Mai Ceto
المنقذ: قراءة لقلب أفلاطون (مع النص الكامل للرسالة السابعة)
Nau'ikan
مقدمة الطبعة الثانية
المنقذ غادر بيته
إنقاذ العالم
المنقذ يهجر كهفه
إنقاذ الدولة
خاتمة الرحلة وبدايتها
الرسالة السابعة لأفلاطون
تمهيد
الرسالة السابعة لأفلاطون
زيارة أفلاطون الأولى لصقلية
Shafi da ba'a sani ba
نصيحة لحلفاء ديون
زيارة أفلاطون الثانية لديونيزيوس الثاني
عجز الكلمات عن التعبير عن الواقع
آخر أخبار أفلاطون مع ديونيزيوس ورحيله عن سيراقوزة
تعليقات
مقدمة الطبعة الثانية
المنقذ غادر بيته
إنقاذ العالم
المنقذ يهجر كهفه
إنقاذ الدولة
Shafi da ba'a sani ba
خاتمة الرحلة وبدايتها
الرسالة السابعة لأفلاطون
تمهيد
الرسالة السابعة لأفلاطون
زيارة أفلاطون الأولى لصقلية
نصيحة لحلفاء ديون
زيارة أفلاطون الثانية لديونيزيوس الثاني
عجز الكلمات عن التعبير عن الواقع
آخر أخبار أفلاطون مع ديونيزيوس ورحيله عن سيراقوزة
تعليقات
Shafi da ba'a sani ba
المنقذ
المنقذ
قراءة لقلب أفلاطون (مع النص الكامل للرسالة السابعة)
تأليف
عبد الغفار مكاوي
إلى ابني الكريم ...
عل زمانك يا ولدي أنت وجيلك
أن يصبح أجمل من زمني المنكود وأعدل.
ليست الأرض ملكا لأحد، إن ثمراتها للجميع.
جون بال
Shafi da ba'a sani ba
ليست هناك يوتوبيا تبلغ من الشر حدا يمنعها من أن تقدم بعض المزايا المؤكدة.
أوجست كونت
إن خريطة للعالم لا تحتوي على يوتوبيا، لا تستحق حتى مجرد النظر إليها؛ لأنها تغفل البلد الوحيد الذي تتوجه سفينة البشرية دائما إليه، وعندما ترسو على شاطئه، تتلفت في الأفق، فإذا لمحت بلدا آخر، انطلقت مبحرة إليه، إن التقدم هو تحقيق اليوتوبيات في الواقع ...
أوسكار وايلد
لا يمكنني تصور الوضع الراهن للبشرية في مجموعها على أنه هو الوضع الذي يمثل غايتها الكلية والنهائية؛ فلو صح ذلك لكان كل شيء حلما وخداعا، ولما كان هناك طائل من وراء الحياة التي عشناها ولا من اللعبة المتكررة العقيمة التي شاركنا فيها. إن هذا الوضع لا يكتسب قيمة في نظري إلا إذا اعتبرته وسيلة لتحقيق غاية أفضل، ومعبرا مؤقتا لهدف أعلى وأكمل ... إنني لا أستطيع أن أتحمله لأجل ذاته، وإنما أتحمله لأجل شيء أفضل يكون هو تمهيدا وإعدادا له.
فيشته: غاية الإنسان
لا يجوز لصقلية، ولا لغيرها من المدن، أن تخضع للسلطة المطلقة، بل يجب - في رأيي على الأقل - أن تخضع لحكم القانون.
أفلاطون: الرسالة السابعة، 334ج
مقدمة الطبعة الثانية
لا أدري اليوم ما هي المشاعر والأفكار التي دفعتني قبل أكثر من عشرين عاما - عندما كنت أسكن في شقة فقيرة وهادئة في شارع القيادة بصنعاء اليمن - لصحبة أفلاطون والكتابة عن حلمه بالتغيير، ولا أعرف أي قوة مجهولة تلك التي جعلتني أختار الشذرة أو الفقرة الموجزة أسلوبا في التعبير، وساقتني في دفقات متوالية لأن أبدأ فصول هذا الكتاب وأختمها بنغمات شعرية أو شاعرية بعد أن كنت قد هجرت الشعر وهجرني سنوات طويلة. لكن ربما كان الحلم الأفلاطوني بسيادة القانون وتحقيق العدل - في دولته المثالية أو مدينته الفاضلة - هو الذي احتضنني واحتضنته ونحن نلقي الرأس المتعب على صدر الأم الحنون صنعاء التي وفرت لنا - في خريف عام 1978م - الرعاية والرضا والسكون العميق آناء الليل الرحيم وأطراف النهار المشحون بأعباء التدريس ...
Shafi da ba'a sani ba
جذبتني الرسالة السابعة - وهي سيرة حياة أفلاطون في أواخر العقد السابع من عمره - في تلك الأيام التي كنت فيها مشغولا بالتغيير الجذري والحرية والعدالة، وبالتفكير في كتابة سيرة حياتي التي لم تكتب حتى الآن ... وترجمت الرسالة إلى العربية عن الطبعتين الألمانية والإنجليزية؛ إذ لم يساعدني الحظ على التوصل للأصل اليوناني أثناء وجودي وعملي في اليمن. وقد تصور بعض الأصدقاء أن هذا الكتاب مجرد هامش أو حاشية على الرسالة السابعة التي انطلقت منها، لكن الواقع أنهما شيئان منفصلان ومستقلان كل منهما بنفسه.
1
وبالرغم من أن الكتاب يعتمد على الرسالة السابعة، فإنه - كذلك - محاولة لعرض شاعري موجز لفلسفة أفلاطون السياسية بوجه خاص.
أما الدافع المحرك والقلب النابض لهذا العرض فهو حلم أفلاطون بالتغيير الثوري، ومشروعه المفصل عن دولته المثالية (كما صوره في الجمهورية، ثم عدل هذه الصورة في آخر محاوراته وهي القوانين).
وكان من الطبيعي أن تكون سيرة حياته المختصرة التي كتبها بعد زيارتيه الأخيرتين والفاشلتين لجزيرة صقلية؛ كان من الطبيعي أن تكون هي الأساس الذي بنيت عليه للتعبير عن حلم التغيير وعن الفلسفة المرتبطة به ارتباط الجسد بالرأس المفكر، والشرايين بالقلب الذي يدفق فيها نبض الدماء ...
كانت الرسالة السابعة التي يصف فيها أفلاطون جزءا من طريقه إلى الفلسفة، وزهده في المشاركة في السياسة العملية في عصره، ومغامراته الجسور والفاشلة لتحقيق حلمه في الواقع الحي في صقلية - كانت، كما سبق القول، هي نقطة الانطلاق. ولقد بدا الطريق واضحا لعينيه منذ بداية حياته؛ إذ ولد لأسرة أثينية عريقة، وكان الاشتغال بالحياة السياسية في انتظاره. غير أن الأزمة الطاحنة التي مرت بها أثينا في شبابه الباكر، مع لقائه بسقراط وملازمته له، قد تكفلا بتغيير جميع خططه، فأحرق - فيما يحكى - كل مخطوطات تراجيدياته ونذر نفسه للفلسفة. وحكم أثينا، التي خرجت مهزومة ومخذولة من الحرب البيلوبينيزية (431-404ق.م) نظام أقامته إسبرطة من ثلاثين طاغية. وكان من هؤلاء الطغاة - بجانب كرتياس وخارميدس المتحدثين الرئيسيين في المحاورة المعروفة بالاسم الأخير عن التبصر أو التدبر - اثنان من أقرب أقارب أفلاطون، حاولا عبثا مع زملائهم أن يجذبوا كلا من أفلاطون وسقراط لمشاركتهم في الحكم، لكن الحكم كان فظيعا مرعبا، وبدت كل الدساتير الفاسدة التي سبقته في أثينا أو في مدن اليونان أشبه بالماضي الذهبي أو الفردوس الضائع ... ثم رجع الديمقراطيون إلى الحكم، لكن حظهم من الديمقراطية اقتصر على الاسم. فقد أدانوا معلمه وصديقه وأعدل الناس وأعزهم عنده بتهم ملفقة وخسيسة، ثم قدموه للمحاكمة الشهيرة وقضوا عليه بالإعدام ونفذوه بالفعل، ولا بد أن شخصية سقراط - الذي لازمه أفلاطون على مدى ثمانية أعوام قبل الحكم عليه بشرب السم - قد جعلت فيلسوفنا الشاب ينفض يديه من كل الدساتير البائسة التي عاصرها في صباه وشبابه، ويقتنع من صميم كيانه بأن إنقاذ المدينة (البوليس) لن يتحقق إلا عن طريق الفلسفة التي سترسم خطة المدينة المثالية التي تسودها العدالة والسعادة ويحكمها القانون الذي يكفل الحقوق المتساوية للجميع. صحيح أنه تخلى عن كل رغبة في الحكم، لكنه لم يتخل أبدا عن توجهه السياسي والعلمي لإنقاذ المدينة، وهو التوجه الذي ملأ عليه حياته وتعليماته، وأشعل لهيب الحماس في فكره وفعله وبصيرته حتى نهاية حياته (حوالي سنة 347ق.م).
وقصة محاولاته لتحقيق حلمه «اليوتوبي » في سيراقوزة - عاصمة جزيرة صقلية - قصة معروفة؛ فقد دفعه الغضب والاشمئزاز مما جرى لأستاذه إلى السفر لزيارة أصدقائه الفيثاغوريين في جنوب إيطاليا وإلى مصر. وفي حوالي الأربعين من عمره (387ق.م) قام برحلته الأولى إلى سيراقوزة والتقى بطاغيتها ديونيزيوس الأول. عجز أفلاطون عن التأثير على هذا الملك - الذي لقنه الكراهية الأبدية لكل طاغية وكل طغيان! - ولكنه نجح في كسب صداقة ديون - شقيق إحدى زوجات الطاغية ومستشاره - الذي توهج حماسا للفلسفة، وأخذ يترقب الفرصة المناسبة لتحقيق حلم أفلاطون على أرض الجزيرة التي لم تهدأ فيها الاضطرابات والصراعات بين الإغريق والقرطاجيين. ولا بد أن طاغية سيراقوزة قد نظر نظرة الشك والتوجس لما سمعه من أفلاطون أو سمعه عنه من ضرورة حكم الفلاسفة؛ لذلك استشعر خطر الفيلسوف وصمم على إبعاده عن المدينة، ولا ندري مدى صدق القصة التي يرويها ديوجينيس اللائرسي - مؤرخ الفلسفة من القرن الثالث الميلادي في كتابه الرائع عن حياة وآراء مشاهير الفلاسفة - عن أن ملك الجزيرة التعسة قد بلغ به السخط على الفيلسوف إلى حد الأمر ببيعه في سوق الرقيق في «إيجينا» القريبة من أثينا، ولولا تدخل الصدقة الحسنة وافتداء أحد أصدقائه له لبيع الفيلسوف كالعبيد ...
