وفتح حديث في السماع حديثه * شهي إلى يوم المعاد معاده أراح قلوبا طرن من وكناتها * عليها فوافى كل صدر فؤاده فيا ظفرا عم البلاد صلاحه * بمن كان قد عم البلاد فساده ثم بما أحيا هذا النصر من الآمال البعيدة:
ولله عزم ماء " سيحان " ورده * وروضة " قسطنطينية " مستراده ومطلع هذه القصيدة:
هو السيف لا يعنيك إلا جلاده * وهل طوق الأملاك إلا نجاده وهو مطلع خارج عن الأسلوب التقليدي الذي كان يفتتح القصائد بالغزل، وانما هو مطلع مستمد من روح الملحمة متأثر بجوهرها، وهكذا بقية المديح في القصيدة، فقد خرج عن كونه تعدادا لفضائل ابتذل تعدادها في كل ممدوح، بل هو وصف لكفاح قاده الممدوح و حقق الظفر فيه، وتعبير عن آمال مكبوتة، وهذا كله يعود إلى جذور الملاحم و أصولها.
وهذا عين ما نراه عند ابن منير الذي قال من قصيدة طويلة:
والرها ان لم تكن إلا الرها * لكفت حسما لشك الممترين هم " قسطنطين " ان يفرعها * ومضى لم يحومنها قسط طين ولكم من ملك حاولها * فتحلى الحين وشما في الجبين ثم ينتقل إلى الحديث عن نتائج فتحها وأثر هذا الفتح عند الفريقين:
ان حمت (مصر) فقد قام لها * واضح البرهان ان (الصين) صين برنست رأس " برنس " (1) ذلة * بعد ما جاست حوايا " جوسلين " (2) " وسروج " مذ وعت اسراجه * فرقت جماعها عنها عضين تلك اقفال رماها الله من * عزمه الماضي بخير الفاتحين سل بها " حران " كم حرى سقت * بردا من يوم ردت " ماردين " سمطت أمس " سميساط " بها * نظم جيش مبهج للناظرين وغدا يلقى على " القدس " لها * كلكل يدرسها درس الدرين ويموت عماد الدين اغتيالا ويليه ابنه نور الدين ويستطيع السيطرة على رقعة ممتدة من أعالي دجلة شمالا إلى منابع الأردن جنوبا، ويكون الشاعران له كما كانا لأبيه، ويصطدم نور الدين بالفرنج ويفوز عليهم في معركة " أنب " ويقتل " البرنس " صاحب أنطاكية في المعركة، وتتحقق بشارة ابن منير المتقدمة " ويتبرنس " رأس " البرنس " لا بالذلة وحدها بل بالمنية، وهكذا نرى كم كان ذلك الشعر صدى للوجدان العربي والضمير الاسلامي في تخيل الآمال البعيدة والتلهف على المطامح القصية. فقد كان " البرنس " كما يقول ابن الأثير:
" عاتيا من عتاة الفرنج " وكان الخلاص منه احدى أكبر الأمنيات.
وقد رأينا كيف ان القيسراني كان يلوح في قصيدته الدالية لا بالخلاص في الوطن فحسب بل بالنفاذ حتى إلى القسطنطينية:
ولله عزم ماء سيحان ورده وروضة قسطنطينية مستراده كما لوح ابن منير بالنصر على البرنس ثم بالنفاذ إلى القدس:
وغدا يلقي على القدس لها * كلكل يدرسها درس الدرين وتتالت بعد الرها المراحل المرجوة مرحلة مرحلة وستظل تتوالى ولكن دون ان يقدر للشاعرين أن يعيشا ليريا تواليها، إذ انهما ماتا قبل نور الدين.
واستأثرت معركة أنب ومقتل البرنس بشاعرية الشاعرين وقفزت بالمطامح من القدس والقسطنطينية إلى روما نفسها فقال لقيسراني من قصيدة طويلة جرى فيها على ما جرى عليه في القصيدة الدالية من الافتتاح بالشعر العسكري لا الغزلي:
مذي العزائم لا ما تدعي القضب * وذي المكارم لا ما قالت الكتب وهذه الهمم اللاتي متى خطبت * تعثرت خلفها الأشعار والخطب وفيها يقول:
أغرت سيوفك بالإفرنج راجفة * فؤاد رومية الكبرى لها يجب قل للطغاة وان صمت مسامعها * قولا لصم القنا في ذكره أرب أغركم خدعة الآمال ظنكم * كم اسلم الجهل ظنا غره الكذب أجسادهم في ثياب من دمائهم * مسلوبة، وكأن القوم ما سلبوا انباء ملحمة لو أنها ذكرت * فيما مضى نسيت أيامها العرب فملكوا سلب " الابرنس " قاتله * وهل له غير " أنطاكية " سلب فانهض إلى المسجد الأقصى بذي لجب * يوليك أقصى المنى فالقدس مرتقب ونحن نلمس في هذا الشعر شيئا فوق المدح. اننا نلمس احساسا متأججا يثيره الذل الذي استحال عزا والهوان الذي عاد فتحا، اننا نسمع أهازيج النصر راعدة مدوية وهتافات الظفر صارخة متوعدة تزري بالغاصبين وتدل إلى هلعهم وتتغنى بالراجفة التي وجب لها حتى قلب (رومية الكبرى) القصية، ويجئ ذكر روما هنا طبيعيا سائغا، لا نبو فيه ولا دلالة تبجح فارع مستكره.
ثم هذه الإشارة إلى الخطوة التالية المأمولة إلى (سلب الابرنس)، هذا السلب الذي يسمو عن المادة ومغرياتها، ان السلب في هذا الصراع الرهيب هو أغلى ما ملك (البرنس) وقوم البرنس: " هو أنطاكية " التي كان سقوطها فاتحة السقوط العام وسيكون نهوضها فاتحة النهوض العام ثم الطريق إلى المسجد الأقصى بالجيش الهادر المزمجر ذي اللجب، فالقدس ترتقب أهلها وتنتظرهم.
اننا نرى في هذا الشعر، الشعب كله ينطلق في صوت واحد وشعار واحد: إلى الأمام، إلى أنطاكية، إلى القدس...
ينطلق بذلك لا غرورا وغباء، وجهلا، بل يقينا وعقلا وتفهما.
ويقول ابن منير من قصيدة طويلة افتتحها كزميله، لا بالغزل بل بما يناسب حالة الكفاح التي كانت فيها البلاد:
أقوى الضلال وأقفرت عرصاته * وعلا الهدى وتبلجت قسماته فتح تعممت السماء بفخره * وهفت على أغصانها عذباته وسقى " البرنس " وقد تبرنس ذلة * بالروح ممقر ما جنت غدراته تمشي القناة برأسه وهو الذي * نظمت مدار النيرين قناته وتتابع الفتوح ويلي النصر النصر فينطلق ابن منير حاملا في قصيدة واحدة قصص الأحداث متنقلا من مكان إلى مكان:
أعدت بعصرك هذا الأنيق * فتوح النبي واعصارها فجددت اسلام " سلمانها " * وعمر جدك " عمارها "
Shafi 17