115

Matsaloli da Baƙi

مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق

Nau'ikan

لكن رغم أن الآخر الكبير بعيد وعصي على الفهم - لا يرى إلا كما ترى الأنا العليا في صورة واجب مستحيل أو قيد يثقل الكاهل أو اتهام لا سبيل لدفعه - فهو في الوقت نفسه طاغ في حميميته، ونوع من الغيرية بداخل جسدي؛ وبذلك يمثل شيئا يتمتع بطبيعة النظام الواقعي المزدوج؛ فالآخر الكبير قريب وعسير المنال في نفس الوقت، أقرب من أن نتجنبه وأبعد من أن ندركه؛ فهو - إن جاز التعبير - معين عندي تلقائيا في لا تعينه، دونما إخلال بسموه المطلق علي، وظاهره يبرز خفاءه التام. فالآخر الكبير؛ إذ يواجهني بادعاء ملكية وجودي ملكية مطلقة - وهو ادعاء شأنه شأن القانون الأخلاقي الكانطي لا يمكنني تأكيده ولا تجنبه - فهو يجعل موقعي المستقر في النظام الرمزي مضطربا، وينتهك بقوة كلية عالمي النرجسي، فيلقي بي في ظلمات الضياع ويطردني من وطني ويجعلني أتحمل عبء مسئولية لا متناهية نيابة عنه. فالإنسان لا يمكنه أبدا أن يكون على قدم المساواة مع الآخر الكبير الذي يكون من هذا المنطلق في صورة رب لا يمكن استرضاؤه. لا ينظر ليفيناس في هذا الإطار لمفارقة العهد الجديد أن هذا الفرض المريع نوع من الحب؛ الحب الذي برغم استبداديته القاسية يستوعب ضعفنا من جميع نواحيه، ويسعد بنا كما نسعد به تماما. ومثلما لا يطلب المسيح من الآثمين التوبة قبل أن يتمتعوا بصحبته، فكذلك الرب يحب مخلوقاته حبا غير مشروط؛ وهو ما يعني حبهم بكل خطاياهم. وهذا هو ما يراه الملتزمون أخلاقيا، السابقون إلى تطوير أنفسهم، خزيا أكبر من أن يقبل.

تشعر الذات وهي عالقة في هذه المواجهة الأليمة ب «عدم ارتياح في داخلها» وبأنها «مغتربة عن نفسها» وغارقة في الشعور بالذنب الذي لا يغتفر، كما لو كانت ترتدي قميص هرقل السام. وكما هو الحال عند أنصار مذهب الخير، فإن الآخر الكبير يبدأ عملية إخراج النفس من المركز، وإن كانت أكثر رعبا وقابلية للتغير في أعين ليفيناس من أعين القرن الثامن عشر المشتهر بتحضره؛ فالتزام المرء تجاهه يمتد لما وراء المنطقية الحضرية لهيوم وبيرك، نحو هذا العطاء الذاتي غير المحدود الذي تأمر به المسيحية اليهودية. إن وضع الآخر الكبير المطلق ولا محدودية فروضه هما الشيء الصادم؛ فالذات إذ تواجه هذا الحضور المشكل تنقسم في لا تماه مع النفس؛ فتصير بائسة وليس مستقلة، عاجزة على نحو دائم عن التوافق مع نفسها. وكل هذا - كما في مذاهب الأخلاق العاطفية - يحدث في أعماق النفس السابقة على التفكير وعلى التاريخ، السابقة على المعرفة أو الإرادة أو الالتزام أو الوعي أو القرار الحر. فهذا الآخر الكبير أبدي على نحو مزعج، وموجود خارج أي سياق اجتماعي أو تاريخي، ومجرد من أي دلالات ثقافية محددة، وسام فوق كل العوامل الأخلاقية أو النفسية. لا يبدو أن ليفيناس يدرك أن تجريد الذات من سياقها الاجتماعي يجعلها أكثر تجردا لا أكثر قربا؛ وبالتالي أكثر شبها بالذات المتحجرة في عصر النهضة التي يبغضها.