لم تثنه التجربة القاسية عن قصده، ولم يكف عن الاقتناع بوحدة النظر والعمل، والفكر والممارسة، ولم يتردد عن المغامرة من جديد في سبيل الحلم ...
كان قد رجع إلى وطنه وأسس الأكاديمية في سنة 387ق.م بالقرب من أثينا، وأخذ يلم شتات أفكاره وتجاربه وتأملاته عن السياسة العملية التي تهتدي بالعقل، وعن نظام التربية الذي سيكون النخبة الحاكمة والحكيمة، وعن التساؤل عن مفهوم العدالة والدولة العادلة والحاكم الحكيم أو الملك الفيلسوف، وذلك على النحو الذي فصله في محاورته الكبرى «البوليتايا» أو الجمهورية.
ولم تستطع الصدمة التي تلقاها من طاغية سيراقوزة أن تصرفه عن الهدف العملي من فلسفته، الذي يستحق التضحية حتى بالحياة؛ لكيلا يقال عنه - في يوم من الأيام - إنه كان رجل أحلام وكلام ونظريات ... لذلك لم يتردد طويلا عن القيام برحلتيه التاليتين في عامي 367 و361ق.م على الترتيب، ولم يثنه فشلهما الذريع - إلى حد تهديده بالاغتيال لولا تدخل أصدقائه الفيثاغوريين في الوقت المناسب! - عن مواصلة التفكير والكتابة عن دولته المثالية، كما نرى في آخر محاوراته وهي القوانين (لا سيما في الكتاب العاشر الذي يلخص اتجاهه السياسي والطبيعي أو الكوني كله) التي حاول فيها أن يكون أكثر واقعية وقربا من الطبيعة البشرية، وإن لم ينجح في أن يكون أقل تسلطية وشمولية، أو أقل تجاهلا للحرية الفردية والديمقراطية ... ولست في حاجة لرواية قصة هاتين الرحلتين الفاشلتين اللتين أقنعتاه بالعكوف على نشاطه التعليمي في الأكاديمية؛ فالرسالة السابعة تروي قصتهما بالتفصيل، كما أن نشاطه في الأكاديمية يؤكد - بما فيه الكفاية - إصراره على أن فلسفته وتلاميذه لا يحملان مسئولية ذلك الفشل، وإنما الواقع العملي والسياسي - في بلده أثينا وخارجها - هو الذي حال دون تحقيق حلم الإنقاذ العسير - وإن آمن على الدوام بأنه غير مستحيل! - ترى هل عوضه قليلا عن فشله أن يشجع تلاميذه على البحث المستمر (كما نرى في تشجيعه للرياضي النابغة ثيآيتيتوس الذي أطلق اسمه على واحدة من أهم محاوراته، ولتلميذه أويديموس الكنيدي في بحوثه عن المسارات المتجانسة للكواكب، ثم لأنبغ «أبناء رأسه» وهو أرسطو الذي انضم للأكاديمية سنة 367ق.م ونمى البحث المنطقي والبحث العلمي والتجريبي فيها)؟!
Shafi da ba'a sani ba
2
ليس من الصعب أن نتعرض باختصار شديد لنظرية أفلاطون السياسية كما بينها في كبرى محاوراته (وهي الجمهورية التي اعتمد عليها هذا الكتاب)، وفي محاورتيه «السياسي والقوانين».
لا شك أنها نظرية تسلطية وشمولية لا مكان فيها - كما سبق القول - للحرية الفردية ولا للديمقراطية. ومع ذلك فعلينا أن نبسطها بإيجاز قبل أن نلقي عليها أضواء النقد أو سهامه ونرى معا ما لأفلاطون وما عليه ... فهو ينطلق من الفرض القائل بأن الذين يعرفون الخير هم وحدهم الذين يصلحون للحكم، ثم يصف لنا المراحل الدقيقة للتربية والتدريب العقلي التي ستؤدي في رأيه إلى تلك المعرفة. وهذه المعرفة - كما يوضح رمز «الكهف» الذي وقف عنده هذا الكتاب وقفة طويلة - ستتخلص من القيود والأغلال التي تجعل معظم البشر يعيشون سجناء في «كهف سفلي» ويقاومون كل دعوة للخروج منه والصعود إلى العالم «الحقيقي» الذي يقع خارجه، وهو عالم المثل أو الأشكال والنماذج الثابتة للمعرفة والوجود التي تدرك بالعقل لا بالحواس. ويشترط أفلاطون الدراسة المتعمقة للرياضيات التي ستشد انتباه الخارج من الكهف إلى المثل؛ لأن الرياضيات معرفة قبلية لا تهتم بالمحسوس إلا بقدر ما تنطلق منه للمفاهيم غير المحسوسة، ثم يشترط دراسة الجدل الفلسفي (الديالكتيك) الذي هو سبيل المعرفة العقلية الخالصة للنماذج الخالدة. والذين يجتازون بنجاح هذه المراحل التربوية نحو التفلسف الصحيح ويتوصلون لمعرفة ماهية الخير، هم الذين سيكونون النخبة الحاكمة والحكيمة من جملة الحراس. سوف يطالبون - من حين لآخر - بالانصراف عن مباهجهم الفلسفية والنزول إلى زملائهم القدامى في الكهف «لإنقاذهم» أي تبصيرهم بالمعرفة والوجود الحقيقي وحكمهم الحكم الخير العادل الذي يضاعف سعادة المدينة بأكملها. والقارئ يعرف الشروط القاسية التي يضعها أفلاطون لتحقيق هذه الغاية فهو يفرض رقابة صارمة لاستبعاد الأفكار الخاطئة - إلى حد استبعاد الشعر ومصادرة أي تجديد في الفن والتعليم، أي مصادرة حرية الفكر نفسها! - وضمان قيام كل طبقة وكل شخص من سكان المدينة بعمله الذي هيأته له الخبرة والطبيعة التي مزج تركيبها بمعدن معين! وعدم إقحام نفسه فيما لا يحسنه بفطرته ولا بتعليمه وخبرته، وهذا هو لب مفهوم العدالة عنده. (وقد عاد فأكد في إحدى محاوراته المتأخرة - وهي السياسي - أن الحكم مهمة الخبراء، وأن الخبير لا ينبغي أن يقيده القانون ولا رغبات الناس ...)
لا شك أن أفلاطون هو الذي قدم أول «يوتوبيا» شاملة ومفصلة رجع إليها كل من كتب اليوتوبيا من بعده، كما أثرت بصورة أو بأخرى على جميع أشكالها الأدبية والسياسية والعلمية والفكرية التالية. فبعد محاولات إغريقية عديدة لرسم صورة الحياة اليوتوبية السعيدة، كحياة الاستغناء التام عند أتباع ديوجينيس الكلبي الذين سووا بين البشر والكلاب أو الخنازير، وكحياة البحث عن اللذة بكل وسيلة ممكنة وإشاعتها بين الجميع بصورة «ديمقراطية» عامة كما عند أرستيبوس ومدرسته، وهجمات صغار السفسطائيين على القانون الوضعي والنظم المترتبة عليه ودعوتهم للأخوة البشرية العالمية، جاء أفلاطون والتقط الدافع اليوتوبي ثم قيد حرياته وعكس اتجاهه تماما ... لم يعد في «يوتوبياه» مكان للأحلام الغامضة والأماني الوهمية، ولم يعد أحد يشتاق للماضي الذهبي أو يثني عليه. وبدلا من الحرية الضائعة - ريفية كانت أو حضرية - يظهر النظام غير المسبوق، ويثبت الحلم ويغدو بيده الأمر والنهي ... لم يغب النموذج التجريبي والعيني لهذا الحلم عن وعي أفلاطون، بل كان قريبا منه وماثلا في إسبرطة التي أذلت مدينته، وكان حب إسبرطة الأرستقراطية - بعد انتهاء الحرب البيلوبينيزية وتقليد المهزوم للمنتصر كما بين ابن خلدون بحق! - شيئا على هوى الطبقات الأثينية الحاكمة التي كانت تكره الديمقراطية وتعمل على هدم أركانها. وما دامت الدولة - كما رآها وعاصرها أفلاطون - قد انقسمت إلى دولة للفقراء وأخرى للأغنياء وسادت الكراهية المتبادلة بينهما، فلا بد في هذه الحالة من تأكيد سلطة الدولة «البوليسية» المنظمة. هكذا أصبحت يوتوبيا أفلاطون صورة مثالية من إسبرطة؛ إذ كانت - وهذه هي المفارقة - هي يوتوبيا الطبقة ذات السيادة. وساعد الصراع الطبقي في أثينا على وضع صورة إسبرطة داخل إطار الدولة الإغريقية المنظمة، وعلى الاعتقاد بأن السلطة الحازمة هي العلاج الوحيد. ألم تسبق إسبرطة ... إلى ترسيخ الطبقات الثلاث التي تقوم عليها الجمهورية: الطبقة التي تقوم بإطعام الكل (الهيلوتيون) والطبقة التي تتولى الدفاع عن الكل (الإسبرطيون) ثم النخبة الحكيمة التي تدير دفة الحكم (مجلس الكبار - أو الجيروزيا الذي أوصى به مشرعهم ليكورجوس)؟ ...
هكذا بنى أفلاطون عالما عقليا شديد الإحكام، الناس فيه يتصفون بالصلابة «الدورية»، والتنظيم الشديد فيه نسخة من نظام الأرستقراطية الإسبرطية، حتى مجتمع النساء في الطبقة العليا (طبقة الحراس الذين يختار منهم الحكام الحكماء) يوحي بالتشابه القوي مع الفوضى الكلبية والتطرف في اللذات، ويكاد أن يكون نقلا حرفيا عن طريقة الحياة الشاذة التي كانت مألوفة في معسكرات الجيش الإسبرطي. كذلك كان امتلاك الذهب والفضة الذي حرمه أفلاطون على نخبته الحارسة والحكيمة، محرمين على الطبقة المحاربة في إسبرطة.
