67

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Nau'ikan

ووضع المؤتمر قرارا، وكان القرار ألا تنفرد دولة باحتلال مصر أو جزء منها، ولا تحاول الظفر بامتياز خاص لا يخول لرعايا الآخرين.

لكن إنجلترا راحت خلال ذلك تعد العدة، وتتخذ الخطط، وتضع التدابير، وتعزز أسطولها المرابط في المياه المصرية، ومضت تقذف الرعب في صدور الأجانب المقيمين بالبلاد، موحية بأن حياتهم في خطر إذا هم لم يبادروا بالرحيل.

فهاجر هؤلاء آحادا وجموعا، خيفة من مزعوم الخطر على حياتهم من جانب مصر نفسها التي آوتهم، فعاشوا فيها في ظل ظليل. وأمرت إنجلترا رعاياها كذلك بمغادرة البلاد ليخلوا لها وجه مكرها، تصنع به في مصر ما تشاء.

وما لبثت أن ذهبت تتلمس الأسباب، وتنتحل العلل، وتختلق الذرائع للعدوان على البلد الأمين؛ فزعم أمير البحر «سيمور» الراسي بأسطوله في المياه المصرية أن جنودنا قد أخذت تحصن القلاع، وأن في هذا التحصين تهديدا لبوارجه ونذيرا بشر وسوء، وطلب في بلاغ بعث به إلى قائد موقع الإسكندرية الكف عن ذلك التحصين، وإلا أطلق النيران على الحصون فجعلها دكا وحطمها شر تحطيم.

فلما أجيب بأن الأمر لم يكن ما زعم، عاد إلى الوعيد، فقال في بلاغ آخر له بأنه سوف يضرب القلاع في صباح الحادي عشر من شهر يوليو إذا لم يسلم إليه رأس التين لتجريده من السلاح.

وكان هذا تحرشا ظاهرا، واستنفارا بلا سبب؛ فلم يلبث أن اجتمع مجلس الوزراء برياسة الخديو توفيق باشا، وبعث إليه بالجواب التالي:

لم تفعل مصر شيئا يبرر إرسال الأساطيل إلى مياهها، ولم تقدم حكومتها على أمر يستوجب ما طلبه الأميرال سيمور؛ فإن الحصون باقية على حالها، ولم يحدث فيها غير ترميمات تقيها التداعي وتحميها من الانهيار، فضلا عن أننا في بلادنا، ولنا الحق في أن نستعد لكي نرد عادية كل من يحاول تكدير علاقات السلام، ولا يسع مصر ما دامت متمتعة بحقوقها، حريصة على شرفها، أن تسلم حصنا واحدا من حصونها، ولا مدفعا من مدافعها؛ إلا إذا أرغمت على التسليم، وهي تحتج على التصريحات التي أعلنتها اليوم، وتلقي مسئولية جميع النتائج التي تحدث من إطلاق القنابل أو هجوم الأساطيل على الأمة التي تطلق أول قذيفة في السلم على مدينة الإسكندرية الهادئة، منتهكة بذلك حرمة القوانين الدولية وقواعد الحروب.

لقد كان ذلك هو صوت الحق والعدل والقانون والسلام، ولكن القوة الغاشمة لا تحفل شيئا من ذلك ولا تأبه به، فلم تعبأ إنجلترا هذا التحذير الحكيم، وأصرت أساطيلها على ضرب المدينة الوادعة.

ففي بكور اليوم الحادي عشر من شهر يوليو سنة 1882 بدأت أساطيل سيمور ترمي حصون الإسكندرية بشواظ من نار، فأجابتها الحصون بمثلها، ولكن قذائف الأسطول كانت أفتك وأشد حصيدا.

كان ذلك اليوم بداية الاحتلال، ولكنه كان أيضا بداية التمرد عليه، والغضب منه، والدفاع حياله؛ بل بداية الوطنية المصرية في صدق منزعها، وصفاء جوهرها، وجلال معانيها، وكان يوم الشهادة والتضحية والثبات؛ فإن التاريخ ولا ريب سيفرد صفحات نواصع لأولئك القليل من الجند المغاوير، ومساعير الحرب الشم الصلاب الذين استشهدوا في سبيل الدفاع عن الحصون، وأبوا التسليم في المعاقل، وأصروا على أن يصمدوا فيها لقنابل الأسطول البريطاني وقذائفه، حتى تتهدم من فوقهم، وتسقط دكا فوق أشلائهم الممزقة.

Shafi da ba'a sani ba