وفي المساء اعتقلوا مصطفى النحاس، فما جزع ولا فرق، ولا حفل بما صنعوا به، وإنما تلقى الجنود برباطة جأش، وابتسام رهيب، وشجاعة عجيبة، وثبات رفيع، وسكينة بالغة، كما ألقوا القبض على بقية أعضاء الوفد الآخرين فكان جلدهم حاضرا، وموقفهم محاطا بروعة وجلال.
وفي منفى سيشيل تبتدئ قصة إنسانية من أرفع مآسي التاريخ، قصة أبطال وطنيين حارت بريطانيا ربة الحول والطول والسلطان في أمر مقاومتهم، فتوسلت بأصغر وسيلة للخلاص منهم، فزادتهم بصغار وسائلها قوة على قوتهم، وثباتا إلى ثباتهم، وخرجت هي من المحاولة بفشل ساخر من قوتها، ضاحك من سلطانها وجبروتها، وتركت تجربتها في النهاية بخزي ظاهر، وخجلة واضحة، وتراجع صغير .
في منفى سيشيل، وهي إحدى جزر المحيط الهندي، تجلت مبالغ شجاعة الشجعان، وبطولة الأبطال، ومصبر الصابرين؛ كما برز الإخاء الإنساني في أوضح صوره، والوفاء في أبلغ مظاهره، والتضحية الوطنية متجاوزة أبعد الحدود.
وقد وصف مكرم لحظة من لحظات المسير إلى ذلك المنفى القصي المجهول، بلغة عاطفته، وعاطفة لغته، فكانت كلمته في ذلك سحر البيان:
لا تقاس الأيام بمجموعها، بل بنوعها، فقد تمر عليك أيام لا تحسها؛ لأنه لا نصيب لك فيها، ولا يحس بك أحد. وقد تمر أيام تبذل فيها من العمل ما يملأ وقتك، ومن الشعور ما يملأ نفسك وحسك، وعندئذ يحس بك كل أحد ...!
تلك الأيام هي التي نعيش فيها للوطن، فيعيش الوطن فينا وبنا.
تلك الأيام قد تكون ساعة، أو لحظة، نتعلم فيها كيف يكون حب الوطن طاهرا ... فوالله إن ساعة من طهر، لهي خير من ألف شهر ...!
دعوني أقص عليكم كيف مرت بي هذه الساعة الطاهرة، فإني لن أنساها مدى العمر: «في ليلة حالكة السواد، شديدة البرد، خرج ستة من المصريين يتقدمهم رجل كأن الله خلق الاستقامة من قوامه، والهيبة من وقع أقدامه، رجل توجه الشيب شيخا جليلا، فبلغ من العمر كثيرا، ولم يبلغ منه العمر كثيرا ولا قليلا، هذا الرجل هو سعد زغلول، وكان بجوار سعد رجل مد إلى الأمام صدره، كأنه يرى في عيني فكره عدوا يتحداه ولا يخشى خطره، وهذا الرجل هو مصطفى النحاس، وإلى جوارنا ثلاثة اختارهم الله قبلنا إلى خير جوار، هم المغفور لهم المبكى عليهم، عاطف بركات باشا، وفتح الله بركات باشا، وسينوت حنا بك. وكان حولنا نحن الستة ضباط وجنود من الإنجليز مدججين بالسلاح، فسرنا وساروا معنا من معسكر الجيش الإنجليزي في السويس إلى ميناء السويس في طريقنا إلى المنفى البعيد، إلى المجهول المجيد!
ولما وصلنا الميناء وجدنا زورقا أعدته السلطة العسكرية لنقلنا إلى الباخرة في وسط البحر، فركبنا الزورق الصغير ولم يكن فيه إلا نحن الستة وعدد كبير من الضباط والجنود الإنجليز، وبحار مصري واحد بجوار «الدفة».
وبينما نحن في الزورق في طريقنا إلى الباخرة، سمعنا في سكون الليل هامسا محتبسا، فنظرنا وإذا بالبحار المصري الجالس بجوار الدفة قد وضع رأسه بين يديه وهو يبكي بكاء مرا.
Shafi da ba'a sani ba