لا فائدة فيها ؛ لأن الاستدلال بها لا يمكن ، ويجب أن يعرف عز وجل بتوحيده وعدله أولا ، ثم يعلم صحتها!
قيل له : إنه عز وجل إنما خاطب بذلك ليبعث السائل على النظر والاستدلال ؛ بما ركب فى العقول من الأدلة. أو لأنه علم أن المكلف عند سماعه والفكر فيه يكون أقرب إلى الاستدلال عليه ، منه لو لم يسمع ذلك ، فهذه الفائدة تخرج الخطاب من حد العبث.
يبين ذلك أن الداعى منا إلى الله عز وجل متى قصد إلى جاهل به فدعاه وعرفه طريقة معرفته ومعرفة توحيده وعدله ، لا يجوز أن يعد عابثا فى دعائه ، وان لم يصح من المدعو أن يعرفه جل وعز بنفس دعائه دون أن ينظر ويتدبر ، فكذلك القول فى كلامه عز وجل ، سيما ومن اعتقد فى القرآن ، قبل أن يعرف الله ، أنه كلامه عز وجل على جهة التقليد ، وأنه تعالى لا يجوز أن يكذب ، كان
Shafi 4
ذلك أدعى له إلى النظر ، من خطاب الداعى الذى لا يعتقد تعظيم حاله ، ولهذه الجملة عول الأنبياء عليهم السلام ، عند مسألة قومهم لهم عن الله عز وجل ، على ذكر أفعاله تعالى من خلق السموات والأرضين وغير ذلك.
فإن قيل : فيجب أن لا يعلم بالقرآن الحلال والحرام إلا على هذا الوجه!
قيل له : كذلك نقول ؛ لأنه ما لم يعلم أن المخاطب بالقرآن حكيم لا يجوز أن يكذب فى أخباره أو يعمى أو يأمر بالقبيح أو ينهى عن الحسن ، لم يصح أن يعرف به الحلال والحرام ، لكن الأحكام يمكن أن تعلم بالقرآن من غير مقدمة ، إذا كانت المعرفة بالله عز وجل قد تقدمت ، ولا يصح أن يعلم بقوله : ( ليس كمثله شيء ) (1)، من غير تقدم العلم بأنه تعالى ليس بجسم ، أنه تعالى لا يشبه الأشياء ، لما قدمنا من أنه لا يصح أن يعرف الفاعل وحكمته بالفعل الذى يصدر عنه ، إذا كان العلم بصحته ووجه دلالته لا بد من أن يرجع فيه إلى حال الفاعل.
وعلى هذا الوجه قلنا : إن المعجزات لما كانت بمنزله الأخبار فى أنها لا يمكن أن يعلم أنها صحيحة إلا بعد العلم بحال الفاعل وحكمته ؛ لم يمكن أن يستدل بها على النبوات من أجاز (2) على الله عز وجل فعل القبيح ، وقلنا يجب أن لا نأمن أنه تعالى أظهرها على [ من ] يدعو الى الضلال والفساد ، ويصد عن الهدى والرشاد!
** 2 مسألة :
يدل عليه أو لا مزية له؟
فإن قلتم : إنهما سواء فذلك خلاف الإجماع ؛ لأن الأمة تقول إن المحكم أصل للمتشابه وإن له من الحظ ما ليس للمتشابه ، وكتاب الله عز وجل قد نطق
Shafi 5
بذلك فى قوله : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ) (1).
وإن قلتم : إنه يدل على وجه لا يدل عليه المتشابه ، نقضتم الأصل الذى قدمتم الآن. لأنكم ذكرتم أن جميع كلامه تعالى سواء فى أنه إنما يدل ، بعد أن يعرف عز وجل أنه حكيم ، وإذا كان الأمر كذلك فما الفائدة فى الفصل بين المحكم والمتشابه؟ وهلا دلكم ذلك على فساد هذا الأصل!!
قيل له : إن الذى تقوله فى هذا الباب لا ينقض ما ذكرناه من الأصل ، ولا يخرج عن الإجماع والكتاب ، وذلك أن المحكم كالمتشابه من وجه ، وهو يخالفه من وجه آخر :
فأما الوجه الذى يتفقان فيه فما قدمنا من أن الاستدلال بهما أجمع لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة الفاعل وأنه لا يجوز أن يختار القبيح ، لأن الوجه الذى له قلنا ذلك ، لا يميز المحكم من المتشابه ، كما أن خطابه صلى الله عليه وسلم لما لم يمكن أن تعلم صحته إلا بالمعجز ولم يميز ذلك بين المحتمل من كلامه وبين المحكم منه ، حلا محلا واحدا فى هذا الباب.