إن تاريخ الأخلاق هو ما يسعى ليفيناس لدراسته؛ هذا الكشف عن الغيرية الأصيلة التي تجري في أعماق تكويننا السابق على الوعي لدرجة أنه لا يمكن اعتبارها حدثا أو تجربة والتي بالتأكيد تتفادى أي شيء مباشر كالتصوير العقلي (وفي الوقت نفسه يرفض ليفيناس الحديث عن العلم الذي من المفترض أن يدرس هذه الغيرية الأصيلة؛ ألا وهو علم التحليل النفسي). وهذه المواجهة الأخلاقية الأولية هي مصدر كل المعرفة والفكر؛ ومن ثم تلوح في صورة أصل الذاتية نفسها. فمن خلالها، تبدأ الحقيقة في التكون؛ فالحقيقة هي التعرض الطائش للفرد للآخر الكبير فيما قبل أي خطاب تأملي. كما أنها منبع الإبستمولوجيا؛ إذ إنه من خلال تعاملاتنا مع الآخرين نؤسس عالما موضوعيا مشتركا. إن الحقيقة الموضوعية للآخر الكبير - وطغيانه الفينومينولوجي البحت على أفق رؤيتي - هي نموذج الموضوعية بصفة عامة.

كذلك فإن الآخر الكبير هو ما يكمن في أصل النفس، والمسئولية عن الآخر الكبير هي شرط للمسئولية عن النفس. فالنفس هي الآخر الكبير وتميزها يرجع إلى تحملها عبء الخطيئة والذنب نيابة عن الآخر الكبير على النحو الفريد الذي لا يطيقه سواك وسواي؛ فمسئوليتي عن هذا الآخر الكبير الفاتن مسئولية أولية، مسئولية سابقة على كل الالتزامات الاجتماعية أو الأخلاقية المحددة، مسئولية سابقة على كل القوانين أو الوصايا الكلية، بل وعلى أي خطاب. في واقع الأمر، إن الآخر الكبير هو من ينشئ اللغة، حيث إن أصل الكلام يكمن في الاستجابة الملفوظة لحضوره المربك. كما أن الآخر الكبير سابق على الحرية؛ حيث إن الحرية ليست مسألة اختيار فردي بل «إلزام من الآخر الكبير» يحكمه أمره المخيف وتفرضه صرخته التي لا يمكن تجاهلها في أعماق النفس. ففي مواجهة مع الآخر الكبير تكتسب حرية النفس معنى من خلال مسئوليتها؛ فالكائن الحر وحده هو من يمكن أن يكون مسئولا؛ وهو ما يعني أنه ليس حرا على الإطلاق بأي معنى للكلمة مألوف في التراث الليبرالي الحديث الذي يحرص ليفيناس عن إبعاد نفسه عنه. ففي وجود الآخر الكبير لا يمكن للمرء أن يقترف فعلا إراديا بلا قيود أو يتخذ قرارا محايدا. إننا نتحدث عن الجبر وليس الاختيار.

إن ما يفرضه الآخر الكبير - مثل ما يفرضه القانون الأخلاقي عند كانط أو الأنا العليا عند فرويد - فرضا لا محدود ومفرطا وغير ملفوظ، ولا يمكن الوفاء به، ويتجاوز كل إدراك. وهكذا الحال بالنسبة للاستجابة التي يستثيرها الآخر الكبير بداخلي؛ إذ يجب أن أعتبر نفسي مسئولا عن كل آخر كبير، بل ومسئولا عن مسئوليتهم، ومسئولا عن موتهم (وليس منشغلا بموتي أنا بالدرجة الأولى، كما عند هايدجر)، ومسئولا عن الجرائم التي يرتكبها في حقهم الأشرار. بل إنني حتى مسئول عن اضطهادهم لي. قد يتساءل المرء عما إذا لم يكن ثمة أثر ما من جنون العظمة العكسي في هذا نكران الذات المفرط؛ إذ يبدو تحمل مسئولية الجميع نوعا من العصاب أكثر منه نظاما أخلاقيا، فأنا متهم ومضطهد بل ومهووس بإلزام الآخر الكبير الذي لا يتزحزح و«منقلب بطنا لظهر» ومحطم معذب ومرتد بسببه إلى فراغ وجودي الصامت. فأنا مجبر - بسماعي نداءه الصامت - على الشك في قيمة وجودي البائس وأتجه لاحتقار النفس وأجرد من أدواتي المتواضعة في نفس اللحظة التي يستدعيني فيها الآخر للفعل الحاسم بالنيابة عنه. فعين الفعل الذي يمثلني باعتباري ذاتا يبعدني عن وجودي. فأنا دائما ما أكون في نطاق الخطأ أمام الآخر الكبير، دائما ما أكون البريء المذنب؛ فالذات تظهر إلى الوجود على هيئة كبش فداء.

