Sarakunan Tawaif
ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام
Nau'ikan
وكان الخليفة يستمع إلى مادحه من وراء ستار، وكانت رسوم الخلافة لا تسمح بقبول رجاء هذا الشاعر، إلا أن الخليفة فعل ما لم تجر به العادة، وقال لحاجبه: «ارفع الستار.»
فكان هذا الشاعر أسعد حظا من عشيقة «جيوبيتر» التي ذهبت ضحية ميلها إلى رؤيته، حيث رأى ما ينبعث عن ذلك المحيا من النور الذي - وإن لم يكن سناه يذهب بالأبصار ويبهر الأنظار - فهو على الأقل يطبع في ذهن من يجتليه وينظر إليه أجمل صورة من صور السماحة والإحسان وطيب القلب، وربما كان هذا أحمد أثرا في نفسه مما لو عاين من صورته الحسية مشرقا من مشارق الأنوار، وشاهد تلك الصفات التي ذكرها في شعره. ومن المحقق أن الخليفة أجازه بجائزة سنية وانصرف شاكرا مسرورا. •••
ومما يؤسف له نظرا لمركز الخلافة وأمن الدولة أن إدريس كان يضم إلى سماحة النفس وطيب القلب، وصفا آخر هو التناهي في الضعف والمواتاة والاستسلام، ففي استطاعته أن يوافق ويسلم بكل ما يراد ويطلب منه كائنا ما كان، فلو أن أميرا من الأمراء الذين يستظلون بحكمه - كباديس أو غيره - طلب إليه أن ينزل له عن قصر الخلافة أو يهبه أي أمر آخر لفعل، وقد حدث أن باديس بعثه إليه ملحا أن يرسل وزيره ويمكنه من التنكيل به لضغينة في نفسه، فصرح إدريس لوزيره الذي يحقد عليه باديس أنه كاتبه في شأنه وطلب أن يسلمه إليه وأنه لا بد فاعل حيث لا يستطيع أن يرفض طلبه، فأذعن الوزير لحكمه ولم يشفع له عند إدريس أنه الخادم الأمين القديم لأسرته، وقال: «لك يا مولاي أن تفعل ما يريده هذا الطاغية، وعلي أن أستسلم لما يأتي به القضاء، وما يخبؤه لي القدر، وسترى أني ملاق حتفي غدا وسأقابله باستسلام ورباطة جأش وقدم ثابتة.»
وقضي الأمر، ووصل وزير إدريس إلى غرناطة حضرة مملكة باديس فأمر به في الحال فضربت عنقه، وكان هذا الضعف الظاهر من إدريس مما أحفظ عليه البربر وأوغر صدورهم، كما أغضبهم من قبل لينه المفرط، وعطفه الذي كان يبديه للشعب بنزعاته الاشتراكية. بهذا تحرجت الحالة وانطوت قلوب البربر على بغض هذا الخليفة الضعيف المستسلم وكراهته، ولما كان أولئك الزنوج يطغيهم الضعف ويغريهم اللين، ولا يردعهم إلا إعمال السيف في رقابهم، وإنضاج جلودهم بالسياط، وتعليق المشانق لإزهاق أرواح مجرميهم، لم يزدهم ذلك إلا استخفافا بالخليفة وازدراء به وجرأة عليه، ذلك الخليفة الذي لم يصدر قط حكم على أحد بالقتل في زمنه، فلا جرم إذا كان الاستياء عاما شاملا، ولا غرابة في أن يحدث رئيس حصن «إيرش» ثورة في داخله، ويطلق صاحب شرطته سراح ابني عم إدريس وينادي بمحمد البكر منهما خليفة، ولا في أن يثور الزنوج الذين يؤلفون حرس قصر الخلافة بمالقة، ويهيبوا بمحمد أن يكون بينهم، على أن السواد الأعظم من أهل مالقة لم يتخلوا عن خليفتهم في ساعة الخطر المحدق والبلاء الداهم، إذ كانت قلوبهم تفيض حبا وعطفا على خليفتهم الخير المحسن، فسارعوا إلى نجدته، وطلبوا أن تخرج لهم الأسلحة من دار السلاح، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلا ولو أنهم كانوا متقلدي السلاح في ذلك الوقت لم يبق من الزنوج الثائرين أحد في القصر، وقد أبى إدريس أن يمكنهم من السلاح حقنا للدماء وإطفاء للنائرة وشكر لهم هذه العاطفة، وخاطبهم بقوله: «عودوا إلى دوركم فإني لا أرغب في أن يسفك دم من أجلي.»