وأخيرا فإن مجلس الكبار الإسبرطي قد استفاد منه أفلاطون في وضع الإطار اللازم لأعلى الطبقات في دولته، وهي طبقة الحكام الفلاسفة. ومع ذلك يمكن القول بأن أفلاطون قد خرج عن مضمون ذلك الإطار الإسبرطي المعادي للعقل بتشديده على التربية الفلسفية لحكام المستقبل، ومطالبته بالحاكم الحكيم أو الملك الفيلسوف، وتأكيده أن الدولة لن يصلح حالها وتصبح دولة خيرة حتى يحكم الفلاسفة أو يتفلسف الحكام ... (والشيء الغريب حقا أن طبقة الفلاسفة قد تفككت في المحاورة الأخيرة التي عدلت نموذج الجمهورية في مواضع غير قليلة إلى حد الاستغناء عن التربية الفلسفية الأرستقراطية. لقد أصبحت الدولة المثالية في «القوانين» دولة بوليسية كاملة، ولا يقلل من ذلك أنها رجعت للاعتراف بالحق في الملكية الخاصة وفي الزواج، بل إنها لتطبق قوانين العقاب الجنائي على أي تجديد سياسي أو ثقافي بحيث يتساءل المرء إن كان قد بقي في نظام هذه الدولة شيء يمكن وصفه بالمثالية أو الحرية بعد ما بلغت هذا الحد من الرجعية!)
يبدو أن فكرة المعمار المتدرج هي التي وجهت أفلاطون في تصوره لبناء دولته المثالية، سواء في الجمهورية أو في القوانين، ويبدو أيضا أن هذا البناء يقوم في تقديره على أساس الفطرة أو الطبيعة البشرية نفسها. ففي الإنسان ثلاث قوى أو ثلاثة أجزاء تنقسم إليها نفسه وتتدرج في القيمة من أعلى إلى أسفل: الشهوة، فالشجاعة، فالعقل. وهي تتوزع بالترتيب من الجزء الأسفل من الجسم إلى الصدر إلى الرأس، بل إنها لتتوزع على الشعوب وطباعها فيكون أهل الجنوب انفعاليين، وأهل الشمال جسورين، وأبناء الإغريق حكماء متدبرين! ... وحتى الإغريق أنفسهم تتوزع بينهم فضائل التدبر أو التبصر والحكمة، بحيث تتدرج من الطاعة إلى الشجاعة إلى الحكمة، وتأتي الفضيلة الإغريقية متسقة مع التدرج السابق: فالطاعة هي فضيلة الطبقة التي تقوم بأمور الإعالة المادية وبالتغذية، والشجاعة هي فضيلة طبقة الجنود، والحكمة هي فضيلة مشرعي القوانين من الفلاسفة. وهكذا تنشأ دولة تكاد الطبيعة نفسها أن تكون هي التي أنشأتها، قوانينها لا تناقض الطبيعة ولا تتصادم معها، بل إن الطبيعة لتعزز وتدعم سلم الطبقات الاجتماعية المتصاعد، وكأن لكل طبقة طبيعة أقرتها الطبيعة (الفيزيس) بنفسها. ويؤكد الكتاب الثالث من الجمهورية أن أولئك الذين يصلحون للحكم يدخل الذهب في تركيب نفوسهم، أما المحاربون فيدخل في تركيبهم الفضة، ويبقى المزارعون وأرباب الحرف والصنائع الذين جعلت نفوسهم من النحاس والحديد! ... ومعنى هذا أن لكل طبقة طبيعتها التي لا تختلط بطبيعة الطبقة الأخرى، بل إن القاعدة هي أن الأبناء يشبهون الآباء، بحيث يندر أن يصلح ابن من الطبقة الدنيا للانخراط في الطبقة الأعلى، كما يندر - على العكس مما سبق - أن يصلح ابن نشأ في طبقة المحاربين للحياة في طبقة المزارعين والصناع ... وليس على الحكم في مجموعه سوى التأليف بين كل هذه العناصر الطبقية والطبيعية في كل متجانس هو الذي يسميه أفلاطون بالعدالة. ومن العدالة في رأيه - كما سبق القول - أن يقوم كل امرئ بوظيفته التي هيأته لها الطبيعة، وأن تختص كل طبقة بوظيفتها ولا تتعدى على وظيفة طبقة أخرى، تلك هي الأخلاقية التي كرستها دولة أفلاطون، فسمحت - بجانب العبيد - بوجود طبقة من الفلاحين والصناع المستغلين الذين يتحملون وحدهم عبء العمل، بينما تتمتع الطبقتان الأخريان بترف اللاعمل: الرقابة من ناحية، والتفلسف والتشريع من ناحية أخرى ... هذه الأخلاقية - التي تجردت من كل أخلاقية! - قد أسست عدالتها وسوغتها بمسوغ طبيعي هو طبيعة الطبقة الكادحة التي خلقت للطاعة لأنها جبلت من معدن النحاس أو الحديد غير النفيس! ...
هكذا قامت العدالة في دولة أفلاطون المثالية على ظلم شديد حاولت تبريره بأساليب طبيعية أو كيمائية غير منصفة ولا مقنعة، بل إن المهمة التي يكلها أفلاطون للطبقة العليا بأن تسهر على «عدم تسرب الفقر والثراء إلى الدولة»، فضلا عن الزهد المطلوب من الطبقة العليا في الذهب ليس له - في رأي إرنست بلوخ
3 - إلا معنى واحد، هو الحيلولة دون نشوء طبقة رعاع غنية يمكن أن تكون مصدر خطر على «عدالة» الدولة واستقرارها ...
على الرغم من كل المضامين غير الثورية ولا المثالية - بل غير الإنسانية! - لجمهورية أفلاطون، فقد ظلت في نظر الكثيرين من أبناء الأجيال التالية هي المثل الأعلى للدولة الاشتراكية أحيانا والدولة الشيوعية أحيانا أخرى ، ولا شك أن سلطة أفلاطون - كفيلسوف كبير - قد عملت على اعتبار جمهوريته في عصر النهضة الأوروبية نوعا من التوجيه نحو النظام الاشتراكي، كذلك يذكر زعيم ثورة الفلاحين في عصر النهضة - وهو توماس مونتسر - يوتوبيا أفلاطون مؤكدا أنها جعلت كل شيء مشتركا بين الكل.
Shafi da ba'a sani ba
كل ذلك لم يكن في الحقيقة، ولن يكون في المستقبل، إلا نوعا من إساءة الفهم أو سوئه. فصورة العصر الذهبي التي رآها أفلاطون بعيون إسبرطية أرستقراطية لم تكن من الاشتراكية ولا الشيوعية في شيء؛ لأنه قد قصر «الشراكة» أو المشاعية في تملك السلع والنساء والأطفال، على الطبقة العليا في دولته. ووقع التابعون في الوهم الشديد بأنه سحب اشتراكيته على الجميع، كما تصوروا خطأ أنه هو الأب الشرعي لليوتوبيا الاجتماعية الخالية من الطبقات، بينما كانت دولته المثلى - في الحقيقة - تنظيما إسبرطيا تسلطيا أقرب ما يكون إلى تصور الدولة الكنسية والعسكرية في العصور الوسطى المسيحية، لقد وضعت تلك الدولة على جسدها رقعا صغيرة متناثرة من ثوب الاشتراكي ولم تترك لسكانها «الإسبرطيين» سوى حرية أن يكونوا أعمدة أو أسوارا أو نوافذ تقوم بوظائف التغذية والحماية والرقابة والتوجيه في بنائها الصلب العنيد ...
علينا أن نسأل الآن بعد كل ما ذكرناه من عيوب وعناصر سلبية: ألم تحتفظ دولة أفلاطون أو مدينته الفاضلة - على الرغم من كل ما ذكرناه - بالعنصر «اليوتوبي» الكامن فيها، هذا العنصر الذي جعلها بحق أول «يوتوبيا» بالمعنى الشامل الدقيق في التاريخ، كما جعل كتاب اليوتوبيات اللاحقين - كما سبق القول - يتأثرون بها ويرجعون إليها بصورة أو بأخرى، سواء أساءوا فهمها أو عرفوا عيوبها؟
لقد اعتدنا سماع اسم أفلاطون من كل من يقول باستهانة أو بشيء من السخرية عن فكرة من الأفكار: إنها يوتوبية، فإذا سألناه: ماذا تعني؟ قال ببساطة: إنها فكرة أفلاطونية حالمة ... ومع أن اليوتوبيا والتفكير اليوتوبي قد وضعت عنها مكتبة ضخمة لا تقل عما كتب عن أفلاطون نفسه، فلا بد هنا من وقفة عابرة عند معنى اليوتوبيا لنقول باختصار شديد ومخل إن «اليوتوبي» عنصر مكون لماهية الإنسان نفسه ككائن مستقبلي لا يرضى أبدا عن واقعه، يحلم ويريد على الدوام أن يتجاوزه إلى واقع أفضل وأسعد وأعدل. ربما تختلف النظرة اليوتوبية بين الالتفات إلى الماضي الذهبي السعيد والاتجاه إلى المستقبل، بين الحلم الذهبي الغامض المجرد وبين التفكير والتدبير لواقع ممكن التحقق، وذلك منذ الحكايات الشعبية القديمة عن بلاد العسل واللبن والحياة الرخية المسالمة البسيطة الخالية من الجهد والعمل، وبين التخطيطات المتوالية لإبداع واقع يوتوبي أفضل على هذه الأرض نفسها. ومع ذلك فلا بد من التفرقة بين اليوتوبيات المجردة واليوتوبيات الواقعية الممكنة. فالأولى - وتمثلها اليوتوبيات الاجتماعية بأسرها - كانت مجردة وسابقة على عصرها، كما أن اتجاهات العصر ونزعاته وظروفه وإمكاناته الواقعية لم تكن لتسمح لها بالتحقق. هل ينطبق هذا على «يوتوبيا» أفلاطون كما ينطبق على اليوتوبيات الاجتماعية منذ يوتوبيا توماس مور إلى يوتوبيات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بأشكالها العلمية والصناعية المختلفة؟ وهل نقول إن مدينة أفلاطون أو دولته المثالية ما هي إلا من نبت خياله ونبع قلبه وتخطيط عقله، وإنها تفتقد الوعي بالتاريخ والواقع المعاصر لها؟ - إذا صح هذا كله، فلا يصح أن نبالغ في اتهامها بالتجريد أو التفكير «الفانتازي» الخيالي الغامض؛ فبالرغم من أن أفلاطون نفسه كان على وعي تام بصعوبة تحقيق مشروعه أو حلمه نتيجة خبرته بالواقع السياسي والاجتماعي في عصره، وإن بقي على اقتناعه بأن المشروع نفسه ليس وهما ولا أملا مستحيلا - كما سبق القول أكثر من مرة - فينبغي أن نتذكر أن البرنامج التربوي والتشريعي المفصل الذي قدمه في كل من «الجمهورية» و«القوانين» يحمل الكثير من خصائص ومكونات عصره ومجتمعه السلبية في محاولة دائبة لرسم النموذج المضاد لواقعه وأحوالها الفاسدة التي جربها بنفسه وعانى منها،
4
ويكفي أفلاطون أنه حدثنا باسم واقع يوتوبي قادم وطبقة اجتماعية ستأخذ على عاتقها مهمة تنظيمه وتوجيهه وترشيده، مهما رفضنا اليوم كل ذلك التنظيم الشمولي الصارم وقلنا باستحالته ومجافاته لطبائع البشر، واستبداده وافتقاده للحرية الفردية والديمقراطية ... يكفيه أن توافر لديه الضمير والمعرفة اليوتوبية اللذان لا يقلل من شأنهما تقصيره في التبصر بشروط الواقع، كما لا يدحضه ذلك الواقع الفاسد نفسه دحضا نهائيا؛ إذ سرعان ما ترتبت عليه وبنيت على أساسه يوتوبيات أخرى اختلف حظها من التجريد والخيال أو من مراعاة ظروف الواقع والتاريخ
5 ... ولنتذكر في النهاية عبارة الشاعر ف. شيلر - على الرغم من مثاليتها ومرارتها! - التي يقول فيها: إن ذلك الذي لم يتحقق في أي مكان، ولن يتحقق، هو وحده الذي لن يتقادم عليه العهد أبدا ...» يكفيه أخيرا أنه فطن إلى المبدأ اليوتوبي الكامن في الليس-بعد ... في الأمل المستقبلي الذي لا يفتأ يطالبنا بأن نعقد العزم - بالإرادة والمعرفة والخبرة - على تحقيقه ... الأمل في مجتمع خال من الاستغلال والشقاء، مجتمع إنساني يمكن أن تثبت فيه العدالة والكرامة ... بالرغم من كل العقبات التي تقف في طريقه، بالرغم من زمن المحنة الذي نحيا ونشقى به وفيه ...
