ذلك هو القانون الأبدي،
ما بز جمالا بز نفوذا.
ومن ثم فإن في داخل دائرة المجتمع الطيب التي تقوم على أساس السلالات دائرة أضيق وأعلى، هي ضوءها المركز، وهي زهرة المجاملات ، تتم دائما في مخبرها عن الكرامة والأصالة، كأنها الصفوة الممتازة التي لا تنال، أولئك هم النواب الذين يمثلون المحبة والشهامة. وإنك لواجد ذلك كله في أولئك الذين يكون الميل إلى البطولة فيهم أمرا طبعيا، الذين يحبون الجمال، ويبتهجون للرفاق، ويقدرون على زبرجة الساعة الراهنة. إذا استعرضنا اليوم الأفراد الذين تتألف منهم أنقى دوائر الأرستقراطية في أوروبا، أصحاب الدماء التي صانتها القرون، على صورة تمكننا من فحص مسلكهم، ناقدين أحرارا، فقد لا نجد رجلا مهذبا أو امرأة مهذبة؛ لأنهم قد يكونون أنماطا ممتازة في الكياسة وحسن التربية، نرضى عنهم جماعات، إلا أنا نكشف عن سوءاتهم فرادى؛ لأن الرشاقة لا تأتي بالتربية، وإنما تأتي بالطبيعة.
لا بد أن يكون للشخصية رونقها، وإلا فلا جدوى من استبعاد النقائص مهما دق هذا الاستبعاد. إنما تتجه العبقرية هذا الاتجاه، ولا يكفي أن يكون الرجل كيسا، إنما ينبغي أن يكون الكياسة عينها. والسلوك الرفيع نادر في القصص الخيالية ندرته في الواقع. إنما يحمد لسكت الإخلاص الذي صور به مسلك الطبقات العليا وأحاديثها. وليس من شك في أن الملوك والملكات، والنبلاء وكرائم السيدات، كان لهم بعض الحق في الشكوى من سخف الكلام الذي نسب إليهم قوله قبل أيام ويفرلي، بيد أن محاورات سكت لا تحتمل النقد كذلك. كان اللوردات في قصصه يجرؤ أحدهم على الآخر في أحاديثه المقتضبة الحازمة، ولكن الحوار ينساق في أسلوب عادي، ولا يسر إذا قرئ للمرة الثانية، إنه لا ينبض بحرارة الحياة. عند شكسبير وحده لا نرى المتكلمين يتبخترون زهوا أو يتشامخون، والحوار عظيم في سهولة، وهو يضم إلى الألقاب الكثيرة لقب أحسن الناس تربية في إنجلترا وفي العالم المسيحي. إن الفرد لا يجد في حياته إلا مرة أو مرتين فرصة التمتع بسحر الآداب النبيلة في حضرة رجل أو امرأة لا يقف أمام طبيعتهما حاجز، ولكن شخصيتيهما تعبران عن نفسهما بحرية في الكلمات والحركات. إن القوام الجميل أحسن من الوجه الجميل، والسلوك الجميل أحسن من القوام الجميل. إنه يعطينا متعة أعظم من التماثيل والصور، إنه أجمل ما في الفنون الجميلة. ليس الرجل إلا شيئا صغيرا وسط ما في الطبيعة من أشياء، ولكنه بالصفة المعنوية التي تشع من طلعته يستطيع أن يهدم كل اعتبار من اعتبارات العظمة، ويستطيع بآدابه أن يضارع جلال الدنيا.
