ارتحل يعقوب بجميع عياله وماله، فكان جملة الداخلين إلى مصر سبعين نفسا مع ابني يوسف منسى وأفرائيم، والتقى يوسف أباه إلى جاسان، ولما ظهر له ألقى بنفسه على عنقه وبكى طويلا، ومثل يوسف أولا خمسة من إخوته، ثم أباه بين يدي فرعون، فرحب بهم وأحلهم في أجود أرض مصر وهي جاسان، وكان للعلماء قبل الاكتشافات الحديثة أقوال متضاربة في موقعها، وانكشف الآن أنها في الجهة الشمالية الشرقية من مصر حيث الآن المديرية المعروفة بالشرقية، وأكدت ذلك آثار لا ريبة فيها استوفينا شرحها في تاريخنا المطول، وعاش يعقوب في مصر سبع عشرة سنة، وكان عمره عند انحداره إليها مائة وثلاثين سنة وبارك بنيه قبل موته، وتنبأ عما يكون لهم كما في سفر التكوين فصل 48، فحنط يوسف جثته ونقلها بما لا مزيد عليه من الحفاوة، ودفنوه في المغارة المضاعفة بالخليل، وعاش يوسف بعد وفاة أبيه نحوا من أربع وخمسين سنة، ثم توفي وله من العمر مائة وعشر سنين، واستحلف أهله أن ينقلوا عظامه إلى أرض الموعد متى من الله بخروجهم من مصر، وجاء في سفر يشوع بن نون (ف34 عدد 32) أن عظام يوسف التي أصعدها بنو إسرائيل من مصر دفنوها في شخيم (نابلس) في قطعة الأرض التي اشتراها يعقوب من بني حيمور، وروى القديس إيرونيموس أن مدفن يوسف كان يشاهد هناك إلى أيامه، وحقق بعض الجوالة بقاءه هناك إلى عهد قريب. (6) حالة بني إسرائيل في مصر
قد كان ملوك مصر في تلك الأيام من الملوك الرعاة السوريين أصلا، فأكرموا يوسف وأباه وإخوته، ولم يبرح بنو إسرائيل هناك ممتازين عن المصريين في دينهم وأدبهم ولغتهم، وكان المصريون يحسبونهم رعاة، والرعاة أرجاس بسبب ملوك الرعاة الذين استحوذوا عليهم، فكان لبني إسرائيل شيوخ يلون أمرهم، وكان كل سبط مقسوما إلى أسرات ولكل أسرة شيخ، ويرأس هؤلاء عمال تختارهم الحكومة من بني إسرائيل، فكانت هذه الحال نافعة لبني إسرائيل من جهة قربهم من شعب فاقهم حضارة، واقتبسوا منه بعض الصنائع ، وضارة من وجه تشويش بعض تقليداتهم وآدابهم، ويظهر أن الملوك الأولين الذين تولوا مصر بعد الملوك الرعاة لم يعنتوا بني إسرائيل، بل استخدموهم في حملاتهم على آسيا، وجاء في سفر أخبار الأيام الأول (فصل 7 عدد 20) أن أبناء أفرائيم بن يوسف نزلوا إلى جت (دكرين الآن)؛ ليأخذوا ماشيتهم فقتلهم رجال جت، وذكروا أن بعض بني سيلا بن يهوذا استحوذوا على بعض مدن الموآبيين، وكشف في صفائح مسمارية وجدت في تل العمرنة في ما بين النهرين 1887 عن أن بعض اليهود كانوا يسكنون فلسطين في أيام أمانوفيس الرابع أحد ملوك الدولة الثامنة عشر بعد طرد الرعاة، وقبل خروج بني إسرائيل منها بنحو مائة وخمسين سنة، فارتبك العلماء في مغزى هذه الصفائح، وأظهر ما قيل بذلك أن بعض بني إسرائيل حاربوا مع ملوك الرعاة في مصر، ورافقوهم عند خروجهم منها، فأقاموا في فلسطين وأورشليم، ولا نرى مانعا من أن يكون بعض بني إسرائيل عادوا إلى فلسطين قبل الخروج. (7) اضطهاد بني إسرائيل في مصر
مات يوسف وجميع إخوته وسائر ذلك الجيل، وطرد الملوك الرعاة من مصر، ونما بنو إسرائيل وكثروا وعظموا جدا، وقام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف، فوجس من كثرتهم ومن أن ينضموا إلى أعداء المصريين ويحاربوهم معهم، فأقاموا عليهم وكلاء تسخير؛ لكي يعنتوهم بأثقالهم، وأشغلهم رعمسيس الثاني ببناء مدينتين، وهما فيتوم ورعمسيس، وجاءت الآثار المصرية مصداقا لآي الكتاب، فقد وجدت صور كثيرة تمثل أسرى ساميين يشتغلون في البناء تحت إمرة عمال مصريين، بيد كل منهم سوط أو عصا طويلة، وفيتوم أو بيتوم تأويلها بيت الإله توم أو معبده، ويراد به عندهم الشمس، وكان موقع هذه المدينة على مقربة من تل المسقوطة، وتجد فيها صخرا كبيرا مرسومة عليه صورة الملك رعمسيس بين إلهين، وأما رعمسيس فسميت باسم رعمسيس الثاني الذي أشغل بني إسرائيل ببنائها، وموقعها في محل تل المسقوطة وهي مجاورة لأرض جاسان، وقد اكتشف العالم إدوار نافيل على فيتوم ورعمسيس المذكورتين، واستدل عليهما بآثار كثيرة لا تدع محلا للامتراء في بناء رعمسيس لهما، وقد حلل إدوار نافيل بعض اللبن الذي وجده، وقدر أن يستدل منه على أنه صنع العبرانيين ... طالع تاريخها المطول مجلد 2 صفحة 97.