لقد وصف أفلاطون بأنه يعتبر من بعض النواحي أعظم الثوريين، كما يعد من نواح أخرى أكبر الرجعيين ... ولعل الأدق من ذلك أن نقول إنه أكبر ممثل للنزعة الشمولية، وإن نصيب الحرية في مدينته أو دولته المثالية أقل بكثير مما كان عليه بالفعل في بعض المدن اليونانية، سواء في عصره أو قبل عصره، ولو كانت بلاد اليونان القديمة جمهورية شمولية - كما تخيل أفلاطون - بدلا من أن تكون اتحادا فيدراليا بين مدن حرة، لما استطاع رجال مثل هوميروس وسوفوكليس وأرسطوفان - بل لما استطاع أفلاطون نفسه - أن ينتجوا روائعهم الأدبية والفكرية،
6
ولعل من حسن حظ بلاد اليونان نفسها أنه لم يقيض لإحدى دولها - أو دول المدن فيها - أن تحاول تطبيق جمهورية أفلاطون ولا قوانينه، وأنها لم ترزق بأي ملك فيلسوف مثل تلميذه ديون الذي تشرب منه الفلسفة، فلما تمكن من الإمساك بزمام السلطة في سيراقوزة تحول إلى طاغية دموي لم تر جزيرة صقلية نظيرا له في دمويته، مما اضطر واحدا من أصدقائه إلى اغتياله، كما اضطر أفلاطون نفسه - في رسالته السابعة - للدفاع غير المقنع عنه ...
ربما كان الفيلسوف الإنجليزي وايتهيد محقا في قوله: «إن تاريخ الفلسفة الغربية كله يوشك أن يكون تعليقات على فلسفة أفلاطون، أو هوامش وتعقيبات عليها صادرة من ثراء أفكاره الأساسية.» والواقع أن كل إنسان يمكن أن يجد عند أفلاطون جوابا على الأسئلة الفلسفية التي تؤرقه وتعنيه. فالوجودي - مثل كيركجورد - يهتم بشخصية سقراط ووجوده الذاتي، والتحليلي، يعنى بدقة مفاهيمه أو عدم دقتها في بعض الأحيان، والمهتم بالفكر السياسي لا يمكنه أن يتجاهل دولته المثالية، والجدلي يمكنه أن يغوص في محاورتي بارمنيدز والسفسطائي ويحاول فك ألغازهما الجدلية. ولا يستطيع أحد تجاهل نظرية المثل التي ما زالت تتحدى الجميع - لا سيما في مرحلتها الرياضية العسيرة في تطورها الأخير - بل إننا لنسمع اليوم من يقول (مثل هوبرت درايفوس): «إن الذكاء الاصطناعي في برامج الحاسب (الكمبيوتر) قد وصل بالعقلانية الأفلاطونية إلى ذروتها الرفيعة ...»
Shafi da ba'a sani ba
كل هذا ممكن، وسوف تبقى فلسفة أفلاطون حقلا لا نهائيا يتسع لجهود الحارثين والزارعين المخلصين، وميدانا غير محدود يتنافس فيه الفرسان البارعون.
وسوف تبقى كذلك ملاذا للحالمين - من أمثالي! - بالتغيير، وللعاملين على تجاوز واقعهم، الذين نخرت فيه جيوش سوس الفساد، إلى واقع أفضل وأكثر عدلا وحرية وشرفا وجمالا. فالحس اليوتوبي في هذه الفلسفة يستحيل إنكاره، وشمولية دولته المثالية غير مسئولة عن النظم الشمولية البشعة التي قاسى منها البشر في القرن العشرين أو ما زالوا يقاسون. وقد كان هذا الحلم بالتغيير والعدالة وسيادة القانون والديمقراطية، هو الذي استبد بي وألهب خيالي وقلبي وعقلي أثناء العمل في هذا الكتاب وفي زميله الذي تزامن معه وهو «لم الفلسفة؟»،
7
وإذا كنت قد عشت مع أفلاطون حتى كادت عباءته المهيبة أن تخفيني وأوشك ظله أن يطمس وجودي، فقد التهبت حماسا لفكرته اليوتوبية عن التغيير والإنقاذ، دون أن تغفل عين الوعي لحظة واحدة عن أخطائه وعيوبه (راجع الفصل الأخير عن خاتمة الرحلة وبدايتها)، وإذا استطاع الكتاب أن يثير في وجدانك بعض الموجات التي أثارت كياني أثناء تأليفه، فسوف أكون قد أخذت أكثر مما يتوقعه أي مؤلف جزاء على حبه وتعبه وتفانيه ...
د. عبد الغفار مكاوي
المنقذ غادر بيته
أجمع أمره، صمم أن يتحدى قدره، أن يأخذ معه سره، الرحلة كانت خطرة، والمحنة مرة ، ما ضر إذا أخفق مرة؟ فليعد الكرة، وليحمل للعالم فكرة؛ فالفكرة إن كانت حرة، فستصبح فعلا أو ثورة، تنقذه وتحطم نيره.
الرسالة السابعة: سيرة فشل مر، وثيقة اعتراف ودفاع وتبرير. طالما أثير الشك حولها، واليوم ينعقد إجماع العلماء أو يكاد على صحة نسبتها لأفلاطون. لعلها هي الوحيدة من بين رسائله الثلاث عشرة التي نجت من الشك، وربما شاركتها الرسالتان الثالثة والثامنة. فيها نقرأ قلبه، نعرف همه؛ فلقد وقف القلب وراء الفكر، طول العمر، يشعل فيه نار العدل ويلهمه الحكمة والشعر.
الأصل والطبع والرغبة في «إنقاذ» مدينته توجه خطاه على درب السياسة؛ ففي طفولته وشبابه شاهد مواطنيه يمزقون لحمهم بأيديهم، في أقسى حرب عرفتها بلده «حرب البيلوبينيز بين أثينا وإسبرطة، استمرت من 431 إلى 404ق.م»، ورأى الكارثة بعينيه، ونظام أثينا، حريتها وحضارتها، تنهار أمامه: «كنت لا أزال في ريعان الشباب عندما حدث لي ما يحدث للكثيرين، فقد تطلعت للإلقاء بنفسي في أحضان السياسة بمجرد بلوغي سن الرشد.»
كانت صورة الأحوال السياسية مضطربة عجيبة؛ فالناس في مسقط رأسه ناقمون على النظام الخائن الذي تسبب في الكارثة وجلب عليهم الهزيمة. وتمت ثورة نقلت زمام السلطة المطلقة إلى حكومة الثلاثين. كان بعض هؤلاء من أقاربه؛ «فرئيسهم - كريتياس - هو عم أمه، وأحد زعمائهم - خارميدس - هو خاله»، وعلى الرغم من إعجابه بهما، فقد سمى محاورتين من محاوراته باسمهما، لم يملك نفسه من السخط على حكمهما. لقد توقع أن ينقلوا المدينة من الظلم إلى العدل، ويستبدلوا بالإدارة الفاسدة إدارة رشيدة. غير أنه سرعان ما اكتشف أنهم استطاعوا، في أقصر وقت ممكن، أن يجعلوا الحكم السابق يبدو - بالقياس إلى حكمهم - أشبه بالجنة أو بالعصر الذهبي. ساد الظلم وغلب الشر، واشتد العسف وكتم الصدر. وابتعد بنفسه، فلقد خاب الأمل وفر.
Shafi da ba'a sani ba
لم يمض وقت طويل حتى انهار حكم الثلاثين. وخلفت حكومة الأقلية «الأوليجاركية» حكومة شعبية «ديمقراطية» معتدلة.
لكن الحظ الأسود بالمرصاد؛ فلقد شاء رجال السلطة الجديدة أن يقدموا للمحاكمة صديقه ومعلمه الشيخ «سقراط» أعدل الناس وأطهرهم عنده. اتهموه بتهم خسيسة هو أبعد الناس عنها، وأدانته المحكمة وقضت عليه بالموت. وأصابه الدوار أمام الاضطراب الشامل؛ فالعاملون بالسياسة أشرار وطغاة، وفساد التشريع والأخلاق العامة يستفحل بصورة مخيفة، والمبادئ التي عاش عليها الأجداد تتداعى وتنهار.
