85

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Nau'ikan

لقد كان سعد في الأدوار التي سبقت قيام الحياة النيابية وفي جلسات البرلمان وفي محاربة الخصوم وكفاح المستعمرين، بل كان إلى آخر خطبة له وهو يودع الحياة، مثال البطل الخطيب، والمنطيق المفوه العظيم، يحمل تحت لسانه وفي تضاعيف صوته موهبة نادرة كانت حرارتها من قبل ذائبة في مداد قلمه، بل كان الخطيب الذي إذا خطب الناس قاد آراءهم وقاد مع آرائهم إرادتهم، وإذا تكلم رفعهم فوق أنفسهم، وأحدث فيهم قوة جديدة لم تكن من قبل تجري في شرايينهم، وإذا رام غزو أذهان سامعيه نثر فيهم روحه، فكلهم إذ ذاك قطعة منه لا تزال تنجذب إليه بقوة مغناطيس منطقه، وجاذبية نفسه، وجلال سلطانه.

وإن تاريخ محاربة سعد لخصومه - وقد أبى القدر إلا أن يكون له خصمان، وأن تنفتح أمامه للعداوة والمناوأة ناحيتان: ناحية الإنكليز، وناحية صنائعهم ومنفذي سياستهم - لهو تاريخ مستطيل، ليس يتسع هذا الكتاب لمثله ، ولكنه - في إيجاز - تاريخ زعيم عبقري بالغ الذكاء، واسع الحيلة، مرن الأساليب، معتد بقوته، مستلهم وحي خاطره، عجيب التفكير في إيجاد الوسائل للخروج من المآزق، والنجاة من المحرجات، وتجنب الصدمات أو التعجيل بها إذا كانت في مصلحته، وخلق الأشكال لمرمى من مراميه، وغاية خفية من غرائب غاياته، ويوم يحاط به، حتى ليظن أنه قد سلم وأذعن، أو هو موشك على التسليم والمهادنة، انسرب ناجيا ليقف عن كثب يلهو بمنظر الذين ظنوا أنهم قد حاصروه وقد راحوا مبهوتين من خدعته في خزي من غلبه على تلك الصورة الفجائية المستغربة.

وقد كان سعد بجانب عبقريته السياسية «الزعيم» الأول للديمقراطية في بلاده، هو الذي وضع نواتها، وهو الذي سقى شجرتها، ورواها وغذاها، وقام على حراستها، وكان البستاني الحاذق الذي يتوخى لها أصلح العيدان، وينتقي لها أغرب وسائل اللقاح والتأبير، ويختار لها أحسن حقول التجاريب. وهو الذي أعمل المهماز في خاصرة النبوغ، فجعله يستبق ويطفر، بما تعهده في ظل الديمقراطية من رعاية وعناية وتشجيع، كلما وقع على كفايات فتية ومواهب مبشرة بخير، رفعها إلى المستوى الخليق بها، وأخذ بها إلى ميادينها الصالحة، ومستبقها المناسب، ومضمارها الفسيح.

سعد قبيل وفاته.

ومن عجيب تصاريف القدر الرحيم الذي كان يلحظ سعدا من النشأة ويرعاه من التكوين، أن البلاد أصابت الدستور وتصريح 28 فبراير سنة 1922 بثمن نفيه إلى سيشل، وأن ذلك الدستور الذي ظن الإنجليز وأعوانهم أنه سوف يروح أداة انقسام ومحل خلاف وباعث تشتت وتفكك، عاد بفضل سعد وقوة نفوذه في الرأي العام، وبعد ذلك المنفى الطويل الأليم في أسوأ أفق وأنأى جزيرة، هو المرجح الأوحد للإجماع، ومظهر مشيئة الأمة؛ فقد نخلت الحياة النيابية الأفراد الذين تقدموا ليحتلوا أماكن فيها، وغربلت الجماعات التي طمعت في التمثيل، فأبقت على الصالحين المخلصين، ونفت من لا خير فيهم ولا رجاء، فانقلب بذلك ما كان الإنكليز يحسبونه وسيلة حسنة لهم، أداة خطر عليهم؛ فجعلوا كلما اكتسح الوفد الانتخابات، يدسون على الدستور ويعملون على تعطيله، وقد عطلوه في أيام سعد ولم يقم غير بياض يوم واحد. ولكن محاربة الدستور جعلته عند الأمة يزداد قيمة ويرتفع قدرا، وينمي الحرص عليه، ويزيد الشعب تمسكا به؛ فبقي سلطان سعد قائما بارزا يملأ المسرح السياسي من جميع جوانبه، إلى أن قضى نحبه في الثالث والعشرين من أغسطس سنة 1927. وكانت مصر من فرط حبها له وسكونها إليه وإيمانها به، لم يدر في خلدها أن رجلا مثله مقدور عليه الموت ككل حي، منتظر له الرحيل من هذا العالم في يوم من الأيام، فلما صدمت بنعيه كاد يذهب لبها من شدة الجزع، وكادت الأرض تميد بها من فرط الألم للكارثة وشدة الأسى من الخطب العظيم.

