وأبطن في أفنائه الحكمة، وحفه بكل ما اطبا العقول تصفحه ومعرفته، وحشاه بكل ما حث النفوس إلى تقليبه، والتعجب من أعاجيبه، وأمتع الأرواح بمحاسنه، وأودعه أمورًا، واستجن به أسرار، ثم حرك أولئك عليها حتى استثارتها ولقطتها واجتلتها وعشقتها وولهت عليها، لأنها عرفت بها ربها وخالقها تبارك وتقدس مزج بعبض ما فيها ببعض، وركب بعضه على بعض، وأحال بعضه إلى بعض، بوسائط من أشخاص وأحساس وظبائع وأنفس وعلوم وعقول، وتصرف في ملكه بقدرته وحكمته، لا معيب الفضل، ولا مقلى الاختيار، ولا مردود الحكم، ولا مجحود الذات، ولا محدود الصفات؛ وهو سبحانه مع هذا كله لم يستفد شيئًا، ولم ينتفع بشيء؛ بل استفاد منه كل شيء؛ بحسب مادته المنقادة، وصورته المعتادة؛ ولم يثبت بشيء؛ وثبت به كل شيء؛ ولم يحظ بشيء، وحظى به كل شيء، فهو الفاعل القادر، والجواد الواهب، والمنيل المفضل، والأول السابق، والواحد المطلق. فلما كان الباحث عن العالم العلوي يتصفح سكانه، ويتعرف أماكنه وآثاره، ومواقعه وأسراره، متعرضًا لأن يكون مشابهًا لباريه، مناسبًا لربه. بهذا الوجه المعروف، استحال أن يستفيد بعلمه، كما استحال وبطل أن يستفيد خالقه بعلمه. لأن نعته لصق به، وحكمه لزمه، وحليته بدت منه، وصفته عادت عليه، وهيئته تعلقته. هذه حال إذا فطن لها، وأشرف عليها، ببصيرة ثاقبة، وتحقق حقيقتها وتولى للخبرة بنسي ما فيها، علم اضطرارًا عقليًا أنها أجل وأعلى، وأنفس وأسنى، وأرفع وأوفى، وأعظم وأزكى، وأدوم وأبقى، من جميع فوائد سائر العلوم التي حازها إليك العالمون. لأن أولئك أعملوا فوائد علومهم فيما حفظ عليهم حد الإنسان وخلقه، ومادته وشهوته، وأخذوا في اجتلاب نفع، ودفع ضر، ونقصت رتبتهم بمشاكهته ومناسبته، والتشبه بخاصيته، والتحلي
1 / 136