Makamar Tarihin Kubra
مقامرة التاريخ الكبرى: على ماذا يراهن جورباتشوف؟
Nau'ikan
ولا بد أن يكون لهذا الموضوع الهام حديث آخر حين نواصل عرضنا لأسباب هذا الانقلاب المفاجئ في أوضاع المعسكر الاشتراكي.
الفصل الثالث
الخلل في الداخل
لا جدال في أن سباق التسلح قد وضع الكتلة الشرقية في مأزق يجعلها عاجزة عن تحقيق الكثير من إمكانات تجربتها الاشتراكية؛ ذلك لأن مؤسسي هذه التجربة، مثل ماركس وإنجلز ولينين، لم يعملوا حسابا للتنافس في ظل حرب باردة وتسلح ثقيل تمتص تكاليفه عرق الناس وجهدهم عاما بعد عام، بل تخيلوا جوا من التنافس السلمي، وتفاءلوا بحتمية انتصار الاشتراكية على الرأسمالية في مثل هذا الجو. ولقد تمثلت براعة النظام الرأسمالي في خلق أوضاع لم تخطر ببال هؤلاء المؤسسين، يدور في ظلها التنافس داخل إطار مختلف تماما عن ذلك الذي تصورته النظرية الاشتراكية، فنجح بذلك في إبطاء نمو المجتمعات الاشتراكية وإبعادها عن السباق معه وفرض التخلف عليها في جوانب كثيرة من حياتها.
ويستطيع القارئ العربي أن يستوعب هذه النقطة بسهولة تذكر ما قام به الاستعمار العالمي تجاه مجتمعاتنا العربية من أجل إيقاف نموها، فبعد أن أيقن أن عصر الاحتلال المباشر لأراضي الغير قد ولى، وأن للمنطقة العربية موقعا استراتيجيا عظيم الأهمية بين الشرق والغرب الجغرافيين، وبين الشرق والغرب الأيديولوجيين، وعرف أن هذه المنطقة تضم أضخم مخزون لأهم مصدر عالمي للطاقة، وأن موارد النفط يمكن أن تكفل لها نموا اقتصاديا واجتماعيا هائلا، توصل إلى أن زرع إسرائيل في قلب الوطن العربي هو خير وسيلة لإيقاف هذا النمو، فضلا عن أن هذا الكيان الغريب هو في الوقت ذاته ركيزة وقاعدة كبرى للاستعمار في المنطقة، ومن المؤكد أن النهضة والتنمية العربية كانتا ستتخذان طريقا أكثر إيجابية بكثير مما هو عليه الآن، لو لم تكن إسرائيل قد غرزت في قلب هذه المنطقة.
لقد كان الأسلوب واحدا في الحالتين، وعن طريقه نجح الغرب الرأسمالي في خلق ظروف مصطنعة تحول دون تمكين القوى المناوئة له من تحقيق إمكاناتها الكامنة. ومع ذلك فإن هذا لا يعني على الإطلاق أن إخفاق التنمية، في الحالتين أيضا، لم يكن له من سبب سوى تلك المؤامرة الاستراتيجية الكبرى، فقد كانت الأخطاء الداخلية فادحة، ولما كان الحديث عن التجربة العربية خارجا عن إطار بحثنا الحالي، فسنحاول الآن استخلاص أهم العوامل الداخلية التي أدت إلى هذا الوضع الذي يبدو في نظر العالم كما لو كان انهيارا تاما للتجربة الاشتراكية ككل.
لقد كان العامل الاقتصادي حاسما في الثورة التي زلزلت أنظمة الدول الاشتراكية خلال شهور قلائل، ولكن هذا العامل لن يعالج مستقلا في هذا البحث الذي نقوم به؛ وذلك لسببين: أولهما أن كاتب هذه السطور لا يعرف عنه، بحكم تكوينه الثقافي، إلا القشور، فالبحث في تأثير ابتعاد الاقتصاد الاشتراكي عن نظام السوق، وعيوب نظام تحديد الأسعار، والمشكلات المترتبة على التخطيط المركزي، إلى آخر هذه الموضوعات الاقتصادية ذات الأهمية العظمى، يفوق قدراتي إلى حد لا يسمح لي بإصدار أي حكم مفيد بشأنه، غير أن هناك سببا آخر هاما لعدم لجوئي إلى معالجة العامل الاقتصادي على نحو مستقل، هذا السبب هو أن الإنسان الذي خرج يتظاهر في الشوارع مع مئات الألوف من أقرانه في الساحات الكبرى بمدينة بودابست أو براغ، والذي عرض صدره للرصاص في تيمشوارا، لم يكن يثور من أجل عامل منعزل عن بقية العوامل فالكيان الإنساني وحدة لا تتجزأ، وحين يخاطر المرء بحياته من أجل إحداث تغيير جذري في مجتمعه، فإنه يفعل ذلك بكيانه كله، ولا يستجيب فقط لنداء معدته حين لا تجد ما يشبعها، أو جلده حين لا يجد ما يدفئه، وإنما يستجيب أيضا لنداء عقله الذي يرفض كبت رأيه ، وروحه التي تأبى الظلم الواقع عليه. وفي الوعي السياسي والاجتماعي للمواطن العادي، لا ينفصل الاقتصاد عن علاقة هذا المواطن بحكامه ورؤسائه وأقرانه، وعن رأيه في الطريقة التي يدار بها مجتمعه ككل. وهكذا فإن الاقتصاد، الذي يمكن أن يعالج مستقلا لأغراض التحليل العلمي، يكون جزءا من كل أشمل منه في الحياة الفعلية للإنسان، وفي مختلف ممارساته الاجتماعية، ولما كان هذا الأمير الأخير هو الذي يعنينا، فإن هذا يعطينا مبررا آخر لمعالجة موضوع الاقتصاد في سياقه الأوسع والأعم.