انشقت الهاوية بينه وبينهم، تحطمت كل الجسور. مع ذلك لم يتوقف عن التفكير في الإصلاح وترقب الفرصة المواتية للعمل، «فلا يزال القلب مفعم الحماس للتغيير والإنقاذ». حتى اقتنع - أخيرا - بصعوبة حكم الدولة حكما ترضى عنه النفس. بل اقتنع بأن أحوال الدول الحاضرة كلها تدعو للرثاء، وأن دساتيرها المريضة لن يشفيها إلا معجزة تأتي معها بالإصلاح، معجزة يتولاها الحظ الطيب أو ترعاها عين الله: «وهكذا وجدتني مدفوعا إلى الاعتراف بقيمة الفلسفة الحقة، والتأكد من أنها هي - وحدها - التي تمكن الإنسان من معرفة العدل والصواب الذي تصلح به الدولة والحياة الخاصة، وأن البشرية لن تتخلص من البؤس حتى يصل الفلاسفة الأصلاء إلى السلطة، أو يصبح حكام المدن - بفضل معجزة إلهية - فلاسفة أصلاء.»
اليوم يحوم فوق ربوع أثينا، والتهم تشير أصابعها نحوه، فيهجر هذا البلد الخرب سنين طويلة، وليبدأ رحلته الكبرى، يتزود من بحر العلم، يزور رفاق الدرس، من حوالي 399 حتى حوالي 388ق.م. «ترسو المركب في ميجارا، ثم تطوف بمصر وقورينا، حتى تصل إلى «تارنت» وتقف على شطآن صقلية».
ما زال الحلم يداعب عينه، حلم الحاكم حين يكون حكيما، رجلا يجمع بين القدرة والعلم، بين السلطة والحكمة ...
هل زار صقلية في نهاية هذه الرحلة وتعرف بحبيب عمره «ديون»، أم عرفه في بلاط صديقه الحاكم الحكيم الفيثاغوري النبيل «أرخيتاس» في «تارنت»؟ لا ندري على وجه التحديد. لكن الرسالة تشير إلى هذه الزيارة الأولى، التي تمت حوالي سنة 388ق.م عندما كان يناهز الأربعين من عمره، وإن بقيت دوافعها غامضة. لم يكن يصل إلى هناك حتى أصابه الاشمئزاز والنفور من حياة القوم؛ فهي حياة ينفقها أصحابها على ملذات الطعام والشراب والعشق، ولا يمكن أن تتيح لإنسان فان أن يصبح حكيما. والأخطر من هذا أن مثل هذه الدولة التي يتهالك أهلها على الملذات لا يمكن أن تنعم بالطمأنينة والسلام، ولا بد أن تقع تحت سطوة طاغية فرد أو استبداد بعض الأسر أو حكم الغوغاء، ولن يتحمل حكامها سماع كلمة «الحكم العادل». وأنى لها بالعدل وقد فقد الحاكم والمحكوم كل إحساس بالتدبر والاعتدال؟
كان ديونيزيوس الأول يسيطر - بقبضته - على أقدار الجزيرة ومعظم الجزر اليونانية في جنوب إيطاليا. أقام فيها مملكة عسكرية مستبدة، واحتفظ في الظاهر بأشكال الحكم الديمقراطي، لكنه كان في الواقع من أبشع الطغاة الذين عرفهم التاريخ القديم أو الحديث «لعل صورته أن تكون هي صورة الطاغية المطلق الذي يهاجمه أفلاطون في الجمهورية وغيرها من محاوراته، فهو الذئب، الليل، السكير الأحمق، مجنون يتصور أن يحكم غيره وهو العاجز عن أن يحكم نفسه، يلبس ثوب الطغيان ويمسك سيفه، وهو العبد بمعنى الكلمة، هو أشقى من أشقى الناس ...»
لا ندري في الحقيقة هل اتصل أفلاطون مباشرة بهذا العسكري المحترف، أم لم يتمكن من الاتصال به. فبعض الروايات تحكي عن خلاف وقع بينهما أدى إلى مشادة حادة اتهمه فيها أفلاطون بالاستبداد، فلم يكن من القائد المحترف إلا أن أهانه وطرده، ومن الطبيعي ألا يحس بقيمة الثقافة أو يحترم قدر الفيلسوف. وبعض الروايات تقول إنه أمر بترحيله إلى سوق الرقيق في جزيرة «أيجينا»، وكان من حظه أن رآه أحد مواطني قورينا - ويدعى أنيكريس - فافتداه ومكنه من العودة سالما إلى وطنه.
مهما يكن الأمر في هذه الروايات والحكايات، فيبدو أنه تعرف في بلاط الطاغية بشاب ذكي متحمس في حوالي العشرين من عمره، سحرته عصا المعلم فانقاد لسحرها حتى النهاية، ذلك هو «ديون» شقيق إحدى زوجتي الطاغية، وصديق أفلاطون ويده اليمنى في تحقيق الحلم الأكبر: «يبدو أنني عندما التقيت بديون في ذلك الحين - وكان لا يزال شابا صغيرا - قد عملت دون قصد مني على انهيار الطغيان، وذلك عندما أفضيت إليه برأيي عن أفضل الأمور للبشرية وحثثته على اتباعها بصورة عملية.» تحمس له ديون تحمسا فاق ما عرفه من الشباب الذين قابلهم في حياته، وتشرب بتعاليمه حتى تحولت نفسه بكليتها إلى الحكمة، وأصبحت الفضيلة عنده أسمى من الملذات والمباهج الحسية، وانطوى على نفسه مع أحلام معلمه حتى أثار حقد الحاشية ...
واستمر ينسج أحلامه حتى مات الطاغية سنة 367ق.م، وخلفه ابنه ديونيزيوس الثاني الذي كان أبوه قد أقصاه عن مهام الحكم وفرض عليه الجهل. حانت الفرصة ليلقي ديون شبكته على الصيد الثمين، ليصنع منه الحاكم الفيلسوف، أخذ يلح عليه حتى اقتنع بدعوة أفلاطون ثم أخذ يلح على أفلاطون لكي يقبل الدعوة: «أهناك فرصة أنسب من هذه الفرصة التي هيأتها العناية الإلهية؟ أن الملك الشاب شغوف بالعلم، وأقاربه يمكن أن نكسبهم بسهولة، والأمل كبير في أن يتحقق حلمك، أن يتحد الحكم مع الحكمة في شخص واحد، وبذلك تسعد سيراقوزة والبشرية، أسرع لا تبطئ عنا، فالمثل الأعلى يوشك أن يتجسد في إنسان حي ...»
Shafi da ba'a sani ba
واستجاب المعلم للدعوة، انتصرت إرادة الحلم على مخاوف التردد: «فقد كنت الآن بحاجة إلى إقناع إنسان واحد بآرائي لكي أحقق كل الخير الذي قصدت إليه.» وما قيمة آرائه عن القانون والحكم إن لم توضع موضع التنفيذ في الواقع الملموس؟ فليقدم إذا على المخاطرة «حتى لا أخجل من نفسي، أو أبدو في عيني مجرد رجل نظري لا يحسن إلا الكلمة.» حتى لا يتهم بنسيان الواجب أو خذلان الحق، سيكون عليه أن يتخلى عن عمله، يهجر أخلص أبنائه، ليعيش ببلد يتحكم فيه الطغيان، أبغض شيء عنده، لكن هذا أهون من أن يوصم يوما بالجبن وإيثار الراحة ...
ويقدم على المخاطرة. ويفاجأ ببلاط يموج بالدسائس والمؤامرات على ديون. ثم يفاجأ بعد وصوله بقليل بنفي صديقه وتلميذه من صقلية. وتسري الشائعات بأنه تآمر معه على خلع الملك الشاب عن العرش، وأنهما أرادا أن يوقعاه في سحر الفلسفة لينشغل عن مهام الحكم. هل يمكن أن يبقى في هذا الجو الخانق؟ هل يملك شيئا بعد رحيل صديقه؟ أيجرب أن يهدي الملك الأخرق لطريق الحكمة؟ لكن الشر استشرى فيه وفي حاشيته. وسهام الحكمة تتكسر فوق صخور الغلظة، بل إن الهمس يردد أن ديونيزيوس قتله، أو أمر بقتله، فليطلب إذنا بالعودة. ويتردد الملك؛ فسمعته مرهونة ببقاء الفيلسوف ببلاطه. وتوسل إليه أن يبقى، وتوسلات الطغاة تهديد ووعيد. ووافق الفيلسوف على أمل أن تخالجه الرغبة في الحياة الفلسفية. بكنه ظل يقاوم إلى النهاية، بل أمر بأن يحبس الفيلسوف في برج لا يخرج منه إلا بإذنه. وأخيرا وافق أن يرحل على وعد بأن يرجع عندما يستقر السلام في الجزيرة ويعود ديون من المنفي.
وتمر ستة أعوام، ويعود أفلاطون إلى صقلية سنة 361ق.م. فقد ألح عليه ديونيزيوس أن يقبل دعوته، ووعد بأن ينفذ العهد الذي قطعه على نفسه بتسوية شئون ديون. كيف استجاب الفيلسوف على الرغم من سوء ظنه بالطاغية؟ ألم تكفه مرارة التجربة السابقة؟ يبدو أنه لم يشأ أن يضيع الفرصة الأخيرة لهداية ديونيزيوس إلى الطريق، ولم يفقد الأمل في مساعدة ديون، ولم يقطع كل رجاء في «إنقاذ» سكان الجزيرة والعمل على سيادة القانون وإقامة نظام عادل يحل محل الحكم المستبد. ارتفع شعاع الأمل الأخير فوق ظلمات الشك والريبة، لكن ماذا يجد أمامه؟
تتحول الزيارة إلى كارثة؛ فلم يف ديونيزيوس بوعوده، ولا استدعى ديون من منفاه، لم يدخل في حوار مع الفيلسوف إلا مرة واحدة، ومع ذلك فسوف يدعي الإحاطة بمذهبه. وتثور ثورة المرتزقة طالبين رفع أجورهم. ويتهم الفيلسوف بمساندة المتمردين. ويجد نفسه سجينا في حديقة القصر كالطائر الحبيس في قفصه، ويحاصره التهديد بالقتل من كل ناحية. ولولا شفاعة صديقه النبيل أرخيتاس لما قدرت له النجاة.
