بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
(وقوت الصَّلَاة)
قَالَ: هَكَذَا وَردت الرِّوَايَة من طَرِيق عبيد الله وَجَمَاعَة من رُوَاة الْمُوَطَّأ. وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن بكير: " أَوْقَات الصَّلَاة ". وَكِلَاهُمَا صَحِيح، إِلَّا أَن أوقاتا جمع لأدنى الْعدَد، وَهُوَ مَا دون الْعشْرَة. فَإِن قَالَ قَائِل: فَإِن أدنى الْعدَد هَاهُنَا أشبه وأليق بِهَذَا الْموضع لِأَن أَوْقَات الصَّلَاة خمس، فرواية ابْن بكير أحسن من رِوَايَة عبيد الله وَمن تَابعه؟ فَالْجَوَاب عَن ذَلِك من وَجْهَيْن:
1 / 33
أَحدهمَا: أَن الْجمع الْكثير قد يسْتَعْمل مَكَان الْجمع الْقَلِيل، كَمَا يسْتَعْمل الْقَلِيل فِي بعض الْمَوَاضِع مَكَان الْكثير. فقد حكى الْخَلِيل وَغَيره أَنهم رُبمَا قَالُوا: ثَلَاثَة كلاب وَالْقِيَاس أكلب،، وكما قَالُوا فِي جمع يَوْم: أَيَّام. فأوقعوها للكثير والقليل. وَلَا جمع ليَوْم غَيرهَا. وكما قَالَ تَعَالَى: ﴿وهم فِي الغرفات آمنون﴾ . فأوقع الغرفات للكثير لِأَن غرفات الْجنَّة لَا نِهَايَة لَهَا. وَلَا خلاف بَينهم فِي أَن الْجمع السَّالِم حكمه أَن يكون للقليل وعَلى هَذَا حملُوا قَول حسان: [بن ثَابت]:
(لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من بحره دَمًا)
فأوقع الجفنات والأسياف للعدد الْكثير، لِأَن هَذَا مَوضِع افتخار لَا يَلِيق بِهِ الْجمع الْقَلِيل، فَهَذَا أحد الجوابين.
وَالْجَوَاب الثَّانِي: إِن أَوْقَات الصَّلَاة وَإِن كَانَت خَمْسَة، فَإِنَّهَا تَتَكَرَّر فِي كل يَوْم وَلَيْلَة وتتوالى، فَصَارَت كَأَنَّهَا كَثِيرَة وَإِن كَانَت خَمْسَة. وَهَذَا كَقَوْلِهِم: شموس وأقمار، وَلَيْسَ فِي الْوُجُود إِلَّا شمس وَاحِدَة، وقمر وَاحِد. فجمعوهما لأجل ترددهما مرّة بعد مرّة.
وَيجوز أَن يُقَال: إِن هَذِه الصَّلَوَات الْخمس تعدل خمسين صَلَاة، لِأَنَّهَا فرضت فِي أول أمرهَا خمسين، ثمَّ ردَّتْ إِلَى خمس تَخْفِيفًا على
1 / 34
الْعباد وَجعل أجرهَا وثوابها كثواب الْخمسين. " أَلَيْسَ قد علمت " كَذَا جَاءَت الرِّوَايَة وَهِي جَائِزَة إِلَّا أَن الْمَشْهُور فِي [الِاسْتِعْمَال الفصيح] أَلَسْت للمخاطب، وَإِنَّمَا يُقَال، أَلَيْسَ للْغَائِب. وَقَول جِبْرِيل ﵇: " بِهَذَا أمرت ".
روينَاهُ بِفَتْح التَّاء، أَي: بِهَذَا أَمرك رَبك، وَمن رَوَاهُ بِالضَّمِّ فَهُوَ إِخْبَار عَن نَفسه، أَي: بِهَذَا أَمرنِي رَبِّي أَن أعلمك. " أَو إِن جِبْرِيل "
[الْوَجْه] كسر إِن هَاهُنَا لِأَنَّهُ مَوضِع يصلح فِيهِ الِاسْم وَالْفِعْل أَلا ترى أَنه قد كَانَ يجوز لَهُ أَن يَقُول: " [أَو جِبْرِيل] هُوَ الَّذِي أَقَامَ " وَكَانَ يجوز [أَن يَقُول]: " أَو أَقَامَ جِبْرِيل " وكل مَوضِع يصلح فِيهِ اسْتِعْمَال الِاسْم تَارَة وَالْفِعْل تَارَة فَإِن فِيهِ مَكْسُورَة، فَإِذا انْفَرد الْموضع بِأَحَدِهِمَا فَأن فِيهِ مَفْتُوحَة كَقَوْلِك: بَلغنِي أَنَّك قَائِم. فَهَذَا مَوضِع لَا يصلح فِيهِ إِلَّا الِاسْم كَأَنَّهُ قَالَ: بَلغنِي قيامك. وقولك:
1 / 35
لَو أَن زيدا جَاءَنِي لأكرمته، فَهَذَا مَوضِع لَا يصلح فِيهِ إِلَّا الْفِعْل. وَالشَّمْس فِي حُجْرَتهَا، قبل أَن تظهر ".
