الحقائق السامية؟ وهل بذل ابن سينا من عقله ومنطقه ما يؤيد تلك الدعامات الثلاث التي لا بد منها لصحة الأديان وقداسة النبوة وجلال الرسالة؟.
لست الآن بصدد الحديث عن منهج ابن سينا في إثبات ذلك كما أنني لست بصدد الكشف عن قوة براهينه أو ضعفها فقد حاولت ذلك كله في كتابي (ابن سينا بين الدين والفلسفة) الذي أرجو أن يكون قد وصل الآن إلى أيديكم ولكني أسجل هنا فقط ما آمن به الرجل من حقائق وما وصل إليه من نتائج عاش ومات وهو يقوم بتأييدها والعمل على إقرارها.
1 - يعتقد ابن سينا كما يبدو ذلك واضحا في فلسفته - بوجود إله واحد له الملك والجود ويسمو بحقيقته عن كل موجود. كله حق وكله خير. منزه عن النقص وبعيد عن الشر. جدير بالحب والعشق والإجلال لأنه على أسمى ما يكون الجمال والجلال. مصدر الخير ومبعث الرحمات وهو وحده الدليل على غيره من الكائنات. إلى غير ذلك من الصفات التي يقصر دونها وصف المتكلمين وتترك وقدة الحب والشوق في قلوب السالكين.
وكيف يمكن في رأيه إسناد وجود الأشياء إلى الأشياء نفسها على ما فيها من نظام وغائية لا يمكن أن تكون نتيجة الاتفاق والمصادفة؟ وكيف ننكر - كما فعل أرسطو - القول بالخالقية ونقصر العلاقة بين الله والعالم على العشق والجاذبية مع أن تعدد العالم وتغيره ناطق وإمكانه ناطق باحتياجه إلى مبدأ وعلته؟.. وكيف نسلم مع أرسطو الذي يقرر في " كلام عامي جدا " إن الله لا يعلم العالم وبالضرورة لا يعنى به وخصائص الله من اللطف والتجرد تقتضي هذه المعرفة بل وتقتضي عنايته. لأن العناية معناها العلم بالكل على حسب النظام الأكمل علما يترتب عليه صدور الكائنات عنه على أكمل ما يرجي منها وما قدر لها. فكل شئ قد أخذ مكانه في سجل الوجود وكل كائن قد ساهم في إبداع لحن الخلود.
وليس في هذا الوجود على رأيه شرور وكيف يمكن أن يلحق الشر صنعة الخالق المنزه عن العيوب. فما يخيل للانسان أنه شر لا شر فيه بحسب حقيقته وإنما يعرض له الشر من ظروفه وبيئته. فسبحان الخالق الذي شمل برحمته جميع الكائنات وأفاض الجمال والحب على سائر الكائنات. فأي إيمان بالخالق أعمق أو أجمل من إيمان ابن سينا به؟.
2 - وابن سينا في سبيل تحقيق أهداف الدين يخاطب الإنسان بلغة الإنسان فيلفته في قوة إلى ما في حياة الفكر والفضيلة من سعادة وروعة منددا بحياة الشهوة وما فيها من انحطاط وضعة ومتخذا من تجارب الإنسان نفسه دليله على ذلك فيخاطبه بقوله: إنك إذا تأملت عويصا يهمك وعرضت عليك شهوة وخيرت بين الطرفين استخففت بالشهوة إن كنت كريم النفس وكيف لا تستخف بالشهوة و مكانك في سلم الوجود وسط بين عالم الظلمة وعالم النور وحياة الشهوة تهبط بك إلى هذا الوجود الأدنى وحياة الفكر والفضيلة ترتفع بك إلى المقام الأعلى فأي المقامين أجدر بك يا خليفة الخالق في الأرض؟ قد تظن أن حياة الشهوة تجلب لك من اللذة مقدارا أكبر مما تجلبه حياة الفكر والفضيلة وهذا وهم قاتل وسراب خداع فاللذة في حقيقتها هي إدراك كمال خيري للمدرك فإذا كان الادراك أكمل والمدركات أكثر وأشمل كانت اللذة الناتجة عن ذلك بداهة أعظم وأبهج. والجوهر العاقل أمعن في معنى الإدراك من الحواس. والمدركات العقلية أعلى كيفا من المدركات الحسية بل وأكثر عددا. فكيف تعرض بعد ذلك عن حياة الفكر والفضيلة مع أن هذه الحياة الفاضلة العقلية بمقتضى هذا المنطق تحقق لك سعادة أوفر وأدوم. وليس ذلك فحسب فحياة الشهوة اشتهاء دائم.
