وهكذا كتب كل منهما اسمه على نسخة البرنامج التي تخص الآخر، ثم استعاد كل منهما نسخته. كان الاسم الذي كتبته هو أليس بلاتشلي.
لم يكن قد رآها قبلا قط؛ كان بإمكانه أن يتذكر هذا. رغم ذلك، كان ثمة جزء قصي من عقله كان مصرا أنه يعرفها. لقد التقيا في مكان ما منذ زمن بعيد، وتحدثا معا. وشيئا فشيئا، مثلما يتذكر المرء حلما، عادت إليه ذكرى ما حدث. في حياة أخرى، تبدو له الآن ضبابية ومبهمة، كان قد تزوج هذه المرأة. وفي السنوات القليلة الأولى من زواجها، كان كل منهما يحب الآخر؛ ثم تباعدا وازدادت الفجوة بينهما اتساعا. كانت أصوات قوية صارمة قد دعته لأن يهجر أحلامه الأنانية، وطموحاته الصبيانية، وأن يحمل على عاتقه مسئولية واجب عظيم. كان يحتاج وقتها، أكثر من أي وقت مضى، إلى من يقدم له يد العون وينظر إليه بعين العطف، لكن زوجته تخلت عنه. فمثله العليا لم تسبب لها سوى الضيق. وقد تمكن من مقاومة محاولاتها لإبعاده عن مساره، لكن ثمن ذلك كان تراكم مشاعر الغضب والاستياء بينهما يوما بعد يوم. ثم تجلى عبر حلمه الضبابي وجه آخر، وجه يكسوه تعبير من التفهم لامرأة ذات عينين حانيتين؛ وجه المرأة التي كانت ستجيء له يوما في المستقبل بيدين ممددتين سوف يتوق إلى احتوائهما بين يديه.
سمع صوت الفتاة التي بجواره يقول: «هلا رقصنا؟» ثم أضاف: «لا أرغب في أن تفوتني رقصة الفالس.»
سارعا إلى قاعة الرقص. والتف ذراعه حول خصرها، وبينما كانت عيناها الرائعتان الخجلتان تسعيان، في لحظات نادرة، إلى ملاقاة عينيه، ثم تتوارى مجددا خلف رموشها المرسلة، شعر آرمتيدج الشاب بعقله يغيب وبروحه نفسها تنفلت من عقالها. أثنت الفتاة على رقصه بأسلوبها الساحر، الذي يجمع بين الحياء والاستعلاء في مزيج محبب.
فقالت له: «أنت بارع بشدة في الرقص.» ثم تابعت: «يمكنك أن تطلب مني الرقص مجددا، في وقت لاحق.»
دوت في عقله كلمات سمعها في ذلك المستقبل الضبابي الذي يطارد مخيلته. «لو كنت أعرف نفسي حينها، لكنت أدركت أن مهارتك في الرقص هي على الأرجح السبب الرئيسي وراء انجذابي إليك.»
طوال تلك الأمسية، وطوال الأشهر العديدة التي تلتها كان الحاضر والمستقبل يتصارعان بداخله. ومثلما عانى ناثانيال آرمتيدج، طالب اللاهوت، عانت أليس بلاتشلي، التي وقعت في حبه من أول نظرة، بعدما أدركت أنه أروع راقص جالت معه قاعة الرقص على أنغام موسيقى الفالس المثيرة للحواس؛ وعانى هوراشيو كاملفورد، الصحفي والشاعر المغمور، الذي كان عمله بالصحافة يكسبه دخلا يكفيه بالكاد، لكن شعره كان محط إعجاب النقاد؛ وكذلك عانت جيسيكا ديروود، ذات العينين الباهرتين، والبشرة الباهتة، التي كانت غارقة حتى أذنيها وبلا أمل في غرام ديك إيفريت الوسيم، ذي الجسد المفتول واللحية الحمراء، والذي كان رد فعله الوحيد عندما عرف بحبها أن ضحك منها، بطريقته الودودة والمتعالية في آن واحد، وأخبرها بصراحة قاسية أن امرأة بلا جمال لا دور لها في الحياة؛ ونال ديك إيفريت أيضا نصيبه من المعاناة، ذلك الشاب الداهية، الذي لم يذق طعم الهزيمة قط، والذي نجح في ترك بصمته في الحي التجاري بلندن وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، ذلك الشاب الذكي، البارد الأعصاب كالثعالب، باستثناء عندما يلمح وجه امرأة مليحة، أو يدا أو كاحلا حسن الشكل؛ وعانت نيلي فانشو، التي كانت وقتها في أوج جمالها الفتان، وموضع حسد النساء الأخريات وتودد جميع الرجال، والتي لم تحب أحدا سوى نفسها، ولم تقدس شيئا في حياتها سوى المجوهرات والفساتين الفاخرة والموائد العامرة.
