Matsalar Kimiyyar Dan Adam
مشكلة العلوم الإنسانية: تقنينها وإمكانية حلها
Nau'ikan
وأصبحت الإبستمولوجيا المعاصرة بدورها يلخصها ويبلورها مبدأ اللاحتمية
Indeterminism ، إنها انقلاب جذري من النقيض إلى النقيض، فكل ما تعنيه أن الحتمية كاذبة، فهي سلب أو نفي لها، تنفي أن كل الأحداث محددة سلفا بدقة مطلقة بكل تفاصيلها اللامتناهية في الصغر أو الكبر، تنفي اللاحتمية هذا، لكنها لا تعني ما عناه ديفيد هيوم من أنه ليس ثمة أي حادثة ترتبط بالأخرى، بل تعني أن القوانين التي تربط هذه الأحداث ليست حتمية، فحتى لو كان ثمة حدث يشترط آخر كظرف أساسي أو أولي له، أو كان بينهما علاقة وثقى، فليس يعني هذا أن ذلك الحدث - فضلا عن كل الأحداث - محتم سلفا، أو يعني عليه فضلا عن أبدية المبدأ العلي، لقد انهارت العلية: عماد الحتمية التي تتصور تسلسلا لأحداث (علة ... معلول ... علة ... معلول) في المكان الإقليدي المستوى أو المطلق، عبر الزمان المطلق الذي ينساب في نسب ثابتة مطلقة في اتجاه واحد، مطلق من ماض إلى مستقبل، وكل ما على العالم أن يلاحظها بموضوعية مطلقة، بمعنى أنه لا يتدخل إطلاقا، دوره سلبي لا يؤثر البتة على نتيجة استقراء الظاهرة: القانون العلمي حقيقة الظاهرة.
مع النظرة اللاحتمية المتخلصة من الإسقاطات اللاعلمية كافة، نجد عدة عوالم تؤدي علاقاتها ببعضها إلى عدة احتمالات كلها ممكنة، حدوث أي منها أو عدم حدوثه لن يهدم العلم، ولا العالم، ولن يحيله إلى فوضى وعماء، إنه تعاقب الأحداث اللاحتمي، لا تسلسلها الحتمي، وتتابعها وفقا لقوانين اللاحتمية العلية، والأحداث في كلتا الحالتين مترابطة، ومنتظمة، وقابلة للتعقل، والتفسير النسقي، لكن شتان ما بين التفسيرين.
حلت اللاحتمية محل الحتمية، فحل الترابط الإحصائي بين الأحداث محل الترابط العلي والاتجاه المحتمل محل الاتجاه الضروري، واحتمالية الحدث محل حتميته، لم يعد حدوثه ضروريا، ولا حدوث سواه مستحيلا، فأصبح التنبؤ العلمي أفضل الترجيحات بما سوف يحدث لا كشفا عن القدر المحتوم، ومن ثم انقطعت كل همزة وصل بين العلم وبين الجبرية العتيقة، بعد أن تكفل في مراهقته الحتمية بمواصلة مسيرتها، إنه زيف اليقين الذي انكشف لما انكشف زيف المطلق؛ حيث تصدعت تصورات الزمان والمكان المطلقين بفضل نسبية أينشتين، فاختفى المثل الأعلى للعالم العلام بالحقيقة المطلقة، الذي يعلم كل شيء عن كل شيء، ويتنبأ بكل شيء - كما تصور لابلاس
Laplace (1749-1827) - لما اختفى المثل الأعلى للعالم الحتمي الذي يسير كما تدور الساعة المضبوطة، والنتيجة أن ارتدع العلماء عن الغرور الأهوج الذي أكسبتهم إياه الحتمية، إنهم أدركوا سذاجة وسطحية تصور العمومية المطلقة لقوانينهم، بحيث لا يخرج من بين يدي أي منها، ولا من خلفه صغيرة ولا كبيرة، لا في الأرض، ولا في السماء، لا في الطبيعة، ولا في الإنسان، على هذا انتهينا إلى أن اطراد الطبيعة الذي يبرر العلية وهي تبرره «في دوران منطقي شهير» مثله مثلها افتراضات بلا أساس، كما كانت التحليلات المنطقية والفلسفية قد أوضحت، ومنذ هيوم.
