ولكن سرعان ما اتضح أنه لا يستطيع العمل، وأخيرا تدخل في الأمر بعض أصدقائه، وأرسلوه إلى مصر مع ابنته ألن، وفي أثناء غيبته أعادوا بناء بيته وجددوه. وعندما عاد في شهر مارس التالي دقت نواقيس المدينة وصحبه حشد كبير من الأطفال والجيران والأصدقاء من محطة السكة الحديدية وتحت قوس من أقواس النصر إلى بيته الجديد. واستقر شاكرا وأخذ يعد كتاب مقالات كان قد وعد به أحد الناشرين في لندن، ولكنه لم يعد قادرا على السير في عمل متصل. وفي نهاية الأمر اضطر صديقه جيمس إليت كابوت إلى أن يضمن الكتاب كثيرا من المحاضرات والمقالات وإلى تنسيق المذكرات تنسيقا حسنا.
وعاش أمرسن حياة هادئة قانعة مع أسرته وأصدقائه حتى أبريل من عام 1882م حينما أصيب بالتهاب رئوي بسبب سيره في المطر دون قبعة أو معطف. وقضى نحبه في مساء 27 أبريل. وبعد الساعة التاسعة من ذلك المساء دق ناقوس كنيسة يونتاريان تسعا وسبعين دقة معددة سني حياته، ومعلنة النبأ المفجع في كل أنحاء القرية. وعرفت كنكورد - التي عاش فيها أمرسن مواطنا معظم حياته - أن أعظم أبنائها قد انتهى. وكانت وفاته نبأ قوميا، فدبج كتاب المقالات الصحفية والنعاة أعمدة كثيرة في الصحف فيها معلومات وفيها تقدير نقدي. وحضر إلى الجنازة في قطار خاص من بوسطن كثير من الأصدقاء الممتازين. وحضر كذلك الرئيس أليوت من هارفارد وأولفر وندل هولمز وجورج وليم كيرتس وتشارلس أليوت نورتن. وقرأ من الإنجيل في صلاة الجنازة الدكتور و. ه. فرنس من رجال الدين في فيلادلفيا وصاحب القداسة جيمس فريمان كلارك من بوسطن.
غير أن كنكورد التي أحبت أمرسن باعتباره أعظم مواطنيها تأثرت تأثيرا بالغا وساد الجنازة جو محلي، وتكللت بالسواد المساكن والمخازن والمنشآت العامة في كل مكان. وبعد الظهر بعد الانتهاء من صلاة الجنازة الخاصة، سار القرويون وراء النعش من البيت الكبير في طريق بوسطن بوست إلى الكنيسة القديمة. وتكدست حول المذبح أغصان من شجر الصنوبر التي كان يقدسها أمرسن. وعزفت على القيثار الأوسط في ذكراه بأعواد النرجس الصفراء لويزام. الكت. أما القاضي أ. ر. هور الذي لم يكن من أهل القرية فحسب، بل كان كذلك جارا حميما وعضوا في نادي السبت المشهور، فقد تكلم بالنيابة عن أهل بلده وعبر عن محبتهم الخاصة له. وأما برنسن ألكت المعلم الذي ألهم أمرسن وأزعجه عدة سنوات، فقد قرأ بصوت جهوري أنشودة وضعت لهذه المناسبة.
وبعدما انتهت الصلوات انسل خلف النعش، الذي استقر فيه هادئا في النهاية ذلك الرجل النحيل صاحب الملامح المدببة، انسل أولئك الذين أفلحوا في اقتحام الكنيسة وأولئك الذين تجمعوا محزونين عند الأبواب في الخارج. وقرابة المساء في يوم من أيام الآحاد الدفيئة الصافية من شهر أبريل، تحرك موكب الجنازة إلى مقبرة سلسيبي هولو حيث دفن ثورو وهوثورن، ثم إلى أعلى الجبل بين صفوف مكشوفة من الأوساط الاجتماعية بكنكورد، ووري أمرسن التراب تحت شجرة من أشجار الصنوبر إلى جوار قبر أمه وقبر ابنه والدو. •••
كان أمرسن في فلسفته يتخطى العقل، ويعتقد في «روح عليا»، وهي تلك الروح المطلقة التي يكون كل شيء حي جزءا منها. وحتى في أيام أمرسن كان هذا التعبير «فوق العقل» يعتبر من دواعي الارتباك الذهني، وما زال المعنى الشائع للكلمة «غامضا، مبهما، خياليا». ولم يستطع العلماء الذين ألفوا المعرفة الدقيقة أن يفقهوا معنى لمدرسة أمرسن في الفكر. ولم يكن ذلك عجيبا، فإن «ما فوق العقل» مذهب لا نظام له، فهو إلى الشعر أقرب منه إلى الفكر. قال أمرسن مرة: «إن ما يسميه العامة بيننا فوق العقل إن هو إلا المذهب المثالي.» إن الرجل المادي يستمد منطقه من الحقائق الواقعة، ومن تاريخ الإنسان وحاجاته الحيوانية، وعلى خلاف ذلك الرجل المثالي الذي يعتقد في «قوة الفكر والإرادة، وفي الإلهام والمعجزة، وفي الثقافة الفردية.» فالمثالية تكشف عن الإيمان بالله بقوة تنفي كل ما يعارض هذا الإيمان.