رأيت رجلا آدابه تدخل كلها في نطاق تقاليد الطبقة الرفيعة، ولكنه - برغم ذلك - لم يتعلمها هناك، وإنما كانت آدابه أصيلة متسلطة، تتصف بالوقاية والنجاح. إنه رجل لم يكن بحاجة إلى معونة زي البلاط، ولكنه يشع جلال التقديس من عينيه. لقد أبهج الخيال لأنه فتح أبواب الوسائل الجديدة للعيش على مصاريعها، ونفض عن نفسه أسر الرسميات في آداب المعاشرة، بمسلكه الموفق القوي، وطبيعته الطيبة، وحريته التي يحاكي بها حرية روبن هود. ومع ذلك فطلعته طلعة الملوك، وإن اقتضت الضرورة فهو هادئ رزين قادر على أن يقاوم تحديق الملايين.
الهواء الطلق والحقول، والشارع والقاعات العامة هي الأماكن التي ينفذ فيها الرجل إرادته. وعليه أن يسلم الصولجان أو يقتسمه عند باب البيت. والمرأة بغريزة سلوكها سرعان ما تكشف في الرجل حب التوافه، وأي برودة أو غباء، أو - في عبارة موجزة - أي نقص في ذلك السلوك الطبيعي الكريم الذي لا يستغني المرء عن التحلي به في الصالون. وقد توددت إلى المرأة نظمنا الأمريكية، وفي هذه اللحظة، أعد تفوق النساء في هذا البلد ميزة كبرى. إن نوعا من الإحساس الشاذ عند الرجال بنقصهم قد ينشأ عنه ضرب من ضروب الشهامة الجديدة التي تدافع عن «حقوق المرأة». إن المرأة قد تتحسن مكانتها قطعا في القوانين وفي الأوضاع الاجتماعية، ولكني أثق كل الثقة في طبيعتها الملهمة الموسيقية، حتى إني لأعتقد أنها هي وحدها التي تستطيع أن ترينا كيف تقدم لها الخدمات. إن كرمها العجيب في عواطفها ينقلها أحيانا إلى مناطق البطولة والألوهية. ويحقق صور منرفا أو جونو أو بولمنيا. وإنها لتقنع أغلظ الحاسبين بأن هناك طريقا آخر غير الطريق الذي تطؤه أقدامهم، وذلك بالثبات الذي ترتقي طريقها به. ولكن إلى جوار أولئك اللائي يحلين في خيالنا مكانة إلهات الشعر وكاهنات دلفي، أليس هناك من النسوة من يملأن كئوسنا ومزاهرنا بالخمر والورد حتى حافاتها، فيجري الخمر أنهارا ويمتلئ البيت بالعطور، ومن يلهمنا حسن المعاشرة ، ومن يفككن عقدة في ألسنتنا فننطق بها، ويكملن أعيننا فنرى بها؟
إننا نقول عبارات ما كنا نحلم بالتفوه بها؛ لأن جدران تحفظنا الذي ألفناه تنهار لأول مرة وتتركنا أحرارا. كنا أطفالا نلعب مع أطفال في حقل من الزهور فسيح. ثم صحنا: اغمرونا بهذه المؤثرات أياما وأسابيع نصبح شعراء لامعين، ونكتب القصص الخيالية - التي تتمثل فيكن - في كلمات متنوعة الألوان. هل هو حافظ أو الفردوسي الذي قال عن ليلاه الفارسية إنها كانت قوة من قوى الطبيعة الأصيلة وأذهلتني بمقدار ما عندها من حياة عندما شهدتها تشع يوما بعد يوم - في كل لحظة - فرحا زائدا وجلالا فائقا على كل من كان حولها؟ لقد كانت عنصرا من عناصر التحليل يوفق بين كل الأشخاص المتنافرين في مجتمع واحد، عنصرا - كالماء أو الهواء - له من بعد الصلات ما يجعله يتحد فورا بآلاف المواد. إذا حضرت ارتفع كل من عداها عما كان عليه. كانت وحدة وكانت كلا، حتى إن كل ما فعلت كان يلائمها. كان عطفها ورغبتها في إدخال السرور على غيرها أشد مما تستطيع التعبير عنه، وكانت آدابها تتميز بالكرامة، ومع ذلك فلم تستطع أن تتفوق عليها أميرة في مسلكها الواضح المستقيم في أية مناسبة من المناسبات. لم تتعلم قواعد اللغة الفارسية ولا قصائد المعلقات السبع، ولكن لكأن المعلقات السبع كلها قد نظمت فيها. لم تكن بطبيعتها تميل إلى التفكير، وإنما تميل إلى العطف، ولكنها برغم ذلك قد بلغت في طبيعتها حدا من الكمال يمكنها من مقابلة رجال الفكر بقلبها المليء، فتدفئهم بعواطفها، مؤمنة بأن معاملها النبيلة للجميع، سوف تجعل الجميع يبدو نبيلا.