يُقَال: ظهر الرجل فَوق السَّطْح، وظهره إِذا علاهُ، وَإِنَّمَا قيل ذَلِك لِأَنَّهُ إِذا علا فَوْقه ظهر شخصه لمن يتأمله. قَالَ الله تَعَالَى: ﴿فَمَا اسطاعوا أَن يظهروه﴾ . وَيُقَال: ظَهرت من الْمَكَان إِذا خرجت مِنْهُ، وَيُقَال: ظهر مِنْك الشَّيْء إِذا زَالَ وَذهب، وَهُوَ رَاجع إِلَى مَا ذكر. فَمَعْنَى قَوْله: " وَالشَّمْس فِي حُجْرَتهَا قبل أَن تظهر " أَي تخرج عَنْهَا وترتفع وَالْفُقَهَاء يَقُولُونَ: مَعْنَاهُ [قبل] أَن يظْهر الظل على الْجِدَار وَهُوَ نَحْو مِمَّا ذكر. وَالْقَوْل الْمُتَقَدّم أليق بِلَفْظ الحَدِيث لِأَن الضَّمِير فِي قَوْله: " تظهر " يرجع إِلَى الشَّمْس وَلم يتَقَدَّم للظل فِي الحَدِيث ذكر.
إِن كل بِنَاء أحَاط بِهِ حَائِط فَهُوَ حجرَة وَهُوَ مُشْتَقّ من قَوْلهم: حجرت الشَّيْء إِذا منعته، وَحجر الْقَمَر إِذا صَارَت حوله دارة سميت بذلك لِأَنَّهَا تمنع من دَخلهَا من أَن يُوصل إِلَيْهِ وَمن أَن يرى. وَيُقَال لحائط الْحُجْرَة الحجارية.
1 / 36
" بعد أَن أَسْفر " الصُّبْح إِذا أنار،، وأسفر الْقَوْم: إِذا أَصْبحُوا. وَقَول عَائِشَة ﵂: " إِن كَانَ رَسُول الله ﷺ ليُصَلِّي الصُّبْح "
إِن فِي هَذَا الْموضع وَنَحْوه عِنْد سِيبَوَيْهٍ مُخَفّفَة من إِن الْمُشَدّدَة، وَاللَّام لَازِمَة لخبرها ليفرق بَينهَا وَبَين إِن الَّتِي بِمَعْنى مَا. فَإِذا قلت: إِن زيدا لقائم، فَهِيَ تَأْكِيد. وَإِذا قلت: إِن زيد قَائِم، وأسقطت اللَّام فَهِيَ نفي بِمَعْنى مَا زسد قَائِم. والكوفيون يجيزون أَن تكون نفيا وَإِن كَانَت اللَّام فِي جوابها، ويجعلون اللَّام بِمَعْنى إِلَّا الْمُوجبَة كَأَنَّهَا قَالَت: مَا كَانَ رَسُول الله ﷺ َ -[إِلَّا] يُصَلِّي.
وَتَقْدِير الْكَلَام على مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ: إِن رَسُول الله ﷺ َ - كَانَ يُصَلِّي] .
وَنَظِير هَذَا قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن كَانَ مَكْرهمْ لتزول مِنْهُ الْجبَال﴾ فِي قِرَاءَة من رفع الْفِعْل وَفتح اللَّام. " متلففات بمروطهن "
1 / 37
وَقع فِي رِوَايَة يحيى بفائين، وَرَوَاهُ أَكثر الروَاة بِالْفَاءِ وَالْعين غير مُعْجمَة وَالْمعْنَى وَاحِد يُقَال: تلفع الرجل بِثَوْبِهِ إِذا اشْتَمَل بِهِ.