وفي الحق لقد كان سعد أمة للوطن قانتا، وكان في الدفاع عن مصر طودا ثابتا، ولم يكن إنسانا على ما ألف من خلق الناس، ولكنه كان قطعة بارزة من التاريخ الحديث، بل كان سرا من الأسرار الإلهية لا ندري كيف جاءنا، وكيف ذهبنا به إلى مساكن الأبدية، وكان صورة رائعة حية ماثلة من صور البطولة والعظمة وجلال الشخصية، وكان عظيما في رأس العظماء، وقديما كانت الشعوب لجلال العظمة تذعن وتؤمن وتدين.

لقد طبع سعد العصر كله بطابعه، وأوحى إليه بخاطره، ولون سائر أجزائه بلونه، بل كان الضمير الذي به يحس، والوجدان الذي به يشعر، والنبع الذي منه يفيض وينبجس، وقد مات تاركا أمة حفيظة لتعاليمه، حريصة على مبادئه، مقدسة لذكراه، مجاهدة لاستكمال ما صنع، واستتمام ما بدأ، والمسير إلى الغاية التي كان يعمل لها بقوة اليقين ذاته وروعة ذلك الإيمان.

لقد قاد سعد الثورة موفقا، وقاد السياسة بعد الثورة ناجحا، وكان أكثر نجاحه عائدا لسر شخصيته، وفعل عبقريته، وتعدد مزاياه ومواهبه؛ ولكن لا ريب في أن عوامل خارجية وظروفا مساعدة مواتية اجتمعت له فكانت من أسباب توفيقه وبواعث نجاحه.

ومن هذه العوامل أن الله أتاح له الزوج الموافقة، وحباه بشريكة الحياة المناسبة، وليس من ريب في أن كثيرا من عظماء التاريخ لم يصيبوا الخلود، ولم يظفروا بالمجد، ولم تتم لهم المقاصد، إلا كان بعض الفضل في أولئك جميعا لأزواجهم، وإن كان التاريخ يخص بأكبر الفضل الرجال، وتروح أسماء النساء معلقة في أذيالهم، مجاورة لأسمائهم. وفي تاريخ البطولة عظماء كانت ستعتريهم برودة الحياة، وكانوا سيخسرون الصفحة الناصعة التي أعدت لهم في سفر الخالدين، لو لم تنهض لهم من جوف الغيب سيدات أو زوجات حملن معهم أعباءهم، وضمدن بأيديهن جراحاتهم، وأعددن لهم الخلود مقاما عليا.

كذلك هم العظماء بحاجة إلى أزواج نوابغ كرائم على خلق عظيم، فإن الزوج الذكية للرجل النابغة أو العظيم لهي اللازمة الأولى والمطلب الأكبر، وإن طائفة من العظماء لم تمنحهم الطبيعة هذه المنحة، ولم تحبهم بهذه الهبة، بل رزقوا بنساء شريرات، وأزواج نساء سوء؛ فكن لهم الويل العظيم، والنقمة الكبرى، فلم يلبثوا أن فسدت أذهانهم، وتكدر صفو عيشهم، وخسرت الإنسانية شيئا كثيرا مما كانت به ظافرة لو أنهم نجوا من تلك النقمة الدائمة، والشقوة الملحة الملازمة، والحظ العاثر الأليم.

Shafi da ba'a sani ba