وأغرب من هذا أنه يجمع بين الكلمتين الأوروبية والبلدية في جملة واحدة من سياق عربي رصين، فإذا هذا كله يأتلف وينسجم كأحسن ما يكون الائتلاف والانسجام. ألم يجمع في جملة واحدة هذه الكلمة الفرنسية «موريه» وهذه الكلمة البلدية «الألاج»؟ فاقرأ الجملة العربية الرصينة التي اجتمعت فيها هاتان الكلمتان، فلن ترى فيها نبوا ولا قلقا ولا اضطرابا. هذا على أن أحدنا قد يحتاج إلى أن يورد الكلمة البلدية أو الأوروبية في سياق الكلام الهين الذي لا يتكلف فيه رصانة ولا جزالة، فيدور حول هذه الكلمة ويدور، ولا يأمن مع ذلك أن يتورط في الثقل والاستكراه!
وأخرى تعيننا على تعرف المصدر لما يمتاز به فن عبد العزيز، وهى أنه قوي الحس إلى درجة نادرة حقا، لا يكاد يمر به شيء إلا التقطه التقاطا، ورسمه في نفسه رسما، يخالطها مخالطة حتى يصبح كأنه جزء منها، ثم هو لا يكتفي بالتأثر والتقاء ما يعرض لنفسه من الأشياء والخواطر، ولكنه سريع التأثر سريع التأثير، فهو إذا أحس لا يكن ما يحسه، ولكنه يعلنه ويظهره، فهو يتلقى الأشياء مسرعا ويعكسها مسرعا، وتعمل نفسه الخفية أو ضميره المكنون فيما بين ذلك عملها الغريب الذي يظهر خواطره وأحكامه وتصويره للأشياء كأروع ما تكون الخواطر والأحكام والتصوير!
من أجل هذا كله كان عبد العزيز مدرسة وحده في هذا الجيل، لا تستطيع أن تلحقه بهذه البيئة أو تلك من بيئاتنا الأدبية، ولا تستطيع أن تصله بهذه المدرسة أو تلك من مدارسنا المنتجة في الشعر والنثر، وكنت أظن في أول الأمر أنه بقية لمدرسة قد مضى أكثر أعضائها. بقية لتلك البيئة التي كان يضطرب فيها المويلحي وحافظ والبابلي - رحمهم الله - ولكني رأيته يعرض لأشياء ما كان أحد من هؤلاء يستطيع أن يعرض لها، ويلج موالج ما كان أحد من هؤلاء يستطيع أن يفكر فيها، ثم يمرق منها كما يمرق السهم من الرمية، وقد ظفر بكل ما أراد وبأكثر مما أراد، وما أشك في أن تلك البيئة الطريفة اللبقة الموفقة لو اجتمعت كلها لكتابة فصل عن الطيارة كالذي كتبه عبد العزيز، أو فصل عن أحمد ندا، أو فصل عن حسن غندر، لما ظفرت من ذلك ببعض ما ظفر به. إنما كانت الإجادة تتاح لأعضاء تلك البيئة سهلة ميسرة، ولكنها عادية مألوفة لا تبلغ الروعة إلا نادرا، فأما صاحبنا؛ فإنه يستطيع أن يبدأ الفصل رائعا ويمضي فيه رائعا، ونحن نستطيع أن نعد له فصوله العادية، فأما فصوله الممتازة فهي أكثر ما كتب. ماذا أقول؟ تستطيع أن تسمع له وهو يتحدث جادا أو هازلا، راضيا أو ساخطا، فإن استطعت أن تملك نفسك وتردها عن الإعجاب به فأنا مخطئ، ولكنك لن تستطيع!
ومن أجل هذا أيضا لم يكن عبد العزيز مدرسة وحده فحسب، بل كان مدرسة لا تلاميذ لها، فكما أنك لا تستطيع أن تلحقه بهذه البيئة الأدبية أو تلك، فأنت لا تستطيع أن تلحق به هذا الكاتب أو ذاك. فنه على سهولته ويسره وقربه من الناس جميعا أرفع وأعسر وأشد استعصاء من أن يتعلق به المتأثرون والمقلدون؛ ولذلك لم يتعلق به أحد ولم يحاول تقليده أحد، وظل عبد العزيز واحدا في فنه، وسيظل واحدا في فنه يستمتع بآثاره الناس جميعا، ولا يستطيع أحد من هؤلاء الناس أن يلحق به أو أن يحاكيه، أو أن يزعم لنفسه القدرة على أن ينقل فنه إلى الأجيال المقبلة.
سيبقى فن عبد العزيز؛ لأنه فوق التقليد الذي يبتذل آثار الأدباء، ولأن شخصية صاحبه فذة، ليست شائعة، ولا يمكن أن تكون شائعة.
أفتراني بعد هذا قد استطعت أن أعلل هذه المزية التي يمتاز بها هذا الكاتب الفذ؟ أما أنا فلا أدري، ولكني أعتقد أني قد اهتديت من ذلك إلى شيء، ولعل هناك أشياء ليس الاهتداء إليها يسيرا.
أفتراني بعد هذا محتاجا أن أطوف بك كما فعل صديقنا مطران في هذا المتحف الذي يقع بين دفتي هذا الجزء؟ أما أنا فلا أرى ذلك ولا أميل إليه، ولا أريد أن أكون دليلك بعد هذه الفصول الرائعة؛ لأني لا أريد أن أعرض نفسي لما يتعرض له الأولاد، ولا أحب أن تقول لي ما أنت وذاك؟ أرحني من صوتك الغليظ، ومن لهجتك العنيفة الفظة، وخل بيني وبين هذا الفن الرائع والأدب الرفيع.
لك علي ذلك يا سيدي، فخذ في قراءة هذه الفصول وأنا زعيم بأنك لن تتركها حتى تفرغ منها، ولعلك لا تفرغ منها إلا لتستأنف النظر فيها، فإني قد جربت ذلك من قبلك.
الباب الرابع
في الفن والمفتنين
Shafi da ba'a sani ba