وإذا كان مقاله عن «الروح العليا» هو حجر الزاوية من فلسفته، فإن مقاله عن «الاعتماد على النفس» هو أقوى إعلان عن معناها. وكثير من مقالاته غير قاطع، وكثير منها يفتقر إلى التنسيق. ولم يستطع في كل موضوع أن يستجمع شتيت تأملاته. غير أنه في مقاله «الاعتماد على النفس» يحض قراءه في شجاعة على أن يعملوا وفقا لخير ما لديهم من دوافع وألا يتهاونوا في الواجب؛ فهو يقول: «من العبقرية أن تعتقد في رأيك الخاص، وأن تعتقد أن ما تراه حقا في نفسك حق للناس جميعا.» ثم يقول إنه من الطبيعي للإنسان أن يكون في سلوكه شيء من عدم الاكتراث وشيء من الأنفة. ويقول لا رياء في العادات، ولا ضعف في حب البشر، ولا عملا طيبا نفاقا لضمائر الناس، ولا انقيادا أعمى، ولا تشبث بثبات الرأي خوفا وفزعا. الجماعة تحض على الحذر، والعادات الاجتماعية تحد من حرية العمل. والاتباع مريح. ولكن أمرسن يرى «ألا شيء في النهاية مقدسا ، اللهم إلا نزاهة عقلك.» وبالرغم من أنه كان رجلا لين العريكة في شخصه، إلا أنه يدعو في هذه الرسالة بحرارة إلى الاستقلال، فيقول: «ليعلم الإنسان إذن قيمته، ويجعل الأشياء تحت قدميه، فلا يسترق النظر أو يسرق، أو يسير متخفيا كأنه يطلب الإحسان، أو كأنه ابن زنا، أو مدسوسا على الدنيا التي وجدت له.» لا تندم، ولا تقلد. وينتهي بقوله: «لا شيء يجلب لك الطمأنينة غير نفسك، ولا شيء يجلب لك الطمأنينة سوى انتصار المبادئ.» وبعد ذلك بعدة أعوام نفي طالب روسي إلى سيبريا لحيازته نسخة من رسالة أمرسن «الاعتماد على النفس».
وقد انتقد بعض الناس أمرسن لصراحته، فقالوا إنه قبض على زمام الناس «من خير مقابضهم»، واعتقد بسهولة زائدة في خيارهم. وعندما سلط خياله على السكة الحديدية أو التلغراف الكهربائي - وكانا مستحدثين في عهده - تنبأ لهما بمستقبل باهر، ولما فكر في إمكانيات البلاد كانت آماله كذلك فوق العقل. خاطب جمعية المكتبة التجارية في بوسطن قائلا: «هناك مصير سام ودي يسترشد به الجنس البشري.» فهل يا ترى كان يفكر كذلك في القرن العشرين، إنه سؤال نظري، غير أن الإجابة عنه يسيرة، فالجواب «نعم»؛ لأن عقائده الثابتة التي ارتآها، والتي كانت تلائم حالة أمريكا في عهده، إنما صدرت عن مزاجه؛ فإنه كان بطبعه يتطلع وراء التفصيلات إلى حقائق الطبيعة والبشرية الأساسية، ومن ثم كان يعتقد أن «الإبداع يمكن أن يكون الآن، وفي هذا المكان» على حد تعبير ثورو.
وكانت هناك أسباب تكفي لليأس في عهده؛ فشئون السياسة كانت فاسدة، واستولت المادية على عقول الناس وأرواحهم، وما عتمت البلاد تخون الهنود. والحرب المكسيكية نقضت رأي كل إنسان عادل في الاعتدال. وقد انقلب على إحدى الأفكار التي كان ينافح عنها أمرسن دانيل وبستر، وهو أحد الأوثان التي كان يقدسها الرجل. واعترضت مستقبل أمرسن المأساة الكبرى، مأساة الحرب الأهلية التي كان المواطنون في بلد واحد يقتل فيها أحدهم الآخر. كما أن نهب الجنود بصورة مفزعة بعد الحرب الذي قام به رجال السياسة الانتهازيون والمختلسون المتبجحون ، هذا النهب كان يمثل موضع الانحطاط في أخلاقنا القومية. وكذلك الجهل والشر أسدلا ستارا أسود على حياة أمريكا في عصر أمرسن، فعلت الكآبة نفوس الكثيرين من معاصريه.