وبهذا لم تقم أية عقبة في سبيل إقامة محمد خليفة مكان إدريس الذي حل محله في حصن «إيرش»، وبهذا تبادل كل منهما مكان الآخر (1046-1047).
ولم يكن الخليفة الجديد على شاكلة سلفه، بل نزع لأمه، وهي حسناء باسلة، يطيب لها العيش في الخلاء حيث تشاهد عن كثب الاستعداد للقتال، وإدارة المعارك الدموية، وضرب الحصار على الحصون المنيعة، وحيث تنثر على الجند من درر كلامها، وصرر نقودها ما يلهبهم حماسة وشجاعة ونجدة، وقد بلغ محمد في البسالة والإقدام شأوا بعيدا، وكان مع هذا قاسيا غليظ القلب سفاكا للدماء، وإذا كانت القوة قد أعوزت إدريس فإن محمدا (على رأي محدثي الثورة) كان له من البأس والقوة أوفر نصيب، وقد كان مثله في ذلك مثل الضفدعة التي طلبت من «جيوبيتر» أن يقيمها ملكة على مملكة الضفادع، وعالم الضفادع هذا كما أسماه «لافونتين» هو جماعة البربر والعبيد، أولئك الذين لم يلبثوا إلا قليلا حتى حنقوا على الخليفة الرهيب، وحملوا له الإحن في صدروهم، وندموا على سلفه الوادع المسالم الذي كان وجوده كلا وجود.
وسرعان ما دبرت مؤامرة، وشرع مدبروها يتفاوضون مع رئيس حصن «إيرش» الذي سارع إلى الانضمام إليهم بسهولة فأخرجوا إدريس الثاني من السجن، ونادوا به خليفة. •••
وفي هذه الآونة لم يحجم إدريس عن إثارة حرب أهلية؛ لأن ما عاناه في سجنه ذهب بما كان في نفسه من نزعات شريفة، واتفق أن محمدا - وقد ألهبته أمه حمية وحماسة - قاتل خصومه ببسالة وشدة حتى ظفر بهم وألجأهم إلى وضع السلاح، ومع هذا لم يسلموا إدريس لخصمه، بل أرسلوه لإفريقية، وتولى الأمر هناك اثنان من البربر، وهما: صاحب شرطة سبتة،
4
وصاحب شرطة طنجة فقابلاه بحفاوة وإكرام بالغين، وأخذا له في البيعة وخطبا باسمه على المنابر، على أن ذينك الرجلين استأثرا دونه بالسلطة الحقيقية، وكانا لحرصهما على الاستئثار بالسلطة والنفوذ يراقبانه عن كثب، ويحولان دون ظهوره للجمهور، واقترابه من الشعب، وقد تمكن بعض مضمري العداوة لهما من أمراء البربر أن يقولوا للخليفة: إن هذين المملوكين اعتقلاك في القصر وحالا دون أن تتولى الحكم بنفسك، فخولنا السلطة ونحن نخلصك منهما، ولكن إدريس - لوداعته - رفض اقتراحهم، وأفضى بما دار بينه وبينهم من الحديث إلى وزيريه، فصدر أمرهما في الحال بإبعاد أولئك الأمراء.
Shafi da ba'a sani ba