وَفِي رِوَايَة ابْن بكير: " فينصرفن " على لفظ الْجمع، وَهِي لُغَة لبَعض الْعَرَب وَالْأَكْثَر الْأَفْصَح الْإِفْرَاد.
والمروط: أكيسه تتَّخذ من الصُّوف والخز، وَجَاء فِي تَفْسِيرهَا فِي هَذَا الحَدِيث أَنَّهَا أكيسة من صوف مربعة شداها شعر. وَأما قَول امْرُؤ الْقَيْس:
(على أثرينا ذيل مرط مرحل ...)
فالمرط هَاهُنَا من خَز. " والغلس " ظلمَة آخر اللَّيْل.
1 / 38
" من حفظهَا وحافظ عَلَيْهَا "
فَإِن الْحِفْظ رِعَايَة الشَّيْء لِئَلَّا يذهب ويضيع. وَمِنْه حفظ الْقُرْآن، وَحفظ العَبْد. وَأما الْمُحَافظَة فملازمة الشَّيْء. " فَهُوَ لما سواهَا أضيع "
هَكَذَا رُوِيَ فِي هَذَا الحَدِيث، وَكَانَ الْوَجْه [أَن يُقَال]: فَهُوَ لما سواهَا أَشد إِضَاعَة، لِأَن الْفِعْل الزَّائِد على ثَلَاثَة أحرف لَا يبْنى مِنْهُ أفعل، وَقد أجَاز سِيبَوَيْهٍ فِيمَا كَانَ أَوله الْهمزَة خَاصَّة. " إِذا زاغت الشَّمْس "
مَعْنَاهُ: مَالَتْ، وكل شَيْء مَال وانحاز عَن الِاعْتِدَال فقد زاغ. قَالَ الله ﷿: ﴿فَلَمَّا زاغوا أزاغ الله قُلُوبهم﴾ .
و" الْفَيْء " الظل إِذا رَجَعَ من جَانب الْمغرب إِلَى جَانب الْمشرق، وَلَا يُقَال لَهُ قبل الزَّوَال فَيْء حَتَّى يَنْقَلِب وَيرجع، لِأَن معنى الْفَيْء فِي اللُّغَة، إِنَّمَا هُوَ الرُّجُوع، قَالَ الله ﷿: ﴿حَتَّى تفىء إِلَى أَمر الله﴾ أَي: ترجع.
وَيُقَال: " غربت " الشَّمْس بِفَتْح الرَّاء، وَقد أولعت الْعَامَّة بضَمهَا وَهُوَ خطأ، قَالَ الله ﷿: ﴿وَإِذا غربت تقرضهم ذَات الشمَال﴾ .
1 / 39
" بغبش "
الْمَشْهُور من رِوَايَة يحيى بالشين الْمُعْجَمَة، وَالْمَشْهُور من رِوَايَة ابْن بكير بِالسِّين غير الْمُعْجَمَة، وهما لُغَتَانِ جيدتان حَكَاهُمَا اللغويون، غبس وأغبس، وغبش وأغبش، وَهُوَ اخْتِلَاط الضَّوْء والظلام. " ثمَّ يذهب الذَّاهِب إِلَى قبَاء "
يجوز فِي قبَاء الصّرْف على الْموضع وَالْمَكَان، وَترك الصّرْف على معنى الْبقْعَة وَالْأَرْض.
قَول عمر ﵁: (فَلَا نَامَتْ عينه ثَلَاثًا) إِنَّمَا ذَلِك على جِهَة التَّأْكِيد والإغلاظ فِي الدُّعَاء. وَخص الثَّلَاث لِأَن أَبَا عُبَيْدَة حكى أَن الْعَرَب كَانُوا يستحسنون الثَّلَاث إِذا أَرَادوا مدحا أَو ذما وَنَحْوهمَا، وَيَقُولُونَ: أَجود الْعَرَب ثَلَاثَة، وشجعانهم ثَلَاثَة، وَنَحْو ذَلِك. وَمَعْلُوم أَنه كَانَ فيهم من الأجواد والشجعان أَكثر من هَذَا الْعدَد، فَيمكن أَن يكون عمر جرى على قَول الْعَرَب فِي هَذَا.
اشتقاق " الصُّبْح " من الصباحة، وَهِي الْجمال وَالْحسن، سمي بذلك لأشراقه، وَيجوز أَن يكون من قَوْلهم: شَيْء أصبح إِذا كَانَ فِيهِ بَيَاض وَحُمرَة، فَيكون قد سمي بذلك للبياض الَّذِي تخالطه الْحمرَة فِي أول النَّهَار.