وأما الوجه الذى يختلفان (2) فيه ، فهو أن المحكم إذا كان فى موضوع اللغة أو لمضامة القرينة ، لا يحتمل إلا الوجه الواحد ، فمتى سمعه من عرف طريقة الخطاب وعلم القرائن أمكنه أن يستدل فى الحال على ما يدل عليه. وليس
Shafi 6
كذلك المتشابه ، لأنه وإن كان من العلماء باللغة ويحمل القرائن (1)، فإنه يحتاج عند سماعه إلى فكر مبتدأ ونظر مجدد ليحمله على الوجه الذى يطابق المحكم أو دليل العقل.
ويبين صحة ذلك أنه عز وجل بين فى المحكم أنه أصل للمتشابه ، فلا بد أن يكون العلم بالمحكم أسبق ليصح جعله أصلا له ، ولا يتم ذلك إلا على ما قلناه.
فأما إذا كان المحكم والمتشابه واردين فى التوحيد والعدل فلا (2) بد من بنائهما على أدلة العقول ، لأنه لا يصح ممن لم يعلم أنه جل وعز واحد حكيم لا يختار فعل القبيح ، أن يستدل على أنه جل وعز بهذه الصفة بكلامه.
فالمحكم فى هذا الوجه كالمتشابه ، وإنما يختلفان فى طريقة أخرى ، وهى أن المخالفين فى التوحيد والعدل يمكن أن نحاجهم بذكر المحكم ونبين مخالفتهم لما أقروا بصحته فى الجملة ، ويبعد ذلك فى المتشابه ، فلذلك نجد كتب مشايخنا رحمهم الله مشحونة « بذكر هذا (3) الباب ليبينوا أن القوم كما خرجوا عن طريقة العقول ، فكذلك (4) عن الكتاب. فأما أن يمكن أن نبين للجاهل بالله تعالى وبحكمته أن الله عز وجل لا يختار فعل القبيح وأنه لا يشبه الأعراض والأجسام ، والقرآن محكمه ومتشابهه ، فذلك مما لا يصح ؛ على ما قدمنا.
ولهذه الجملة يجب ان يرتب المحكم والمتشابه جميعا على أدلة العقول ، ويحكم بأن ما لا يحتمل إلا ما تقتضيه هذه الجملة يجب أن يثبت محكما ؛ وما احتمل هذا
Shafi 7
الوجه وخلافه فهو المتشابه ، فأقوى ما يعلم به الفرق بين المحكم والمتشابه ادلة العقول ؛ وإن كان ربما يقوى ذلك بما يتقدم المتشابه أو يتأخر عنه ، لأنه هو الذى يبين أن المراد به ما يقتضيه المحكم ، ومما يبين ذلك أن موضوع اللغة يقتضي أنه لا كلمة فى مواضعتها إلا وهى تحتمل غير (1) ما وضعت له ، فلو لم يرجع إلى أمر لا يحتمل لم يصح التفرقة بين المحكم والمتشابه.
** 3 مسألة :
حق هذه اللغة أن يصح فيها الاحتمال ويسوع فيها التأويل ، فبما ذا يعلم المحكم متميزا من المتشابه فى الوجه الذى بينتم أنه لا بد من أن يكون له مزية فيه؟
وبعد ، فاذا كان الناس قد تنازعوا فى المحكم والمتشابه ؛ كما اختلفوا فى نفس المذهب لأن ما يعده المشبه محكما عند الموحد من المتشابه ، وما يعده « الموحد محكما (2) عند المشبه بخلافه ، وكذلك (3) القول فيمن يعتقد الجبر وفيمن يقول بالعدل ، وهذه الطريقة معروفة من حالهم عند المناظرة والمباحثة فيحب أن لا يصح أن يميز أحدهما من الآخر إلا بأن يرجع فيه إلى محكم آخر ، والقول فيه كالقول فيما يتنازعه ، أو بأن يرجع فيه إلى أدلة العقول ، وفى ذلك إسقاط التعلق بالمحكم وإثبات مزيته على المتشابه!
