Makamar Tarihin Kubra
مقامرة التاريخ الكبرى: على ماذا يراهن جورباتشوف؟
Nau'ikan
وقد ينتهز المعسكر الآخر الفرصة كيما يجتذب هذا المطرود أو يستغل انتقاداته في دعايته ضد خصومه، فيتمزق صاحبنا من الداخل، ويظل عاجزا عن الانتماء، وتغمره الحسرة الأبدية وهو يرى التيار العام للمعسكر الذي يؤمن به يسير في طريق غير طريقه.
وإني لعلى يقين من أن جورباتشوف لو كان قد ظهر بأفكاره هذه في العهد الستاليني، أو كان قد جهر بها صراحة في «عصر الجمود» أيام بريجنيف، لاتهم بأنه أكبر تحريفي، ولكان الآن مجرد ذكرى باهتة لسياسي معارض مدفون في سيبريا، أو محكوم عليه بشغل وظيفة كاتب صغير في مزرعة جماعية نائية. ولكن من حسن حظ جورباتشوف - وحظ العالم - أن أفكاره لم تظهر بكل أبعادها الإنسانية والديمقراطية إلا بعد أن أصبح مستقرا في الحكم، قادرا على دعم هذه الأفكار بكل الثقل الذي يضفيه الوجود في السلطة. ولعل في هذا تطبيقا آخر لتلك القاعدة التي يزخر عالمنا العربي بأمثلة صارخة لها، وأعني بها أن الفرق بين الحاكم الوطني حبيب الشعب وولي نعمته، وبين العميل الخائن عدو الشعب والمحرض على الفتنة، كثيرا ما يكون هو الفرق بين النجاح في الاستيلاء على السلطة والإخفاق فيه!
وإذا كنا قد توسعنا في الحديث عن هذا العيب الأول في النظرية الاشتراكية، فذلك لأنه هو الأصل الحقيقي لمعظم الأخطاء الأخرى التي وقعت فيها تلك النظرية، فمن السهل، مثلا، أن ينتقد المرء منهج التفكير لدى معظم الماركسيين الكبار بأنه منهج «سلطوي» أكثر مما ينبغي. وأعني بالسلطوية أن كتابات ماركس وإنجلز، ومن بعدهما لينين، ينظر إليها كما لو كانت هي المرجع الأول والأخير في كل مشكلة تواجه الفرد أو المجتمع، ولا بد لكي يثبت الكاتب أنه مخلص للأيديولوجية، من أن تمتلئ كتابته بالهوامش التي تشير إلى اقتباسات من ماركس أو لينين. وكثيرا ما يشعر المرء بأن الاقتباس مصطنع، لا يقصد به إلا إثبات «ولاء» الكاتب؛ لأن الموضوع يتناول مشكلة مستجدة يستحيل أن يعمل مفكر في القرن التاسع عشر أو أوائل القرن العشرين، مهما علت مكانته، حسابا كاملا لها، (ولست في حاجة إلى تنبيه القارئ، في هذه الحالة أيضا، إلى التشابه الواضح مع المنهج الفكري لكثير من منظري الحركة الإسلامية المعاصرة).
وليس هذا النقد مجرد خطأ منهجي له تأثيره على الميدان الثقافي فحسب، بل إن تأثيره يمتد إلى مجالات واسعة؛ إذ إن اتباع هذا الأسلوب يشجع النفاق الفكري، ويجعل المتملقين هم الأقدر على التسلق إلى قمة المجتمع، وهو يحول دون ظهور التجديد والإبداع في ابتكار أساليب تتم بها مواجهة المشكلات في عالم سريع التقلب؛ ومن ثم فإنه مسئول إلى حد بعيد عن كل ما تتصف به الفترات السابقة على جورباتشوف من جمود.