1 / 40
واشتقاق " الْفجْر " من تفجير المَاء، وظهوره من الأَرْض، وَشبه انصداعه فِي الظلام بانفجار المَاء.
و" الظّهْر " والظهرية فِي اللُّغَة سَاعَة الزَّوَال حِين يقوى سُلْطَان الشَّمْس، فسميت الصَّلَاة ظهرا، لِأَنَّهَا تصلى فِي ذَلِك الْوَقْت، وَقيل: سميت بذلك لِأَنَّهَا أول صَلَاة أظهرت.
و" الْعَصْر " الْعشي، وَبِذَلِك سميت الصَّلَاة فِي الْمَشْهُور من أَقْوَال الْعلمَاء. وَرُوِيَ عَن سعيد بن جُبَير وَأبي قلَابَة أَنَّهُمَا قَالَا: " سميت بذلك لتعصر " أَرَادَ بذلك تَأْخِيرهَا. وَالْأول هُوَ الْمَعْرُوف.
وَيُقَال للصبح وَالظّهْر وَالْعصر جَمِيعًا العصران وَمِنْه حَدِيث عبد الله بن فضَالة، عَن أَبِيه أَن رَسُول الله ﷺ َ - قَالَ لَهُ: " حَافظ على العصرين " قَالَ: " " وَمَا كَانَت من لغتنا " وَإِنَّمَا قيل لَهما ذَلِك لِأَن الْغَدَاة والعشي يُقَال لَهما: العصران. وَيُقَال أَيْضا لِليْل وَالنَّهَار: العصران.
وَمعنى " غربت الشَّمْس " بَعدت فَلم تدركها الْأَبْصَار، وَمِنْه سمي الْغَرِيب لبعده عَن [وَطنه] وَأَهله.
1 / 41
وَسمي أول اللَّيْل " عشَاء " لِأَنَّهُ يعشي الْعُيُون، فَلَا ترى شَيْئا إِلَّا على ضعف من النّظر.
و" الْعَتَمَة " من اللَّيْل قدر ثلثه، وَبِذَلِك سميت الصَّلَاة، وَقيل: سميت عتمة لتأخيرها.
وَفِي " الطنفسة " ثَلَاث لُغَات كسر الطَّاء وَالْفَاء، وفتحهما، وَكسر الطَّاء وَفتح الْفَاء. وَهِي تتَّخذ للجلوس عَلَيْهَا، وللركوب على الْإِبِل.
و" الضُّحَى " إِذا ضم أَوله قصر، وَإِذا مد فتح أَوله. وَقد قيل: إِن الضحاء [الْمَمْدُود] المفتوح الأول أرفع من الْمَرْفُوع الأول الْمَقْصُور. وَكَذَلِكَ قَالَ صَاحب كتاب " الْعين ": " الضحو: ارْتِفَاع النَّهَار، وَالضُّحَى: فَوق ذَلِك. والضحاء إِذا امْتَدَّ النَّهَار قَالَ: وَالشَّمْس تسمى: الضحاء، وَقَالَ غَيره: الضماء لِلْإِبِلِ مَفْتُوح مَمْدُود كالفراء للنَّاس.
وَيُقَال: " قَالَ الرجل " يقيل قيلولة إِذا أَقَامَ فِي القائلة، فَأَما البيع فَيُقَال فِيهِ: قَالَه البيع وأقاله [البيع] . وَكثير من اللغويين يَقُول: أقَال بِالْألف فِي البيع، وَلَا يُجِيز قَالَ إِلَّا فِي نوم القائلة.
1 / 42
و" ملل " مَوضِع قريب من الْمَدِينَة، يصرف إِذا ذهب إِلَى الْموضع وَالْمَكَان، وَيمْنَع الصّرْف إِذا ذهب إِلَى الْبقْعَة وَالْأَرْض.
و" التهجير " السّير فِي الهاجرة وَهِي القائلة يُقَال: هجر الرجل تهجيرا فَهُوَ مهجر ومهجر، وهجر النَّهَار تهجيرا إِذا اشْتَدَّ حره.
وَاخْتلف فِي " الدلوك " يرْوى عَن ابْن عَبَّاس أَنه الْغُرُوب. وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود. وَقَالَ ابْن عمر: " هُوَ الزَّوَال " وَكِلَاهُمَا صَحِيح حَكَاهُمَا أهل اللُّغَة. وَلَكِن الْأَظْهر من قَوْله تَعَالَى: ﴿أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس﴾ أَن يكون الزَّوَال لِأَنَّهُ إِذا حمل على هَذَا كَانَت الْآيَة متضمنة للصلوات الْخمس.
