Gabatarwa Don Nazarin Balagar Larabawa
مقدمة لدراسة بلاغة العرب
Nau'ikan
3
ومن هنا كانت له هذه المتانة والقوة في التعبير؛ إذ الإنسان أخلص ما يكون إذا دفعه شعوره إلى القول، ومتى أخلص الكاتب أو الشاعر فيما يقول، كان أثره أقوى في النفس وأدعى إلى الإعجاب، وكان جمال القول أظهر، وكانت البلاغة أصح وأبين ، وهذه ميزة الشعر الجاهلي؛ لأنه يكاد يكون خاليا من المبالغة والكذب، صادرا عما في نفس الشاعر وعقائده.
ولكن العواطف محدودة، وشعور الإنسان بالفرح والسرور والغضب والرضا لا يكاد يتغير. ومهما وجد الإنسان من ضروب التعبير في ذلك، فإنها توشك أن تنفد، ليس للخيال فيها مجال واسع؛ ولذلك يكثر فيها تكرار المعنى الواحد؛ إذ الغرام وشكواه، أو البكاء والنحيب، أو المدح والذم، أو الوصف والتشبيه، ذلك كله ذو معان سرعان ما تنفد من قائلها؛ ولذلك تجد المعنى الواحد مكررا عند نفس الشاعر في قصائد متعددة، يسترها خلاف الألفاظ الظاهري.
ومن هنا أيضا جاءت السرقة في الشعر؛ ذلك لأن المعاني والخيالات محدودة، وفكر الشاعر محدود، فلا بد للشاعر من تكرار المعنى والسطو على معاني غيره يلبسها لباسا آخر من الألفاظ؛ فتجد العاشق يخاف الرقباء ويشكو الجفاء والهجر، ويتألم من طول الليل، ويبكي ألم الفراق. على أن هذه المعاني تختلف باختلاف شعور كل إنسان، وقد يجد فيها الشاعر مجالا واسعا.
4
ولكن شعراء العرب لم يبيحوا لأنفسهم هذه الحرية في القول ولا في الخيال، بل وقفوا أنفسهم على اتباع طريقة الشعر القديم، وأخذ يقلد بعضهم بعضا في المعنى الواحد، ولا أنبئكم بما في باب «سرقة الشعر»؛ فقد يجد الإنسان المعنى الواحد عند عشرات من الشعراء مكررا.
ومع هذا فقد ظن العرب أن شعراءهم طرقوا كل معنى من قديم، ووصلوا إلى كل خيال
5
فوضعوا من أول الأمر القواعد والقوانين في ذلك، ورسموا المعاني وحددوها، وحصروا أنواع الشعر والخيال، وجعلوا لها خطة وقانونا. كما فعل قدامة في كتابه «نقد الشعر»، وتبعه في ذلك من جاء بعده. وروى ابن رشيق «في العمدة»: أن قواعد الشعر أربعة: الرغبة، والرهبة، والطرب، والغضب. فمع الرغبة يكون المدح والشكر، ومع الرهبة يكون الاعتذار والاستعطاف، ومع الطرب يكون الشوق ورقة النسيب، ومع الغضب يكون الهجاء والتوعد والعتاب الموجع ... وقيل لأحد الشعراء: أتقول الشعر اليوم؟ فقال: والله ما أطرب ولا أغضب ولا أشرب ولا أرغب، وإنما يجيء الشعر عند إحداهن. ورد بعضهم الشعر كله إلى نوعين : مدح وهجاء، قال: «فإلى المدح يرجع الرثاء والافتخار والتشبيب، وما تعلق بذلك من محمود الوصف، كصفات الطلول والآثار والتشبيهات الحسان، وكذلك تحسين الأخلاق، كالأمثال والحكم والمواعظ، والزهد في الدنيا والقناعة، والهجاء ضد ذلك.»
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: قلت لأعرابي: من أشعر الناس؟ قال: من إذا مدح رفع، وإذا هجا وضع. فكان الشعر عند العرب وجدانيا على حسب تقسيمهم وفهمهم له، وهذا من مميزاته؛ لأنه كله على هذا النحو، حتى في الشعر الحماسي؛ فإنك إذا قرأت أخبار الحروب وجدت شخصية الشاعر ظاهرة فيها؛ لأنه يفتخر بشجاعته وبحسبه، وذلك يجعل الشعر أقل أثرا في نفس القارئ مما إذا تجرد الشاعر عن نفسه، ودخل فيما يصح أن يكون صورة من صور النفوس الأخرى، وحالة من الأحوال العامة، بخلاف الشعر الاجتماعي.
Shafi da ba'a sani ba