78

Matsaloli da Baƙi

مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق

Nau'ikan

وعلى هذا فلا يسعنا إلا التعليق برد خاطف بأنه بالفعل من الصعب جدا تحديد المقصود بهذا النظام، وأنه، أيا كان، لا علاقة له إطلاقا بالتاريخ من منظور لاكان، وأنه دائما يعود إلى نفس النقطة تماما ولا يتفكك كما لا يذوب الصخر في الماء. وهذا من بين الأسباب التي تجعل المفهوم بالكامل فضيحة في نظر ما بعد الحداثيين الذين يفضلون أن يكون واقعهم أكثر طواعية ولينا.

إن النظام الواقعي لا يقتصر على أنه غير مرادف للواقع المعتاد أو التقليدي، بل إنه يكاد يكون عكسه.

4

صحيح أنه في كتابات لاكان الأولى ربما يرى البعض أن المصطلح استخدم في بعض الأحيان ليدل على تمرد العالم المادي أو الدوافع الجسدية التي لا يمكن تصويرها أو المتعة التي تتجاوز النظام القضيبي أو الآثار غير اللفظية للرغبة التي تنفلت من النظام الرمزي. وفي أعماله المتأخرة يتمتع المفهوم بنفس القدر من التقلب، فهو قد يشير إلى الاستحالة المفترضة للعلاقة الجنسية أو الإخلاص غير المشروط للقانون الخاص بوجود الفرد، بصرف النظر عن غموض هذا القانون أمام العقل، الذي هو الأساس لكل الرؤى الأخلاقية الحقة. وفي الحالة الأخيرة نتحدث عما يسميه لاكان أخلاق الدافع بدلا من أخلاق الرغبة، وهي أخلاق تشق طريقها عبر التصورات التي تغذي الرغبة لتظهر في صورة أقل إبهاما على الجانب الآخر. في المقابل، فإن النظام الواقعي هو ما يسميه ميلان كونديرا في روايته «الخلود» «الفكرة الرئيسية» لهوية الفرد؛ أي مرضية الرغبة غير القابلة للاختزال التي تميز كل إنسان، فإن كان دافع الحياة (إيروس) ودافع الموت (ثاناتوس) عامين، فإنهما مع ذلك يتركان أثرا فريدا على كل فرد.

مع ذلك - وبالرجوع إلى جيمسون - فإن مساواة الواقعي بالواقع التاريخي ببساطة هي قراءة خاطئة بكل تأكيد؛ فالواقع عند لاكان مجرد مكان ذي مستوى أدنى للتصور وظيفته حمايتنا من هوة النظام الواقعي، كملجأ نوعا ما للنفس. فالتصور هو ما يملأ الفراغ في وجودنا لكي تتمكن مجموعة القصص التي أهلكها تداولها الكبير، والتي نسميها الواقع، من الظهور. كما يرى لاكان، أن في الحلم - وليس في المكان المبهرج الذي نسميه الواقع - يكون اقترابنا من النظام الواقعي لرغباتنا. فالنظام الواقعي هو ما يخلخل هذه الصور الجميلة؛ ليخرج الذات من حالتها السليمة ويخرج النظام الرمزي من وضعه الصحيح. فهو نقطة فشل الذات وطريقها المسدود، والطريقة التي تعجز بها الذات عن الاتساق مع نفسها، والجرح الأصلي الذي أصابنا بطردنا من الجنة فيما قبل الأوديبية، وهو الإصابة البالغة في وجودنا حيث ننتزع من جسد الأم وتتدفق منها الرغبة دون توقف.

إنها تلك الصدمة الأولى - ذلك التحريم الأبوي المروع، وسيف الإخصاء الذي بيد القانون، وعذاب الانفصال، والشيء المرغوب المفقود إلى الأبد، والواجب الذي تفرضه الأنا العليا للانغماس في إحساسنا بالندم - هي ما تبقى كنوع من اللب الصلب المروع داخل الذات. وفي ظل السجال المميت بين القانون والرغبة ننقاد لنمارس الجلد القهري والمرضي للذات الذي يمارسه الأموات الأحياء. ومثلما يرى شوبنهاور أننا جميعا نحمل دائما في داخلنا وحوشا، وأن القوة الخبيثة التي سماها الإرادة هي التي تظهرنا في صورة إنسانية، فإن النظام الواقعي على نحو ما جسم غريب مغروس بداخلنا. إنه ذلك الشيء الذي بداخل الذات الذي يزيد على الذات، إنه فيروس قاتل يغزو جسدنا لكنه - كما يقول الأكويني عن الرب - أقرب إلينا من أنفسنا.

ليست الرغبة شخصية إطلاقا، فهي - كما أدرك جون راسين - بلاء كامن بانتظارنا منذ البداية؛ سيناريو تراجيدي نرثه ممن يكبروننا؛ بيئة مشوهة نغرق فيها عند الولادة. إنها «الشيء الذي في الذات» الذي يجعلنا ما نحن عليه؛ فهي وتد غريب مغروس في جوهر وجودنا. غير أنها أيضا، كما سنوضح فيما بعد، وسيلة محتملة للخلاص. إن النظام الواقعي هو الشيء الأكثر اضطرابا دائما فينا، وهو الأكثر ارتباطا بجوهرنا. وفي هذا الوضع الملتبس يظهر باعتباره نوعا من «السقوط السعيد»، والعيب أو النقص في تطابقنا مع الذات الذي يضمن أن نظل غير منطبقين مع ذواتنا دائما؛ لكن من دونه لن نتمكن من أن نكون على حقيقتنا؛ فهو كالسمو، وهو نسخة معاصرة منه، مغر وبغيض في الوقت ذاته، هو مصدر لرعب لا يوصف؛ لكنه (كما سنرى بعد قليل) ذلك المصدر الخفي لوجودنا الذي يجب علينا أن نؤمن به بأي ثمن.

