81

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Nau'ikan

واشترك في الثورة البنات والفتيات والنساء، فلم تلبث الحماسة الوطنية أن انتزعت من قلوبهن الخوف الطبيعي فيهن؛ فرحن يبرزن جماعات في الشوارع، ويشيعن الجنازات، ويهتفن باسم الشهداء، ويرسلن بحياة الحرية النداء في أثر النداء، ولا يرهبن المدافع تحصد الناس حصدا، أو تمزق الجسوم أشلاء.

لقد هبت الحياة بكل أعمارها، كما وثبت مصر بكلا جنسيها للدفاع عن ذاتها، والذياد عن كيانها وحاجاتها؛ فكانت الثورة نارا مندلعة في كل مكان، من الإسكندرية إلى أسوان؛ وكانت كلما اشتد الإنكليز في محاولة قمعها تفاقمت، وكلما اقترفوا الفظائع في مغالبتها أو إخماد جذوتها، تناهت سعيرا، وتعالت ذوائب، وتسامت فوق كل محاولة.

سعد في ابتسامته الساحرة.

يومئذ اندفعت الحياة العامة كلها نحو الثورة، فتعطلت كل مواردها، ووقفت كل مرافقها، وماجت واضطربت، فلم تعد تجري على سياق منظم أو تسير على نحو معروف، وأضرب الطلاب عن الذهاب إلى المعاهد، وامتنعت جميع الطبقات عن أعمالها حتى الكناسين، وتعطلت المواصلات في المدائن، وأقفرت الحواضر، وبدت الشوارع مرهوبة الصور، مخوفة المشاهد، مكفهرة الأفق، وتتالت الحوادث بسرعة عجيبة في غير تفكير سابق أو تدبير مبيت، ووقعت المذابح في الشوارع علانية، وقتل الضباط الإنكليز في القطر، ووقف العمل في المحاكم والبريد والسكة الحديد، وأصدرت السلطة العسكرية الأوامر بإحراق القرى المجاورة للمحطات التي أعمل فيها الفلاحون التخريب والتدمير؛ فأحرق الإنكليز كثيرا منها، وأغاروا على قرية العزيزية وقرية الشوبك والبدرشين، فأعملوا فيها الحريق، واقترفوا فيها الشنائع النكر والجرائم الرهيبة وأفظع العدوان.

وانقلب أكثر الناس خطباء، حتى من لم يكونوا من قبل قد صعدوا المنابر، أو وقفوا يتحدثون إلى الجماعات، ولكن أولئك كانوا خطباء البديهة المنبعثين بغرائزهم وسليقاتهم، حين يجيش الإحساس، وترهف المشاعر، وتستجيب الألسنة لوحي القلوب، وكان أبرز الخطباء يومئذ هم الشباب، إذ راحوا يقيمون الاجتماعات في المساجد وتتوافى ألوفهم وحشودهم إلى الأزهر، حيث ألفوا البقاء طيلة النهار وزلفا من الليل، متحمسين للخطابة، مستبشري النفوس للتضحية والفداء.

وكانت لغة الخطب جديدة، لغة النفوس، قبل أن تكون لغة الألسنة ملأى بأعجب العبارات، مرسلة مع أروع الأخيلة، محتوية على أسمى التصوير، فكان أدب الثورة رهيبا مثلها؛ شعرا من أصدق نبعاته وأغزر رويه وبحوره وأقنيته، ونثرا بليغا ينزل إلى أعماق القلوب وتتفاهم به العقول، حتى التي لم تكن من قبل تفهم، وتستحمي به الأرواح، ويصور الموت حلوا بديعا خليقا بالإقبال عليه إذا لم يأت طائعا، حريا بالاستباق إليه مع المستبقين.

وكان رأس خطباء الثورة في فناء الأزهر وباحاته هو المرحوم مصطفى القاياتي العضو بالوفد المصري عند تأليفه؛ فإن ذلك الشيخ العالم، والثوري الجليل، والخطيب الأزهري المتقد الأسلوب، الجياش الصوت، كان البارز في الحشود، المسمع الألوف، المتغني بأناشيد الحتوف، وكان المزمار العميق الرنين.

وكان يشترك معه خلق كثير من طلبة المدارس العالية، وشباب الثورة الملتهبي الأرواح؛ كما كانوا إذا استوفوا الخطب، انبعثوا يوزعون المنشورات على الناس، وكانت هذه هي ناحية النثر الفني من لغة الثورة وآدابها، وكان نثرا خطابيا كل العناية فيه بالموسيقى والنغم ورنين الألفاظ ونارية الأساليب.

وكان توزيع المنشورات السرية فنا أيضا، برع فيه الشباب وأجادوه، حتى أحاروا السلطة العسكرية وعيونها المبثوثة في البلاد، فكان من أولئك الشباب من يتنكر في زي متسول خلق الثياب، وينطلق حاملا فوق ظهره خرجا لا يحوي غير كسرات يابسات من الخبز، أو غير قطع من قماش رث أخلاق، متوكئا على عصا، عاري الرأس، حافي القدمين، ميمما صوب الضاحيات القريبة لبث الدعوة إلى الثورة بين القرويين.

جرى ذلك كله، وسعد غائب في مالطة، ولكن المثل الذي أقامه قبل معتقله كان جليلا للغاية، فقد كان شيخا يسند في حدود الستين، وقد وجبت له الراحة، وحق له أن يستجم من متاعب الحياة، ويطلب الدعة والسكون، فنهض يومئذ للمطالبة بحقوق بلاده، ولم يكن شك عند قيامه في أنه ملاق خطرا عظيما، مستهدف لشر مستطير، وما كان يبعد أن يكون الشنق مصيره والإعدام نهايته؛ ولم يكن قد دبر شيئا ولا أعد للغد المجهول عدة، ولا رتب مع أحد ترتيبا، ولا بيت مع الزملاء خطة؛ ولكنه انبعث بقوة الإحساس الذي جاش في صدره، واستجاب للظرف الملائم لظهوره، واعتمد على الله وحده هو معينه ونصيره؛ لأن قوة إيمانه بالحق كانت في نفسه أعظم من أن يخطر بخلده معها أن يفكر في الثورة، أو يحسب لها حسابها، مع وضوح حقه واستحالة الجرأة على إنكاره؛ بل لم يكن به أدنى حاجة إلى تنظيم معدات الثورة، وهي يومئذ قائمة في صدر الشعب، مختلجة في نفس الأمة، فلا يحتاج الأمر إلى أكثر من إطلاق شرارة لتحيلها نارا متلظية متأججة اللهيب.

Shafi da ba'a sani ba