قيل له : إنا قد بينا أن الذى أوردته هو الذى يلجئ إلى الرجوع إلى أدلة العقول فيما يتصل الخلاف فيه بالعدل والتوحيد ، وقد بينا صحة ذلك لأنا قد
Shafi 8
دللنا على أن العلم بصحة خطابه عز وجل يفتقر إلى العلم بأنه لا يختار فعل القبيح ، والعلم بأنه لا يفعل ذلك يتعلق بالعلم وصفاته الذاتية ومفارقتها لصفات الفعل ، ولا بد من أن تقدم معرفة ذلك ليصح من بعد أن يعرف أن كلامه عز وجل صحيح ، وأن الاحتجاج به ممكن.
فأما إذا كان الكلام مما يدل على الحلال والحرام فلا بد (1) من أن يكون للمحكم مزية على المتشابه من الوجه الذى قدمناه ، وهو فى أن يدل ظاهره على المراد ، أو يقتضى (2) ما يضامه أنه مما لا يحتمل إلا الوجه الواحد من حمل الأدلة ، وليس كذلك المتشابه ، لأن المراد به يشتبه على العالم باللغة ويحتاج (3) إلى قرينة محددة فى معرفة المراد به : إما بأن يحمل على المحكم ، أو بأن يدل عليه كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ، إلى ما يجرى مجراه. فالمزية له قد ظهرت فى هذا الباب.
وقد بينا فيما يتعلق بالتوحيد والعدل أن للمحكم فى باب الاحتجاج على المخالف مزية ليست للمتشابه ؛ لأنه يمكن أن تبين له أنه مخالف للقرآن ، وأن ظاهر المحكم يدل على خلاف ما ذهب إليه ، وأنه قد تمسك بالمتشابه من القرآن وعدل عن محكمه ، كما تمسك بالشبه فى باب (4) العقليات وعدل عن الأدلة الصحيحة ، وفى ذلك لطف وبعث على النظر ؛ لأن المخالف إن أورد ذلك عليه وهو من أهل الدين مس فى قلبه وأثر فيه ، فحمله ذلك على النظر والتفكر. فلا (5) يجب إذا قلنا فى المحكم والمتشابه ما قدمناه أن لا تثبت للمحكم المزية التى ذكرناها.
Shafi 9
وبعد ، فإن اللغة وإن وقعت محتملة فإنها تتفاوت ؛ ففيها ما بنى للاحتمال ووضع له ، وفيها ما ظاهره يدل على أمر واحد وإن جاز صرفه إلى غيره بالدليل ثم يختلف ذلك ؛ ففيه (1) ما يكون صرفه لما يصرف إليه فى طريقة (2) اللغة مستبعدا ، وفيه ما يكون سهلا معروفا ، ولذلك قلنا إن المتكلم قد يكون مناقضا فى كلامه ومحيلا ، ولو كان الأمر على ما قاله (3) السائل لم يصح إثبات مناقضته فى الكلام ولا إحالة فيه. فاذا صح ذلك وكان للمحكم فى ظاهره المزية على المتشابه بأحد الأمرين اللذين ذكرناهما ، فيجب فساد القول بأنه لا مزية لأحدهما على الآخر على ما أصلناه.
** 4 مسألة :
؛ وفى الفرق بين المحكم والمتشابه (4) على أن القرآن من فعله عز وجل فقلتم : إن من حق الفعل إذا لم تعلم صحته ولا وجه دلالته إلا بعد معرفة الفاعل أن لا يمكن أن يعرف به الفاعل وأنه حكيم ، وهذا إنما يصح متى لم يقل المخالف فى القرآن إنه من صفات ذاته ، وأنه تعالى صادق لنفسه ، فما الذى يبطل هذا القول ليتم لكم ما قلتموه؟!
قيل له : إن من حق المذهب أن يبنى على الأصول الصحيحة وإن لم يوافق الخصم عليها ، وقد ثبت أن الكلام فعل ، لأنه محدث على وجه مخصوص ، كما تثبت مثله فى الإحسان والإنعام ، ولا وجه للاعتراض على ما قلناه بقول الخصم!
وبعد ، فان أحدا ممن يعقل الخلاف لا يقول فى القرآن الذى يتلى ويسمع إنه
Shafi 10
من صفات ذاته تعالى ، « وإن من (1) يثبت ما يخالف هذا الكلام (2) فيزعم أنه من صفات الذات ، فقد وافق فى أن القرآن الذى صفته ما ذكرناه (3) من أفعاله عز وجل ، فالذى أصلناه فيه صحيح.
