259

وبعد هذا أعود بك إلى الشيخ سلامة حجازي، فلقد زعمت في مقال متقدم

2

أن أول عهد مصر بالتمثيل في اللغة العربية إنما كان على أيدي الفرق التي انحدرت إلينا من بلاد الشام، ولقد كان من بينها واحدة يتولاها المرحوم الشيخ أحمد أبو خليل القباني، وكان رجلا جليل القدر، واسع العلم بأصول فن الغناء ومذاهبه وطروقه، وكان إلى هذا مرهف الذوق، إذا لحن صوتا جاد وبرع وأطرب، ولكنه لم يكن على حظ من كرم الصوت، بل لقد كان في صوته غنة، فكان يلحن للجماعة وينشد معهم، وأحيانا يناشدهم، فيبدع أيما إبداع، ويفتن بجودة التنغيم وبراعة الإيقاع.

ويريد المرحوم إسكندر أفندي فرح من أرباب الفرق التمثيلية أن يباريه، وهو إذا أجاد التمثيل فإنه لا حظ له من الغناء ولا من التلحين، فكيف حيلته في هذا؟ حيلته أن يعمد إلى فتى ذي صوت كريم فيزج به في فرقته ليباري به القباني، ويستدرج الناس إليه، فوفق إلى الشيخ سلامة حجازي، ولعله يومئذ كان يتغنى بالإنشاد على حلق الأذكار، وأشرك معه أول الأمر سيدة حسنة الصوت تدعى لبيبة، فكانا ينشدان معا، ثم تخلت لبيبة، وانفرد الشيخ سلامة بإنشاد القصائد التي ينظمها له مؤلفو الروايات أو معربوها متصلة بوقائع القصة، أو ينشد مع الجماعة تراتيل تتصل بالقصة أيضا، أو تلاحين يحيي بها في مفتتح التمثيل وفي مختتمه أولياء الأمر.

وبعد دهر غير قصير انفصل عن إسكندر فرح، وأنشأ باسمه فرقة خاصة لقيت نجاحا عظيما، وظل كذلك حتى أبطل الفالج نصفه في سوريا، فانقلب إلى مصر، ولم يكد يحس شيئا من النهضة حتى عاود التمثيل والغناء، وإن أنس لا أنس ليلة كان يمثل فيها، وهو على هذه الحال، في «تياترو» برنتانيا، وجاء الفصل الذي ينشد فيه النظارة، ويقبل من خلل الستور على المسرح، ونصفه - واحسرتاه - يجرجر نصفه، وينازعه على السير إلى أن يستوي لموقفه، ثم يغني ويجهد، والجمهور يصفق ويلح في الاستعادة، والرجل يمتح من رمقه، ويعصر ما أبقى الفالج فيه من دماء ، ويعود الجمهور إلى التصفيق والاستعادة، والرجل يحب أن يواتيه بما يرضيه، ولو أتى الجهد على نفسه، فكان من ذلك منظر مرعب، لا أقول تجلت فيه قسوة الكثرة من هؤلاء النظارة، ولكن أقول تجلت فيه الأنانية وإيثار نقع الغلة من الشوق إلى الطرب والتزود من هذا الصوت المولي للدهر الأطول، ولعل تلك الليلة كانت القاضية على حياة ذلك الشيخ المسكين!

ولقد كان الشيخ سلامة حجازي ربعة، قسم الوجه، حلو الصوت ناصعه، وكان صوته إلى هذا قويا يرتفع في غير كلفة إلى أقصى ما ترتفع إليه الأصوات، لا يختل ولا ينشر، ولا ينبو ولا يتسلخ، ولا يزداد على هذا إلا جلجلة وحلاوة، ولكنه إذا تدلى إلى القرار تقلص وتردد دون النفوذ إلى غايته، فكرم صوته وقوته إنما كانا في وسطه وأعاليه، أما أدانيه فلم يكن لها من ذاك حظ كثير.

وعلى كل حال، فإن جوهر الصوت وحده وحسن الإيقاع ليسا حقيقيين بأن يخلدا اسم رجل، لأن أثر ذلك مقصور على لذة الجلسة ومتعة الساعة، إنما الذي يخلده ويديم ذكره ما يستحدث في الفن ويترك فيه من الأثر، ولا شك في أن الشيخ سلامة قد استحدث في فنون الغناء جديدا، وذلك هو طريقة إنشاده القصائد التي كان ينظمها له مؤلفو القصص التمثيلية ومعربوها، وكانت طريقة خاصة لا هي تجري على طريقة الموشحة، ولا «الدور»، ولا الموالي، ولا الإنشاد على حلق الذكر، ولا الأذان ولا ترتيل القرآن، وهي إذا اتصلت ببعض هذه المذاهب التلحينية من بعض أقطارها، فإن لها لشخصيتها واستقلالها، وكان منزعها الغنائي إلى تصوير الحال التي يقف فيها المنشد من أحداث القصة، ويعبر عنها بتصوير النغم بأبلغ مما يعبر بنظم الكلام، وهذه عندي الكفاية الفنية التي ينبغي أن تثبت في هذا الباب للشيخ سلامة حجازي.

ولقد كانت تلاحين الشيخ سلامة ترجعها حناجر الشباب في كل مكان، إلى أن قامت الفرق التمثيلية الحديثة التي ترسمت آثار التمثيل الغربي، فأبطلت الغناء في المسارح، إلا أن تكون الرواية من نوع «الأوبرا»، على أن هذا النوع لم يصب بعد في التمثيل العربي أي حظ من النجاح، نقول حين بطل الغناء من التمثيل العربي تقلصت تلاحين الشيخ سلامة، وانقبض الناس عن محاكاته شيئا فشيئا، إلى أن زالت أو أطلت على الزوال، لولا أن إنشاده قد يعتري الأسماع حينا بعد حين على لسان الحاكي «الفونغراف»، وكذلك قضي على فن مع أننا في حاجة إلى فنون!

محمد العقاد

أما ثاني الرجلين وهو المرحوم محمد أفندي العقاد فكان - غير مدافع ولا مشارك - أقدر رجل وأبدعه، ضرب على القانون من نحو ستين سنة خلت إلى اليوم الذي قبض فيه.

Shafi da ba'a sani ba