وأنا أعلم أن هذه الكومة البيزنطية من صفات الشهامة والعصرية، التي تبدو جميلة رائعة لأولئك الذين ينظرون إلى الحقائق المعاصرة باحثين عن العلم أو التسلية، أعلم أن هذه الصفات لا تسر الناظرين إليها بدرجة واحدة. إن تكوين مجتمعنا يجعلها قلعة عملاق للشباب الطموح الذين لم يجدوا أسماءهم مدونة في كتابها الذهبي، والذين أبعدتهم عن مزاياها وألقابها الشرفية المشتهاة. إن هذا الشباب لم يدرك بعد أن فخامتها الظاهرية نسبية غامضة. إنها عظيمة لأنهم متسامحون، وإن أشد أبوابها فخامة لينفتح فورا إذا اقتربت منها شجاعتهم وفضائلهم. وعلى أية حال فإن هناك دواء ميسورا يشفي من الألم الحالي أولئك الذين يعانون من قسوة هذه الصفة المميزة.
إن البعد بالمسكن ميلين أو أربعة على الأكثر يخفف عادة أقصى ضروب الحساسية؛ لأن المزايا التي يقدرها العصريون نباتات تزهر في موضع محلي جد محدود، وخاصة في شوارع معدودة. فإذا بعدت عن هذه البيئة أصبحت عديمة القيمة، فهي لا تفيد في الحقل، أو الغابة، أو السوق، أو الحرب، أو الحياة الزوجية، أو في الدوائر الأدبية والعلمية، أو في البحر، أو الصداقة، أو في سماء الفكر والفضيلة.
ولكنا تلكأنا طويلا في هذه الدور المزخرفة. إن قيمة الشيء الذي ترمز له لا بد أن تبرر لنا استساغة الرمز. إن كل ما نسميه بالعصري أو المجاملة يخضع أمام مبعث الشرف ومنبعه، وخالق الألقاب والكرامات، أقصد قلب الحب. هذا هو الدم الملكي، وهو النار التي تترك أثرها في جميع البلدان وفي كل المناسبات، وتغزو كل ما يقترب منها وتمدده. وهو الذي يكسب كل واقعة معاني جديدة. إنه يفقر الغني؛ لأنه لا يحتمل عظمة غير عظمته. ما معنى الغنى؟ هل يكفي غناك أن تعين إنسانا ما؟ وأن تساعد العامة من الناس وشواذهم؟ هل يكفي غناك أن تجعل الكندي في عربته، والمتجول الذي يحمل توصية من قنصله «لكل محسن»، والإيطالي الأسمر بكلماته الإنجليزية القليلة المتعثرة، والسائل الأعرج الذي يطارده المراقبون من بلد إلى بلد، بل والأبله الفقير أو الرجل المخبول المحطم أو المرأة المسلوبة العقل المتهدمة، هل يكفي غناك أن يجعل أمثال هؤلاء يحسون أن وجودك وبيتك استثناء نبيل من الزمهرير السائد والتحجر المنتشر. وأن يجعل أمثال هؤلاء يحسون أنهم يتلقون التحية منك بصوت يدفعهم إلى تذكر الماضي والأمل في المستقبل؟
Shafi da ba'a sani ba