فشلت المغامرة الثالثة وخاب الأمل. تحطم الحلم على صخور الغدر والحسد واللؤم، وتهاوى في أوحال الواقع برج الفكر. ماذا يفعل؟ ها هو يرجع، ماذا في جعبته إلا المر؟ فليلزم دارا لا يدخلها الشر. وليعط صغار الطير حصاد العمر. وليزرع في الأفئدة بذور الخير، فلعل النبتة تنمو في بستان الوعي وتثمر، والقوة تسقى من ماء العلم فتزهر، في فردوس العدل، الحلم الأكبر، يتولاه راع يحكم ... ويفكر ...
مسئولية من؟ ومن الجاني ومن المجني عليه؟ أهو ديون أم ديونيزيوس ؟ أم قدر خاف بين حنايا العصر؟
إن كلامه عن ديون يفيض بالعرفان والحنان «لا تخفى منه نغمة إحساس بالذنب!» لقد استمع إليه ديون وفهم عنه، شرب من نبعه وتطهر بمائه. ربما تحمس أكثر مما ينبغي، والحماس المشبوب وراء كل علم أو إبداع أو إصلاح. لكن التطرف فيه فاسد؛ لأنه بداية طريق لا منهج سير، كما أن الانفعال شيء غريب على عالم العقل والنظام والتدبير ...
كان ديون طيب القلب، تسقط كلمات الفلسفة في بحيرة وجدانه فتثور وتمور، لكن قلما تلمس الموجة قمة جبل العقل. وهو يذكرنا بشخصية شاب آخر يتحمس للفلسفة كالمجنون وينفعل بها إلى حد البكاء والهياج. إنه «أبوللودور» الذي نراه في اللحظات الأخيرة من محاورة فايدون (59) ومن حياة سقراط يشهد مع أصحابه أخر فصل في حياة المعلم الكبير. فلا يكاد سقراط يضع كأس السم على فمه حتى ينفجر وحده من بين الحاضرين بالبكاء والنشيج. ويلتفت سقراط - الذي احتفظ بسخريته الحنون إلى آخر لحظة - لأحد تلاميذه ويقول عنه: «إنك تعرف هذا الشاب وتعلم طبعه!» وهو نفس أبوللودور «المجنون» الذي نراه في محاورة المأدبة (172 وما بعدها) يروي ما جرى من حديث الحب في بيت الشاعر «أجاثون». إن لقاءه بسقراط قد بدله وحوله: «كنت قبل لقائي به أهيم هنا وهناك كيفما اتفق، وكنت أتوهم أنني أصنع شيئا، بينما كنت في الحقيقة وحيدا منسيا، أتعس من أي إنسان آخر.» الناس تدعوه أبوللودور المجنون. وهو في كل مكان يحكي - في طيبة قلب - عن شعوره بالفرح والسرور كلما أمكنه أن يتكلم عن الفلسفة أو يستمع لمن يتكلم عنها. ثم لا يلبث أن يرتد إلى الحزن واليأس كلما وجد أنه لم يتوصل بعد إلى التشبه بسقراط ...
هنا وهناك تحول التلميذ وتبدل. لكنه لم يكن التحول الذي يقصده المعلم والمربي من تحويل النفس بكليتها نحو الحكمة، كلاهما طيب القلب، حسن النية، مندفع في حماسه إلى حد السذاجة والطيش، والنيات الحسنة أقصر الطرق إلى الجحيم. يصدق هذا في الأدب وفي الفلسفة، فما بالك بالواقع؟
بذل ديون كل ما في وسعه للتأثير على الأب والابن الطاغيين، أحسن الظن في الحالين فلم يتعلم مما لقي من الصدمات. ولم يقف طموح آماله عند «إنقاذ» سيراقوزة لينعم أهلها بسعادة تجل عن الوصف وتستحق أن تشرف اسمه، بل أراد أن ينقذ البشرية كلها بمجرد أن ينجح في تحقيق مثال الحاكم الحكيم والملك الفيلسوف في شخصية الطاغية. واسترسل مع الأحلام وأخذ يلح على المعلم لاغتنام الفرصة النادرة. واندفع المعلم أيضا مع حماسه حتى أفاق على الصدمة تلو الصدمة، نفي التلميذ وأبعد عن بلده، نهبت ثروته، بيعت فجأة. بعد سنين ثار لنفسه ومعلمه واغتصب الحكم، لكن أصبح طاغية أقسى من كل طغاة صقلية، وأخفق في تطبيق الحكم العادل أو إصلاح الدستور، وأخيرا ثار عليه الشعب، حتى انغرز الخنجر - بيد صديق - في أعماق القلب ...
Shafi da ba'a sani ba
ما من أحد منا خالد. ولقد مات ديون ميتة رائعة: «وإنه لشيء جميل وجدير بالسعي إليه في كل الأحوال أن يتحمل المرء كل شقاء يصيبه به القدر، مهما تكن وطأته ثقيلة، في سبيل كفاحه لبلوغ أسمى الخيرات لنفسه ووطنه.» فهل استجاب حقا لتعليم أستاذه؟ هل جنى عليه الأستاذ دون أن يدري؟ أم كان الذنب أخيرا هو ذنب «الحلم»؟ فعل ديون كل ما يستطيع ليغير الطاغية، لكن هل تتجه النفس إلى الخير إذا لم تك خيرة بطبيعتها؟ نفاه الطاغية وأهان أستاذه، فانتقم منه وحرر الجزيرة منه ليصبح طاغية مثله! قتل أخلص أعوانه، نشر الخوف والرعب، نسي على عرش السلطة ما لا ينسى من تعليم الأستاذ: «لا يجوز لصقلية ولا لغيرها من المدن أن تخضع للسلطة المطلقة أو الطغيان الفردي، بل يجب أن تخضع لحكم القانون، فالسلطة المطلقة مضرة بالحكام والمحكومين، وهي مؤذية لهم ولأبنائهم وأبناء أبنائهم؛ لأن مثل هذه التجربة لا بد أن تؤدي إلى الخراب ...»
لكن المعلم يتحسر على مصير تلميذه، «الذي كانت لديه الرغبة الحارة في تحقيق العدالة.» يعتذر عنه بأنه «لو تمكن من تدعيم حكمه لبدأ على الفور بتزويد مواطنيه بأفضل وأنسب ما يستطيع من قوانين.» هل يجهل أفلاطون أم يتجاهل أنه سرعان ما تحول إلى طاغية قاس؟ هل تمنعه عاطفة الحب من الاعتراف بأنه أهمل تعاليمه؟ أم إن بذرة التسلط كانت كامنة في هذه التعاليم؟ يبدو أن قلبه يمنعه من سماع صوت العقل، أو أن هدف الرسالة السابعة كلها - وهو تبرير رحلاته والدفاع عن فلسفته ومدرسته - يحول بينه وبين السير في الاعتراف إلى آخر مداه. ها هو يلقي الذنب على أكتاف المجهول: «ولكن يبدو - بعد أن تحولت الأمور على هذه الصورة - أن روحا شريرا (أو ربة من ربات الثأر) قد هاجمنا واستطاع بما جبل عليه من احتقار القانون والدين وبما هو أسوأ منهما من رعونة الغباء أن يقلب كل خططنا ويفسدها للمرة الثانية.»
ويتذكر الصديق المسكين الذي يحتل من قلبه أغلى مكان. وينصح أصدقاءه وأتباعه بأن يقتدوا به في حب الوطن، ويهتدوا بحياته التي اتسمت بالبساطة وضبط النفس، ويحاولوا تحقيق أهدافه - التي هي نفس أهدافه! - في ظل ظروف أنسب. صحيح أنه يؤكد لهم ضرورة احترام القانون الذي يكفل الحقوق المتساوية للجميع، ولا بد أن يخضع له الفريق المنتصر قبل الفريق المهزوم، بل ينصحهم باختيار مجموعة من حكماء اليونان لوضع هذه القوانين. فهل أنسته عاطفة الحب لصاحبه أنه تجاهل المبادئ التي عمل معه على تحقيقها «مدفوعين بالحب لأهل سيراقوزة»؟ هل صحيح أن «قدرا يفوق قدرة البشر» هو الذي حال دون نجاح خطتهما؟
ويواصل الاعتذار عن «ديون» والتحسر عليه، فقد كانت آراؤه «هي نفس الآراء التي يفترض في وفي أي إنسان عاقل أن يعتنقها.» لقد وضع نصب عينيه ألا يصل إلى السلطة وأسمى الوظائف إلا عن طريق التفاني في خدمة الصالح العام، وكان هدفه وضع دستور حقيقي وإقامة قوانين طيبة عادلة تنفذ بغير قتل أو إعدام أو نفي. فهل هذا كان حقا هو المثل الأعلى الذي وضعه ديون لنفسه مؤثرا تحمل الظلم على اقترافه؟ هل غاب عن المعلم أن تلميذه أغرق يديه ومثله الأعلى في الدماء؟ وهل كان سبب سقوطه أنه انخدع في المدى الذي وصلت إليه خسة الأشرار الذين لم يغب عنه أنهم أشرار؟ كالملاح البارع الذي يتوقع هبوب العاصفة، ومع ذلك تداهمه بقوتها وعنفها المفاجئ فتغرقه؟ أم إن القلب المحب يصعب عليه الاعتراف بأن «الحلم المنقذ» بحاجة إلى إنقاذ؟ وأن طريق «الحكمة» أشق مما تصور المعلم والتلميذ؟!
هل المسئول ديونيزيوس؟
لقد تعب أفلاطون وديون في توجيهه نحو الخير. بذلا له النصيحة تلو النصيحة ليبدأ بتغيير حياته من أساسها. لكن عبثا يحاولان علاج مريض يصر على رفض تعاليم طبيبه. عبثا تكره إنسانا على شيء يأباه طبعه. فالخير يسعى للخير، وطريق الحكمة وعر، درب يرقاه السالك بالعرق المر، تحويل النفس برمتها نحو الخير، هل تصلح نفس جبلت من طين الشر؟
علماه أن يصادق نفسه. فالذي لا يحب نفسه لا يحب غيره. لكن كيف يصادق طاغية نفسه؟ كيف تعرف الصداقة طريقها إلى قلبه؟ إنه عدو نفسه الأول. ولهذا فهو عدو الناس جميعا، والناس جميعا أعداؤه، إن لم يجدهم في الداخل فهم وراء الحدود، وإن لم يهددوه من الخارج فكل من حوله يهدده: الذئب يهاجم أو ينتظر هجوما ...
