وأحب أنواع الموسيقى إلي أبطسها وأسرعها تأثيرا في العواطف، وعندي أن الموسيقى متعة للنفس وراحة للخاطر المكدود فإذا تعقدت ألحانها وأصبح تأليفها عويصا يحتاج في إدراك مراميه إلى كد الذهن وفرط التأمل فقد خرجت الموسيقى عن حدودها واتجهت إلى غير وجهتها.
ليس أفضل الموسيقى عندي ما انطبق على قواعد الفن، فلم يدركه شذوذ ولم يخالف قانونا من قوانين الصناعة لأنني لا أعرف هذه القوانين ولا أستطيع أن أميز الألحان التي تراعيها من الألحان التي تجاوزها، ولكنني أحس لبعض الأنغام بطرب لا أحس به لسائرها، وأذكر أنني سمعت بعض المغنين العصريين في بداية عهدهم يوم كان الفن لم يقيدهم تقييدا ولم يحطهم بالسلاسل من قواعده والأغلال، فكنت يومئذ معجبا بهم كل الإعجاب وكان أشد إعجابي بهم حين تثور عاطفة من عواطفهم عند الإنشاد فتسمو بألحانهم وأنغامهم صعدا إلى ما وراء القواعد الفنية. ولما سمعت هؤلاء المغنين بعد أن حذقوا الفن وأتقنوا أصوله وأصبحوا لا يسيرون في أغانيهم إلا على صراط ممدود، أصبحت آسف على تلك الوثبات التي كانت تطير بهم وتطير بنا معهم إلى آفاق لا تعرف الحدود.
قد يكون بحكم الإلف ما يروقني من الألحان الشرقية أكثر مما يروقني من غيرها، لكنني كثيرا ما يذهب بي الطرب إلى غايته عند سماع قطع موسيقية أوربية؛ ففي الموسيقى الغربية كما في الموسيقى الشرقية أنغام إنسانية من شأنها أن تهز العواطف البشرية هزا عنيفا، أو ترد العواطف الهائجة إلى هدوء مريح. والموسيقي العبقري هو الذي يستطيع بموهبته أن يهتدي إلى هذه الأنغام فيؤلف منها نظما متسقا يحدث أثره الموسيقي البليغ في نفوس البشر جميعا.
ويخيل إلي أن عبده الحمولي كان عبقريا من هذا الطراز فهو قد استخلص من الأغاني المصرية التي كانت معروفة لعهده كل ما يصلح أن يكون لحنا موسيقيا إنسانيا، وألف من ذلك على قلته أغاني نقل بعضها من أناشيد الخلود، واقتبس عبده الحمولي مما وصل إليه من أغاني الأتراك ما يلائم مذهبه، فجمع ألحانا إنسانية أيضا لم يتناولها تقليدا ولكنه نفذ إلى أعماقها وصقلها بذوقه وفنه صقلا حتى تماثلت بما تم له من الألحان المصرية، وألف من هذا وذاك ترانيم بهرت ذوق الترك والعرب، ولو أن عبده الحمولي عرف الموسيقى الغربية لاستخلص منها أيضا أبعدها عن التعقيد والتكليف وأدناها أن يكون غذاء للروح الإنساني، وراحة ونعيما، ثم لسلط عبقريته على تلك الخلاصة، فلم تدع فيها شذوذا ينبو عن ملاءمة ما تم له من التأليف بين الموسيقى المصرية والموسيقى التركية، ثم لألف بعد ذلك من موسيقى الشرق وموسيقى الغرب تلك الموسيقى الإنسانية التي تهفو إليها الفطر في الناس جميعا ولا تهتدي إليها سبيلا.
هذا النزوع إلى إيجاد موسيقى إنسانية تجتمع الأذواق كلها على الإعجاب بها والشعور بجمالها على أساس ما أبقت الأيام في طيات الموسيقى المصرية والذوق المصري من آثار الحضارات الماضية والعصور الخوالي هو رسالة عبده الحمولي النبيلة التي أدى بعضها وترك للأعقاب أن يتموها.
وكان عبده الحمولي نبيلا في مذهبه الفني كما كان نبيلا في أخلاقه وشمائله، وفي سيرته بين الناس، وإنك لتدرك النبل في جوهر صوته وفي كيفية أدائه واختباره للأنغام وتأليفه بين الألحان. كان يتسامى بفنه عن التبذل والتكلف فلا ينحدر في غنائه إلى مثل التكسر في النبرات المائعة الذليلة. «ومن أكبر الأدلة على استعداده شدة طربه من الغناء كأنه كان يغني ليطرب نفسه. وشغف المرء بصناعته وتلذذه بممارستها يدلان على انطباعه عليها واقتداره على إتقانها».
هذا ما يقوله جرجي زيدان في تراجم مشاهير الشرق وأين ممن يغني ليطرب نفسه؟
أولئك الذين إذا تغنوا في محفل بصبصت عيونهم يمينا وشمالا، وتمايلت أخادعهم صيدا ودلالا، وتصنعوا العبوس تارة، ثم تصنعوا الابتسام كأنما كل جهدهم مصروف إلى إلهاء الناس بتقلبات سحنهم وحركات جسومهم، وكأنما كل هم سامعيهم أن يتلقفوا من ثغورهم بسمة طائرة أو يغنموا من عيونهم لمحة راضية أو يروا في تزايل أعضائهم وضعا معجبا.
لم يكن كذلك عبده الحمولي الذي كان إذا شدا توجهت نفسه إلى الفن وحده، يريد أن تستوفي الصناعة حقها، وأن تبرز الألحان مستكملة جمالها فإذا استوت له القطعة الموسيقية البارعة كان أول مدرك لسحرها وروعتها وأول مستمتع بلذتها وبهجتها.
فليس يستجدي من الناس إعجابهم، ولكنه يرى من البر بالناس أن يمتعهم بهذه اللذة الفائقة، وأن يشركهم في تلك السعادة العالية.
Shafi da ba'a sani ba