وَإِذا كَانَ الدلوك فِيهَا الْغُرُوب خرجت الظّهْر وَالْعصر من الْآيَة. فَلذَلِك كَانَ قَول من قَالَ: إِن الدلوك فِي الْآيَة بِمَعْنى الزَّوَال أليق بتفسير الْآيَة، وَإِن كَانَ الدلوك بِمَعْنى الْغُرُوب غير مَدْفُوع فِي الشَّمْس، وَغَيرهَا من الْكَوَاكِب وَهُوَ فِي الشَّمْس أشهر. وَمن ذهب إِلَى أَن المُرَاد بالدلوك الْمَذْكُور فِي الْآيَة مغيب الشَّمْس، فَقَوله يَقْتَضِي أَن يُرِيد بِإِقَامَة الصَّلَاة إِلَى غسق اللَّيْل صَلَاة الْعشَاء وَحدهَا.
1 / 43
" وتر أَهله وَمَاله "
الصَّوَاب نصب الْأَهْل وَالْمَال، وَمن رَفعه فقد غلط، لِأَن مَعْنَاهُ أُصِيب بأَهْله وَمَاله. فَفِي " وتر " ضمير مَرْفُوع على أَنه اسْم مَا لم يسم فَاعله. و" أَهله " مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول ثَان. ووتر اسْتعْمل مُتَعَدِّيا إِلَى مفعول وَاحِد وَإِلَى مفعولين، فَمن الْمُتَعَدِّي إِلَى المفعولين قَوْله تَعَالَى ﴿وَلنْ يتركم أَعمالكُم﴾ وَهَذَا هُوَ الْمَذْكُور فِي الحَدِيث. وَيُقَال: قد وتر مَكَان أَهله وَمَاله، يُقَال هَذَا فِيمَا فَاتَهُ من صَلَاة الْعَصْر بِمَنْزِلَة الَّتِي قد وتر فَذهب [بأَهْله وَمَاله] . قَالَ أَبُو عبيد: " وَقَالَ غير الْكسَائي: وتر أَهله وَمَاله وَبَقِي فَردا. وَذهب إِلَى قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلنْ يتركم أَعمالكُم﴾ أَي لن ينقصكم، يُقَال: وترته حَقه إِذا نقصته وَأحد الْقَوْلَيْنِ قريب من الآخر ". وَفِي رِوَايَة ابْن بكير: " فلقي رجلا عِنْد خَاتِمَة البلاط ".
يُرِيد الطَّرِيق المبلط بِالْحِجَارَةِ وَهُوَ المفروش بهَا، وَهُوَ نَاحيَة الزَّوْرَاء، وَيُقَال للحجارة المفروشة، وَالْأَرْض الملساء البلاط.
و" التطفيف " فِي لِسَان الْعَرَب الزِّيَادَة على الْعدْل وَالنُّقْصَان مِنْهُ.
و" يُقَال: لكل شَيْء وَفَاء وتطفيف ".
يُرِيد أَن هَذِه اللَّفْظَة تدخل [على كل شَيْء] مَذْمُوم زِيَادَة ونقصانا.
1 / 44
وَهَذَا قَول من يذهب إِلَى أَن التطفيف يكون بِمَعْنى الزِّيَادَة، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث عبد الله بن عمر: " سَابق رَسُول الله ﷺ َ - بَين الْخَيل وَكنت يَوْمئِذٍ فَارِسًا فسبقت النَّاس، وطفف بِي الْفرس مَسْجِد بني زُرَيْق ".
وتوهموه بِمَعْنى جَاوز، وَلَيْسَ يلْزم مَا قَالُوهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن الْفرس وثب بِهِ حَتَّى كَاد يساور الْمَسْجِد. وَالْمَشْهُور فِي التطفيف إِنَّمَا هُوَ النُّقْصَان. فَإِن قَالَ قَائِل إِن قَوْله تَعَالَى: ﴿ويل لِلْمُطَفِّفِينَ (١)﴾ إِلَى آخر الْآيَة قد دلّ على مَا قُلْنَاهُ لِأَنَّهُ سماهم مطففين، ثمَّ وَصفهم بِأَنَّهُم يَأْخُذُونَ الزِّيَادَة ويعطون النُّقْصَان، فَمن أَيْن أنْكرت أَن يكون التطفيف زِيَادَة ونقصانا، وَيكون ٦ محصول مَعْنَاهُ الْخُرُوج عَن الِاعْتِدَال؟ . فَالْجَوَاب عَن هَذَا من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: كَمَا قُلْنَاهُ.
