293

ولقد كان لهذا الرجل في غنائه أسلوب خاص به، لا يذهب به مذهب عبده ولا عثمان، ولا من يقلدون هذا، ولا من يشتعبون طريق ذاك، هو أسلوب بلدي بحت، يتفخم فيه اللفظ، حتى تشتبه تاؤه بطائه، وتختلط سينه بصاده، ويمتد فيه النفس ويطول الصوت، وهو في طريقه ما يزال يرق في زجله وترجيعه، ويلين في ترديده وتسجيعه، ويتخافت حتى تحسبه هتاف الهاتف يهمس به جانب الوادي البعيد في الليل البهيم، ثم يجلجل ويقصف كأنه النفير أقبل يوقظ النيام، وينذرهم الحادث الجسام!

وكيفما كان الأمر، فإن صابرا كان أقدر المغنين على مشايعة أحاسيس هؤلاء (أولاد البلد)، وتحريك الوادع المستلقي من عواطفهم، وكثرتهم - كما تعلم أو لا تعلم - كانت من أرباب «الكيوف»!

وكانت الصحف السائرة في البلد قليلا، ومطالعتها تكاد تكون حبسا على الخاصة، وفوق هذا فليس الناس كلهم يعلنون في الصحف عن أعراسهم ولا عمن يغني مدعويهم، فكان يقوم بمهمة النشر هذه «باعة اللب»، ينتشرون من مطلع النهار في أحياء القاهرة، فيؤذنون فيمن يعرفونهم من هواة الغناء والتطريب، أن الشيخ يوسف الليلة في دار فلان بحي كذا، ومحمد عثمان في دار فلان بحي كذا إلخ، وسرعان ما تذيع هذه الأخبار فلا يدخل الأصيل إلا وقد ملأت جميع الأسماع.

وكان الهواة إنما يطلبون هذه «الأفراح»، كل على حسب هواه وصغوه، بعد العشاء الآخرة، أي بعد أن ترفع موائد الطعام وينتظم مجلس الغناء، أما قبل ذلك فلا يغشى موضع الصنيع إلا المدعوون وإلا الطفيليون.

وهؤلاء الطفيليون كانوا معروفين للنقدة سواء من أصحاب الصنع

2

أو من المدعوين، من لم يعرف منهم بحيلته ونسبه عرف بسيماه ودله: أما جماعات الفراشين، فكانوا يعرفونهم جميعا، لكثرة اختلافهم إلى الموائد، وترددهم على الطعام في الأعراس والمواسم، وكثيرا ما يدلون أصحاب الصنيع عليهم، ويلفتونهم إلى مواضعهم.

وهنا ينبغي أن أقول لك: إن «أولاد البلد» تشيع فيهم خلة الجود بالطعام، فتراهم حيثما كانوا يدعون إليه، ويتبسطون عليه، يدعون إليه (ولو تجملا) ساقط الآفاق، واللائح في عرض الطريق، وقد يلحون في الدعوة وقد يعزمون.

3

إذا عرفت هذا، وقرنت إليه تلك الخلة التي هي مزج من الخجل والضعف، أدركت أن هؤلاء الطفيليين، أو (الطبابين)، على اصطلاح «أولاد البلد» أنفسهم، لم يكونوا يجدون مشقة في غشيان صنعهم، والاقتحام على موائدهم على وجه عام ، ولكن المشقة كلها عليهم، والحرج أجمعه على أصحاب العرس، هو في أن يتسلل هؤلاء «الطبابون» إلى الموائد الخاصة التي أعدت لجباه القوم وأعيانهم.

Shafi da ba'a sani ba