55

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Nau'ikan

وهكذا ظهر غاندي - الذي عرفناه - ذو العينين السوداوين الناعمتين النجلاوين البارزتين في وجهه الناحل الصغير، وبدنه الهش الدقيق، ليس عليه غير لفافة من قماش خشن تستره وهو فيها أشبه شيء بالعراة الحفاة الضاربين في قلب المجاهل والبيد، هكذا ظهر غاندي الناسك المتبتل المتقشف الذي يأكل الأرز والفاكهة، ويشرب الماء واللبن، وينام على الأرض، وهو قليل النوم، كثير العمل والدأب، كأن ليس لبدنه حق ولا حساب عليه؛ بل هكذا ظهر غاندي الذي شهدناه يكاد يروح أشبه شيء بطفل في سذاجته وبساطته، وبراءة نفسه وطهارة شعوره، بل غاندي الوديع الرقيق الحاشية حتى في معاملة خصومه، الفاتن الشخصية، كما قال جوزف دوك أحد الذين صادقوه ولازموه من الإنكليز، حتى ليستحيل ألد أعدائه مؤدبين حياله من فرط أدبه وسحر جاذبيته، غاندي الصادق الحريص على إخلاصه وصدق فطرته، حتى إن أي تجانف عن الحق - كما قال صديقه الآخر اندروز - لا يجد قبولا لديه بتاتا، وإن كان تافها لا قيمة له.

مهاتما غاندي.

هكذا ظهر غاندي المتواضع الحيي غير المتكلف، حتى ليكاد يبدو أحيانا المتهيب المتردد، وإن أحسست أنت منه النفس الأبية التي لا تقهر ولا تذل، الشجاع الصريح لا يعرف تراخيا ولا مساومة ولا مكابرة في الباطل، أو مداجاة في الخطأ، ولا يعرف النزعات «الدبلوماسية»، بل ينكرها ويمقتها، ولا يعمد إلى التأثير الخطابي بفخم الكلم وحماسة العبارة، وإنما يعافها ولا يتقبلها ولا يفكر لحظة فيها، وينزوي بشعور باطني من مظاهر الحفاوات والترحاب به في المجامع والندوات العامة، ولا يدع دوي الهتاف باسمه، ولا صاخب الصياح من حوله، في حشدة الجماهير، وتزاحم الناس عليه، يحجب صوت ضميره، ويبدد نجوى نفسه التي بين جنبيه.

هذا هو الرجل الذي وصفه «دوك» صديقه بقوله: «إنه ليس بالخطيب المتقد المتحمس، وإنما هو الهادئ الساكن المعتمد في خطابه على مجرد ذكاء سامعيه، ولكن سكينته هذه تضع الموضوع الذي يناقشه أو يتحدث عنه تحت أسطع الأنوار ومتوهج الضياء وفي أصرح البيان، وإن تموجات صوته لا تكاد تختلف أو تتغير، ولكنها مع ذلك الصادقة البالغة الصدق، المخلصة الجهيرة الإخلاص، وهو لا يكاد يحدث حركات ولا إشارات بيديه وذراعيه إذا هو خطب الناس، بل لا يكاد يحرك خالجة فيه، ولا أنملة واحدة من أنامله، وإن كانت كلماته الواضحة، وعباراته القوية الجزلة، وجمله الموجزة القاطعة، تحمل في طياتها قوة الإقناع، وتنطوي في تضاعيفها على روعة الحجة الصادقة وجلال القول الفصل المبين.»

هذا هو الرجل الذي حرك نفوس ثلاثمائة مليون من خلق الله وبعثهم على الثورة، وحفزهم إلى النهوض؛ بل هذا هو الرجل الذي هز الإمبراطورية البريطانية من القواعد، وأدخل على السياسة الإنسانية أقوى دافع ديني شهدته الدنيا من ألفي سنة!

هذا هو المسيح في الوطنية، جعلها دينا من الأديان، وأحاطها بأعمق الإيمان، وحرسها بأروع اليقين.

وهو الآن في الثامنة والستين، إذ كان مولده في شمال الهند في اليوم الثاني من شهر أكتوبر سنة 1868، وكان منشأه في قوم أخيار صالحين، تمتد تجارتهم ما بين عدن وزنجبار، وكان والداه من الخاصة، ينزعان نزعة استقلالية حرة في حياتهما، حتى لقد اضطرا يوما من الأيام إلى الفرار نجاة والتماس خلاص، وكانا يدينان بمذهب الأحمسا (Ahimsa) ، وهو مذهب هندوكي ينادي بتحريم الأذى لكل ما فيه روح وحياة، بل هو ذلك المذهب القائم على الوداعة والحب الذي قدر لغاندي أن يكون المنادي به في العالم كله، والذي أدمجه فيما بعد في عقيدته الوطنية الجديدة؛ فسمي من ذلك الحين «بالمقاومة السلبية»، أو «الرغبة الكلية عن العنف والعدوان».

وقد سافر إلى إنجلترا لاستكمال دراسته وهو في التاسعة عشرة من العمر، وكان قد تزوج وهو صبي صغير في الثانية عشرة على عادة قومه، وإن كان المتأفف الكاره لهذا البكور في القران، فالتحق أولا بجامعة لندن، ثم درس فيما بعد الحقوق، وعاد إلى الهند في سنة 1891 بعد قرابة أربع سنوات قضاها في سبيل العلم مغتربا، وهو يومئذ معجب بالحياة الإنكليزية، متعشق لحضارتها الزاهرة، وإن ظل الحريص على موثقه لأمه وعهده في الحرص على دينه.

ولم يلبث أن نزح إلى جنوبي أفريقيا، حيث كان ألوف من أهل الهند قد استوطنوا التماس الرزق ، وبحثا عن القوت والمعاش؛ فوجد الحكومة تضطهدهم وتطغى عليهم بما تصطنع في تكريههم المقام بأرضها من شواذ القوانين.

عند ذلك بعثه غضبه لكرامة بني قومه على الدفاع عن أولئك المظلومين المعصوف بهم، فلم يحفل بما كان يكسبه من صناعة المحاماة يومئذ، وكان مورده منها نحو خمسة آلاف أو ستة آلاف من الجنيهات في السنة، وآثر الفاقة وارتضى الحرمان، مودعا النعماء، مغادرا حياة الرغد؛ ليقاسم بني وطنه الألم والجوع والظلم والتشريد.

Shafi da ba'a sani ba