على أن فراعنة مصر لم يكتفوا بإعنات بني إسرائيل بعمل اللبن، وتسخيرهم في الأشغال الشاقة بل اخترعوا لإنقاص عددهم ذريعة أخرى، وهي أن فرعون أمر قابلتي العبرانيات أن تقتلا كل ذكر يولد للعبرانيين، فاتقت القابلتان الله، ولم تفعلا، فأمر الملك جميع شعبه أمرا فظيعا أن يطرحوا في النهر كل ذكر يولد للعبرانيين. (8) في موسى
وولد لعمران من سبط لاوي ولد، وخافت عليه أمه من نفوذ أمر فرعون به فأخفته ثلاثة أشهر، ولما لم تستطع أن تخفيه أكثر وضعته في سفط من بردي وطلته بالزفت، ووضعته بين الخيزران على حافة النهر، ونزلت ابنة فرعون لتغتسل، فرأت السفط بين الخيزران ورأت فيه صبيا يبكي، وقالت أخته التي كانت حذا النهر لابنة الملك: إنها تأتيها بظئر ترضعه وأسرعت فدعت أمها، فقالت ابنة فرعون لها: «خذي هذا الصبي وأرضعيه وأنا أعطيك أجرتك.» فأرضعته أمه مع الحليب حب الإله والغيرة على بني قبيلته، ولما كبر جاءت به ابنة فرعون فاتخذته ابنا وسمته موسى، أي: نشيلا من الماء، فلم ينسه رفاه عيشه في بيت فرعون الضيق الملم بشعبه، ورأى يوما مصريا يضرب عبرانيا فقتله وطمه في الرمل، ولما درى أن الخبر ذاع وأن فرعون يريد قتله فر موسى إلى أرض مدين في بلاد العرب، ونزل على رجل اسمه يترو أو يترون، ويسميه علماء العرب شعيب، فوكل إليه العناية بماشيته وزوجه صفورة ابنته، فأقام موسى هناك نحو أربعين سنة، وفي آخرها ظهر له الرب، وأمره أن يذهب إلى فرعون ويسأله إطلاق شعبه، وسأله موسى آية للتيقن بنفع شعبه، فجعل الله عصا موسى حية تسعى، ومد يده إليها فعادت عصا في يده، وأمره أن يأخذ أخاه هرون؛ ليكون معه وأن يأخذ العصا التي صارت حية فمضى موسى كأمر الله.