وَالثَّانِي: أَن الزِّيَادَة الَّتِي يأخذونها لأَنْفُسِهِمْ ترجع بِالنُّقْصَانِ على من يعاملهم فقد صَار الْجَمِيع يعود إِلَى معنى النُّقْصَان. وَأما قَوْله: " من أخر الصَّلَاة سَاهِيا أَو نَاسِيا "
فقد فرق قوم بَين السَّهْو وَالنِّسْيَان. فَقَالُوا: النسْيَان عدم الذّكر، والسهو الْغَلَط والغفلة. وَذهب قوم إِلَى أَنَّهُمَا سَوَاء، وَالْقَوْل الأول أظهر. وَيُقَال: " غمي على الرجل " وأغمي عَلَيْهِ لُغَتَانِ مشهورتان.
1 / 45
وَقَوله: " حِين قفل من خَيْبَر "
مَعْنَاهُ: رَجَعَ، يُقَال: قفل من سَفَره يقفل قفولا.
وَيُقَال: " سرى " يسري سروا و" أسرى " إسراء إِذا سَار لَيْلًا.
وَيُقَال: " عرس " الْمُسَافِر تعريسا، ومعرسا: إِذا نزل فِي آخر اللَّيْل للراحة مثل: مزقت الشَّيْء تمزيقا وممزوقا، وَقد يكون المعرس الْموضع يُقَال فِي هَذَا الْمَعْنى: أعرس إعراسا ومعرسا وَهُوَ قَلِيل. وَقَوله: " اكلأ لنا الصُّبْح " أَي أرقبه وارعه. وَقَوله: " فبعثوا رواحلهم " أَي: حركوها للسير، والرواحل الْإِبِل الَّتِي يُسَافر عَلَيْهَا، وَاحِدهَا رَاحِلَة لِأَنَّهَا ترحل بصاحبها من مَوضِع إِلَى مَوضِع.
وَقَوله: ﴿وأقم الصَّلَاة لذكرى﴾
تَأَوَّلَه كثير من الْمُفَسّرين على أَنه أَرَادَ أَن يُصَلِّي إِذا ذكرهَا. وَقَالَ غير هَؤُلَاءِ فِي ﴿وأقم الصَّلَاة﴾ لتذكرني فِيهَا وَهُوَ قَول مُجَاهِد. وَهَذَا القَوْل أليق بِالْآيَةِ وأشبه بمعناها.
وَأما قِرَاءَة من قَرَأَ " للذِّكْرَى " فَهُوَ أشبه بالتأويل الأول، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ ذكرَاهَا.
1 / 46
وَقَوله: " رأى من فزعهم ". تَقْدِيره على مَذْهَب أبي الْحسن الْأَخْفَش: وَقد رأى فزعهم، وَمن زَائِدَة. وَقَوله: " فَلم يزل يهدئه كَمَا يهدأ الصَّبِي "
فقد رُوِيَ بتَشْديد الدَّال، وَقد يجوز: يهدئه كَمَا يهدأ الصَّبِي، بِسُكُون الْهَاء وَتَخْفِيف الدَّال وهما لُغَتَانِ. هدأت الصَّبِي وأهدأته، كَمَا يُقَال: " كرمت الرجل، وأكرمته " ٠٨) .
وَرَوَاهُ قوم " كَأَنِّي مهدا " بِفَتْح الْمِيم وَالنّصب على الظّرْف أَي: كَأَنِّي بعد هدإ من اللَّيْل نَحْو من ثلثه.
وَفِي حَدِيث خباب بن الْأَرَت ﵁: " شَكَوْت إِلَى رَسُول الله ﷺ َ - حر الرمضاء فَلم يشكنا ".
هَذِه اللَّفْظَة من الأضداد. يُقَال: أشكيت الرجل إِذا أحوجته إِلَى أَن يشكو. وأشكيته إِذا اشْتَكَى إِلَيْك فأزلت عَنهُ مَا يشكوه. وَقد اخْتلف فِي معنى قَوْله: " اشتكت النَّار ". فَجعله قوم حَقِيقَة، وَقَالُوا: إِن الله تَعَالَى قَادر على أَن ينْطق كل شَيْء
1 / 47
بِمَا شَاءَ. وحملوا جَمِيع مَا ورد من هَذَا وَنَحْوه فِي الْقُرْآن والْحَدِيث على ظَاهره. وَهُوَ الْحق وَالصَّوَاب إِن شَاءَ الله. وَذهب قوم إِلَى أَن هَذَا كُله مجَاز، وَمَا تقدم هُوَ الْحق.