في تلك الأمسية، أمسية الحفل الراقص، تشبث كل منهم بأمل أن تكون تلك الذكرى المستقبلية ليست سوى حلم. كانوا قد تعرف بعضهم على بعض، وسمع كل منهم أسماء الآخرين لأول مرة بجفلة نابعة من المعرفة، وتجنبوا النظر في أعين بعضهم، وسارعوا بالانخراط في حديث بلا معنى، حتى اللحظة التي انحنى فيها كاملفورد الشاب كي يلتقط مروحة جيسيكا، ووجد بقايا تلك الكأس المكسورة المصنوعة من الزجاج البافاري. وعندئذ تحولت تلك الذكرى إلى قناعة لا يمكن التخلص منها، وأصبحت تلك المعرفة التي اكتسبوها عن المستقبل حقيقة لا بد من تقبلها، مع الأسف.
الأمر الذي لم يتوقعوه كان أن معرفة المستقبل لم تؤثر إطلاقا على مشاعرهم في الحاضر. فيوما بعد يوم، كان ناثانيال آرمتيدج يزداد عشقا لأليس بلاتشلي الساحرة. وكانت فكرة زواجها من غيره، لا سيما كاملفورد، ذلك المتعجرف، ذو الشعر الطويل، تجعل الدم يغلي في عروقه؛ هذا فضلا عن أن أليس الرقيقة قد اعترفت له، وذراعاها تحيطان بعنقه، أن حياتها بدونه ستكون شقاء يتعذر احتماله، وأن فكرة زواجه من امرأة أخرى، نيلي فانشو تحديدا، تبدو لها ضربا من الجنون. ربما كان التصرف السليم، بعدما عرفا ما ينتظرهما، أن يودع كل منهما الآخر. فهي كانت ستجلب التعاسة إلى حياته. ربما كان من الأفضل أن يبعدها عنه، وأن يتركها تموت مفطورة الفؤاد، فذلك مصيرها المحتوم. لكن كيف يستطيع هو، العاشق المتيم، أن يجعلها تعاني هكذا؟ كان ينبغي عليه الزواج من نيلي فانشو بطبيعة الحال، لكنه كان لا يطيق تلك الفتاة. ألا يعد الزواج من فتاة يكرهها بشدة لأنها قد تصبح بعد عشرين عاما أكثر ملاءمة له بدلا من الزواج من المرأة التي يحبها وتحبه الآن أمرا في قمة العبث؟
أما نيلي فانشو، فلم تستطع مناقشة اقتراح الزواج من قس تكرهه فعليا، ولا يتجاوز دخله مائة وخمسين جنيها سنويا، دون أن تضحك. كان سيأتي زمن لا تعبأ فيه بالثروة، ولن تكترث روحها السامية حينها إلا بالرضا النابع من التضحية بالذات. لكن ذاك الزمن لم يكن قد حل بعد. والمشاعر التي كان سوف يجلبها معه لم يمكنها حتى تخيلها، في وضعها الحالي. إن كيانها كله كان يشتهي كنوز الحياة الدنيا، وتلك الكنوز كانت في متناول يديها . أيعقل أن يطلب منها التخلي عن ذلك كله لأنها لن تكترث به لاحقا؛ الأمر أشبه بأن تنصح تلميذا بالمدرسة ألا يذهب إلى متجر الحلوى؛ لأنه عندما يكبر ويصير رجلا سوف يتقزز من فكرة الحلوى التي تلتصق بالأسنان؟! إذا قدر لقدرتها على الاستمتاع أن تكون قصيرة الأجل، فذلك سبب أدعى كي تسارع باقتناص مسرات الحياة.
Shafi da ba'a sani ba