64

Mukhtarat

مختارات من مقالات أمرسن

Nau'ikan

ومن بين رجال العصر الحديث جميعا يبرز سودنبرج كمترجم للطبيعة إلى الفكر. ولست أعرف في التاريخ رجلا تمثلت له الأشياء بانتظام في كل كما تمثلت له. فتحول الأشياء من صورة إلى أخرى كان لديه مستمرا بغير انقطاع. كل ما تقع عليه عيناه يخضع لدوافع الطبيعة المعنوية فيصبح التين عنبا وهو يأكله. وعندما يؤكد له بعض ملائكته حقيقة ما، ترى كأن أغصان الغار التي يمسكون بها تزهر في أيديهم. والضجة التي تبدو على بعد كأنها صرير الأسنان أو التخبط، يتبين عند الاقتراب أنها صوت المجادلين. وفي إحدى رؤاه يظهر الناس له - إذا تسلط عليهم ضوء السماء - كالأفعوانات، وكأنهم في الظلام، ولكن هذه الأفعوانات كان يرى أحدها الآخر إنسانا، فإذا ما سطع على مخابئها نور السماء ضجت من الظلام، وأرغمته على إغلاق منافذها حتى تستطيع أن ترى.

كانت لديه هذه الصفة العقلية، التي تجعل الشاعر أو المتنبي شيئا مفزعا مريعا، أعني أن الرجل عينه، أو مجموعة الرجال، قد يتخذون لأنفسهم ولزملائهم صورة ما، ولكنهم يتخذون في أعين أصحاب العقول الراجحة صورة أخرى. إن بعض القسس الذين وصفهم كأنهم يتحدثون معا عن علم غزير، ظهروا للأطفال الذين كانوا على بعد ما كالجياد الميتة، ومن هذه المظاهر الكاذبة الكثير. ويتساءل العقل على الفور إن كانت هذه الأسماك تحت القنطرة، وتلك الثيران في المرعى، وأولئك الكلاب في الفناء، هي أسماك، وثيران، وكلاب لا تتغير، أم هل تبدو لي كذلك فقط، وربما بدت لنفسها أناسي كاملين، وهل أبدو أنا رجلا في كل عين؟ وقد طرح هذا السؤال عينه البراهمة وفيثاغورس، وليس من شك أن كل شاعر شاهد هذا التحول قد ألفاه متفقا مع مختلف التجارب. وقد رأينا جميعا التغير العظيم في نبات القمح ودود الفراش. إنما الشاعر هو الذي يرى من خلال الثوب الفضفاض الطبيعة الثابتة، ويستطيع أن يعبر عنها، وإنه ليجذبنا إليه بالحب والفزع.

إنني أبحث عبثا عن الشاعر الذي أصف. إننا لا نوجه كلامنا إلى الحياة، في وضوح كاف، أو في عمق كاف. ولا نجرؤ على التغني بأزماننا وظروفنا الاجتماعية. وإذا كنا نملأ النهار بالشجاعة فلا ينبغي أن نجفل من الاحتفال بها. إن الزمان والطبيعة يقدمان إلينا هبات كثيرة، ولكنهما لم يقدما إلينا بعد رجل الساعة، أو الدين الجديد، أو الرجل الذي يوفق بين مختلف الأمور، والذي تنتظره جميع الأشياء. إن دانتي يستحق الثناء لأنه جرؤ على أن يكتب سيرته في رمز عظيم، أو في صيغة عالمية. ولكننا لم نظفر بعد في أمريكا برجل نابغ، ذي عين نافذة، تعرف قيمة ما لدينا من مواد لا نظير لها، وترى في وحشية هذا العهد وماديته عيدا آخر للآلهة عينها التي يعجب أشد الإعجاب بصورها عند هومر، ثم في العصر الوسيط، ثم في مذهب كلفن. إن البنوك وقوائم الأسعار، والصحف واجتماعات الانتخابات، ومذهب النظامية ومذهب التوحيد، مملة سخيفة لقوم سخفاء، ولكنها ترتكز على نفس أسس التعجب التي ترتكز عليها مدينة طروادة ومعبد دلفس، وسوف تزول بنفس السرعة التي زالت بها. إننا لم نتفنن بعد بوسائلنا في قطع الأخشاب وجذوع الشجر، ومصائد أسماكنا، وعبيدنا وهنودنا، وسفننا وما ننكر من مذاهب، وغضب الرعاع وجبن الأمناء، وتجارة الشمال، وزراعة الجنوب، وتفريغ الغرب ، وأورجن وتكساس. ومع ذلك فأمريكا قصيدة في أعيننا، وتقويم بلدانها الفسيحة يبهر الخيال، ولن يطول انتظارها حتى يتغنى بها الشعراء. وإذا كنت لم أجد بعد ذلك المزيج المختار من الهبات الذي أبحث عنه في مواطني، فإني لن أستطيع كذلك أن أعين نفسي على تثبيت فكرة الشاعر بالاطلاع بين الحين والآخر على مجموعة تشالمر للشعراء الإنجليز في خمسة قرون. فلقد كان هؤلاء رجالا ذوي فطنة أكثر مما كانوا شعراء، وإن كان من بينهم شعراء. ولكننا عندما نتمسك بالمثل الأعلى للشاعر لا نخلو من المشكلات حتى مع ملتن وهومر. فلقد كان ملتن أديبا أكثر مما ينبغي، وكان هومر حرفيا وتاريخيا أكثر مما يلزم.