نعم، لقد دعا الفيلسوف لضيافته. واستقبله بالترحاب اللائق والتكريم. لكنه لم يدع فكره وحكمته، بل أراد أن يستغل سمعته، أن يباهي به أمام الرأي العام الإغريقي، أن يجعله زينة قصره، تحفة تحفه، أن يروي الناس ويحكي التجار وملاحو السفن بأن ديونيزيوس صاحب أفلاطون، بل يفهم عنه أيضا ويحاوره في آرائه! فإذا همس رجال الحاشية بأن أفلاطون يريد أن يوقعه في سحر الفلسفة، ويشغله عن واجبات الحكم، أسرع بحبسه في برج لا يخرج منه إلا بإذنه، ولا يستطيع الملاحون أن يأخذوه منه إلى وطنه ...
وتردد الشائعات أن الطاغية تحمس فجأة للفلسفة! وتصله الرسائل التي تؤكد - حتى من أصدقائه الفيثاغوريين في تارنت - أنه تغير وغير نفسه، وأنه عازم على سلوك الحق والفضيلة. ويصدق الفيلسوف على الرغم من سوء ظنه به وبحماس الشباب الذي يشتعل فجأة ويخبو فجأة. ويسرع إليه على أمل أن تتحقق الفرصة الأخيرة ويصنع منه تمثال الحاكم الحكيم. لكن الطينة نجسة، وغناء الضفدع لا يحلو إلا في قلب المستنقع. ها هو ذا قد أخلف وعده، لم يستدع ديون من منفاه، لم يرسل إليه نصف دخله كما تعهد على نفسه، والأدهى من هذا أن المتعطش للفلسفة لم يكلف نفسه عناء لقاء الفيلسوف إلا مرة واحدة! مع هذا سوف يشيع بين الناس أنه يحبه ويفهمه، بل سينشر كتابا يعرض فيه مذهبه! ...
كيف تجرأ أن يفعل هذا مع أن صاحب المذهب يؤكد أنه لم يفكر يوما في كتابة شيء عنه؟ لقد آمن دائما بأن «حقائق الطبيعة» و«القضايا الأخيرة» تستعصي على التدوين في الكلمات الجامدة والحروف الصماء. فالفلسفة طريق وحوار حر، نور ينبض فجأة، في نفس خيرة سمحة، وهنالك ينمو ويعيش. ولو تصور أن نشر أفكاره يمكن أن ينفع الناس، فهل كان يتردد عن تقديم هذا المذهب الذي ينقذهم من بؤسهم ويبين لهم حقائق الأشياء؟ أكان هنالك عمل أجمل أو أنبل من هذا العمل؟ لكن القلة القليلة هي التي ستفهمه على الوجه الصحيح، أما الكثرة فلن يصيبها منه إلا الأذى والاضطراب، «ولهذا لن يخاطر إنسان جاد بوضع أفكاره في ثوب اللغة الضعيفة، وأولى من ذلك ألا يخاطر بوضعها في ذلك الشكل الجامد الذي يميز كل ما يكتب بالحروف.»
Shafi da ba'a sani ba
لكن غرور الطاغية صور له أن الأمر هين، وهل هناك ما هو أهون من إطلاق شراع القلم فوق بحر المداد؟ هل ثمة شيء أيسر من تلويث الورق الطاهر؟ لن يكون ديونيزيوس أول ولا آخر من يكتب عن الخير ونفسه مليئة باللؤم والحسد والشر، «انظر وتأمل حولك: كم من شرير لبس مسوح العلم، اجتر مئات الكتب وفوق الورق العذري أسال بحور السم، ماذا كسب العلم أو العالم منه؟ وا أسفاه! صار الرأس وصار الفم، مقبرة الكلمات الصم، ماذا يجني الشوك من الشوك الشائك - إلا الظلم؟ هل تلد الأرض العاقر إلا العقم؟ ما قيمة بحر مداد لم تسقط فيه قطرة دم؟»
هل صعد ديونيزيوس على سلم المعرفة قبل أن يتصدى للإفتاء فيها؟ هل ارتفع من الاسم إلى التعريف إلى التمثل قبل أن يصل إليها؟ وكيف وثب على سر «الموضوع» وهو لا يملك الخير ولا الموهبة ؟ أكان يحسبه إحدى ضحاياه؟ هل تصور أنه لا ينجو من طغيانه؟ وكيف يكتب عن «المثال» وهو لا يعرف ولا يرى؟ كيف لأعمى - يعجز حتى «لينكويس»
1
أن يجعله يبصر - أن يتغزل في النور الباهر؟ أن يزعم رؤية ما لا تمكن رؤيته إلا بعيون الروح؟ هل جرب شوق الجدل الصاعد له؟ هل عرف الحب؟
لم يعرف شيئا من هذا. والمنقذ أسفر عن وجهه، فإذا هو ذئب!
هل مات الحلم؟ فليحمل معه أشلاءه، ويعود إلى الوطن الأم.
هل بقي أمل في الإنقاذ؟ ألا يزال في قدرة الفلسفة أن تنقذ البشرية؟ أم تظل تحلم حتى يطفئ الجراد سراج الحلم؟ أننتظر المنقذ أم نحاول إنقاذ أنفسنا؟
ويعكف المربي الأثيني على تربية النفوس والعقول، ويقدم لمواطنيه طريقا أو مشروعا ينقذهم من الانهيار. فلننظر في هذا المشروع، ولنسأل ماذا يمكن أن يعطينا في زمن المحنة ...
إنقاذ العالم
العالم بؤس وفساد، لم نحيا فيه إن لم نسع لإنقاذه؟ ما معناه إن لم نضف عليه المعنى؟
Shafi da ba'a sani ba
معرفة الوجود الخالد الحق والمشاركة فيه لإنقاذ الوجود الأرضي المحسوس بقدر الإمكان، تلك هي مشكلة أفلاطون.
ليست مشكلته هي الخلاص من الثاني وإفناؤه، ولا الاتحاد مع الأول والفناء فيه، «فهذه آثار فلسفة أفلوطين وشراحه على التصور الشائع عن أفلاطون!» بل حمل النفس على المشاركة فيه، «من هنا تأتي وظيفة التربية وتقسيم العلوم».
عالم الحس والتجربة هو عالم التغير والفساد، والحركة والفناء، كل ما هو جسدي محسوس، وطبيعي مادي ليس وجودا حقا، إن له صورة، لكنه ليس صورة، «لهذا أخطأ الفلاسفة (الطبيعيون) في البحث داخل هذا العالم عن أصله ومبدئه، عن سببه وجوهره ...» فالوجود الحق في المثل أو الصور، في الأفكار أو الأنواع «صورة الدائرة، العدالة، المساواة ... إلخ».
1
ارتباط الطبيعة بالأخلاق: من تعلق بهذا العالم الحسي أصبحت القيم الأخلاقية عنده متغيرة وقابلة للتحول. لا عدل ولا حق ولا واجب، بل كلمات تغوي وتؤثر، كل شيء كما يبدو لكل إنسان. أوضح من عبر عن هذا كالليكيليس في «جورجياس» وثرازيماخوس في «الجمهورية»، من هنا كان فساد السفسطائيين، وانحلال أثينا، وتضليل الجماهير بالكلمات. من هنا كان خداع كل الدجالين، ينتظر الناس الحق فلا يجدون، غير بريق الكلم الزائف من فم مجنون.
الهوية هي مجال الوجود الحق، مجال «الموضوعية» حين يعرف العقل حقائقه. والغيرية «أو الأقل والأكثر» هي مجال الصيرورة، مجال النسبية التي لا يستطيع العقل أن يثبت فيها، واللاوجود - أو الموجود في الظاهر فحسب - بينهما هوة وانفصال، وانشقاق وثنائية حاسمة، هل يمكن أن يلتقيا؟!
الأساس الأكبر لفلسفة أفلاطون هو هذا الانفصال التام، هذه الثنائية الحاسمة، هذه الهوة السحيقة
2
بين عالم الوجود وعالم الصيرورة، والمشاركة
3
Shafi da ba'a sani ba
هي التي تحاول التقريب بينهما.
أبينهما تناقض أم بينهما تضاد؟
أتصدق عليهما: إما «أ» أو «ب»، أم «أ» عكس «ب»؟
فرق كبير بين التضاد الذي يسمح بوجود حدود متوسطة بين الضدين، كالصيف والشتاء وبينهما خريف وربيع، والأبيض والأسود وبينهما عدة ألوان، وبين التناقض الذي لا يسمح بالتوسط، حياة وموت، حركة وسكون، ذكر وأنثى، زوجي وفردي، جوهر وعرض، صدق وكذب ... الخ.
مع ذلك تسمح بعض المتناقصات بحدود وسطى من جانب واحد، كالظلم بالنسبة للعدل، فقد يقترب من العدل أو يبتعد عنه، بعكس الزوجي والفردي والحياة والموت ... إلخ.
بين عالمي الصيرورة والوجود تناقض من النوع الأخير، الأول يسمح بالتقارب، يمكن أن يبتعد أو يقترب من الثاني. فالوجود مطلق، ولا بد من معرفته معرفة مطلقة في ذاتها. والصيرورة أو اللاوجود الذي يقترب منه أو يبتعد عنه يناقضه؛ لأنه يشتاق للوجود ويسعى للمشاركة فيه «إذ لو كان مثله لصار منافسا له ولم يسمح بالمشاركة».
عالم الصيرورة نوع من اللاوجود «لسعيه الدائم إلى الوجود»، لكنه لا وجود ينطوي على درجات «مثل الظلم والكذب».
فالحكم الصادق «يناقض» الحكم الكاذب «وإن كان هذا على درجات تقترب من الصدق أو تبتعد عنه.»
و«السرمدية» تناقض «الزمانية»، وإن كان من الممكن أن تمتد وتدوم بعد موتها وانتهائها، كالفكرة العظيمة، والعمل الفني.
و«الإله» + يناقض «الإنسان»، وإن أمكن - في حدود الأرضية والبشرية - أن يوصف بعض الناس - وهم الصفوة والقلة النادرة - بأنهم إلهيون.
Shafi da ba'a sani ba
والإيدوس
4 «يناقض» الإيدولون.
5
النموذج والأصل، الحقيقة والوجود المطلق، الماهية والجوهر، هنا نجد نموذج كل صيرورة، والنماذج أو المثل متعددة - أخلاقية ورياضية - لكنها تمثل وحدة حية وجماعة مشتركة.
