86

Matsaloli da Baƙi

مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق

Nau'ikan

فالتوبة هي قبول النفس الذي ينبع من الإقرار بتشوه الذات، وهو قبول يتضمن حبا صادقا للذات، لا حبا نرجسيا.

إن كان للنظامين الواقعي والخيالي دور في عمل التعاطف عند شوبنهاور، فكذلك النظام الرمزي، وهو عين ما تتضمنه الرؤية المحايدة المجردة من وجهة نظر شوبنهاور. فللنظام الرمزي دور في رؤية العالم على حقيقته، بعيدا تماما عن احتياجاتنا ورغباتنا، وتأكيد الحقيقة المدهشة القائلة بأن الأشياء تكون على ما هي عليه دائما، مهما كانت مزاعمنا الملحة بخصوصها، وهو ما يسميه شوبنهاور التجرد الجمالي أو السامي، وهي الحالة التي نتخلى فيها عن تذمر الأنا الصبياني ونسر على نحو جانح بحقيقة أن الواقع ليس بحاجة إلينا على الإطلاق، وهذا أفضل بالنسبة له بلا شك. •••

ثمة تناظر بين مستويات الخيالي والرمزي والواقعي عند لاكان ومستويات سورين كيركجارد الثلاثة: الجمالي والأخلاقي والديني. والتشابه بين المستويين الخيالي والجمالي ربما يكون الأقل دقة، فالإنسان الجمالي عند كيركجارد يعيش حياة بلا هدف أو اتجاه، حيث ينتقل بلا توان من حالة مزاجية أو شخصية إلى أخرى، ويقف عاجزا أمام عدد كبير من الاحتمالات، وهو أكثر تقلبا وتشتتا من أن يكون ذاتا حرة. فهو يعيش في فضاء من الفورية الحسية التي لا تعرف أي ثبات على مدار الزمن أو التاريخ، وهي منطقة لا تنسب فيها أفعاله إليه إلا على نحو مشكوك فيه. فالذات الجمالية - إذ يعوزها هدفا محددا في الحياة وإذ تتماهى مع اللحظة أو الانطباع العابر - هي قشرة بلا مضمون، فالمظاهر هي حقيقتها الوحيدة. فهي بكونها مجرد فريسة للظروف كائن يخدع ذاته بلا أي استقلال أو مسئولية، فجل الوجود الاجتماعي عند كيركجارد الناقد اللاذع لا يعدو كونه صورة «أسمى» لهذه السلبية الحسية: «الآنية مع إضافة جرعة صغيرة من الانعكاس الذاتي» كما يقول متهكما في كتابه «المرض طريق الموات».

13

إلا أن ثمة صورة أكثر سموا من عدم التمحور حول الذات هذا تسمى الإيمان الديني، فالحقيقة عند قاطني العالم الخيالي أو الجمالي - كأوسكار وايلد - ما هي إلا المزاج الحالي. أما عند المتدينين، فهي تكمن فيما وراء النفس في الرب، الذي يبدل حالنا في سعينا وراءها.

إلى هذا الحد يتشارك المستويان الجمالي والخيالي في عدد من السمات، أما اختلافهما العميق فيكمن في أن المستوى الجمالي عند كيركجارد نوع من «اللانهاية الشريرة» الهيجلية وكذلك «الآنية الشريرة» التي تغرق فيها الذات؛ إذ ينقصها مركز واضح للنفس، في هاوية الانعكاس الذاتي اللامتناهي التي تتعثر فيها المفارقة الذاتية في مهرجان من الاحتمالات غير المتحققة. ومن هذه الزاوية لا تملأ الذات الجمالية فراغها باستغلال الإحساس الهارب، بل بإعادة اكتشاف نفسها من العدم من لحظة للحظة التي تليها، ساعية للحفاظ على حس حرية غير محدودة هي في الحقيقة سلبية تستنفد ذاتها. فالشخص الساخر الجمالي؛ إذ يخدره فراغه الزائد، يعيش حياة احتمالية لا دلالية، فيخفي عدمه وراء زخرف هذا التكوين الذاتي اللامع. فبينما تجمع الذات المتدينة بين المتناهي واللامتناهي في مفارقة «التجسد» غير المتصورة، تترنح الذات الجمالية بينهما، فهي إما تغوص في عالم المحدودية الحسية طامسة نفسها في انسياق جبان للنظام الاجتماعي، أو تنتفخ وتطير على نحو كبير، فتهجر الحاجة للتماهي مع النفس، في دوامة لا تنتهي من المفارقات التي تلغي الذات.

