ومن الطير النواطق التي توقع، الخطاطيف والفواخت والهزاردستان فإنه خاصة يدنوا من الضرب والزمر والملهين. وأعجب من هذا اتخاذ أهل البطائح حظائر القصب في الماء وتركهن لها أبوابًا وصعودهم ينادون السمك يدعونها إلى تلك الحظائر ويعدونها مرعًا وعلفًا وكفا عن الإضرار والصيد فتجتمع إلى ذلك الصوت حتى تمتلي الحظاير.
وذكرت الهند أن الفيل إذا أخذ امتنع من العلف والشرب وبكا حنينًا إلى الوطن والألف فتعزّيه الشعراء وتغنيه المغنون الألحان الشجية الملهية حتّى تطيب نفسه ويعتلف ويشرب.
وذكروا أن أهل الرومية إذا ثقل عندهم المريض وضعف أسمعوه ألحانًا وضربًا وقالوا أن ذلك يخفف وجعه ويقوّيه.
وكان الإسكندر لا يشرب الشراب إلا للعلاج وكان إذا التاث عليه الرأي في بعض الحروب أمر بتحريك الأرغين فإذا مضت نفسه في الفطرة وتوجه له الرأي ضرب بعموده ترسًا بين يديه فيمسك الموسيقار وهو المغني.
الموسيقار
وسمع أرسطاطاليس موسيقارًا يضرب بالقيثارة ضربًا يميز به الفضائل من الرذائل. فقال: متى كانت الطبيعة تهدي لهذا لولا النفس.
وكان المياغورس إذا جلس على الشراب قال للموسيقار حاسب النفس على المقادير وناجها بأشكالها ولا تحفل بالطبيعة.
وكان جالينوس يحضر مجالس الإلهاء والطرب. فقيل له: لم تحضرها وليست من شأنك.
قال: لا عرف مزاج القوي والطبائع في حال مستمع ومنظر ومجس. وكان هرمس المثلث بالحكمة إذا جلس على الشراب قال للموسيقار أطلق النفس من رباطها.
وخرج أرفارس ومعه تلميذه فسمع صوت القيثارة فقال لتلميذه: امضِ بنا على هذا لعلّنا نفيد منه صورة شريفة فلما قربا منه سمعا صوتًا نديًا وتأليفًا غير متّفق، فقال أرفارس: يزعم أهل الكهانة والزجر أن صوت البومة يدل على موت إنسان فإن كان ما قالوا حقًا فصوت هذا يدل على موت البومة.
الغناء وأثره
وقد وصف الغناء قوم من أهل زماننا. فقال يحيى بن خالد بن برمك: الغناء ما أطرب فأرقصك أو أشجاك فأبكاك وما سوى ذلك فبلاء وهمّ. وكان بين ابن جامع وإبراهيم الموصلي اختلاف شديد في الغناء.
قال ابن جامع لإبراهيم يومًا بين يدي الرشيد: إن خبّرتني أي الغناء أحسن فإني فاعله. فقال: أحسنه ما أشبه النوح. قال: صدقت ووافقه في هذه الصفة.
وقال إسحق بن إبراهيم: الغناء القديم مثل الوشي يجمع الأصفر والأحمر والأخضر وسائر الألوان وبينها بون بعيد التفاوت. وقال الطرب: على ثلاثة أوجه طرب محرك مستخف وذلك إذا كان شعر الغناء في العتيق أو نعت الشراب وإن ذكر أحد من الندامى أن في الدنيا لذّة هي أكثر من هذا فلا تصدّقه.
وجدت له هذا الصوت:
أصلح الناس كأنه قفرا ... غير معنى معازف ورسوم
أمامه من حسن ... ذلك الصفا والتنعيم
أخبار المغنين
الطبقة الأولى
حابل أبي دهبل
مكّي وكان غلامًا لأبي دهبل الجمحي. له هذا الصوت والناس ينسبونه إلى مالك:
تطاول هذا الليل لا يتبلّج ... وأعيت غواشي زفرتي ما تفرّج
أبيت بهمٍّ لا أنام كأنما ... خلال ضلوعي جمرة تتوهّج
لأبي دهبل ثقيل الثاني.
أبو الخز
مولى سكينة بنت الحسين. كان ظريفًا ودخل عليه لصٌّ فكوّر ثيابه وحملها فصاح أبو الخز: بأبي ما أسمك. قال.: نافع. فقال: نفع والله لغيري. وجدت له هذا الصوت وقد شارك فيه مالك وغيره:
كلُّ قومٍ صيغة من تبرهم ... وبني عبد مناف من ذهب
إنما عبد مناف جوهر ... زين الجوهر عبد المطلب
للفضل ابن عتبة خفيف ثقيل الأول
الوليد بن يزيد
بن عبد الملك بن مروان وكان يزيد أبوه فتىً من بني أمية والوليد خليعهم وكان شاعرًا يغني.
قال إسحق: ولم يكن للغناء في أول الزمان قدرًا إنما كانت تعلمه السودا والصفرا حتى ولّي الوليد بن يزيد فرغب فيه الناس فيه فعلموه الحسان واعرقوا فيه.
ففي أيامه بلغ الغناء غايته.
عبد الله بن معاويةالباهلي
كان مع قتيبة بن مسلم الباهلي بخراسان وكان منزله بالري. وجدت له هذه الصوت:
فلما دبت الصهباء فينا ... وغرد صاحبي وخلا الوساد
شربنا من فؤاد الدن حتى ... تركنا الدن ليس له فؤاد
الطبقة الثانية
1 / 4