وبعد ، فان الذى قالوه لو ثبت لأوجب صحة ما قلناه ، لأن صفات الذات لا يصح أن تدل إلا بعد أن يعرف الموصوف ، ويعلم كيف يستحق هذه الصفات
انظر فتح البارى : 13 / 388
والمؤلف يلزم المخالف بهذا الاعتبار ، بغض النظر عن رفض المعتزلة لهذا التقسيم ليصح له ما أصل فى الاستدلال من أن القرآن مخلوق ، وأنه من فعله عز وجل.
انظر : شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار : 527 فما بعدها. الفصل لابن حزم 3 / 4 الملل والنحل للشهرستانى ( بهامش الفصل ): 1 / 123.
وانظر فى تحقيق ما ذهب إليه الامام الأشعرى فى الموضوع : مقدمة فى نقد مدارس علم الكلام ، التى صدر بها الأستاذ الدكتور محمود قاسم كتاب : مناهج الأدلة لابن رشد لطبعة الثانية. ص 66. وقارن ما قاله القاضي هنا فى وصف القرآن : ( الذى يتلى ويسمع ) وما رمي به الأشعرى المعتزلة من تدليس الكفر لقولهم بخلق القرآن ، اعتمادا على أنهم يقولون فيه : كلام ملفوظ به!!
أنظر الابانة ، الطبعة المنيرية بالقاهرة ، ص 30
Shafi 11
فلا (1) بد على هذا القول لو سلم من تقدم معرفة الله تعالى ، وإبطال القول بأنه يوصل إلى معرفة الله عز وجل بالقرآن!
على أن الذى « يقوله من حصل (2) منهم أنه لا بد من أن يثبت القرآن صحيحا وأخباره صدقا ، لكى (3) يصح أن يكون حكاية للكلام الذى هو من صفات الذات أو عبارة (4) عنه ، ولا يصح الاستدلال به إلا على هذا الحد ، فيجب أن يعلم أولا صحته على الحد الذى « قلنا ليمكن (5) الاستدلال به ، وفى هذا تحقيق على ما قدمناه. فأما الكلام فى أنه صادق لنفسه فانه لا يؤثر فى هذا الباب ، لأنا إنما قصدنا إلى بيان حال القرآن الذى هو عند الكل محدث من قبله عز وجل ، وبينا أن الاستدلال به إنما يمكن بعد أن يعرف أن فاعله حكيم وأنه لا يختار فعل القبيح. فالذى ذكروه من أنه صادق لنفسه لو ثبت لم (6) يؤثر فى هذا الباب ، فكيف وقد بينا فساد ذلك بوجوه كثيرة؟! منها : أن الصدق قد يكون من جنس الكذب ، فلا (7) يتميز أحدهما من الآخر بكونه صدقا أو كذبا ، فلا (8) يجوز أن يختص الموصوف بأحدهما دون الآخر لذاته ، كما لا يصح ذلك فى سائر الأفعال ، ولا فرق والحال هذه بين من قال إنه صادق لنفسه فلا (9) يجوز أن يكذب. وبين من قلب ذلك على قائلة و[ قال ] كان يجب لو كان صادقا لنفسه أن يكون صادقا بالإخبار عن كل ما يجوز أن يخبر عنه ، كما يجب لما كان عالما لنفسه أن يعلم كل ما يصح أن يعلمه. وتقصى ذلك يخرج عن الغرض. وما أوردناه فيه كاف.
Shafi 12
** 5 مسألة :
يمكن أن يستدل به ، كالمحكم ، وإن كان يحتاج إلى قرينة محددة ، وهذا إنما كان يتم لو صح أن المتشابه مما يمكن أن يعرف المراد به ولا يكون الغرض بإنزاله الإيمان به فقط. فبينوا فساد هذا القول ، فان كثيرا من الناس يعتمده فيقول : إن المتشابه هو الذى لا يعلم تأويله الا الله ، وهو الذى لا سبيل للمكلف الى العلم به وانما كلف الإيمان به. وانما يفارق المحكم بأن لا يمكن أن يعلم المراد به كالمحكم ، ولا يصح كونه دلالة كما يصح ذلك فى المحكم. وعلى هذا الوجه قال قوم إن المتشابه هو نحو قوله عز وجل : ( المص )، ( كهيعص ) إلى ما يشا كله مما لم يوضع فى اللغة لشيء ، فيكون دلالة على المراد بوجه من الوجوه ، وقوله عز وجل : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) (2) بعد تقدم ذكر المتشابه يدل أيضا على صحة هذا القول.