قال الكتاب (خروج فصل 5 عدد 1): «دخل موسى وهرون، وقالا لفرعون: كذا قال الرب إله إسرائيل : أطلق شعبي ليعبدوني في البرية. فقال فرعون: من هو الرب لأسمع قوله وأطلق إسرائيل؟» وكان فرعون هذا منفتاح بن رعمسيس الثاني، ولما لم يسمع لهما ضرب الله مصر على يدهما بضربات كثيرة ذكرها الكتاب في سفر الخروج: منها انقلاب ماء النهر دما، ومنها انتشار الدفاضع في البيوت والمخادع وعلى الأسرة، وظهور البعوض على كل تراب مصر، وامتلاء بيوت المصريين وأرضهم من الذبان والوباء الشديد الذي أصاب الخيل والحمير وكل الماشية إلا ما خص بني إسرائيل، والقروح التي أصابت الناس والبهائم، ثم البرد الذي لم يكن مثله في مصر، وأمات الناس والبهائم وأيبس العشب وكسر الأشجار، ولم يكن منه شيء في أرض جاسان، ثم الجراد الذي غشي أرض مصر وأكل جميع عشبها ... وأخيرا ضربة كل بكر في جميع أرض مصر من بكر فرعون إلى بكر الأسير الذي في السجن وجميع أبكار البهائم، فدعا فرعون موسى وهرون ليلا، وقال: «اخرجا من بين شعبي أنتما وبنو إسرائيل بغنمكم وماشيتكم كلها.» (9) في خروج بني إسرائيل من مصر
قد أقام بنو إسرائيل بمصر أربعمائة وثلاثين سنة، وقد نوه بذلك النص العبراني وغيره من الترجمات، ولكن يظهر من الترجمتين السبعينية والسامرية أن الأربعمائة والثلاثين سنة تحسب من خروج إبراهيم إلى بلاد الكنعانيين إلى خروج بني إسرائيل من مصر، وقد عول أكثر العلماء على ما في النص العبراني وهو الأصح، ولا سيما أن كثيرا من الآثار المصرية يستخلص منه أن المدة التي انقضت من عهد فرعون أبامي الذي استوزر يوسف في سنة 17 لملكه إلى زمان منفتاح فرعون الخروج إنما هي نحو أربعمائة وثلاثين سنة لا مائتان وخمس عشرة سنة، ويؤيده أن هذه المدة المذكورة أخيرا لا تكفي لتكون ذرية يعقوب عند خروجها من مصر ستمائة ألف ماش من الرجال خلا الأطفال، كما في سفر الخروج (فصل 12 عدد 37).
وفي تعيين سنة هذا الخروج أقوال؛ أظهرها عندنا أنه كان نحو سنة 1500 قبل الميلاد، فقد مر أن إبراهيم شخص إلى أرض كنعان سنة 2145، وعمره خمس وسبعون سنة، وولد إسحق بعد خمس وعشرين سنة، وإسحق ولد يعقوب وعمره ستون سنة، ويعقوب انحدر إلى مصر وعمره 130 سنة، فمجموع هذه السنين 315، وإذا أضفت إليها سني العبودية بمصر 430 سنة كان المجموع 645، فإذا أسقطتها من 2145 سنة شخص إبراهيم إلى أرض كنعان كان الخروج في 1500ق.م.
والمؤكد الآن أن بني إسرائيل أخذوا في خروجهم من مصر من تل المسقوطة، حيث كانت مدينة رعمسيس، وانتهوا بعد خمس مراحل إلى شاطئ البحر الأحمر، ولما رأى فرعون والمصريون أنهم خسروا الانتفاع بأعمال شعب كامل أمر فرعون بتتبع آثارهم، وجمع مركباته وجيشه، وأسرعوا في لحاقهم فأدركوهم عند خليج السويس، وقطعوا عليهم الطريق من جهة الشمال والشمال الشرقي، وكان في الغرب والجنوب جبل الطاقة وهو مستوعر المسالك، وفي الشرق البحر الأحمر، فارتاع بنو إسرائيل وضاقت بهم المسالك، فصلى موسى إلى الله ومد يده على البحر، فأرسل الرب ريحا شرقية شديدة فانشق الماء، ودخل بنو إسرائيل على اليبس في وسط البحر، ودخل المصريون وراءهم فقال الرب لموسى: «مد يدك إلى البحر فيرتد الماء على المصريين.» فكان كذلك وغرقت مركبات فرعون وفرسانه وجيشه ونجا بنو إسرائيل جميعهم، والراجح أن معبرهم كان من شاطئ الخليج الغربي بخط منحرف إلى شاطئه الجنوبي الشرقي، وحلوا في الموضع المسمى الآن عيون موسى، ولم يغرق فرعون؛ لأنه لم يدخل في البحر مع مركباته وجنوده ... فالكتاب لم يشر إلى غرقه، والتاريخ والآثار المصرية تنبئ بأنه مات حتف أنفه، وجعل الرب عمود نار وغمام يضيء بني إسرائيل، ويحجبهم عن نظر المصريين، ورافقهم هذا العمود في أسفارهم، ولا نرى آية عظمت الأسفار المقدسة في العهدين قدرها كآية شق البحر الأحمر، وإجازة بني إسرائيل في وسطه (طالع فصل 14 من سفر الخروج). (10) مقام بني إسرائيل بالبرية