و" الفيح " انتشار الْحر وسطوعه. وَمعنى " الْإِبْرَاد " تَأْخِير الصَّلَاة إِلَى أَن يسكن الْحر. وَيُقَال: أبرد الْقَوْم إِذا برد عَلَيْهِم الْوَقْت وانكسرت عَنْهُم شدَّة الْحر. وَمعنى قَول الْفُقَهَاء: " تتاب من الْبعد ". أَي يقْصد. وَذكر قَوْله: " يؤذينا برِيح الثوم "
هَكَذَا الرِّوَايَة بِإِثْبَات الْيَاء وَهُوَ الصَّحِيح، وَلَا يجوز فِي مثل هَذَا الْجَزْم على جَوَاب النَّهْي فِي قَول سِيبَوَيْهٍ وَأَصْحَابه، وَمثله قَوْلهم: " لَا تدن من الْأسد يَأْكُلك " فَإِن الْكسَائي يجوز فِي هَذَا الْجَزْم، وَهُوَ غلط لِأَنَّهُ يصير تباعده عَن الْأسد سَببا لأكل الْأسد إِيَّاه. وَكَذَلِكَ يصير تباعدهم عَن الْمَسْجِد سَببا لإذايتهم لَهُ برِيح الثوم، وَلَيْسَ هَذَا موضعا للتطويل فِي التَّرْجِيح بَين الْقَوْلَيْنِ.
1 / 48
وَقَوله: " جبذ " وجذب جذبا وجبذا بِمَعْنى وَاحِد. وَقَوله: " عَن فِيهِ "
الْمَشْهُور فِي هَذِه اللَّفْظَة أَن تسْتَعْمل فِي حَال إفرادها بِالْمِيم فَيُقَال: فَم وَمن الْعَرَب من يضم الْفَاء وَمِنْهُم من يكسرها، فَإِذا أضيفت اسْتعْملت بحروف اللين فَيُقَال: فوه وفاه وَفِيه، وَرُبمَا استعملوهما فِي حَال الْإِضَافَة بِالْمِيم.
قَالَ الراجز:
(كالحوت لَا يرويهِ شَيْء يلقمه ... يصبح ظمآن وَفِي الْبَحْر فَمه)
وَذكر قَول الشَّافِعِي ﵁: إِن الْبَاء عِنْده للتَّبْعِيض، قَالَ: وَهَذَا خطأ، وَإِنَّمَا الْبَاء للإلصاق، وَمَا قَالَه الشَّافِعِي غير مَعْرُوف فِي كَلَام الْعَرَب.
وَمعنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وامسحوا برءوسكم﴾ ألصقوا الْمسْح برؤوسكم، وَيجوز أَن تكون زَائِدَة للتَّأْكِيد كَالَّتِي فِي قَوْله: ﴿اقْرَأ باسم رَبك﴾ .
1 / 49
وَحكى قَول مَالك ﵁ فِي إِدْخَال الْمرْفقين فِي الْوضُوء، فَقَالَ: وحجته قَوْله تَعَالَى: ﴿من أنصارى إِلَى الله﴾ و﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالهم إِلَى أَمْوَالكُم﴾ . فَمَا بعد إِلَى فِي هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ دَاخل فِيمَا قبلهمَا، وَهِي بِمَنْزِلَة مَعَ.
وَحجَّة من قَالَ بِخِلَاف مَالك قَوْله تَعَالَى: ﴿ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى الَّيْلِ﴾ وَاللَّيْل غير دَاخل فِي الصّيام.
وَالْقَوْل الأول أرجح لِأَن مَا بعد إِلَى إِنَّمَا يَنْبَغِي أَن يدْخل فِيمَا قبلهَا إِذا كَانَ من غير جنسه، وَأما إِذا كَانَ من جنسه فَإِنَّهُ إِن يكون دَاخِلا فِيمَا قبله حَتَّى يقوم دَلِيل على غَيره. [" الْوضُوء " بِضَم الْوَاو، وَبِفَتْحِهَا المَاء، وَهُوَ قَول مَشْهُور عَن الْكُوفِيّين. وَأما سِيبَوَيْهٍ وَأَصْحَابه فَقَالُوا بِالْفَتْح فِي الْمصدر وَالْمَاء جَمِيعًا. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: الْوضُوء بِالضَّمِّ لَيْسَ من كَلَام الْعَرَب، وَإِنَّمَا هُوَ قِيَاس قاسه النحويون.