فأنتم بين أمرين : إما أن تقولوا بما قدمتم فيبطل بهذا الوجه ، أو تقولوا فى المتشابه إنه لا يمكن أن يعلم المراد به فيؤدى إلى كونه عز وجل عابثا فى إنزاله له (3) تعالى الله عن ذلك!
قيل له : لا يجوز عليه عز وجل أن يخاطب إلا لغرض يرجع الى المكلف لأنه يستحيل عليه المنافع والمضار ؛ فإنما يقصد بخطابه نفع المكلف ، كما يقصد بسائر أفعاله
Shafi 13
مصالح العباد ، وقد ثبت أن النفع لا يقع بالخطاب بجنسه ولا بسائر صفاته ، وإنما يقع به لأمر يرجع إلى معناه ، ولذلك يقبح من أحدنا إذا كان غرضه إفهام الغير ومخاطبته أن يخاطبه بالزنجية مع تمكنه من أن يخاطبه بالعربية ، ولا سبيل له إلى معرفة الزنجية البتة. فإذا صح أنه عز وجل خاطب بلغة مخصوصة وغرضه نفع المكلف على ما بيناه ، فلا (1) بد فى جميع كلامه من أن يكون دلالة يمكن أن يستدل به على المراد ، ولو جوزنا والحال هذه فى بعض خطابه أن لا يكون عز وجل أراد به ما يصح من المكلف أن يعرفه ، لجوزنا ذلك فى سائره. وذلك يوجب أن لا يوثق بشيء من خطابه ، وأن يكون عابثا فى ذلك ، وأن لا يكون بينه وبين أن يخاطبنا ونحن عرب بالزنجية فرق! وفساد ذلك يبطل هذا القول.
فأما قول من يقول إن الواجب فى المتشابه الإيمان به فقط فذلك بعيد ، لأنه يجب أن يعلم على أى وجه يصح أن يخاطب عز وجل به ، ثم يؤمن المكلف به على ذلك الوجه. وإن كان المخالف يقول انه نؤمن (2) بأنه من كلامه تعالى وأنه لم يرد به شيئا ، فهو الذى بينا فساده. وان قال : نؤمن أنه قد أراد به ما للمكلف فيه نفع ولا يمكنه أن يعرف ذلك ، فهذا يوجب كونه عابثا ، وكأنه أوجب على الخلق فى المتشابه أن يعتقدوا فيه أنه لا فائدة فيه ، ويتعالى الله عن ذلك. وكتاب الله عز وجل ينطق بما قلناه ، لأنه بهن أنه أنزله فيكون (3) شفاء وهدى ورحمة ، وبين أن فيه البيان ، والكفاية واقعة به ، ولو كان لا يفهم به المراد لم يصح ذلك فيه.
Shafi 14
وأما قوله عز وجل : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) فقد تأوله العلماء على وجهين : أحدهما : أنه عطف بقوله : ( والراسخون في العلم ) عليه ، فكأنه قال : وما يعلم تأويله الا الله والا الراسخون فى العلم ، وبين أنهم مع العلم بذلك يقولون آمنا به فى أحوال علمهم به ، ليكمل مدحهم ، لأن العالم بالشيء اذا أظهر التصديق به فقد بالغ فيما يلزمه ، ولو علم وجحد كان مذموما.
والثانى : أن قوله تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) مستقل بنفسه ، ثم ابتدأ بقوله : ( والراسخون في العلم يقولون آمنا به ). وحمل أصحاب هذا القول التأويل على أن المراد به المتأول ، لأنه قد يعبر بأحدهما عن الآخر ؛ ألا تراه عز وجل قال : ( هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله (1)) والمراد به المتأول والمعلوم من حال المتأول الذى هو يوم القيامة والحساب ومقادير العقاب أنه عز وجل يختص بالعلم به وبوقته ، لأن تفصيل ذلك لا يعلمه أحد من العباد.
فعلى هذا القول لا يجب أن يكون المتشابه مما لا يعلم المكلف تأويله.
