165

مذهب طريف في النقد، نقد الأشخاص، لا عهد للأدب العربي به من قديم الزمان؛ بل لعله لا عهد له به من أول الزمان!

لم تكد تطالع الناس هذه الصحيفة الدقيقة الجرم مرتين أو ثلاثا حتى أصبحت من بعض شغل الخاصة في هذه البلاد!

لا يدخل الأصيل في يوم الخميس من كل أسبوع إلا وقد زاغت أبصار، وتكرشت جباه، وتقلصت شفاه، وتداركت أنفاس، ووجفت قلوب، هل رأيت انفلات الطائر بعد طول الاحتباس؟ كذلك كان يترقب الخاصة مشرق «المصباح» وسرعان ما تخطفه اليد الراجفة فتشقه، وسرعان ما يشيع البصر كله في مساحة النقد كلها، لا يستقر على موضوع خاص، ولا يتحيز في حديث معين، بل إنه لينساح على الصفحة كلها انسياحا ليدرك قبل رد الطرف: أشك المويلحي اسم صاحبه فيمن شك أم أرسله في جملة الطلقاء؟! حتى إذا اطمأن الرجل إلى أنه قد كتبت له السلامة لجمعته، ألقى الصحيفة بين يديه، وجعل يطامن من نفسه، ويبسط من خلقه ما تقبض، ويفرخ من روعه ما تحبس.

وإذا كان هذا شأن من لم تصب منهم أقلام المويلحيين، فاحكم أنت - عصمنا الله وإياك - كيف كانت حال من تنال منهم هذه الأقلام؟ على أنه مما ينبغي أن يذكر هنا، أن «المصباح» لم يكن يعرض قط لأعراض من يتولاهم بالنقد، ولا يتدسس إلى مكارههم، أو يتتبع عوراتهم، بل لا يتناول من أمورهم إلا ما كانوا يعرضونه هم من ذات أنفسهم، أو ما يدلون هم عليه بآثارهم وظاهر أعمالهم؛ فلقد كان «المصباح» أجل من ذاك موضعا، وآنف كرامة.

وإنه ليستحدث لونا طريفا من النقد لا عهد لأدب مصر به، بل لا عهد به للأمم العربية جمعاء، وهذا النوع من النقد يقوم في الجملة على التماس الجانب الضعيف في أثر الرجل، فيعرضه بالقلم في صورة «كاريكاتورية» يزيد في تشويهها ما يتوافى لذلك الذهن الدقيق من ألوان التشبيه، وما يحضره من فنون الاستشهاد والتمثيل، ولا يبرح يمط الموضوع في هذه الناحية بالتوليد، وطلب المناسبات القريبة، والملابسات الدانية، تسندها النكتة البارعة، ويسعفها التندر البديع، حتى ينتهي إلى ما لا ينتهي إليه أحد من الناقدين!

ولقد كان هذا من «مصباح الشرق» الأصل الثابت لهذا اللون من النقد - أعني النقد «الكاريكاتوري» في مصر - كما كانت صحيفة المويلحيين «أبو زيد» أول ما عرف فيما أعرف أنا من التصوير «الكاريكاتوري» في هذه البلاد، ولعلي ألمع إلى هذه الصحيفة في بعض هذا الكلام.

لم ينته خطب «مصباح الشرق» إلى هذا الموضع فحسب؛ بل لقد كان - على أنه صحيفة لا تظهر في جميع الأسبوع إلا مرة واحدة - يروي من جلائل الأخبار في الأسباب العامة ما لا تبلغه الصحف اليومية، على شدة ارتصادها لمثل ذلك، وإذكاء عيونها الكثيرة في طلبه وتقصيه، فكانت أمهات الصحف اليومية لا تتحرج، في كثير من الأحيان، من نشر مهام الأخبار نقلا عن صحيفة «مصباح الشرق» الأسبوعية مضافة إليها معزوة لها، وفضل «المصباح» في هذا السبق العجيب إنما كان لجلالة محل إبراهيم بك المويلحي عند أولي الأمر كلهم، وخفة روحه، ولطف مدخله، وسعة حيلته، حتى ليستخرج منهم بهذا ما لا يخرجون عنه لغيره من رواة الأخبار!

ولا أحب أن أجوز هذا الموضع من الكلام قبل أن أقول إن «المصباح» أول من جلا للناس براعة الجاحظ وعبقرية ابن الرومي بما كان يختاره لهما من بدائع المنثور وروائع المنظوم، قبل أن تقع العيون من آثارهما على كتاب أو ديوان، وأول من عالج النقد الأدبي لما تنتضح به قرائح الشعراء، وأعني به ذلك النقد الرفيع الغالي، الذي جمع بين أساليب النقد في أزكى عصور العربية، وبين طرائقه التي اختطها نقدة الغربيين في هذا الزمان.

وعلى الجملة، فلقد فتح «المصباح» في الأدب العربي فتحا جديدا، وأمسى «مصباحا» حقا يهتدي المتأدبون بسناه إذا أرسلوا القول أو اجتمعوا لنظم الكلام.

وبهذا وهذا أصبح «مصباح الشرق» أفخر مدرسة لطلب الأدب الرفيع الجزل الطريف في هذه البلاد.

Shafi da ba'a sani ba