ولست أحسب أن لدي من الحكمة ما يكفي للنقد القومي، وينبغي لي أن ألجأ إلى التسامح القديم قليلا ما؛ كي أنقل رسالتي من إله الشعر إلى الشاعر فيما يتعلق بفنه.

الفن هو سبيل الخالق إلى عمله. والسبل أو الوسائل مثالية خالدة. وإن قل من الناس من يراها، ولا الفنان نفسه لبضع سنوات، أو مدى حياته ما لم تتهيأ له الظروف. إن المصور والنحات والملحن، وكاتب الملاحم، والخطيب، كل أولئك يشتركون في رغبة واحدة، وهي أن يعبروا عن أنفسهم تعبيرا متزنا غزيرا، لا تعبيرا ناقصا أو متقطعا. وقد وجدوا أنفسهم أو وضعوها في ظروف معينة، كما يفعل المصور أو النحات أمام صورة إنسانية ذات أثر، أو الخطيب في جماعة من الناس، والآخرون في المنظر الذي يجده كل منهم مثيرا لذهنه، فيحس كل منهم في الحال بالرغبة الجديدة؛ فقد يسمع صوتا أو يرى إشارة، فيعرف في عجب، أي قطعان من الجن تحاصره. فلا يستطيع الراحة بعد ذلك. ويقول مع المصور القديم: «تالله، إنها في نفسي، ويجب أن تخرج مني.» إنه يتابع جمالا يفر أمامه ولا يرى منه إلا نصفه. والشاعر يتدفق بالنظم في كل عزلة. وليس من شك في أن أكثر ما يقول مألوف، ولكنه بين الحين والحين يقول شيئا مبتكرا جميلا، وذلك يفتنه. وإنه ليود ألا يقول شيئا آخر غير هذه الأشياء. إننا في أسلوب كلامنا نقول: «هذا ملكك، وهذا ملكي.» بيد أن الشاعر يعرف جيدا أن هذا الشيء ليس ملكا له، وإنما هو غريب عنه وجميل في عينه كما هو غريب عنك جميل في عينيك. وإنه ليسره أن يسمع مثل هذه الفصاحة في النهاية. وما إن تذوق هذا الرحيق الخالد، حتى يزداد جشعا إليه. ولما كانت قدرة خالقة عجيبة تكمن وراء هذه المعقولات فإن التعبير عن هذه الأشياء لا يهم كثيرا بعد ذلك. ألا ما أقل ما يقال مما نعرف! وما أقل القطرات التي تنضج من بحر علومنا! وما أعجب المصادفات التي تدعو إلى عرض ما نعرف! وما أكثر الأسرار التي تكمن في الطبيعة! ومن ثم كانت ضرورة الحديث والغناء، ومن ثم كانت هذه النبضات وضربات القلب عند الخطيب، عند مدخل الاجتماع، كي يعبر عن الفكرة تعبيرا يشبه الكلمة المقدسة.

