88

Matsaloli da Baƙi

مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق

Nau'ikan

إلا أن هناك صورة إيجابية وأخرى سلبية للمستوى الواقعي عند كيركجارد مثلما هو الحال - كما يمكننا أن نقول - عند لاكان. فالمستوى الواقعي بصفة مؤكدة هو الرب - الهوة اللانهائية في جوهر النفس - لكن ثمة سلبية أكثر شؤما في قلب الإنسانية يسميها كيركجارد باليأس، في كتابه «المرض طريق الموات»، وهي في الحقيقة صورة من دافع الموت عند فرويد. إنه - على وجه أكثر دقة - الإحساس الغائر بالعدم عند الذين يعجزون عن أن يكونوا من يريدون، فيرغبون في التخلص من أنفسهم، لكنهم عالقون في حالة العجز عن الموت الشيطانية. وقد ذكرت في موضع آخر بالكتاب أن هذا العالم المكون من أموات أحياء - الذين لا يمكنهم إثبات أنهم أحياء إلا بالمتعة التي يحصلونها من تدمير الآخرين - قريب جدا مما عرف كلاسيكيا بالشر.

18

ورغم أن اليائسين في نظر كيركجارد نادرا ما يكونون كذلك - نظرا إلى أن ما يتغذون عليه ليس الآخرين بل أنفسهم - فهم يمثلون ما يصفه بأنه «جنون شيطاني» ينقم بشدة على الوجود ويعشق الفناء، إلا أنهم يحفظون أنفسهم من الفناء بفضل هذه الضغينة العميقة ذاتها. وتوصف هذه الحالة عادة بأنها شيطانية، وبأسلوب لاكان، فإن هؤلاء الرجال والنساء عالقون بلا حيلة في مأزق القانون والرغبة، وهم من ثم الضحية الرئيسية للمستوى الواقعي، فهي حالة لا يمكن في نظر كيركجارد التخلص منها إلا بهذا الجانب القاتل من المستوى الواقعي المتمثل في الفضل الإلهي؛ إذ يرى كيركجارد أن من خلال الابتلاء بهذا اليأس بصورة أو بأخرى - اليأس الذي يمثل «معبرا إلى الإيمان» - وحده يكون النفاذ إلى الحياة الأبدية. وهذه رؤية تراجيدية ما دام الأمر يتطلب أن يخسر المرء حياته لينقذها، فهي تشبه الإيمان اللاكاني في أنه بالتعلق العنيد بسلبية المستوى الواقعي وحده يمكن أن نكون في صورة كائن ملتزم أخلاقيا تماما، فالإيمان عند كيركجارد - كما حال المستوى الواقعي عند لاكان - يقدم أزمة واضطرابا دائمين في تأكيدات المستوى الأخلاقي التي لا معنى لها.

تتجاوز كتابات كيركجارد حدود الحياة الأخلاقية الجمعية في النظام الأخلاقي عند هيجل إلى طلاق كانط البروتستانتي القاسي بين الواجب والسعادة؛ فالإيمان لا علاقة له بالرفاهية أو بالإشباع الحسي؛ فالمسيحي الحقيقي «يبعد نفسه عن الملذات والحياة والمسرات المادية.»

19

فالمستوى الواقعي معاد للمستوى الجمالي وإن كان يشترك معه في بعده عما هو عام. كما أن الإيمان ليس عاطفة، فهو «ليس الميل الفوري للقلب بل هو مفارقة الوجود .»

20

وليس ثمة طريق مباشر كما عند شافتسبري أو هتشسون من عواطف القلب إلى المطلقات الأخلاقية، إلا أن كيركجارد بتحوله بهذه الصورة إلى كانط لا يكتفي برفض تحويله المجمل للدين إلى الأخلاق، بل إنه يفكك الذات الأخلاقية المستقلة الحرة، وكذلك رؤيته لهذه الذات باعتبارها متناغمة مع الآخرين في مملكة العام؛ إذ يكتب في عمله «المرض طريق الموات» أن النفس بوصفها سيدة نفسها كالملك بلا مملكة، فهي نوع من الحكم على لا شيء، حشو رنان. أما بخصوص الاعتماد على الغير فإن كيركجارد يصيب في رؤيته أنها سابقة جذريا على الاستقلالية، رغم أن الاعتماد في حالته يكون على الرب المانح الأكبر للذاتية وليس على الناس. فبطريقة بروتستانتية تقليدية، تعلق الذات المؤمنة في اعتماد مكره على رب لا تفهم منطقه على الإطلاق. وعلى هذا الأساس وحده يمكنها أن تكون لذاتها نوعا من الفردية الحرة، فالفرد يخضع لدعوة أو مهمة فريدة، أمر إلهي موجه إليه وحده لا يمكن موائمته مع مثل هذه الأمور الحضرية كالمبادئ العامة والالتزامات المدنية. وسنرى لاحقا صورة أخرى من هذا الأمر الفريد في ظل «قانون الذات»، هذا الذي لا يضاهى الذي هو رغبة المستوى الواقعي.

إذا فالمستوى الواقعي يدحض المستوى الرمزي؛ إذ إن موقف النفس مما هو مطلق يسبق ارتباطها بالمستوى الأخلاقي. وهذا النظام الأخلاقي - كما هو الحال عند مؤيديه الفرنسيين اللاحقين - له أبعاد سياسية. فليس ثمة إمكانية لوجود ما قد نسميه المستوى الخيالي الاجتماعي، الذي يمكن من خلاله للرجال والنساء أن يحققوا بعض الإشباع الجماعي من خلال رؤية صورة بعضهم المنعكسة في بعض، فجميع أشكال الجماعية صارت متهمة بالإيمان الفاسد والوعي الزائف، كما هو حالها بوجه عام في رأي إيمانويل ليفيناس، ولاحقا جاك دريدا. فكلما زاد إظهار الإنسان لهويته الاجتماعية، زاد وقوفه عاريا مرتجفا بوصفه روحا وحيدة أمام الرب. فالبطولة الحقيقية هي المخاطرة بأن نظهر على حقيقتنا دون تحفظ. وهي حالة باتفاق - كل من ليفيناس ودريدا لاحقا - تتضمن ما يصفه كيركجارد ب «المسئولية الضخمة». فالأفراد ذرات وحيدة مستغلقة على ذاتها ومستغلق بعضها على بعض؛ فالخصوصية لا يمكن الحفاظ عليها إلا على حساب الاجتماعية، «فالتجربة المحدودة» كما يقول كيركجارد «لا مأوى لها.»

21

Shafi da ba'a sani ba