وأخيرا، فإن من أوضح العيوب النظرية في الفكر الاشتراكي السائد حتى عهد قريب، إفراطه في التنظير، فقد كان إخضاع الواقع المتغير للقوالب المستمدة من النظرية الماركسية سمة أساسية لهذا الفكر، وكان المبرر الذي يقدم لذلك هو أن من المستحيل على أية حركة سياسية أن تنجح في ممارستها ما لم تسترشد «ببوصلة» فكرية تعلو بها على مستوى الارتجالية والتخبط. والمبدأ في ذاته سليم، غير أن الإفراط في استخدامه كثيرا ما يؤدي إلى نتائج عكسية، ففي حالات كثيرة لم تكن الأحزاب الماركسية تخطو خطوة واحدة إلا بعد أن تقوم بتحليلات نظرية شاملة للموقف في ضوء النظرية الأم. وأعجب ما في الأمر أن هذه التحليلات كثيرا ما كانت تتناقض فيما بينها، فيصل حزب إلى نتيجة معينة، ويصل حزب آخر، أو الحزب الأول نفسه في مرحلة لاحقة، إلى نتيجة مضادة، إزاء الظاهرة الواحدة، مستخدمين نفس المنهج. وكثيرا ما كان يتكرر هنا نفس الخطأ الذي لاحظه فلاسفة العصر الحديث على علماء اللاهوت في العصور الوسطى حين كانوا يجعلون من القوالب اللفظية حاجزا كثيفا يحجب عنهم عالم الواقع بكل ما فيه من ثراء وتغيير، بل إن بعض الشباب المنتمين إلى حركات يسارية كانوا يقضون الليالي في التراشق برطانات لفظية وتقليب مجموعة من الكلمات الضخمة المحفوظة ذات اليمين وذات اليسار، ويخرجون من السهرة قريري العين، متوهمين أنهم تمكنوا بذلك من تحليل الواقع المعقد وحل مشاكله.
هذا الاتجاه إلى الإفراط في إخضاع الواقع للنظرية، بدلا من إخضاع النظرية للواقع، كما ينبغي أن يفعل أي تيار سياسي يريد حقا أن يكون له دور فعال؛ يبدو لي ناجما عن الأصول الهيجلية للفلسفة الماركسية . وأرجو ألا ينزعج القارئ من هذه الإشارة التي قد لا تكون واضحة لدى الكثيرين، ولكني لن أطيل في هذا الموضوع الفلسفي المعقد، ويكفي أن أشير إشارة عاجلة إلى أن فكر ماركس، وهو أكبر بناء متكامل للفلسفة المادية، قد انبثق عن فكر هيجل الذي شيد أعظم بناء نظري متكامل للفلسفة المثالية، يخضع الكون والتاريخ والفلسفة والفن لإطار فكري واحد. وكان لا بد أن يؤثر هذا الأصل في تحديد المنهج الفكري الذي يسير عليه ماركس والماركسيون، وأن يكون منهج الرجوع الدائم إلى القالب النظري الجاهز داء مستحكما في الفكر الاشتراكي اللاحق، يمارس تأثيره ويترك بصماته بوضوح على الممارسات العملية لمعظم التجارب الاشتراكية في الحكم.
ومن الطريف أن يقارن المرء بين هذا المنهج الفكري الذي سارت عليه التجارب الاشتراكية، وبين الأسلوب الذي تتخذ به القرارات الهامة في قلعة النظام الرأسمالي، أعني في أميركا. ففي أميركا تسود فلسفة مضادة، قوامها أن «ما ينجح عمليا هو الصحيح» (وهو المبدأ الأساسي في الفلسفة البرجماتية، التي هي من حيث الأصل فلسفة أميركية خالصة)؛ ويترتب على ذلك أن العقلية الأميركية لا تسرف في التحليل النظري، ولا تعبأ كثيرا بتفسير الأحداث من خلال قوالب مسبقة، وإنما تعالج كل حالة على حدة، وتتصرف فيها تبعا لمقتضياتها الخاصة، وتشكل نفسها تبعا لكل موقف. وعلى حين أن الفكر الماركسي يسرف كثيرا في الحديث عن قوانين التاريخ، وعن حتمية التحولات الكبرى فيه، ويصل في ذلك أحيانا إلى حد تغليب النظرية على الواقع المعقد المتجدد، فإن طريقة التفكير الأميركية تنحني مع الواقع كيفما تشكل، وتكاد في التزامها بهذا الواقع أن تلغي النظرية من الأساس.