عرف أمرسن هذه الأشياء وعانى من أجلها. وبعدما كان يفرغ من قراءة الصحف كثيرا ما كان يسير إلى غاباته في والدن كي يسترد عقله ويعيد توجيه نفسه في هذا الكون. ولكن شيئا لم يستطع أن يهز عقيدته في خير الكون؛ لأنه كان ملهما. وبينما كان يجوب البلاد في أسفاره ومعه حقيبة محاضراته البالية، ويتفرس وجوه الأمريكيين، لم يسعه إلا أن يعتقد في الخير. كان معلم أمريكا، دمث الأخلاق، رفيقا، مستقيما، وما برحت أقواله وكتاباته «الإنجيل» الذي نفهمه في سهولة كبرى.
العالم الأمريكي
(هذا هو خطاب في «بيتاكبا» الذي ألقاه أمرسن في هارفارد عام 1837م، وقد قوبل بحماسة شديدة.)
سيدي الرئيس، سادتي:
أحييكم في بداية عامنا الأدبي مرة أخرى. إن عيدنا السنوي عيد أمل، وربما لا يكون عيد عمل كاف. إننا لا نجتمع لاستعراض حذقنا لألعاب القوة وإثبات مهارتنا، أو لرواية التاريخ والمآسي والأناشيد كما كان قدماء الإغريق يفعلون، أو لمجالس الحب والشعر كما كان يفعل التروبادور، ولم نجتمع لدراسة تقدم العلوم مثل معاصرينا في العواصم البريطانية والأوروبية. لقد كانت عطلتنا حتى اليوم مجرد علامة ودية على بقاء حب الأدب في شعب أكثر انشغالا من أن يعطي الأدب أكثر من ذلك. ومن ثم فإن للعطلة قيمتها كعلامة على ميل لا يمكن القضاء عليه. وربما حان الوقت لوجوب تغيير هذا الميل، ولسوف يتغير. ربما حان الوقت لكي يتطلع العقل المتبلد في هذه القارة من تحت غطائه الحديدي ويحقق أمل العالم المنتظر بشيء أحسن من ممارسة المهارة الآلية. إن يوم اعتمادنا على غيرنا، وتتلمذنا الطويل على علم بلاد أخرى، يقترب من نهايته. إن الملايين من حولنا التي تندفع نحو الحياة، لا تستطيع دائما أن تعيش على البقايا الذابلة من المحصول الأجنبي؛ فهناك أحداث وأعمال تنشأ وينبغي أن نتغنى بها. ولربما أنشدت بنفسها. من ذا الذي يستطيع أن يشك في أن الشعر سوف ينتعش وتكون له الصدارة في عصر جديد، كالنجم في مجموعة «هارب» الذي يشتعل الآن فوق سمت الرأس، والذي يصرح الفلكيون بأنه سوف يصبح النجم القطبي ذات يوم ويبقى كذلك ألف عام؟
بهذا الأمل أقبل الموضوع الذي يبدو أن العادة، بل وطبيعة اجتماعنا هذا، قد كرست له هذا اليوم، وأعني بهذا الموضوع «العالم الأمريكي». إننا نؤم هذا المكان عاما بعد عام لكي نقرأ فصلا جديدا من تاريخ حياته، ولنبحث عن الضوء الذي ألقته الحوادث والأيام الجديدة على شخصيته وآماله.
من الأساطير القديمة التي تنقل إلينا من عهد قديم غير معروف حكمة غير منظورة أن الآلهة في بداية الأمر قد قسمت الإنسان إلى أناسي كي يكون أكثر عونا لنفسه، كما انقسمت اليد إلى أصابع لكي تحسن أداء الغرض منها.
Shafi da ba'a sani ba