Sarakunan Tawaif
ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام
Nau'ikan
وكانت حيل باديس في النكاية بأعدائه جافة سقيمة،
2
مما يجعل إحباطها بسرعة ميسورا وسهلا، أما حيل المعتضد فكانت دقيقة لينة يمس المخدوع منها في لينها ما يمس من ظهر الحية الرقطاء تحت أنيابها السم ناقع، ولهذا كان يندر فشلها، ويصعب إحباطها، وجانب الدهاء وسعة الحيلة من الجوانب القوية في المعتضد، ويروون في هذا الصدد حكاية يجدر بنا إيرادها، وذلك أنه حدث في الموقعة التي أوقعها المعتضد ضد بربر قرمونة أنه كان يتبادل مع رجل من عرب هذه المدينة رسائل سرية يقفه فيها على حركات وخطط البربر، ولكيلا تضبط هذه الرسائل، ولا يرتاب فيها أحد، كان مضطرا لأن يتخذ كثيرا من الحيطة والحذر.
ولكي يصل إلى غرضه من تبادل الرسائل مع جاسوسه، كان قد اتفق معه على خطة معينة، وبناء على تلك الخطة أشخص إلى قصره رجلا ساذجا طيب القلب من بدو إشبيلية ولما مثل بين يديه قال له: «اخلع رداءك هذا الخلق، والبس هذه الجبة الثمينة الجميلة التي أتركها لك هدية إذا قمت بتنفيذ ما آمرك به.» فارتدى الرجل الجبة وهو يفيض بشرا وسرورا، ولم يدر أن في بطانة جيبها قد خيطت رسالة من المعتضد إلى عينه بقرمونة، وأظهر الرجل استعداده لأن يؤدي بدقة وأمانة كل الأوامر التي يكلفه بعملها، فاستحسن المعتضد منه ذلك وقال: «أصخ بسمعك إذن لما آمرك به: عليك أن ترحل من الآن إلى قرمونة، فإذا حللت بسيطها وكنت بظاهرها، فلا تدخلها إلا بعد أن تجمع من الحطب حزمة تدخل بها المدينة وتعرضها في السوق مع باعة الحطب، ولكن عليك ألا تبيعها إلا لمن ينقدك في ثمنها خمسة دراهم.» ومع جهل الرجل سر هذه الأوامر الغريبة بادر إلى الطاعة، وغادر إشبيلية، ولما كان على مقربة من قرمونة أخذ يحتطب، ولم يكن ذلك من عادته، وقد يجمع المحتطب المتعود مقدارا كبيرا يستطيع جمعه، إلا أن هناك فرقا بين حزمة صغيرة وأخرى كبيرة.
دخل الرجل المدينة يحمل مما جمعه من فروع الأشجار تلك الحزمة الصغيرة ليبيعها في السوق، فوقف على حزمته تلك أحد المارة وسأله: «كم ثمن هذه الحزمة؟»
فأجابه البدوي: «ثمنها خمسة دراهم كاملة غير منقوصة، فإن شئت دفعت الثمن وأخذتها، وإن شئت تركتها» فأغرب الرجل في الضحك وقال له: «عجبا، لعلك لا تشك في أن حزمتك هذه من خشب الآبنوس.»
وجاء آخر، فقال: «لا، بل هي من العود الهندي الذكي الرائحة.»
وهكذا أخذ كل من وقف على سلعته الحقيرة وعرف ما يطلبه ثمنا لها يمزح معه هازئا به ساخرا منه.
وبقي على حاله تلك في السوق إلى أن مال ميزان النهار، وآذنت الشمس بالمغيب، فدنا منه حينئذ عين المعتضد يتظاهر بشراء حزمة الحطب، واتفق معه على أن ينقده ثمنها إذا قبل أن يتبعه بها إلى منزله، يحملها على كاهله، فتبعه الرجل إلى منزله حتى وضعها هناك، ولما أخذ الدراهم الخمسة، قام يتأهب للعودة، فقال له صاحب الدار: «لقد أمسيت فإلى أين تذهب الساعة؟»
فأجابه: «إني رجل غريب، ولست من أهل المدينة، ولا بد لي من العودة إلى إشبيلية.» فقال له: «وهل ترى ذلك ممكنا الليلة، وهل تأمن عادية اللصوص في الطريق؟ انزل هنا على الرحب والسعة، وسأقدم لك طعام العشاء. ويمكنك أن تبكر بالسفر غدوة إلى حيث تريد.» فقبل منه الرجل ما اقترحه عليه، وقابل تلك الحفاوة البالغة بالشكر والثناء، وأنساه كرم الضيافة، وطيب الأكل ما لقيه بالنهار من سفه وسخرية، وبعد أن تناول طعام العشاء ، وفرغ من تلك الأكلة الشهية، أخذ يسمر مع مضيفه إلى هزيع من الليل، حيث دار بينهما هذا الحوار. - الآن أيها الضيف الكريم، خبرني من أي البلاد قدمت وما موطنك؟ - قدمت من بسيط إشبيلية حيث المزارع، وحيث موطني الذي أقيم فيه هناك. - إني أرى أنك - أيها الأخ - شجاع مقدام جريء لأنك استطعت أن تخاطر بنفسك وتصل إلى هنا، وأنا أعلم مبلغ ما وصل إليه البربر من القسوة والوحشية، هم بلا شك يسرعون إلى قتلك، ويرون ذلك أمرا سهلا ولا بد أن يكون هناك من الأسباب القوية ما حملك على المجيء هنا، والتعرض لأخطار الطريق. - ليس هناك من الأسباب القوية ما حفزني على المجيء، ولست أظن أن أحدا من الناس بالغا من القسوة ما بلغ يتعرض لرجل أعزل مثلي في الطريق أو يصيبه بأذى.
Shafi da ba'a sani ba