إلا أن مسئولية الفرد عن الآخر الكبير لا أصل لها إلا في ذاتها؛ إذ لا يفرضها أي قانون أو عرف أو مجموعة من القيم؛ فهي سابقة على كل هذا. فما هي إلا أمر سام غير معروف - «كن مسئولا!» - يتردد صداه من مصدر لا نعرفه، ويجب علينا الإنصات إليه دون معرفة السبب. فليفيناس شأنه شأن العديد من المفكرين الفرنسيين المعاصرين يجعل من الجهل فضيلة. إلا أن هذا الأمر الغامض هو أيضا أساس ما له دلالة؛ أساس القانون والمعرفة والعدالة والأخلاق والأنطولوجيا والسياسة وما شابه. فهذا «الوجه» - أي الضعف المتألم البحت للآخر - يسبق كل الخطاب الأخلاقي والسياسي؛ ورغم أنه يطرح هذه القضايا أمامنا فيجب ألا تنحرف كثيرا عن أصلها في المواجهة المباشرة. فالنظام الرمزي باختصار أساسه في النظام الواقعي؛ إذ إن البعد الأخلاقي هو نموذج ليفيناس من هذا المفهوم اللاكاني، نموذج تتمتع فيه «العلاقة» مع الآخر بكل سمات القوة الصادمة والاستبداد والاغتراب الذاتي والعناد والاضطراب والتجرد من التاريخ والأبدية والفردانية وعدم الارتباط والاستحالة والهوس والقوة التحولية للأخلاق التي فيما وراء الأخلاق عند جاك لاكان. وكما سنرى لاحقا في مفهوم «الحدث» عند آلان باديو، فإن الآخر الكبير عند ليفيناس كشف لا يمكن توقعه، ينتهك بعنف حدود المعروف والممكن معرفته، وهو خلال ذلك يؤذن بميلاد نوع جديد من الحقيقة في منطقة بعيدة جدا عن الإدراك التقليدي. فإن كان النظام الواقعي يتضمن أيضا مراقصة الموت فإن مبالغات المخاطرة والكشف الذاتي هذه موجودة عند ليفيناس في صورة هجرنا لذاتنا من أجل الآخر «الكاره» الذي يهدد في كل لحظة، مثل الجار العدائي عند فرويد، بتدميرنا بحقده.

في الواقع فإن نظم لاكان الثلاثة جميعا تتداخل في أعمال ليفيناس؛ ففي قلب فكره تكمن العلاقة الفريدة المباشرة غير القابلة للاختزال القائمة على الشفقة والرحمة والمسئولية، في إشارة واضحة في سياقنا إلى النظام الخيالي. صحيح أن مكان الآخر باعتباره هدف الخير قد شغله الآن الجار الغريب المكروه؛ التجلي المريع للنظام الواقعي؛ لكن الوضع المميز للعلاقة المباشرة يظل ثابتا إلى حد كبير؛ فوجه الآخر الكبير ظهور أو تجل «يناديني باسمي» أو «يحييني» أو يستنطقني، كما في نسخة ألتوسير الخيالية من الأيديولوجيا، حتى وإن كان هذا الاستنطاق في حالة ليفيناس يعني تركي معدما وليس مرتاحا في بيئة اجتماعية مألوفة؛ إذ يسعى ليفيناس - مثل أنصار مذهب الخير - إلى تقويض الأخلاق التي تقوم على الأنانية، وإن اختلف كل منهما فيمن يستهدف: فهم يستهدفون هوبز، ويستهدف هو هوسرل. إن التقارب بين الذوات هو محل الجدل هنا؛ «المداعبة» أو «التلامس» أو «التلاصق» شبه الجنسي فيما بينها؛ فالمواجهة التي تتم لا يتوسطها أي محتوى؛ بل إنها ما يصفها ليفيناس بنبرة تحذيرية ب «التواصل الخالص؛ أي تواصل من أجل التواصل».

5

فليس ثمة ما هو مبتذل أو «رمزي» بقدر المحادثة في هذا النطاق المقدس.

يزعم ليفيناس أن «آنية العالم الحسي هي مناسبة للتقارب وليس المعرفة.»

Shafi da ba'a sani ba