ويؤدي الإسراف في الفكر النظري إلى الإفراط في التنبؤ، فيبدو التاريخ وكأنه مراحل حتمية لا مفر من حدوثها؛ وعلى ذلك فكما انتقل التاريخ من مرحلة العبودية إلى مرحلة الإقطاع، ومن الإقطاع إلى الرأسمالية، فلا مفر من أن تكون الخطوة التالية هي الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية فالشيوعية. ويصور هذا الانتقال كما لو كان قدرا محتوما لا فكاك منه، ويقنع الماركسي المتحمس نفسه بأن هناك قوة تعلو على الأفراد والأنظمة والحكومات، اسمها «حتمية التاريخ»، تعمل على دفع الأحداث في الاتجاه الذي تتنبأ به النظرية، وأية مقاومة لحتمية التاريخ هذه لن تكون لها من نتيجة سوى أن ترجئ المحتوم بعض الوقت، ولكن ما سيحدث لا بد أن يحدث. وعلى هذا الأساس ساد التفاؤل المطلق بين الماركسيين الأوائل في أعقاب ثورة 1917م، وكان منهم كثيرون ينتظرون اللحظة التي تسقط فيها الرأسمالية كالثمرة المعطوبة. وبرغم تقلب الأحداث وتعقد الواقع وتجاوز إطار النظرية مرارا، ظل التفاؤل هو النغمة الغالبة، حتى رأينا خروتشوف يهتف في وجه الرأسماليين الأميركيين في عام 1956م: «سندفنكم!» ويتنبأ من خلال تحليلات «علمية» مبنية على قوالب النظرية أكثر مما هي مرتكزة على معطيات الواقع، أن الاقتصاد في البلاد الاشتراكية سوف يلحق بالاقتصاد الرأسمالي في عام 1980م، ثم يتجاوزه بعد ذلك بمراحل. ويسجل هذا التنبؤ الخطير في وثيقة عظيمة الأهمية، هي أعمال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي.
كل هذا التفاؤل كان مبنيا على تلك السمة التي أشرت إليها أكثر من مرة من قبل، وهي تحليل التاريخ من طرف واحد، هو الطرف الذي ينتمي إليه المحلل نفسه، وعدم حساب ردود الفعل المتغيرة والمتجددة التي يقوم بها الطرف الآخر من أجل إفساد هذا التنبؤ وإبطاله. والأساس الذي يرتكز عليه هذا الخطأ المنهجي هو الاعتقاد بأن المرء يمتلك الحقيقة المطلقة، وكل ما عداها تحريف أو انحراف أو بطلان صريح (هل هناك حاجة إلى إشارة أخرى إلى التشابه بين هذا الإطار الفكري وبين نظيره في الأصولية الإسلامية المعاصرة؟) ومن هنا تأتي الثقة الزائدة بالنفس؛ لأنه لا شيء يبعث على هذه الثقة بقدر اعتقاد المرء بأن التاريخ يسير لصالحه، أو بأنه يمثل في سلوكه إرادة التاريخ، وما دام يسير في الاتجاه الصحيح لحركة التاريخ، فماذا يضير لو حدثت أخطاء هنا أو تجاوزات هناك؟ ولماذا يستمع الحاكم إلى أصوات المعارضين أو يحترمها، ما دام يعلم أن هذه الأصوات تعارض حتمية التاريخ، التي يجسدها هو نفسه.
ولكن المفارقة الساخرة تظهر في أن أولئك الذين كانوا دائما واثقين من امتلاكهم لناصية التطور، ومعرفتهم لاتجاه المستقبل، وتجسيدهم لحتمية التاريخ، هم الذين فشلت تنبؤاتهم، ولم تتحقق «حتمياتهم»، على حين أن أصحاب الأيديولوجية المضادة، الذين يفكرون يوما بيوم، وحادثا بحادث، هم الذين تحكموا بصورة أكبر في مجرى التاريخ المعاصر. وهكذا كان الدرس واضحا: من يظن أن التاريخ حصان يمكن امتطاؤه، سينتهي به الأمر إلى أن يمتطيه التاريخ ... تعقد الحياة المعاصرة لا يمكن استيعابه إلا بالمزيد من المرونة، والإقلال من الحديث عن «الحتميات»؛ لأن التاريخ في نهاية الأمر ينقاد لمن يشكله، لا لمن يتشكل به.
Shafi da ba'a sani ba