6
النسخة الناقصة والظاهرة المتغيرة، تتفاوت بين وجود مظهري خداع وآخر مشارك في الماهيات والحقائق الثابتة، والصور أو المثل الخالدة تتفاوت أيضا في طبيعتها، فهي جسدية أو جمالية أو نفسية ...
والمثل لا ترى بالعين، حتى لو كانت عين العقل!
لكن العقل يفترض وجود المثل أو الصور الأصلية كأساس منطقي لا بد من الاقتناع به.
ثنائية حاسمة، هوة وانفصال: بين العقل والمحسوس، والوجود والصيرورة، والمثل والأشياء، والمعرفة والجهل، والنور والظلام، والحرية والعبودية.
علينا نحن أن نقرر: هل نريد البقاء في عالم الصيرورة والضرورة، والتجربة والحس، أم نريد الارتفاع إلى عالم الفكر والعقل، والإرادة والسلوك، الأول ينقصه كل ما يميز الحق من قيم «الثبات والتحدد، الجوهرية والاستقلال» لأنه عالم التغير والفساد. أما الثاني فيحتوي على كل معيار للمعرفة، كل قانون للفكر والعلم؛ لهذا تقاس به المعرفة التجريبية ولا يقاس هو بها.
Shafi da ba'a sani ba
هل يمكن أن يلتقيا؟
لا يقطع أفلاطون بشيء، بل يترك الأمر للمشيئة الإلهية
7 ...
فإذا شاءت ولد «المنقذ»: سيكون شبيها ببروميثيوس الذي جلب النار للبشر أو بأسكلبيوس الذي وهبهم فن الطب والعلاج. سيكون مفاجأة، حدثا فريدا وجديدا قد يتبعه غيره، وقد ينتهي الأمر عنده ويأتي بعده الفساد ...
هذا المنقذ هو الذي سيوحد بين العالمين، عالم التجربة وعالم الحكمة. هو الذي سيحقق الدولة المثالية العادلة؛ إذ يجمع بين القوة العملية والرؤية الفلسفية.
فلقد عرف السر الأكبر، لا يشبهه سر الطب أو النار؛ فهم مثال العدل وطلب الخير المطلق ...
الأمر إذا لله، لا للعالم التجريبي «الدينامي»، ولا لعالم المثل «الوجودي»، فهو القادر أن يوحد بينهما؛ لأنه هو القوة الوحيدة الفعالة فيهما.
لن تنشأ الدولة المثالية من عالم التجربة، بل ستكون - شأنها شأن كل المثل - مخالفة له. لن تتحقق مهما توافرت الشروط المطلوبة «من تجريد الطبقة العليا من الملكية واختيار الحراس والفلاسفة، والتجنيد العام ... إلخ.» ولن تتم عن طريق الثورة والعنف، بل تتحقق حين يشاء الله أو تشاء المصادفة أن يولد هذا المنقذ، فيخلص كل البشر من البؤس، ويبدد ليل الظلم وينصب ميزان العدل ...
حتى يحدث هذا، ما هو واجب الفلاسفة؟ عليهم أن «يربوا» الناس تربية فلسفية تهيئهم لتحقيق الخير المطلق على الأرض، أن يعلموهم كيف يحافظون عليه كما علموهم كيف يفكرون فيه. عليهم أيضا أن يعدوهم لاستقبال المنقذ والعمل معه، حتى لا يدمروه باللؤم والحسد والغدر والغباء ...
ماذا يطلب منهم؟ ما الشروط الواجب أن تتحقق فيمن يطمح للحكمة؟ فيمن يريد أن يكون فيلسوفا، وقد يتاح له فرصة تدبير أمور الناس وتصريف شئون حياتهم السياسية والعملية، أي فرصة إنقاذهم بالحكمة والحكم؟
Shafi da ba'a sani ba
عليه أن يعرف هذه الأمور الثلاثة معرفة دقيقة: (1)
عالم التجربة. (2)
عالم المثل. (3)
عالم الخير الإلهي.
عالم التجربة لكيلا يخدعه السفسطائيون ويسرقوا منه آذان العامة بكلامهم المختلط البراق، وعالم المثل والماهيات الذي يحتوي وحده على معايير المعرفة الحقة وموضوعاتها، وعالم الخير الإلهي الذي هو «شمس نهار الأخلاق ...»
أما عالم التجربة فلا بد أن يعرف أنه عالم الظواهر والقيود، عالم النقص والعذاب؛ لأنه إن رضي به فلن يستطيع «إنقاذه» بالفلسفة ... «لا بد أن يعرف خداع الكلمات التي تغري والإحساسات التي تغوي، والقوى المادية التي تضل. لا بد أن يعرف أن هذا العالم، عالم الزمان والمكان والظواهر»، هو الضد من عالم الحقيقة والمعنى الثابت الأصيل ...
لا بد أيضا أن يقتنع بالوجود المطلق الثابت للمثل «فوق الزمان والمكان». وبعد أن يتمرس بالطريقة المنهجية في التفكير، ويتدرب على الحياة العملية والعسكرية، عليه أن يرجع - من حين لآخر - إلى المجال الموضوعي الوحيد للعلم، لكي يعرف أن التصورات والأفكار الحقة ليست مجرد تجريدات من الأشياء التجريبية، بل إن الأمر يتعلق بالمعايير الثابتة التي ينبغي أن نقيس الأشياء بمقياسها لنعرفها معرفة صادقة.
من شعر بأنه يعيش في عالم المثل الخالدة كأنه يعيش في وطنه فهو وحده الذي يمكنه أن يتجه بفكره نحو المطلق والخالد ، ومن أحس المسئولية التي تنتظره ليكون مرشدا للناس، ينبغي أن يكون ثابت الفكر والرأي كالكواكب الثابتة في السماء. إن لم يفعل هذا ضل وتاه بعالمنا التجريبي، فتش عبثا عن سند يعتمد عليه.
أما أسمى واجبات الفيلسوف فهو أن يعرف طبيعة الواحد الإلهي، الخير المطلق الشامل الفريد، «فليس له مبدأ مضاد كالشر الأصلي الحاسم مثلا».
فأسوأ ما يوجد على الأرض - أو يمكن أن يوجد على ظهرها - هو الطاغية، سواء كان «طاغية فردا» أم كان هو «الغوغاء»
Shafi da ba'a sani ba
8
التي أفسدها المحرضون والمشوشون؛ لأن الطاغية هو الذي يحاول أن يجعل الشر مبدأ عاما. غير أن هذه المحاولة لن تنجح أبدا - مهما أدت في عالم الحس والتجربة إلى الدمار والخراب - لأن الشر لا وجود له في الواقع «في هذا يتأثر أفلاطون بالإيليين!» ولأن كل ما يوجد فهو موجود بقدر ما يشارك في الخير «ما يوجد في الدائرة هو دائما ما يتفق مع وجود الدائرة الكاملة في ذاتها - مثال الدائرة أو الدائرة الخيرة - وهي التي نقصدها عندما نتصور الدائرة أو نقوم بتعريفها. كل ما عدا ذلك فهو لا دائرة، نفي وسلب لوجود الدائرة ...»
كيف نعرف الطاغية؟ كيف نعرفه؟
هو - مثل كل ما هو شر - نفي الحاكم الخير، كما أن اللادائرة هي نفي الدائرة الحق، والسفسطائي هو نفي المعلم الصحيح، والمرض هو نفي الصحة ...
وإذا فموضوع التعريف، وبالتالي موضوع كل معرفة صحيحة تعبر عن ماهية الوجود بالمعنى العقلي اليقيني،
9
هو دائما ما يشارك في الخير، والموجود الذي يمكن أن نسميه إلها هو وحده العلة والمبدأ الذي يتيح هذه المشاركة في الخير؛ لأنه هو نفسه الخير في ذاته أو الخير المطلق «الخالي من الحسد لأنه خير!»
هذه المشاركة تتحقق على أكمل وجه في عالم الصور والمثل، فكل صورة أو مثال على حدة - كالحقيقة أو الجمال أو العدالة أو المساواة أو الدائرة أو الدولة والمجتمع ...إلخ - هي التي تكون الوجود الحق على نحو نموذجي أو معياري أصيل، وكل مثال أو صورة يمثل، مع سائر المثل أو الصور، جانبا من الخير الواحد، «فالدائرة التجريبية الناقصة تشارك في مثال الدائرة، والدولة في عالم التجربة تشارك في مثال الدولة، كل الموجودات في عالم التجربة ناقصة متغيرة، وهي تشارك في ضدها، أي في وجود كامل في ذاته.»
هل يناقض هذا مبدأ عدم التناقض الإيلي؟
لا يناقضه؛ لأن هذا المبدأ لا ينطبق إلا على عالم الواقع والتجربة، ولأن الفكر عندما يكون في مجال المشاركة لا يكون في مجال وجود أفقي، بل في مجال وجود رأسي يعبر عن مشاركة الموجود الناقص المتغير في الوجود الكامل الثابت، عن علاقة اللاوجود بالوجود نفسه.
Shafi da ba'a sani ba
الله - أو الخير الواحد الأسمى - هو علة هذه المشاركة.
فالحياة تكون في هذه المشاركة، والله هو علة كل خير ووجود،
10
وليس للأشياء ولا لعالم التجربة والظاهر من وجود إلا بقدر ما تقاس بالنموذج أو المثال الذي يضعه الفكر، بقدر ما يمكنها أن تشارك فيه.
المشاركة هي شرط الفكر الموضوعي والمعرفة نفسها. لم يقرر أفلاطون طبيعة هذه المشاركة إلا في مرحلة متأخرة من تطوره:
نقول في الأحكام والقضايا الحملية: أ هي ب «هذه دائرة»، أو س هي م «أثينا مدينة». والكينونة هنا تعبر عن التساوي. لكن حين يقاس كلاهما بحقيقة الدائرة أو بحقيقة المدينة يصبح معناها الشوق والنزوع والطموح للمشاركة، فكل ما هو تجريبي يشتاق للمشاركة في الوجود الكامل الموجود في ذاته، أو للخير الذي تمثله سائر المثل كل من ناحيته.
فالله أو الخير الأسمى هو سبب المثل وعلتها «لأنها تشارك فيه»، كما هو سبب عالم الأشياء والظواهر «لأن كل شيء يمكن أن يشتاق للمشاركة في المثل».
هذا الإمكان
11
لا يأتي من المثل نفسها، فهي مكتفية بذاتها، بل يأتي من الله «الذي يفوق الوجود في الرتبة - أو الشرف والكرامة - والقوة»؛ إذ لولا خيريته ما كان هناك ثبات.
Shafi da ba'a sani ba