والاشتهاء ألم لا يهدأ حتى يشبع. ووسيلة الشبع البدن والبدن يفنى بالموت وتبقى النفس التي تعودت على هذا النوع من الشهوة فكيف تحصلها وقد انعدمت وسيلتها من الأعضاء والآلات؟ وكيف لا تطلب الكمالات العقلية التي تستمد وجودها من الجوهر العاقل فتسعد أبدا لبقاء مصدرها وهو النفس الخالدة. فأكثر الناس شقاء في الآخرة - عند ابن سينا - هم الجهلة الفساق الذي نبهوا إلى كمالاتهم من الحق والخير فأعرضوا وأشد الناس بهجة ونعيما هم العارفون المتنزهون الذين جمعوا بين كمال العلم والعمل. فطوبى لهم يوم أن يفتح لهم الحق صدره ويمد إليهم يده ويشملهم بالحب ويحوطهم بالرعاية ويسمح لهم بالجوار. فأي منطق في الدعوة إلى الخير أقوى من منطق ابن سينا وأي إيمان بالترابط بين نوع الحياة في الدنيا ونوعه في الآخرة أقوى من هذا الإيمان؟.
3 بقيت بعد ذلك الدعامة الثالثة للأديان وهي النبوة والإيمان بالمعجزة وابن سينا في هذه المسالة بالذات استطاع أن يمنح الإسلام وغيره من الأديان ما يجعلها مقبولة لدى العقلاء والمفكرين. فهو يتساءل في وجه المنكرين لإمكانية الاتصال بعالم السماوات والاطلاع على المغيبات قائلا ما الذي يمنعكم من التصديق بامكان ذلك مع أنه واقع فليس أحد من الناس إلا وقد جرب ذلك في نفسه تجارب ألهمته التصديق فكم من مرة يرى الإنسان في نومه ما سيكون منه أو ما سيكون له. وإذا كان لنا ونحن أناس عاديون أن ننتقش بهذه المعلومات ونحن في حالة النوم فما الذي يمنع النفوس الصافية أن تنتقش بذلك في حال اليقظة والنوم معا إذا كانت معرضة عن جانب الفناء إلى جانب البقاء؟. ويقول لهؤلاء المتشككين في المعجزة: وهل كشفت الطبيعة عن جميع أسرارها؟ وإذا كان في الكون ما يعجز الإنسان عن تفسيره أو تعليله فلماذا نتخذ من مخالفة المألوف دليلا على عدم الوقوع والاستحالة. أليس يمسك المريض عن الطعام زمنا لو أمسكه السليم لهلك، أوليس يستطيع الإنسان في حالة الغضب وسورة الانفعال أن يأتي بالغريب من الأفعال وإذا كان التفاوت بين الحالين والأثرين - أعني حالة الغضب وحالة الهدوء - واقعا ملموسا فما الذي يمنع العقل من التصديق بأن النبي يستطيع أن يأتي من الأعمال ما يعتبر معجزة حقا في حال اشتغاله بالملأ الأعلى وفرحه برؤية الحق أو عند إحساسه بعزة دينية أو حمية إلهية؟ ولم يكتف ابن سينا بذلك بل أضفى على الأنبياء أسمى صفات بشرية وحدد لهم من الخصائص ما لا يعرفه حماة العقيدة أنفسهم. فالنبي في نظره يتمتع بقوة محركة تستطيع أن تخرق العادة وتفعل المعجزة وله إلى جانب ذلك قوة قدسية بها يدرك الحق حدسا من غير أعمال فكر ولا روية كما يفعل الفلاسفة. وله أيضا مخيلة قوية تصله بعالم السماء في أي وقت يشاء. فهو أرقى من الفيلسوف إدراكا ووسيلة. ومع ذلك فهو أرقى منه مهمة ووظيفة. لأنه يدرك الحق ويعلمه.
ويعصم نفسه من الرذيلة ويجاهد في سبيل عصمة غيره. ومع ذلك فالثابت من تاريخ الرجل أنه رغم أعبائه وفوق أعبائه كان يقوم بواجباته الدينية وأنه قبض إلى ربه والمصحف بين يديه.
فلم يكن ابن سينا ملحدا يرمي إلى هدم الدين كما يرى ابن تيمية. ولم يكن شيطانا يسعى لإفساد عقائد الناس كما يرى ابن الصلاح. ولم يكن إنسانا يستحق اللعنة والمقت والكراهية كما يرى الرازي وغيره من حماة العقيدة ورجال الشريعة رغم انتفاعه بمنطقه وفلسفته ولكنه كان إنسانا يخطئ ويصيب وهدفه
Shafi 31