اللهم إن جهد الملحن من هؤلاء أن يتصيد النغمة الأجنبية، فيحشرها في موسيقانا حشرا، ويستكرهها عليها استكراها، واقعة ما وقعت من النظم الغنائي.
بل إني لست متزيدا ولا غاليا إذا زعمت أن بعض هؤلاء إذا استصعب عليه الصيد من النغم الأجنبي، اعتمد حلقة فلا يزال يلويه ويعثره حتى يخرج له شيئا نافرا نابيا، يصك الأسماع صكا، ويمخض النفوس مخضا، لأنه لا يفهم من «التجديد» إلا أنه الإتيان بالغريب «والسلام»!
والعجيب أن أكثر هذه التلاحين إنما يبتدئ وينتهي بصياح مزعج، هل سمعت - حفظك الله - نواح النائحات المصريات في أعقاب الجنائز؟! هذه أطراف الغناء، أما أثناؤه فتكسر وتخاذل وتزايل، وأنين وحشرجة كحشرجة المحتضر، دع التخنيث في الألفاظ والتطرية في الأناظيم، فلذلك حديث آخر إن شاء الله!
ديمقراطية الفنون
قلت لك في بعض هذا الحديث إن فن التلحين وصنعة الغناء للجمهرة إنما كانا محصورين في طائفة قليلة العدد، سواء من هؤلاء أو من هؤلاء، وقد وصفت لك بقدر ما طاوع القلم، براعتهم وقوة تلاحينهم، وهل أدل على براعتها وقوتها من ثباتها وترديدها في هذا العصر عصر «التجديد»، ما يخلق لها على الترداد قديم، ولا يبلى لها على التكرار أديم!
فهل لنا بعد هذا، أن نضيف إسفاف أكثر هذه التلاحين «العصرية» وفسولتها وغثاثتها، وعدم صلاحيتها للقيام، والبقاء على الأيام، إلى استباحة فن التلحين، حتى أصبح يعالجه من شاء، وينتحله من الناس من أراد؟ وبحسبك أن تسكن إلى «الراديو» بضعة أيام لتتعاظمك الكثرة الهائلة في عديد الملحنين في هذا الزمان، فإنك لا تكاد تسمع أغنية من فتى ناشئ أو من فتاة حدثة إلا أذن المذيع أنها من تلحينها أو من تلحينه، أو من تلحين فلان أو فلان أو فلان، من أسماء لا عهد لك بها من قبل، ولعله لا يكون لك عهد بها بعد الآن، حتى لقد تخيل إليك هذه الكثرة أن أهل مصر جميعا، رجالهم ونساءهم، سيصيرون عما قليل ملحنين !
أرستقراطية الفنون
وإذا صح أن العلة في كل هذه البلية التي تجني على الأذواق، وتكاد تحرمها الاستمتاع بالفن الرفيع، إنما هي في إطلاق فني التلحين والغناء يردهما ويعالجهما من هب ومن درج من الناس! أفترانا نذهب إلى القول بوجوب تقييدهما، بحيث يقصر علاجهما على الأكفاء القادرين؟
وبعد، فلقد تعلم أن هذا القصر والتقييد قبيح لما تقدم لك من الأسباب، على أنه لا حيلة فيه، ولا سبيل إليه في عرف هذا الزمان.
ولكنني أرجو ألا يذهب عنك أن الفن نفسه أرستقراطي، لكن بالطبع لا بالجعل، ذلك بأن الفن كما تعلم ابن الموهبة، والمواهب ليست من الحق المشاع لجميع الناس، إنما هي حبس على أولئك الذين يصطفيهم الله لها من الأفذاذ الأندرين من الناس، وهي وحدها التي تنادي على صاحبها وتدعو إليه، وتعلن في الأملاء عن كفايته وسداده ووجوب استئثاره، وتنفض عن صحيح الفن الزيوف، وتدع عن بابه الواغل
Shafi da ba'a sani ba