ولأضرب مثلا لفكرتي هذه، بالحديث عن إنتاجية الإنسان العامل في بلدان المعسكر الاشتراكي، هذا بالطبع موضوع يستطيع المتخصصون أن يزودونا فيه بأرقام وإحصاءات وجداول دقيقة، ولكن أغلب الظن أن هذه المعلومات الكمية المفيدة ستؤدي، آخر الأمر، إلى تأكيد ذلك الانطباع الذي يخرج به كل من زار بلدا من هذه البلدان، وهو أن العامل - بأوسع معاني هذه الكلمة أي بمعنى كل من يمارس عملا من أي نوع - أقل إنتاجية بشكل واضح من نظيره في بلاد أوروبا الغربية، ناهيك عن أميركا واليابان، فحصيلة عمله محدودة، وطريقة إنجازه لهذا العمل تتسم بقدر كبير من البطء والتكاسل. وعلى الرغم من أن هذا حكم انطباعي تولد في نفس كاتب هذه السطور نتيجة زياراته لمعظم بلدان المعسكر الاشتراكي، واتفق فيه مع كثيرين غيره ممن كانت لهم مع هذه البلاد تجربة أطول، فإن أمثال هذه الانطباعات، حين تكون حصيلة ملاحظة دقيقة، لا يجوز تجاهلها، وخاصة إذا كان الفارق واضحا بينها وبين الانطباعات التي تتكون لدى من يزور بلدا من بلدان المعسكر الغربي.
المهم في الأمر أن الإنتاجية الضئيلة للعامل تشكل خطورة كبرى على حياة أي مجتمع؛ ذلك لأن ثروة هذا المجتمع هي، إلى حد بعيد، حصيلة إنتاج العاملين فيه، فإذا كان كل عامل في موقعه لا يتحرك إلا ببطء، ولا ينجز إلا الحد الأدنى، فإن المجتمع ككل لا بد أن يعاني أزمات اقتصادية خانقة.
ولكننا حين نبحث في الأسباب التي تجعل قدرات العامل الإنتاجية محدودة، نجد أنفسنا مضطرين إلى الجمع بين الميدان الاقتصادي والميدان السياسي والاجتماعي، وربما الأخلاقي، في وحدة واحدة، ففي استطاعة المرء، حين يتعمق التفكير في ظاهرة التكاسل والتباطؤ هذه أن يدرك وجود نوع من المقاومة الصامتة لدى شعوب أوروبا الشرقية على الأنظمة الجائرة التي كانت تحكمها، لقد كانت تلك الأنظمة قمعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وكان أوضح مظاهر القمع أن تنص معظم دساتيرها على أن حزبا بعينه، هو الحزب الشيوعي، أيا كانت تسميته في كل دولة على حدة، هو الحزب الحاكم، مما يترتب عليه أن يصبح أي خروج عن تعاليم ذلك الحزب أو أية محاولة لإحلال حزب آخر محله، خروجا عن الدستور يستحق أشد العقاب. فما معنى أن يعطي أي حزب لنفسه هذا «الحق الإلهي» في أن يكون هو الحاكم إلى الأبد؟ وإذا كانت مبادئه الأساسية تقول إنه هو المدافع الحقيقي عن العمال والفلاحين لأنه هو الذي يمثل طبقتهم تمثيلا أمينا، وإذا كان العمال والفلاحون هم الأغلبية الساحقة في أي شعب، فلماذا لا يجعل سلطته مرتكزة على اختيار يمارسه هذا الشعب بحرية تامة؟
Shafi da ba'a sani ba