إن النظام الواقعي صادم وغامض وقاس وفاحش وفارغ بلا معنى وممتع على نحو مروع، فهو في غموضه صورة من الشيء في ذاته الذي لا يمكن معرفته في فكر كانط، وما يتجاوز معرفتنا في النهاية هو الإنسانية نفسها. وبتطويع ملحوظة فتجنشتاين عن الأخلاق، فإن النظام الواقعي يتضمن الاصطدام بحدود اللغة، والإصابات الناتجة عن هذا الصدام هي الشواهد الحية على فنائنا. لا يمكننا أن نستوعب هذه الظاهرة الغريبة إلا بتحليلها على نحو عكسي - إن جاز التعبير، من نتائجها - من وجودها عائقا أمام خطابنا، مثلما لا يستطيع الفلكيون أحيانا أن يتعرفوا على جرم سماوي إلا من خلال التأثير الانحنائي الذي يسببه للفضاء من حوله؛ إذ إن اتخاذ النظام الواقعي شكلا ملموسا، وظهوره في الواقع ذاته، هو قدر المصاب بالذهان الذي انهارت قدرته على الترميز، فالنظام الواقعي هو مشهد الافتتاح، ورمانة الميزان، والشيء المجرد فيما وراء العلامة أو العنصر المجرد في أي نظام سيميائي وظيفته الدلالة على الحقيقة بحيث لا يمكن تجميعه؛ فمن منظور معين، يعني هذا الرمز الكودي الذات الإنسانية نفسها، الفراغ الذي يوجد بقلب النظام الرمزي. وهذا الفراغ هو الشرط المسبق لكي يعمل هذا النظام بكفاءة، لكنه لا يمكن تصويره فيه بصورة كاملة.

يرفض النظام الواقعي، باعتباره ثغرة في بنية النظام الرمزي، الدلالة الرمزية عليه، فهو نوع من الفائض أو الفضلات يظل باقيا عندما يتشكل الواقع بالكامل. إنه المرحلة التي تتحول فيها صناعتنا للدوال إلى انعدام للترابط، وتبدأ فيها معانينا في الانكشاف من أطرافها؛ وبذلك فهو لا يسجل نفسه بصورة مباشرة، بل يرسم الحد الخارجي لخطابنا أو للصمت المنقوش داخله. فهو يمثل لبا صلبا أو فراغا شاسعا في قلب نظامنا الرمزي (التشبيهان المتناقضان سليمان) إن منعا من الامتزاج التام مع أنفسنا ففي ذلك انهيار للكل وتخريب لكل المعاني المفهومة. إنه الفراغ الخالي على نحو مطلق من المعنى الذي نجد صداه في حديثنا المنطوق، والعقدة في وجودنا التي لا يمكن لأي قدر من العمل الروحي المضني أن يفكها؛ ففي قاع المعنى - كما في الشعر - يظل دائما ثمة بقية من اللامعنى.

إن ظل النظام الواقعي هذا هو ما شعرت به الرسامة ليلي بريسكو بالقرب من نهاية رواية فيرجينيا وولف «إلى المنارة»؛ إذ تحاول إنهاء إحدى اللوحات، وفي نفس الوقت تحاول فهم العالم من دون مركزه المشرق، محبوبتها السيدة رامساي. ومع الانسحاب المفاجئ لهذا الجسد الأمومي الحاضن تشعر ليلي «وكأن ذلك الرابط الذي يربط عادة الأشياء ببعضها قد انقطع، وهي تسبح هنا وهناك، مبتعدة، بأي صورة. وفكرت، وهي تنظر إلى فنجان القهوة الفارغ خاصتها: كم كان هذا عبثا، كم كان فوضويا، كم كان غير حقيقي!» وبينما يطلق السيد رامساي صرخاته المفككة المفجوعة («وحيد»، «هالك»)، تشعر ليلي بأنها إن تمكنت فقط من تجميع هذه الدوال المروعة معا و«وضعها في جملة واحدة فسيمكنها حينها أن تصل إلى حقيقة الأشياء ... إن ما تمنت أن تمسك به هو عين المصدر المسبب للإزعاج، الشيء ذاته قبل أن يكون أي شيء.» والحداثة بصفة عامة تتسم بهذا الشغف بالمواجهة المباشرة مع النظام الواقعي، فلا تجد سوى ما يسوءها، وهو توسط الدال بينهما. وهذا - يمكننا أن نقول - هو مكمن انتصارها وجزعها في الوقت ذاته. لكن النظام الواقعي في رواية وولف هو أيضا سبب الانحراف، وهو العقبة؛ فالجهاز البشري الخاص بالرسم - والإحساس - «دائما ما يتعطل في اللحظة الحاسمة، ويجب على الإنسان ببسالة أن يجبره على الاستمرار.» تفتش ليلي عن كلمات تعبر عن فراغ الموت الذي يقبع في جسدها، والإحساس بوجود «مركز الفراغ التام» الذي يبدو أن مصدره ليس موت السيدة رامساي بقدر ما هو الإحساس المطلق بالتوق في ذاته، وهو جوهر الرغبة المطلق غير المقيد. إن كانت ليلي غير قادرة على استكمال لوحتها، فذلك لأسباب ليس أقلها أنه في كل مرة يظهر لها نذير الموت الهزيل، السيد رامساي، برغبته الجهرية في التعاطف «يقترب الخراب، وتقترب الفوضى» في هذا «المنزل المليء بالعواطف غير المترابطة».

Shafi da ba'a sani ba