وفي بلد ناهض، بدأ من عهد قريب فقط يستمتع باستقلاله ويتوسع منهوما في كل ناحية من النواحي، كان هذا الأسلوب من أساليب الفكر طبيعيا ومرضيا؛ فهو يعتقد أن أي شيء يمكن إنجازه، كما أن أساليب التفكير وطرائق التعليل تبدو خانقة لقوم ذوي مزاج مبتهج يتطلعون إلى كل ثمار الأرض فيجدونها طيبة. كان يسيرا عليهم أن يؤثروا البداهة على التجربة، فيبدو لهم أن الحق الأسمى لا ينحصر فيما تم عمله وإنما ينحصر فيما يمكن أداؤه؛ فالحياة تدب في الرجل الذي يؤمن بما فوق العقل من الزهور والسحب والطيور والشمس، ومن برودة الطقس ودفئه، وجمال المساء، ومن المزارع ومحلات التجارة والسكك الحديدية حيث تنبض الحياة وتقع الحوادث الطيبة.
وبالرغم من أن فلسفة أمرسن لم تكن نظاما شاملا، فقد سارت على شبه خطة في الطريقة التي عالجها بها. كان موقفه من الحياة يقوم على حبه الطبيعة، وقد ذكر ذلك في أول كتابه «الطبيعة»، وهو كتاب صغير نشره دون ذكر اسم مؤلفه. وقد عاب عليه نقاد الكتب أنه تعبير مرح عن وحدة الكون، أسلوبه فاتن غير أنه تافه الدلالة. ومع ذلك فإن هذا الكتاب يمثل سنوات عدة من التفكير المقصود حينما كان أمرسن يحاول أن يصوغ آراءه على نسق معين. وقد بدأ في المقدمة بتعريف المصطلحات، فهو يقول: «الطبيعة في المعنى العام تشير إلى الجوهر الذي لا يغيره الإنسان، هي الفضاء والهواء والنهر وأوراق الشجر. والفن يطلق على امتزاج إرادة الإنسان بهذه الأشياء، فمنه البيت والقناة والتمثال والصورة.» ومن دواعي السرور عند أمرسن أن يكون الإنسان جزءا من الطبيعة، وأن تكون الطبيعة موطنه.
وبعد ذلك بخمس سنوات نشر أمرسن كتابه الأول من «المقالات»، وهو يتألف من المحاضرات التي ألقاها في بوسطن خاصة. وقد حوى هذا الكتاب الجديد مقالا عن «الروح العليا» ويمكن اعتبار هذا المقال حجر الزاوية في عقيدة الرجل .
وكانت عقيدة منشئة؛ فقد بدت الحياة طيبة في أساسها، وأمكن الوثوق في الطبيعة والإنسان، وباتت الحياة شيئا لا نتعلمه ولكن نحياه. وأصبح ذلك الوقت هو الساعة الملائمة لبداية جديدة. كانت هذه العقيدة مذهبا يقبل الجديد، ويؤمن بأن النظرية الناقصة التي تحتوي على لمحات من الحق خير من النظم المهضومة التي أدركها الفناء.
كانت عقيدة أمرسن قوة محركة، ومن ثم بدا لشباب عصره كأنه المحرر الثقافي الأعظم. كان دائما يؤيد الكشف بالخيال؛ فهو يقول في مقاله «العالم الأمريكي» إن المنفعة الوحيدة للكتب هي الإلهام، «إنما ينبغي للمرء أن يكون منشئا لكي يحسن القراءة.» وبدا له أن اشتغال العالم بعلم الكتاب يودي به إلى الهلاك، واستحث العالم لكي يصبح من رجال العمل فيتعلم من الحياة رأسا: «الحياة قاموسنا، وإنك لتحسن إنفاق عمرك لو عملت في الريف، وفي المدينة، وفي تبصر الحرف والصناعات، وفي الاتصال الخالص بكثير من الرجال والنساء، وفي العلم، وفي الفن، وذلك لكي تحذق في كل الحقائق لغة توضح بها مدركاتك وتصوغها فيها.»
Shafi da ba'a sani ba