إن المستوى الخيالي اللاكاني يجد نفسه وقد غطى عليه المستوى الرمزي، بحيث إن الاغتراب الذي يتضمنه مثلا يبشر بأنواع الاغتراب المختلفة للمستوى الرمزي، أو إن وجود الأم في المرآة يؤشر بتحول التكوين العائلي إلى تكوين ثلاثي، أو إن التنافس مع الآخر الخيالي يؤشر للصراع الأوديبي. وبطريقة مشابهة، فإن المستوى الجمالي عند كيركجارد يقهره ضرب مشئوم من السلبية، وهو ما يطلق عليه الهلع. فالهلع هو لقاء النفس بعدمها، ذلك اللاوجود الذي يطارد حتى عالم الآنية الحسية ذاته. والهلع، أو القلق، هاجس خافت بشأن النظام الرمزي الذي لم يأت بعد، وصورة مسبقة مشئومة للحرية والاختلاف والاستقلال والغيرية. إن عين التشبع في الحالة الجمالية يصير موحيا نوعا ما بالنقص، وإن كان نقصا لا يمكن تسميته بالتأكيد؛ فالآنية كلها تحمل هلعا من العدم، بل ربما حتى نجد في مفهوم كيركجارد هذا صدى لمفهوم جوليا كريستيفا «النبذ»، ذلك الشعور الأصيل بالرعب والاشمئزاز الذي يخالط جهودنا الأولى في فصل أنفسنا عن الأم فيما قبل الأوديبية.

14

فالسقوط باختصار قد وقع بالفعل في كل مرة. فإن لم يكن آدم يحمل استعدادا لارتكاب الخطيئة فكيف كان له أن يستهين بأمر الرب في المقام الأول؟ إن تعدي آدم للحدود - كما يقول كيركجارد - هو أول ما يفتح باب الاختلاف؛ ومن ثم يدشن (بلغة لاكان) النظام الرمزي؛ لكنه لم يكن ليقع إلا إن كان لديه بالفعل إحساس غامض بالحرية الممكنة، وفهم أولي لإمكانية الاختلاف من قبل حدوثه. نحن لا نتحدث عن ظهور الإمكانية بل بزوغ فجرها، إن جاز التعبير. ففي البداية لم تكن البراءة بل كانت الإمكانية البنيوية لتعدي الحد التي تسميها المسيحية الخطيئة الأولى.

إن كان الاتفاق بين المستوى الخيالي عند لاكان والمستوى الجمالي عند كيركجارد لا يكاد يكون تاما، فإن الصلة بين دائرته الأخلاقية والدائرة الرمزية اللاكانية تتضح أنها مباشرة أكثر . فالملتزم بالأخلاق - كما يبين كيركجارد في عمله «إما/أو» - اتضح أنه الفرد المستقل الحر الذي تعبر أفعاله، بطريقة كانط، عما هو عام. فالرجل الملتزم أخلاقيا رجل اجتماعي مسئول برجوازي، مستقر في زواجه وعمله وأملاكه، وقائم بواجبه والتزاماته المدنية. وبعكس الكائن الجمالي المتقلب فهو يوجه نفسه باستمرار، ومتصف بلا مبالاة رواقية لتقلبات القدر. وفي ظل تواطؤه مع الأعراف والمعايير العامة، تجسد حياته الأخلاقية مثالا صادقا على النظام الأخلاقي عند هيجل. وبعكس الشخص الجمالي، فإن العالمين الداخلي والخارجي متوازنان بتناغم في شخصيته. إن الشخص الأخلاقي عند كيركجارد متآلف تماما مع مفاهيم القرار والالتزام والعمومية والموضوعية والتأمل الذاتي والهوية المركزية والثبات الزمني.

Shafi da ba'a sani ba