ولو كان المراد به ما قاله المخالف ، من أن المتشابه لا يعلم تأويله الا الله ، وأن سائر المكلفين انما كلفوا الإيمان به ، لم يكن لتخصيصه العلماء فى باب الإيمان به بالذكر معنى!! لأن غير العلماء لا يلزمهم الا ما يلزم العلماء ، فلما قال : ( والراسخون في العلم يقولون آمنا به ) فخصهم بذلك ، علم أن المراد به أنهم لما علموا المراد بالمتشابه صح منهم الإيمان به فخصهم (2) بالذكر دون غيرهم.
ولو لا أن الأمر كما قلناه (3) لم يكن لجعله تعالى المحكم أصلا للمتشابه معنى ان لم يلزم الا (4) الايمان به!.
Shafi 15
ولو لا صحة ذلك لم يكن لذمة من يتبع المتشابه ابتغاء الفتنة معنى ، لأنه كان يجب فى كل من اتبع المتشابه أن يكون مذموما ، لأنه انما يلزم الإيمان به فقط ، فلما ذمهم على اتباعهم المتشابه لابتغاء الفتنة ، علم أن من اتبع المتشابه للدين وعلى الوجه الصحيح ، يكون محمودا.
فكل ذلك يبين أنه ليس فى كتاب الله عز وجل شيء الا وقد أراد عز وجل به ما يمكن المكلف أن يعرفه ، وان اختلفت مراتب ذلك ؛ ففيه ما يستقل بنفسه ويمكن معرفة المراد بظاهره وفيه ما يحتاج الى قرينة على الجملة ، وفيه ما يحتاج الى قرينة (1) مفصلة.
فأما قوله عز وجل فى فواتح السور ، وذلك مثل : ( المص ) (2) و ( الم ) (3) الى ما شاكله ، فليس من المتشابه. وقد أراد عز وجل به ما اذا علمه المكلف كلن صلاحا له. وأحسن ما قيل فيه ما روى عن الحسن (4) وغيره من أنه عز وجل
Shafi 16
أراد أن يجعله اسما للسور (1)، وإثبات الكلمة اسما للسورة ، والقصد بها إلى ذلك مما يحسن فى الحكمة ، كما يحسن من سائر من عرف شيئا وفصل بينه وبين غيره أن يجعل له اسما ليميزه به من غيره. ولم نقل : إن جميع القرآن يدل على الأحكام التى ترجع إلى العباد ، وكيف نقول ذلك (2) وفيه الخبر عمن مضى وعن أحوالهم ، وفيه الوعد والوعيد ، وكل ذلك لا يتضمن الحلال والحرام!. وإنما قلنا : إنه لا بد فى جميعه من أن يكون قد قصد به ما إذا وقف العبد عليه كان صلاحا له.
وقد قيل فى ذلك إنه عز وجل أراد بهذه الحروف المقطعة أن « يبين أن (3) كتابه المنزل مركب من هذه الحروف ، وأنه ليس بخارج عن هذا الجنس المعقول ، وأنه مع ذلك قد اختص من الفصاحة بما عجز الخلق عنه. وذلك يبين قوة إعجازه ، ويبطل قول من يظن أن كلامه عز وجل مخالف لكلامنا.
وقد قيل فيه غير ما ذكرناه ، والغرض أن نبين أنه ليس فى القرآن ما يخرج عن أن يقع به فائدة ، فلا (4) وجه لتقصى الأقاويل فى ذلك.
( م 2 متشابه القرآن )
Shafi 17
فإن قال : فإذا كان المتشابه بانفراده لا يعرف المراد منه فيجب أن يكون عبثا!!
قيل له : إنه إذا أمكن أن يعرف المراد به وبغيره معا فقد اختص بوجه فى (1) الحكمة ، لأنه لا يمتنع أن يكون الصلاح فى بعض الأدلة أن يستقل بنفسه فيعرف المراد به بانفراده ، وفى بعضها أن لا يعرف المراد به إلا مع غيره ، ألا ترى أن العادة قد جرت أنا نعلم المدركات الواضحة بالإدراك ، ولا نعلم بالأخبار ما تتناوله إلا إذا تكررت ، وكذلك المدركات إذا غمضت. فإذا جاز اختلاف المصالح فيما يفعله تعالى من هذه العلوم ، ففيها ما يفعله تعالى ابتداء. وفيها ما يفعله عند سبب واحد ، وفيها ما يفعله عند سبب واحد ، وفيها ما يفعله عند أسباب بحسب ما يعلم من الصلاح فكذلك ما يكلفناه عز وجل من العلوم لا يمتنع أن تختلف المصلحة فيه ، على ما بيناه فى المحكم والمتشابه. على أنا قد بينا أن المحكم أيضا يحتاج إلى مقدمات ليصح أن يعرف به المراد ، فإن (2) كان ما قاله السائل يقدح فى المتشابه فيجب أن يقدح فى إثبات المحكم ، وفساد ذلك (3) ظاهر.