لا تشك أيها الشاعر، بل أيها القسيس، وقل: «إنه بنفسي، وسوف يصدر عني.» قف مكانك مكبوح الجماح، أبكم تتلعثم وتتردد في الكلام، تصفر وتنعق. قف وجاهد حتى يجتذب الغضب منك في النهاية تلك القوة الحالمة التي تظهرك كل مساء ملكا لنفسك. تلك القوة التي تتخطى كل الحدود وكل خلوة، والتي بفضلها يكون المرء سائق بحر الكهرباء كله. لا شيء يمشي أو يزحف أو ينمو أو يوجد إلا يتحتم بدوره أن ينهض ويسير أمامه ليوضح له معناه. وإذا ما بلغ هذه القوة فإن عبقريته لا تنفد بعد ذلك. كل المخلوقات، أزواجا وقبائل، تتدفق في عقله، كأنها تتدفق في سفينة نوح، كي تخرج للناس مرة أخرى عالما جديدا. وما أشبه ذلك بكمية الهواء التي نتنفسها، أو تحترق بها مدفئتنا. إنها لا تقاس بالميزان، ولكنها تشمل الجو كله إن أردنا. ولذا فإن الشعراء المجيدين، كهومر، وشوسر وشكسبير ورفائيل، ليس - من الواضح - لأعمالهم حد، اللهم إلا حد أعمارهم. وهم يشبهون المرآة تمر بالطريق، مستعدة لأن تكون صورة لكل شيء مخلوق.

أيها الشاعر، إن بالأحراش والمراعي شرفا جديدا، لا تجده بعد اليوم على القلاع ، أو على شفرات السيوف، والظروف قاسية، ولكنها متكافئة. ولسوف تترك الدنيا ولا تعرف سوى إله الشعر. لن تعرف بعد اليوم العهود، والعادات، والنعم، والسياسة، أو آراء الناس. ولكنك سوف تستمد كل شيء من آلهة الشعر؛ لأن عصر المدائن قد ولى من الدنيا ودق ناقوس نعيه وشيعت جنازته. ولكن الساعات العالمية تعد في الطبيعة بتوالي قطعان الحيوان وفصائل النبات وبتضاعف السرور فوق السرور. ويريد الله كذلك أن تتنازل عن حياة متعددة النواحي متنوعة، وأن تقنع بأن يتحدث نيابة عنك الآخرون. سيكون غيرك نيابة عنك الرجال المهذبين الذين يمثلون المجاملات والحياة الدنيوية. وكذلك سيقوم غيرك بالأعمال العظيمة ذات الرنين. أما أنت فسوف تستلقي في أحضان الطبيعة، لا تملك أن تنتمي إلى مجالس النواب أو دوائر المال. الدنيا مليئة بالمنبوذين والأتباع، وأنت من هؤلاء. يجب أن يحسبك الناس من الغافلين والحمقى دهرا طويلا. فذلك هو الستار والغمد الذي وقى فيه «بان» زهرته المحبوبة، ولن يعرفك إلا نفسك وحدها، وسوف يواسونك بالحب الرقيق. ولن تستطيع أن تردد أسماء أصدقائك في نظمك، فذلك عار كبير إزاء المثل الأعلى المقدس. وهذا جزاؤك: أن يكون المثالي حقيقيا لك، وأن تسقط على روحك التي لا تنثلم مؤثرات العالم الواقعي كما تسقط أمطار الصيف غزيرة ولكنها لا تؤذي. سوف تكون الأرض كلها حديقتك وموطنك، والبحر مغسلك ومجال ملاحتك، لا يفرض عليك ذلك ولا تحسد عليه. وسوف تكون لك الغابات والأنهار، وسوف تملك ما يقيم فيه غيرك مستأجرا عابرا. أنت مالك الأرض الحق، ومالك البحر، ومالك الهواء! وحيثما سقط الثلج، أو تدفق الماء، أو حلق الطير، وكلما التقى الليل بالنهار في الشفق، وكلما علت في السماء الزرقاء السحب، أو انتثرت فيها الكواكب، وحيثما كانت الصور ذات الحدود الشفافة، وحيثما وجدت المنافذ في الفضاء العلوي، وحيثما حل الخطر، والفزع، والحب، هنا يكون الجمال وافرا كالمطر، يهطل من أجلك ، ولو اخترقت العالم كله سيرا على قدميك، فلن تستطيع أن تجد ظرفا مشينا لا يليق.

الخبرة

سادة الحياة، وما أدراك من هم!

لقد رأيتهم يمرون

Shafi da ba'a sani ba