Tattaunawar Alfred North Whitehead
محاورات ألفرد نورث هوايتهد
Nau'ikan
ينبغي أن يكون الأدب قابلا للتصديق إلى حد كبير، في حين أن خبرات البشر في الواقع تفوق كل قوى الخيال؛ ومن ثم كان «الأدب الاجتماعي» مطابقا للعرف، بينما يتخطى التاريخ «كل حدود العقل».
وتقع حياة هوايتهد في ثلاثة مجلدات، يشمل المجلد الأول جامعة كامبردج، ويشمل الثاني لندن، والثالث كامبردج في ماساشوست. وقد قال أيضا إنه يحس كأنه عاش ثلاث حيوات في ثلاث فترات متتابعة؛ الأولى من عام 1861م إلى عام 1914م، والثانية خلال الحرب من عام 1914م إلى عام 1918م، والثالثة بعد هذه الحرب العالمية الأولى.
وتبدأ قصة «المدن الثلاث»
1
هذه بداية هادئة؛ فهو ابن أستاذ مدرس وحفيد أستاذ مدرس كذلك؛ ثم أصبح أبوه قسيسا فيما بعد، وفي حياته كقسيس كان يتقيد بنصوص العهد القديم، خطبه ومواعظه يرن صداها تحت قبة كنيسة نورمان، والمنظر كله آية في الروعة؛ رامزجيت التي تواجه البحار الضيقة بين إنجلترا والقارة الأوروبية، تلك البحار الضيقة التي تولدت عنها كل الحكومات الحرة في العالم، هولندا وإنجلترا والولايات المتحدة، وقد كان «الآباء المهاجرون» من أبناء هذه البحار. وعلى مقربة منها تقع تلك الأسوار العابسة، أسوار قلعة رتشبره، التي شيدها الرومان. وعلى بعد ميل من ساحل إبزفليت، حيث رسا السكسون في غابر الزمان، يقع المكان الذي ألقى عنده أوغسطين أولى مواعظه. وعلى بعد ستة عشر ميلا فقط تقع كاتدرائية كانتربري، حيث كان يستطيع الطفل الصغير منذ تسعين عاما - ولا يزال يستطيع حتى اليوم - أن يشهد البقعة التي قتل عندها توماس بكت، ويرى العدة الحربية التي كان يدرعها «الأمير الأسود». إن التاريخ لهذا الصبي لم يكن شيئا يتعلمه من الكتب، بل كان شيئا يحتك به كل يوم، تكتحل به عيناه ويستنشقه مع الهواء.
ومع أن هوايتهد كان يعد نفسه دائما إنجيليا شرقيا، ومع أن صورته كانت مثالا لذلك - إذ كان أشقر اللون، أحمر الوجنتين، أزرق العينين - إلا أنه كان يلحظ في تاريخ أرومته خلطا خفيفا يجعله مخالفا بعض الشيء لهؤلاء الإنجيليين؛ فقد كانت إحدى جداته من ويلز، تنتمي إلى أسرة وليامز، وكان يختلف عن إخوته اختلافا يرجع إلى الدم الكلتي الذي كان ينبض في عروقه.
ولد في الخامس عشر من شهر فبراير من عام 1861م، وكان طفلا ضعيف البنية، فعلمه أبوه في البيت، وقضى جانبا كبيرا من وقته في الخلاء مع بستاني عجوز حمل له طوال حياته العرفان بالجميل؛ لأنه كان أول من جعله يرى النور الذي يضيء في الظلام. وفي الشتاء كان يزور جدته في لندن، وكانت أرملة لخائط عسكري، تقطن بيتا في المدينة، يحمل رقم 81 بيكادلي، ومن نوافذ هذا البيت التي كانت تطل على «الحديقة الخضراء» اعتاد أن يرى الملكة فكتوريا، وهي تمر في عربتها، وكانت آنئذ أرملة في منتصف العمر، ولم تكن محببة كثيرا إلى النفوس، وكانت جدته سيدة ثرية، بيد أنها - كما تقول - «قد أخطأت إذ أنجبت ثلاثة عشر طفلا» مما أدى إلى انخفاض نصيب كل منهم في الميراث، ولا بد أن تكون الجدة كذلك رهيبة الجانب؛ لأن المحور الذي كانت تتماسك الأسرة من حوله كان يتركز في مدبرة شئون المنزل جين وتشلو، وهي التي كانت تقرأ روايات دكنز جهرا للطفل الصغير، وهو يجلس على مقعد قليل الارتفاع متكئا على ركبتيه إلى جوار موقد النار.
ولم تكن حياته المدرسية بأقل من ذلك روعة؛ التحق بشربرن مراهقا يبلغ الخامسة عشرة من عمره إلا أربعة أشهر. وجدير بالذكر أن هذه المدرسة قد احتفلت بعيدها المائتين بعد الألف في عام 1941م، فتاريخها يرجع إلى عهد القديس أولدلم، وتزعم أن ألفرد الأكبر كان من بين تلاميذها، وما زالت مباني الدير تستعمل حتى اليوم، وبيت الرهبان به من أفخم المباني القائمة، وما برحت قبور الأمراء السكسون ماثلة للعيان. وفي خلال العامين الأخيرين في هذه المدرسة لهوايتهد كانت حجرة درسه الخاصة تشتهر بأنها كانت مأوى رئيس الرهبان، وكان الفتى يعمل على مسمع من أصوات أجراس الدير - «الأصوات الحية للقرون الغابرة» - تلك الأجراس التي أتى بها هنري الثامن من «ميدان الثوب الذهبي» وأهداها للدير.
وكان منهج الدراسة - كما ذكر هوايتهد بعد ذلك بسنوات - يسترعي ذهنه بملاءمته لمكانه وزمانه. «كنا نقرأ اللاتينية والإغريقية باعتبارهما سجلات تاريخية للشعوب الحاكمة التي كانت تقطن إلى جوار البحر وتبسط نفوذها البحري، لم نعتبرهما لغتين أجنبيتين، بل لقد كانتا مجرد لاتينية وإغريقية، ولم يكن بالإمكان أن تعرض علينا آراء لها أهميتها بأية وسيلة أخرى، فكنا نقرأ العهد الجديد بالإغريقية، ولم أسمع عن أحد قرأه بالإنجليزية في المدرسة - اللهم إلا إن كان ذلك في كنيستها، ولم يكن ذلك أمرا ذا بال - فإن ذلك معناه عقلية دينية ينقصها التهذيب. كنا متدينين، بذلك الاعتدال الذي يتصف به قوم يأخذون دينهم عن اليونانية.» ولم يذاكر هوايتهد قط الآجرومية الإنجليزية، وإنما كان يتعلمها عن طريق الآجرومية اليونانية واللاتينية.
ولم يكن الفتيان في هذه المدرسة مرهقين بالعمل؛ فقد كان يتوافر لهم الوقت للألعاب الرياضية والمطالعة الخاصة، وهي عنده الشعر، وبخاصة وردزورث وشلي، وكان يقرأ كذلك كثيرا من التاريخ، وكان رياضيا ممتازا، وأمسى أخيرا «عريفا»، واحدا من كبار الطلبة الستة المكلفين بالتبعات الإدارية، وبحفظ النظام. وأكبر هؤلاء الطلبة هو رئيس المدرسة، وبهذه الصفة دعي هوايتهد ليضرب طالبا سرق مالا «وكان لا بد من ضربه أمام التلاميذ أو طرده من المدرسة. ولا أقول إني أصبت فيما فعلت، ولكني ضربته.»
Shafi da ba'a sani ba