304

أرأيت بعد أثرة أبلغ من هذه الأثرة، وغرورا أشد من هذا الغرور؟!

ومما يذكر في هذا الباب أن صديقنا المرحوم رفيق بك العظم كانت قد علت به السن، وألحت عليه العلل، وهو من يوم نشأته مضعوف هزيل، مرهف الأعصاب، وقد امتحن فوق هذا كله بالأرق، وكان في مؤخرات أيامه يسكن «عمارة البابلي» من أحياء السيدة زينب، ويدخل في فراشه في الساعة التاسعة، فيظل يتطاول إلى النوم ويستدرجه بألوان التكلف والتصنع إلى ما بعد الساعة الثانية صباحا.

وبينا هو ذات ليلة يستدرج النوم، والأرق يدافعه حتى دخل في ذلك البرزخ الممدود بين النوم واليقظة (السنة)، تلك الرقعة التي تتراءى لك فيها الأحلام، وتعي في الوقت نفسه ما يدور حولك من الكلام، بيناه على تلك الحال ينتظر الدخول في النوم التام، إذا هاتف يهتف من جانب الطريق بصوت كأنه قصف الهد، أو زمزمة الرعد: «رغيف عيش وصحن طبيخ لله!»، وإذا الرجل يهب من سنته على أظافره، وإذا الحدث يعجله عن اتخاذ حذائه، فيجمز حافيا على السلم، حتى إذا خرج إلى الطريق أهاب «بمولانا الشحاذ»: «يخرب بيتك! من اللي بيصحا دلوقت الساعة اثنين بعد نص الليل ويسخن لك الطبيخ؟ قول إدوني رغيف عيش وحتة جبنة، أو شوية زيتون، أو حتة مربة، يبقى شيء معقول!» وتركه وصعد ليتصيد نومه من جديد!

وإن من يغشى حي المنيرة والإنشاء ليرى سائلا أعمى لعله من أصل مغربي وهو ينطلق من الصباح الباكر في رمضان هاتفا: «يا رب طالب منك رغيف عيش نفطر به»، فإذا نزلت الشمس للمغيب وأفطر الصائم، استحال هتافه إلى: «يا رب طالب منك رغيف عيش نتسحر به»!

ولعل الذي يبعثه في طلب السحور، في اللحظة التي يرفع فيها يده عن طعام الإفطار، هو حاجته إلى معالجة التخمة، والخلاص من الكظة، بعد طول الخضم والقضم، فليس أعون على هذا من الرياضة بالمشي والطواف على الدور ، ورفع الصوت بطلب رغيف للسحور!

تلك بعض مظاهر الأثرة في سادتنا الشحاذين، وسأقص عليك طرفا منها في مقام آخر إن شاء الله.

ابن العم ...!1

لي صديق مرهف الأعصاب حاضر الغضب، بقدر ما هو طيب القلب، خفيف الروح، فكه الحديث، لقيته أمس فإذا هو ظاهر الحنق حتى ليكاد يتميز من الغيظ، فسألته عما به، فقال اسمع يا سيدي:

لي قريب ثقيل الظل، غليظ الطبع، شره النفس، إذا عرضت له حاجة كان أشد إلحافا من ذباب، صبه القدر علي أمس فقال لي: إن لي إلى فلان (من كبار الموظفين) حاجة (وسماها)، ولا يشفع لي عنده غيرك، فقم بنا إليه، فأردت مطاولته فقلت: سأمضي إليه إن شاء الله في أول فرصة، فقال: بل الأمر من هذا أعجل، ولا بد من ذهابك اليوم! فقلت: إذن أمضي إليه اليوم بعد أن أعالج بعض العمل، قال بل تقوم الآن، لأن المسألة سيبت فيها غدا، قلت إذن أمضي الآن، وتهيأت للقيام وأقبلت عليه بتحية الوداع، فقال: رجلي مع رجلك! ... فانطلقنا، والأمر لله، حتى إذا صرنا إلى باب ذلك الموظف، دفعت رقعة الزيارة إلى حاجبه، فقال لي صاحبي: أثبت اسمي مع اسمك حتى أحضر شفاعتك! ... قلت أوتتخونني؟ قال: كلا! ولكن ليطمئن قلبي.

وأذن لكلينا، وبسطت حاجة قريبي بين يدي ذلك الموظف، وسألته أن يقضيها إذا كان على حق كما يقول، فوعد الرجل أن يفعل، وتهيأت للقيام، فزر قريبي على عينه وأومأ إلى أن زد في الرجاء، فعاودت صاحبي فكرر الوعد في دعة واطمئنان، ولما هممت بالقيام عاد فغمز بعينيه فعاودت الإلحاح، وعاود الرجل ترديد الوعد، وما زلنا على هذا حتى ظهر عليه البرم، فراح يرفع طرفه إلى ساعة الحائط مرة، ويشيعه فيما احتشد بين يديه من الأوراق مرة أخرى (يريد أن يقول لنا حسبكم فانصرفوا مأذونين)، فجمعت كل ما في من عزم ونهضت ولم أكد، لأن عين قريبي كادت بنظرتها الحادة تثبتني في موضعي أبد الآبدين ودهر الداهرين، وانطلقنا وأنا أجره جرا!

Shafi da ba'a sani ba