Makamar Tarihin Kubra
مقامرة التاريخ الكبرى: على ماذا يراهن جورباتشوف؟
Nau'ikan
الفصل السادس
صورة المستقبل
العالم كله يتحدث اليوم عن مفاجآت غير متوقعة، ويرسم لعقد التسعينيات صورة تختلف جذريا عن جميع العقود السابقة، بل يذهب البعض إلى حد القول أن القرن الحادي والعشرين بدأ بالفعل منذ 1989م، مثلما بدأ القرن التاسع عشر مبكرا منذ الثورة الفرنسية في 1989م، وبدأ القرن العشرون متأخرا منذ الحرب العالمية الأولى سنة 1914م. وهي فكرة معقولة إذا أخذنا في اعتبارنا أن نقاط التحول الحاسمة في التاريخ البشري لا يتعين أن تتفق مع السنوات التي تبدأ أرقامها بأصفار. ومع اعترافنا بأن المستقبل يحمل في طياته مفاجآت كبيرة، وبأن التحولات الهائلة في الشهور القلائل الأخيرة تمثل بذرة خصبة لتغيير وجه العالم بأسره في المستقبل غير البعيد، فلا بد من الاعتراف أيضا بأن عناصر التغيير وعوامله الأساسية كانت موجودة من قبل، وإن كان العالم قد تأخر كثيرا في إدراك ما تنطوي عليه هذه العناصر من دلالات.
لقد كان التصعيد العالمي للسلاح، وبلوغ التهديد النووي والصاروخي أقصى مداه، هو ذاته نقطة تحول كبرى نحو إدراك عقم الشكل السائد في العلاقات الدولية، كانت صورة الموت الذي يمكن أن يلقي بظله الأسود على العالم كله في لحظة واحدة، هي ذاتها الدافع الأكبر إلى التشبث بالحياة، وكانت الخطوة المنطقية، بعد أن أدرك كل من الجانبين أنه يستطيع أن يفني الآخر ويفني العالم معه في ثوان معدودات، هي أن يفكرا معا في أسلوب آخر للتعامل بينهما، يحل فيه التفاهم والوفاق محل المواجهة المخيفة.
ولكن أحد الطرفين كانت له مصلحة مباشرة في استمرار هذه المواجهة، والطرف الآخر كانت له مصلحة مباشرة في الانتقال إلى حالة التفاهم. وهكذا جاءت المبادرة من جورباتشوف، وكان أعجب ما في الأمر أنه فرض هذه المبادرة على ريجان في السنتين الأخيرتين من حكمه، وأرغم هذا الصقر المتصلب على التفاهم مع من كان يسميهم «إمبراطورية الشر»، لتبدأ بذلك المرحلة الأولى في التنفيذ العملي لسياسة الوفاق والتعايش والتفاهم الإيجابي.
لقد كان واضحا، قبل جورباتشوف بمدة طويلة أن الرأسمالية باقية، بل إن جوانب كثيرة منها تزداد قوة، وكان واضحا أن الهدف الذي تبنته ممارسات الحركة الاشتراكية بعد ثورة 1917م مباشرة، وهو استئصال الرأسمالية بالتدريج، وإحلال النظام الاشتراكي محلها، قد أصبح هدفا مستحيل التحقيق، وذلك في المستقبل المنظور على الأقل، ولكن الرؤساء المتعاقبين للاتحاد السوفياتي، على الرغم من إدراكهم هذه الحقيقة، لم يكونوا على استعداد لبناء سياستهم الرسمية على أساس الاعتراف بها، وكان الأمر يحتاج إلى قدر كبير من الشجاعة من أجل إعادة رسم السياسة العامة على نحو يتلاءم مع هذا الأمر الواقع، وهذا هو الدور الذي اضطلع به جورباتشوف، بل إنه لم يكتف بذلك، وإنما أدرك أن المعسكر الاشتراكي هو المهدد بالخطر لو استمر على جموده، ولو استمرت الفجوة بين الشعارات والممارسات الفعلية على هذا القدر من الاتساع، ولو ظل حاجز عدم الثقة، والسخط المكتوم، يحول دون تحقيق أي تجاوب بين شعوب البلاد الاشتراكية وأنظمتها. ومن هنا جاء انقلابه الكبير على جميع السياسات السابقة.
