80

Matsaloli da Baƙi

مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق

Nau'ikan

6

فالتحليل النفسي باختصار ما هو إلا صورة من التجرد السياسي؛ وذلك كما يره الماركسيون السوقيون، لأسباب أكثر تعقيدا هذه المرة. فمسألة الروابط الاشتراكية أو المتبادلة التي تقوم على الواقعي ببساطة تنحى جانبا، فهي كما سنرى مسألة يسعى اللاهوت - الذي يرى أن المجتمع الخالد هو مجتمع لا يقوم إلا على الحب العنيف المقترن بالتضحية - لطرحها؛ رغم أن راجمان بعد أن ذكر في دراسته الرائعة أن المسيحية أحد العوامل التي أثرت في كتابات لاكان إلا أنه يعجز في صمت واضح عن تناول هذه المسألة مرة أخرى.

فالرغبة إذن باعتبارها الشيء العام الوحيد في الأخلاق تتعارض من منظور لاكان مع الخير؛ لكن الاثنين ليسا كذلك إطلاقا عند مفكر مثل توما الأكويني الذي يرى أن الخير هو ما لا يسعنا سوى أن نرغبه. فالرغبة عند الأكويني ما هي إلا صورة للخير الأسمى بداخلنا؛ أي الطريقة التي بها أصبح جزءا من جسدنا والتي يستحوذ بها علينا بعيدا عن الإرادة المجردة. ففي كتابه «الخلاصة اللاهوتية» يتنبأ الأكويني بمعتقد لاكان أن الرغبة هي ما يصنع ما نحن عليه، وهذه الرغبة التي تعمل بصفتها المبدأ الحاكم لكل أفعالنا عبارة عن تطلع إلى ما يسميه «السعادة». فمن الطبيعي أن نرغب في السعادة، لكن من الطبيعي أيضا ألا ننالها باعتبارنا كائنات منقسمة على ذاتها مزقها الزمن وعاجزة عن التوافق مع نفسها. فالرغبة عند الأكويني لا نهائية، مثلما هو حالها عند أتباعه المحللين النفسيين، فعدم الرضا هو حالتنا الطبيعية، والكمال الذي نسعى إليه يؤشر بنهاية بشريتنا. إن الرؤية الأكوينية لحال البشر تشبه إلى حد مدهش مثيلتها اللاكانية وإن كانت مجردة من بعدها التراجيدي؛ إذ إن الرغبة التي تستنفدنا إلى العدم في رؤية الأكويني تتم بحب الرب الذي هو سببها وهدفها معا.

7

والخير في رؤية لاكان الأكثر غرابة هو ما يدافع عنا ضد متعتنا المميتة؛ ومن ثم يمثل أثرا للتحريم الأبوي. إذا فالتحليل النفسي - الذي هو دراسة عجزنا عن إيجاد الرضا ومقاومتنا المنحرفة لاحتمالية السعادة ذاتها - يدشن في نظر لاكان ثورة تنقض كل الفكر الأخلاقي السابق. إن وجود هذا الشيء في شهوتنا الذي يخالف جوهريا سعادتنا (النسخة الفرويدية من الخطيئة الأولى إن جاز التعبير) هو السبب في أننا لم يعد بإمكاننا أن نرضى بنظام أخلاقي قائم على الفضيلة أو السعادة، نظام يكون أكثر ملائمة للسياسيين والعاملين بالمجال الاجتماعي من أولئك المتمردين على الروح البشرية من أمثال لاكان نفسه. وكما يعبر عنه راجمان في حدة: «يرى فرويد أن الحب متعارض مع الأخلاق.»

8

فهناك قانون العدالة والخير الأسمى في المدينة، متجسدا في شخص كريون في مسرحية سوفوكليس «أنتيجون»، وهناك قانون آخر يتجسد تماما في أنتيجون المنشقة نفسها، قانون غير مكتوب وغير معروف يتجاوز بعناده القاتل مبدأ المتعة ومبدأ الواقع معا، ولا يبالي في إصرار بتقاليد البرجوازية الصغيرة للمدينة.

لو كان بوسع لاكان أن يتخذ موقفا غير متردد من هذا القانون الأخير؛ فذلك لأسباب من بينها أنه غير سعيد بالرؤية السياسية للمدينة العادلة، ففرويد نفسه - كما يرى لاكان - لم يؤمن يوما بالتقدم الاجتماعي ولا بالسياسة الثورية، وكان محقا تماما في رفضه مثل هذه الأوهام المسكنة. وينتمي الفكر اللاكاني من هذا المنطلق إلى عهد ما بعد الثورة، عهد لا يتحمس على نحو ملحوظ للطاقات الجماعية أو الحلول السياسية. وينبغي فهمه، من بين أشياء أخرى، في إطار فساد الاشتراكية وبزوغ الفاشية. لكن سوفوكليس الذي يكن له لاكان إعجابا شديدا لا يتفق كثيرا مع فكره السياسي المتشكك؛ فالانتقال من «أنتيجون» أو «أوديب ملكا» إلى «فيلوكتيتس» أو «أوديب في كولونوس» يعني مصادفة ضرب مختلف تماما من السياسة، ضرب يغلب فيه أخيرا إصرار من هم مثل أنتيجون؛ حيث تستغل القوى المتعنتة لنفي الذات في مهمة إصلاح المدينة؛ إذ يقع ثاناتوس - بتعبير فرويد - في صورة متسامية تحت وطأة مشروع إيروس الذي يخضع الحياة، كما هو الحال في نهاية مسرحية إسخيلوس «أوريستيا»؛ فباحتضان المدينة لرموز الموت والمرض والفوضى - سواء أكانت في صورة الفيوريس المنتقمة أم فيلوكتيتس الغارق في صديده أم أوديب الملعون - تعي بفضل الرب الوحشية القابعة في قلبها، وفي هذه المواجهة المريعة مع النظام الواقعي تطلق القوة العليا لتحمي وتعيد تشكيل نفسها.

9

فالمسألة على أي حال ليست مواجهة بين متمردين متجهمين نافرين من الحياة الاجتماعية ومدينة توافقية جامدة، إلا أن هذه المقارنة التي تحمل طابع ألبير كامو قد تروق لعصر انهزامي من الناحية السياسية. ربما لم يدرك كريون رغبة أنتيجون، لكن هذا لا ينطبق على ثيسيوس الذي يرحب بين أسواره أيما ترحيب بالبطل الفاسد الخائف في «أوديب في كولونوس». ربما يعامل بنثيوس - حاكم طيبة في «الباكوسيات» ليوريبيدس - ديونيسيوس ورجاله بقمع يحمل طابع قمع كريون؛ لكن لا ضرورة عنده للتصرف بعنف مريع تجاه هؤلاء الأشخاص الفوضويين المحبين للموت، الذين يرمزون لمتعة النظام الواقعي الفاجرة. وفي واقع الأمر، قد نصح سريعا بألا يفعل. ليس من الضروري أن تكون السياسة والرغبة دائما متعارضتين. لقد كان ويليام بليك أكثر حكمة في هذه النقطة من جاك لاكان؛ إذ يرى الأخير أنهما لا يمكنهما تدشين تلك المواجهة الحيوية التي تعرف بإعادة التهذيب السياسي للرغبة، وهو عمل يبدو أن الواقعيين لا يمكنهم تخيله إلا في صورة إخصاء غادر.

Shafi da ba'a sani ba