وكان النظام المتبع يومئذ أن الناجحين في نهاية السنة الرابعة ينتقلون مباشرة إلى الدراسة الثانوية، إذ لم تكن الشهادة الابتدائية قد تقررت بعد ونظمت لها الامتحانات النهائية العامة. ولكن في تلك السنة التي كان مصطفى فيها موشكا أن ينتقل إلى الدراسة التجهيزية، وهي سنة 1891، ولم يكن الصبي قد جاوز الثانية عشرة، تقررت فجأة إقامة امتحان عام لنيل الشهادة الابتدائية، وكان ذلك مباغتة أعدتها الأقدار لتبرز ذكاء مصطفى، ونجابته وبوادر نجاحه، وقوة استعداده، وغزارة ملكاته؛ إذ لم يكن بين مصطفى وتأدية ذلك الامتحان سوى أسبوعين، ولكنها على قصرها لم تكن المهلة القصيرة حيال عزمه الوثيق، وصبره المكين، وجلده الطويل؛ فنجح في الامتحان وبرز على رأس الفائزين فيه.
كذلك أتم مصطفى الدراسة الابتدائية غريبا في القاهرة، قادما إليها من صميم القرى، وكان في الناصرية «بالقسم الداخلي»؛ أي يبيت فيها ويجد طعامه. وكانت الأقسام الداخلية في معاهد العلم مواطن إغراء خطر، وفتون شديد السلطان على النفوس الساذجة، والصفحات النقية البريئة، بسبب اختلاط الطلاب ومعيشتهم الاشتراكية، وكانت الناصرية كما قدمنا مدرسة أبناء الذوات، وأولاد الأغنياء النازحين من الريف، وقد اشتهر طلابها بالترف والنزوع إلى المراح، والاستجابة للهو والعبث، والاستماع إلى المفاتن والمغريات.
ولكن مصطفى الذي انحدر من سمنود وفي خاطره دعوات والدته ووصاة أبيه، وفي أعماق نفسه أثر البيئة الصالحة التي عاش فيها، والأفق المنزلي الوادع النقي الذي كان في المولد يكتنفه، لم يتأثر بما كان يجري من حوله في ذلك الوسط المدرسي الجديد عليه؛ إذ كانت نفسه الطيبة من الطفولة منصرفة إلى الدرس، منكمشة في التحصيل، منشغلة بالطموح، مليئة بالتطلع والنزوع إلى التفوق، وقد تمكنت منها العبادة، وتأصل فيها الوازع الديني؛ فلم يكن في ساعات فراغه ينزع إلى اللهو كأثر من حوله، وإنما كان يروح إلى الصلاة في المواقيت، أو يطالع بعض الكتب المدرسية يستزيد منها ويزكى بها، ويجمع إلى ما تلقنه في المدرسة ما يعالج هو بنفسه فهمه بلا معلم ولا ظهير.
وفي المدرسة الابتدائية، ظل مصطفى في هذه «المناعة» الخلقية من المغريات ووساوس الغرائز، وبنجوة من الجموح الذي ينزع إليه أكثر الولدان بسبب كثرة الاختلاط والاندماج؛ بل لقد اكتسب فيها ما لم يكن يألفه من قبل، وهو الصبر على الحرمان، والرضوان بالشظف، وإيلاف التخشن، والجلد على التقشف إذا ما اضطر إليه.
فقد حدث يوما أن كان الطعام المقدم إلى الطلبة في القسم الداخلي في الفطور حساء عدس، فعافه مصطفى ولم يمدد إليه يده، وحان طعام الغداء فوجد الخضر المقدم على المائدة كراثا مسلوقا فلم يذقه، وفي المساء كان العشاء فضلة ذلك الكراث في الأوعية وبقاياه، فلبث ينظر مليا إليه، وكان الجوع قد اشتد به؛ فلم يلبث أن «هجم» على «الكراث» فأكل منه وأساغه واستمرأه مكتفيا به.
مصطفى النحاس وهو في سلك القضاء.
ومن ذلك العهد ألف الرضا بكل الأطعمة، فليس له «صنف» مخصوص، ولا لون من الأطعمة هو أحبها إليه.
وانتقل مصطفى إلى المدرسة الخديوية، فأظهر فيها التفوق ذاته، والنبوغ الباده بكل أعراضه ومزاياه، وكان دخوله المدرسة في قسمها الداخلي «بمصروفات»؛ ولكن أمين باشا سامي الذي أدرك نبوغه وعرف ذكاءه وتبين مواهبه أراد تشجيعه وجعله قدوة حسنة لسواه؛ فطلب أن يبقى «مجانا» هو ورفيق له يدعى محمد فهمي ياقوت، فسمح له بذلك.
وفي المدرسة الخديوية، كان مصطفى في الحق قدوة مثلى، ونموذجا طيبا للطالب العاكف على دراسته، المنصرف إلى العلم بكليته، العزوف عن النزق واللهو، المقبل على المطالعة والمزيد من المعارف، وقد أحبه رفقاؤه لمواهب ذهنه وعاطفته، وتأثروا في رحاب المدرسة بشخصيته، واعترفوا جميعا برقة حاشيته، ووفاء طبيعته، وكرم شمائله، وحبه الصادق للعدل، حتى ليذهب إلى حماية أي طالب يستهدف لأذى رفقائه، أو تساء معاملته في حلقات اللدات والأقران.
وكان مصطفى في الخديوية وقورا، وملامح وجهه تكسوها الرزانة والسكون، وإن أشعت عليها في أكثر الأحيان ظلال ابتسامة حلوة ساجية، وإيماضة رفيقة هادئة، وكان متحدثا فصيحا؛ فإذا ما تناقش والصحاب في مسألة من المسائل، نم وجهه وصوته وحركاته وإشاراته عن اتزان باكر، وتمكن من موضوعه، وفهم صحيح لكلياته وجزئياته.
Shafi da ba'a sani ba