إن الكثيرين يتصورون أن جورباتشوف يهدف إلى تطعيم الاشتراكية بمبادئ مستمدة من ليبرالية الغرب الرأسمالي، كمبدأ حرية التعبير وحرية الانتخاب وديمقراطية التمثيل النيابي، إلخ ... ولكني أعتقد أنه أدرك حقيقة أساسية لم يدركها أسلافه، وهي أن هذه المبادئ ليست بالضرورة جزءا من النظام الفكري للغرب نفسه، وليست بالضرورة متعارضة مع الاشتراكية، كما تصور الكثيرون، وإنما هي جزء من التراث الإنساني بأعم معانيه. ولقد كان الاشتراكيون المتزمتون مخطئين حين هاجموا الديمقراطية السياسية باعتبارها نتاجا غريبا بحتا، ونظروا إليها على أنها جزء لا يتجزأ من آليات النظام الرأسمالية؛ ذلك لأن هذه الديمقراطية إذا كانت قد عبرت عن نفسها تعبيرا واضحا مع مطلع العصر الرأسمالي، فلا ينبغي أن تظل هذه النشأة مرتبطة بها إلى الأبد، فحق الإنسان في التعبير عن نفسه بحرية، وحقه في أن يختار ممثلين عنه يتولون الحكم أو يحاسبون الحكام ويشرعون القوانين. هذه الحقوق تعد مكتسبات عظيمة للإنسانية كلها، حتى لو كان أصلها القريب راجعا إلى الغرب الرأسمالي. ومن المؤكد أن جميع التبريرات التي قدمتها الأحزاب الشيوعية الحاكمة طوال العقود السبعة الماضية، من أجل عدم تطبيق هذا النوع الرفيع من الديمقراطية السياسية، كانت تبريرات زائفة، تستهدف تثبيت شكل من أشكال الدكتاتورية، سواء أكانت تلك دكتاتورية حزب واحد، أو فرد يعتقد أنه يجسد الحزب والدولة كلها في شخصه، مثل ستالين أو تشاوشيسكو أو كيم أيل سونغ.
ولكن، هل تستطيع الاشتراكية أن تظل صامدة لو أصبحت ديمقراطية مستندة إلى اختيار شعبي حر؟ لو كانت التجربة قد اتجهت منذ البداية نحو تحقيق هذا الهدف، وتمكنت من بلوغه، ولو جزئيا، وعلى مراحل، وبعد مواجهة كل ما يمكن أن يعترضها من صعوبات ونكسات، لكان الرد على هذا السؤال ردا إيجابيا بلا تردد، ولكن انتقال الشعوب إلى اشتراكية غير ديمقراطية بعد أن جربت طويلا اشتراكية غير ديمقراطية، هو الذي يثير إشكالات ويعقد الموقف تعقيدا هائلا؛ ذلك لأن ثقل الماضي وأخطاءه الفادحة يشكل عاملا هاما ينبغي أن يحسب له ألف حساب، فالمسألة ليست مجرد اختيار مطروح أمام هذه الشعوب، وإنما هي مدى قدرتها على تصديق التحول الجديد، بعد كل إحباطات التجربة القديمة. ومن المتوقع، إنسانيا، أن تكون هناك ميول قوية إلى تصفية الحسابات السابقة، وإلى القطيعة التامة مع الماضي، وأن يكون هناك اعتقاد راسخ لدى فئات واسعة من الجماهير بأن الاشتراكية غير قابلة للإصلاح، أو بأن الجديد لن يكون جديدا بالمعنى الصحيح، وبأن الوعود المستقبلية لن تتحقق ما دام الذين يقدمونها ممن لا تربطهم أية صلة بالعهود الماضية.
وعند هذا الموضع نستطيع أن ندرك بوضوح أكبر، أبعاد المقامرة التاريخية الكبرى التي يخوضها جورباتشوف، فهو يقامر أساسا على الطبيعة البشرية، وعلى الزمن، وكل من هذين العاملين يمكن أن يساعده ويرفعه إلى عنان السماء، ويمكن أن ينقض عليه ويخنق تجربته ويحولها إلى مأساة مفجعة.
لنبدأ بالحديث عن مقامرته على الطبيعة البشرية، إن جورباتشوف لا يكف عن القول إن أهم عنصر في البيرسترويكا، هو إعادة بناء الإنسان قبل أن يكون إعادة بناء الاقتصاد أو النظام السياسي. ومن الصعب في عالمنا العربي أن يأخذ تعبير «إعادة بناء الإنسان» مأخذ الجد، بعد أن بذلته لغتنا السياسية المعاصرة إلى حد لم يعد معه سوى تعبير إنشائي أجوف لا يشير إلى أي مضمون حقيقي، ولا يغير من الواقع شيئا. ولكن جورباتشوف يعني بالفعل بناء إنسان جديد يفهم معنى الحرية ويحرص عليها، إنسان غير نمطي وغير مقولب، يستعيد ذاته التي كان نسيانها في سبيل مصلحة «الكل»، هو فضيلة الفضائل في ظل الأوضاع السابقة، فالاعتقاد بأن البعد الاجتماعي يستنفد الإنسان بأكمله هو اعتقاد غير صحي، ولكن الاعتقاد المضاد بأن على فرد أن يحقق مشروعه الخاص إلى أقصى مدى ممكن، بغض النظر عن تأثير ذلك في الآخرين - وهو جوهر الحلم الرأسمالي الأميركي - هو اعتقاد غير إنساني؛ وعلى ذلك فإن عملية إعادة البناء التي تستهدفها البيرسترويكا هي في صميمها استفادة للتوازن بين الدوافع الفردية والدوافع الجماعية في الإنسان.
Shafi da ba'a sani ba