ليه يا حمام بتنوح ليه، فكرتني بالحبايب
يا هلترى نرجع الأوطان ولا نعيش العمر غرايب
وذلك فضلا عن أنها كانت تغني أدوار عبده وكانت تقتصر في الليالي التي تغني فيها على دورين اثنين فقط تلبية لطلبات الجماهير الذين ينزعون عن سماع غيرهما لتفننها في النغمات وقت التكرار، وقد روى لي الأستاذ: محمد الشربيني ما يأتي:
جمع قبل الزواج عبده وألمظ عرس فخم بدار وجيه، فبدأ عبده فاصلا غنائيا خلب عقول الحضور من تلامذة المدارس العليا والحربية وهواة ومحترفين. ولما انتهى منه قام عمران مطيب «ألمظ» يتمايل كعزة الميلاء بملابسه الغالية، والخواتم بأصابعه، والكتينة والساعة الذهب على صدره، وأخذ يخطب الجماهير كعادته المألوفة خطبة بمثابة مقدمة وقال «قولي لنا يا ست «ألمظ»الدور الفلاني» وسماه حسب طلب الحضور، فأجابته وقالت «رايحه أقول إيه بعد إللي قاله سي عبده» فرد عليها وقال: قولي إللي تقوليه. قولي يا فجل أخضر. فما لبثت تفكر في ذلك مدة دقيقتين حتى رتبت للفجل دورا غنته ونال الاستحسان العام وكان مسك الختام، ومن مزاياها أنها كانت تغني أحيانا في سراي الخديو إسماعيل في حضرة حرمه المصون وهي تلعب النرد معه، مع رفع التكليف أو تلوح منديلا بيدها بدون أن تتحمل من تصعيد غنائها أو تعاني فيه جهدا على حد ما كان يطلق عبده صوته في الفضاء متجاوزا مطارح النسر، وهو يلعب بحبات السبحة الكهرمان أو العنبر التي كان يفركها بكلتا يديه ويشم رائحتها، وكان لنغماتها الرنانة ما يذبذب في آذان سامعيها مدة من الزمن، كما كان لصوتها من صدى يتكرر حدوثه بنفسه عدة مرات في السراي حين الغناء، ويكون سببه وجود سطحين متآزيين على جانبي الصوت، يرد كل منهما صداه إلى الآخر كما يكون مثل ذلك في المرئيات عند تقابل مرآتين متآزيين.
وكانت قمحية اللون واسعة العينين كثيفة الحاجبين مسحاء الثدي، وكان لها من عذوبة المنطق وجمال العقل والقلب ما يجعل لها أسمى موضع من النفوس، إذ أن جمال العقل والقلب سرمدي، وهو لأفضل من جمال الجسم الباطل الذي عرفه الفلاسفة وعلماء النفس ببغي قصير الأمد وغدر صامت وأذى لاذ فلأجل ذلك أحبها عبده حبا انطوت تحته نغمة من نغمات حب الوالدات وحنانها على الفطيم (وشبيه الشكل منجذب إليه) ومنعها من الغناء منعا باتا بعد أن تزوجها، وكان تخته ليلة زفافها إليه مؤلفا من أكابر العازفين أمثال: أحمد الليثي العواد، والجمركشي، وإبراهيم سهلون الكماني، ومحمد خطاب شيخ الآلاتية. وأبدع عبده في الغناء إبداعا أخذ بمجامع القلوب، وكان مدلوله دمعة الباكي، وقبلة العابد، وتعزية الحزين، وهادي المسافر، ورسول السلام، ومنعش المكتئب، ومحمس الجبان، ولا أبالغ إذا وصفت غناءه في هذا المقام كبستان فيه الزهور والورود والرياحين يفوح شذاها على الحاضرين، أو كمعرض تعرض فيه جميع النغمات الموسيقية التي خلقها الله وحصرها في صوت الإنسان حتى أضحى في الشرق مهوى الأفئذة وبهجة الناظرين.
وقد روى لي الأستاذ محمد الشربيني أن الخديو إسماعيل كان يأنف من عادات العامة في العويل والصراخ وراء الميت، ويتشآم من ذلك؛ فأصدر أمره الكريم بألا تمر الجنازات بساحة عابدين، ولما سمع بوفاة «ألمظ» رخص لآلها بأن يمر جثمانها منها، ولدى وصوله أطل من الشرفة بالسراي وترحم عليها مكبرا موسيقاها العربية، وكان ساكن الجنان الخديو إسماعيل ولعا بالموسيقى العربية؛ فعين للمرحوم عبده 15 جنيها مرتبا شهريا، ولكل من «ألمظ» وأحمد الليثي وإبراهيم سهلون ومحمد خطاب 10 جنيهات، واستمروا يتقاضون هذه الرواتب بعد تولي الخديو توفيق الأريكة الخديوية، وانقطعت في عهد الخديو عباس. أما ساكن الجنان السلطان حسين فكان ولعا بالموسيقى العربية (وهذا الشبل من ذاك الأسد) إلى أبعد مدى بدليل أنه استدعى قبل وفاته بأربعين يوما تختا مصريا مكونا من الأساتذة: محمد العقاد القانونجي، وسامي الشوا أمير الكمان، وعلى عبد الباري المطرب، وحسنين العواد، والبرزي العازف على الناي، فغنوه غناء عربيا ذا صبغة شرقية وروح مصرية، انفسح له صدره فأجزل لهم العطاء وأكرمهم إكرام إسماعيل أبي الأشبال، وصاح عند انصرافهم قائلا لهم اطلبوا إلى الله أن يطيل في عمري ليتسنى لي القيام بإحياء الموسيقى العربية وتجديد شبابها وإعادة مجدها الأثيل، ولم تعقب «ألمظ» نسلا بل تركت لزوجها الحسرة على فقدها. كما أنها تركت له جواهر ونقودا ومفروشات وشالات كشمير زين بها رياشا لعدة غرف وبهو وردهة منزله وستائر إلخ ومنزلا بدرب سعادة باعه قبل سفره إلى أوربا للاستشفاء، وقد غنى عقب وفاتها المذهب الآتي على نغمة العشاق:
شربت الصبر من بعد التصافي
ومر الحال ما عرفتش أصافي
يغيب النوم وأفكاري توافي
عدمت الوصل يا قلبي علي (دور)
Shafi da ba'a sani ba