و" الِاسْتِجْمَار " التمسح بالأحجار وَهِي الْجمار، وَبِه سميت أَحْجَار مَكَّة، وَيُقَال: جمر الرجل تجميرا، إِذا رمى بالجمار، وَوَاحِدَة الْجمار جَمْرَة.
و" الاستنثار "
1 / 50
أَخذ المَاء بالأنف، وَهُوَ مُشْتَقّ من النثرة وَهِي الْأنف. كَأَنَّهُ أَخذ المَاء بالنثرة، فَهُوَ على هَذَا بِمَنْزِلَة الِاسْتِنْشَاق سَوَاء.
وَقيل: الاستنثار رمي المَاء من الْأنف بعد استنشاقه وَهُوَ استفعال من قَوْلهم نثرت الشَّيْء نثرا، إِذا رميته مُتَفَرقًا. وَهَذَا القَوْل أشبه بالاستنثار الْمَذْكُور فِي الْوضُوء، لِأَنَّهُ جَاءَ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة ﵁، عَن النَّبِي ﷺ َ -: " إِذا تَوَضَّأ أحدكُم فليستنشق بمنخره من المَاء، ثمَّ لينثر " فَدلَّ هَذَا على أَن الاستنثار غير الِاسْتِنْشَاق.
وأصل " الْمَضْمَضَة " الْغسْل، يُقَال: مضمض إناءه ومصمصه بالصَّاد وَالضَّاد، إِذا غسله.
وَذكر خفض الأرجل فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وأرجلكم إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ فَقَالَ فِي ذَلِك قَولَانِ: زعم قوم أَنه خفض على الْجوَار، وَقيل: إِن الأرجل معطوفة على الرؤوس على مَا يَنْبَغِي من الْعَطف. فَإِن قيل: كَيفَ يَصح عطفها على الرؤوس، والرؤوس ممسوحة والأرجل مغسولة؟ فَالْجَوَاب عَن ذَلِك من وَجْهَيْن كِلَاهُمَا مقنع.
[أَحدهمَا]: أَن الْعَرَب قد تعطف الشَّيْء على الشَّيْء وَإِن اخْتلف
1 / 51
مَعْنَاهُمَا. إِذا كَانَ لَهما وَجه يَجْتَمِعَانِ فِيهِ كَقَوْل الراجز:
(شراب ألبان وتمر وأقط ...)
وَالتَّمْر والأقط يؤكلان وَلَا يشربان، ولكنهما قد اجْتمعَا فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا غذَاء يتغذى بِهِ. وَكَذَلِكَ قَول الآخر:
(يَا لَيْت زَوجك قد غَدا ... مُتَقَلِّدًا سَيْفا ورمحا)
وَالرمْح لَا يتقلد، لَكِن الرمْح قد يُشَارك السَّيْف فِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مَحْمُول. فَكَذَلِك الأرجل والرؤوس، وَإِن اخْتلفت فِي أَن بَعْضهَا مغسول، فقد اتّفقت فِي أَن الْغسْل وَالْمسح كِلَاهُمَا طَهَارَة.
وَالْآخر: أَن وَاو الْعَطف إِنَّمَا تشرك الثَّانِي مَعَ الأول فِي نوع الْفِعْل وجنسه، لَا فِي كيفيته وَلَا فِي كميته، فَلَمَّا كَانَت الْوَاو توجب الشّركَة فِي نوع الْفِعْل وجنسه، وَا فِي كميته، وَكَانَ الْغسْل والنضح كِلَاهُمَا يُسمى مسحا، عطفت الأرجل على الرؤوس، وَإِن اخْتلفت الكيفيتان والكميتان.
وَإِنَّمَا غلط من غلط فِي هَذَا لما سمعُوا النَّحْوِيين يَقُولُونَ: الْوَاو تشرك الأول مَعَ الثَّانِي لفظا وَمعنى، ظنُّوا أَنه يلْزم من ذَلِك تساويهما فِي الكمية والكيفية. وَذكر: " إِذا نَام أحدكُم مُضْطَجعا "
1 / 52