أما ما أضافته ثورة العلم المعاصر، فهو أنه لم يعد ثمة مبرر لبقائهما ولا حاجة لهما، تضع الإبستمولوجيا المعاصرة نصب عينيها أن الفيزيائي المعاصر الذي يعمل بالآلات الدقيقة في معمله ليكشف قوانين انتظام الطبيعة لا يعوزه البتة مفهوم الاطراد الحتمي؛ لأنه يعلم جيدا حدود الدقة المتاحة، ويدرك صعوبة وعبثية أن يجعل الظاهرة تكرر نفسها تماما، إلا داخل حدود معينة من اللاتعين، ومن الخطأ المحتمل، إنه الآن لا يبحث عن اطراد الطبيعة، ويكفي انتظامها القائم على أساس إحصائي لا علي، ليبحث عن احتماليتها؛ أي ترددها بنسبة مئوية معينة مستمدة من ترددات لوحظت في الماضي، ويفترض أنها سوف تسري تقريبا على المستقبل، لقد استرحنا أخيرا من العلية والاطراد ودورانها المنطقي، انهارا معا حين تحققنا من دخول عنصر المصادفة في بنية الطبيعة، اكتست المصادفة ثوبا قشيبا ، وتخلصت من الأدران الجائزة التي لحقت بها في عصر يقين العلم الحتمي، الذي كان يفسر كل مصادفة وكل احتمال تفسيرا ذاتيا؛ أي كان يرجعه إلى جهل الذات العارفة، وعجزها عن الإحاطة بعلل الظاهرة، أما اليقين فلا حديث عنه سوى أنه تبخر تماما من دنيا العلم، حتى شاع القول الدارج: العلماء ليسوا على يقين من أي شيء، ويكفي أن العوام على يقين من كل شيء، فالعلم احتمالي، وحلت موضوعية الاحتمال محل ذاتيته، لا سيما بعد نشأة الميكانيكية الموجبة البارعة.
إن أبرز معالم الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة هي أنها جزمت - منطقيا - أن أي قضية إخبارية بما هي إخبارية، احتمالية ونقيضها ممكن، ولا يقين إلا في القضايا التحليلية الفارغة من أي مضمون إخباري قضايا المنطق الصوري، والرياضيات البحتة، وإذا كانت رياضيات الإحصاء، وحساب الاحتمال هي ألف باء العلم المعاصر، فلا يعني هذا لاحتمية، كما تصور الكلاسيكيون من أن صياغة القوانين باللغة الرياضية الضرورية تؤكد الحتمية، الأمر الذي تبدى الآن أن صياغة القوانين العلمية في أي لغة رياضية لا تعني حتمية أو لاحتمية، فالرياضيات في حد ذاتها محايدة تماما، محض رموز تعبر عن أي مرموز إليه، ونملؤها بالمضمون التطبيقي سواء افترضناه حتميا أو لاحتمي، المهم أن منطق الاحتمال أصبح العمود الفقري للعلم، بعد أن كانت العلية هي العمود والعماد والعمدة، وكما ذكرنا: قوضت النسبية عالمها الميكانيكي.
وفي خضم هذه الأطلال الدوارس اتضح مدى عبثية وسذاجة تصورات الكلاسيكيين العينية لمفاهيم الكتلة والطاقة والسرعة والأبعاد الثلاثة الثابتة، وتحديد أو التنبؤ بموضع وحركة وسرعة كل جسم بدقة فائقة ... اتضح عبثية تصورهم لعالم فيزيقي يمكن وصفه بدقة متناهية، إن لم يكن بواسطة علماء اليوم، فعن طريق علماء الغد، وكما يقول الأمير - أمير نسبا وعلما - لويس دي بروي أبو الميكانيكا الموحية (1892-1987): «لقد ظنوا أن كل حركة أو تغير يجب تصويره بكميات محددة الموضع في المكان والتغير في مجرى الزمان، وأن هذه الكميات لا بد أن تيسر الوصف الكامل لحالة العالم الفيزيقي في كل لحظة، وسيكتمل هذا الوصف تماما بواسطة معادلات تفاضلية، أو مشتقات جزئية، تتيح لنا تتبع مواقع الكميات التي تحدد حالته، ويا له من تصور رائع لبساطته، توطدت أركانه بالنجاح الذي لازمه لمدة طويلة.»
1
إنه المبدأن الحتمي الذي أملاه العلماء في مرسوم مهيب، وانقلب في النهاية إلى اقتراح لا تجيزه الوقائع، فأصبحت الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة بدورها لا تجيزه، إنها إبستمولوجيا لاحتمية لا تبحث عن التحديد الفردي الميكانيكي، بل عن متوسطات الإحصاء، وحساب الاحتمال، هي الآن تسود العلوم
Shafi da ba'a sani ba