أقام بنو إسرائيل بالبرية أربعين سنة منتقلين في مراحل كثيرة، وأهم ما كان في هذه المدة: أولا إنزال الله عليهم المن، فكان يسقط في الغداة حول المحلة وطعمه كقطائف بعسل، وكانوا يلتقطون منه كل واحد على قدر أكله، وكان ما بقي منه بعد الالتقاط يذوب إذا حميت الشمس، وما بقي منه إلى اليوم التالي دب فيه الدود وأنتن إلا يوم السبت، فما التقطوه يوم الجمعة لا يعتريه فساد، ثانيا: السلوى وهي طائر معروف إذ قال الكتاب في سفر العدد (فصل 11 عدد 31): «وهبت ريح من لدن الرب، فساقت سلوى من البحر وألقته على المحلة على مسير يوم من هنا ويوم من هناك حوالي المحلة، فأرسل الله السلوى إليهم مرتين ذكرهما موسى في سفر الخروج، وفي سفر العدد، وبين الأولى والثانية سنة وكلتاهما في الربيع، ثالثا: آية إجراء الماء من الصخرة، فقد أمر الله موسى (خروج فصل 17 عدد 3) أن يضرب الصخرة فتجري المياه، وقال بعض العلماء: إن محل هذه الصخرة في جوار دير القديسة كاترينا في سينا، والأظهر أنها كانت في وادي فيران، وقد ذكرها فيه رجال اللجنة الإنكليزية في بقعة تسمى حي الخطاطين، رابعا: حربهم مع العمالقة ذكره سفر الخروج (فصل 17 عدد 8 وما يليه)، وكان موسى إذا رفع يده تغلب بنو إسرائيل وإذا حطها تغلب العمالقة، فهزم بنو إسرائيل العمالقة، خامسا: تنزيل الله السنة على موسى وأولها الوصايا العشر، وألحق بها السنن والأحكام الواردة في سفري الخروج، وتثنية الاشتراع، سادسا: عبادة بني إسرائيل عجل الذهب لما أبطأ موسى في الجبل عندما صعد هو وهرون وشيوخ إسرائيل؛ ليشكروا الله على آلائه، سابعا: إنشاء موسى خباء المحضر أي: قبة العهد، ثامنا: إجراء الماء من الصخرة ثانية في قادش فإن الشعب خاصم موسى وهرون هناك لحاجتهم إلى الماء، فأخذ موسى عصاه وضرب الصخرة كأمر الرب، فخرج ماء كثير شرب منه الجماعة وبهائمهم، تاسعا: وفاة مريم أخت موسى في قادش وموت أخيها هرون في جبل هور، فإن الرب كلم موسى قائلا: ينضم هرون إلى قومه؛ لأنه لا يدخل الأرض التي أعطيتها لبني إسرائيل؛ لأنكما عصيتما أمري عند ماء الخصومة، وأمر أن يصعد هرون إلى الجبل وينزع عنه ثيابه ويلبسها إليعازر ابنه، فمات هرون في رأس الجبال، ودفن هناك بحيث لا يعرف أحد قبره؛ لئلا يعبده بنو إسرائيل أو ينتهك العرب حرمته، ومع هذا ففي جبل هور مدفن يسمى مدفن هرون وقد زاره كثير من الجوالة، عاشرا: نهي الرب عن محاربة الأدوميين أبناء عيسو والموآبيين والعمونيين بني بنتي لوط؛ لأنهم إخوتهم (وقد كانت بعدئذ حروب عديدة بين هذه العشائر وبني إسرائيل)، وحارب بنو إسرائيل سيحون ملك الآموريين وعوج ملك بيسان في عبر الأردن، حادي عشر: تمليك موسى سبطي راوبين وجاد ونصف سبط منسى بن يوسف البلاد التي أخذوها منهما، ثاني عشر: وفاة موسى فقد جاء في سفر التثنية (فصل 3 عدد 25) أن موسى سأل الرب قائلا: «دعني أجوز فأرى الأرض الصالحة التي في عبر الأردن هذا الجبل الحسن ولبنان.» فقال له الرب: «حسبك لا تزد في الكلام معي لكن اصعد إلى قمة الفيحة (وهي قمة في جبل بنو تسمى الآن رأس الصياغة)، وارفع طرفك غربا وشمالا وجنوبا وشرقا، وانظر بعينيك لأنك لا تجوز هذا الأردن، ومر يشوع وشجعه فإنه هو يعبر أمام هذا الشعب ويورثه الأرض التي تراها.» فخطب موسى في بني إسرائيل خطبا كثيرة ذكرهم بها بأخص مواد السنة، وحض الشعب على اتقاء الرب والعمل بسنته، وأمر الكهنة أن يتلوها على مسامع الشعب مرة في كل سبع سنين في عيد المظال، ثم بارك بني إسرائيل بركات نبوية ذكرت في الفصل 23 من سفر التثنية، وصعد على جبل نابو ومات هناك وعمره مائة وعشرون سنة، ولم يعرف أحد قبره إلى يومنا هذا. (11) في يشوع بن نون
Shafi da ba'a sani ba