** 6 مسألة :
بعض الوجوه ، كالمحكم ، وإن كان للمحكم المزية فى هذا الباب ، فبينوا المتشابه بحد يفصل بينه وبين المحكم ، وقد خالفكم فيه كثير من العلماء ، ففيهم من قال : إن المتشابه هو المنسوخ ، والمحكم هو الناسخ. وفيهم من قال : إن المحكم هو الفرائض والوعد والوعيد ، والمتشابه هو القصص والأمثال
Shafi 18
وفيهم من قال : إن المحكم هو ما بين لنا مقاديره وشروطه من الأحكام ، والمتشابه هو ما لم يبين لنا حاله من الصغائر والكبائر. إلى غير ذلك من الخلاف.
قيل له : إن المحكم إنما وصف بذلك لأن محكما أحكمه ، كما أن المكرم إنما وصف بذلك لأن مكرما أكرمه ، وهذا بين فى اللغة. وقد علمنا أنه تعالى لا يوصف بأنه أحكم هذه الآيات المحكمات من حيث تكلم بها فقط ، لأن المتشابه كالمحكم فى ذلك ، وفى سائر ما يرجع إلى جنسه وصفته ، فيجب أن يكون المراد بذلك أنه أحكم المراد به بأن جعله على صفة مخصوصة لكونه عليها تأثير فى المراد وقد علمنا أن الصفة التى تؤثر فى المراد هى أن توقعه على وجه لا يحتمل إلا ذلك المراد فى أصل اللغة ، أو بالتعارف ، أو بشواهد العقل. فيجب فيما اختص بهذه الصفة أن يكون محكما ، وذلك نحو قوله تعالى : ( قل هو الله أحد الله الصمد ) (1) ونحو قوله : ( إن الله لا يظلم الناس شيئا ) (2) إلى ما شاكله.
فأما المتشابه فهو الذى جعله عز وجل على صفة تشتبه على السامع لكونه عليها المراد به من حيث خرج ظاهره عن أن يدل على المراد به ، لشيء يرجع إلى اللغة أو التعارف ، وهذا نحو قوله تعالى : ( إن الذين يؤذون الله ) (3) إلى ما شاكله ، لأن ظاهره يقتضى ما علمناه مجالا ، فالمراد به مشتبه ويحتاج فى معرفته الى الرجوع إلى غيره من المحكمات.
Shafi 19
وهذا هو حقيقة المحكم والمتشابه ، واللغة شاهدة بصحة ما ذكرناه فيهما ، فأما أن يجعل الناسخ محكما والمنسوخ متشابها فبعيد ، لأن اللغة لا تقتضى ذلك ، وقد يكون المنسوخ مما يدل ظاهره على المراد فيكون محكما فيما أريد به وان نسخ وقد يكون الناسخ غير مستقل بنفسه فيكون متشابها وإن كان المراد به ثابتا (1) وكذلك (2) القول فى القصص إنه إذا كان المراد به جليا وجب أن يكون محكما ، فالذى قال من خالفنا فى هذا الباب يبعد قوله عن الصواب ، وصح أن المحكم والمتشابه هما ما ذكرناه ، وقوله (3) عز وجل فى المحكمات : ( هن أم الكتاب ) يدل على ذلك ، لأنه جعل لها هذه المزية على المتشابه (4)، وذلك لا يصح إلا على الوجه الذى قلناه (5) دون ما حكيناه.
** 7 مسألة :
محكم ، بقوله تعالى : ( الر ، كتاب أحكمت آياته ) (7) ووصف جميعه بأنه متشابه بقوله : ( الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها ) (8)، وهذا يمنع ما ذكرتموه من انقسام القرآن إلى القسمين اللذين ذكرتموهما!
قيل له : إن الذى ذكرناه من أن فيه محكما ومتشابها قد ورد الكتاب بصحته فى قوله عز وجل : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ، وأخر متشابهات ) ويجب أن يفصل بينهما بما ذكرنا. فأما
Shafi 20