Tattaunawar Alfred North Whitehead
محاورات ألفرد نورث هوايتهد
Nau'ikan
وإن التوحيدي ليتناول في هذه الليلة موضوع النثر والشعر من شتى نواحيه؛ ليبين متى يفضل كل منهما الآخر، وإنا لنحيل القارئ إلى كتاب الإمتاع والمؤانسة ليقرأ عرض الفكرة مفصلا. •••
ونضرب مثلا آخر بفكرة أخرى يتعرض لها الرجلان؛ فكرة الخوارق التي تميز شعبا من شعب، والمفاضلة بين خصائص الشعوب، فأيها يكون أرقى، وأيها يكون أحط منزلة من الآخر؟
أما هوايتهد فخلاصة الراي عنده هي أن خير المدنيات هو ما جاء من شعب اختلطت في نسيجه خيوطه العنصرية، وكلما صفا الجنس عنصرا ولم تدخله أخلاط من الخارج، كان أقرب إلى الانحلال، ويضرب لذلك أمثلة كثيرة ترد هنا وهناك في محاوراته، وأقرب الأمثلة لذلك الولايات المتحدة الأمريكية.
ففي الليلة الحادية والعشرين من هذه المحاورات، يتعرض هوايتهد لهذه الفكرة، ثم يمضي في حديثه ليقول إن وراء هذه الفكرة فكرة أعوص، وهي كيف نصون المجتمع من الركود؛ فقد ترى جماعة من الناس سارت في حضارتها سيرا هينا لينا بضعة قرون، لكنها صائرة إلى موت محقق إذا أعوزها عنصر الجدة يدخل في كيانها فيضمن لها الاستمرار في التقدم، وأحسب أن النمل والنحل مثلان جيدان لأنظمة تسير سيرا حسنا، لكنه لا يتغير، ولو قدر لجماعة من الناس أن تقفل على نفسها لانتهت إلى حالة لا تتميز مرتبة من عالم النمل والنحل، ذلك لو فرضنا أنها ستظفر من دقة النظام بأكمل درجاتها.
لكن هوايتهد كثيرا ما يتعرض للموازنة بين ثقافتين؛ السامية من جهة، والهلينية من جهة أخرى - أي الشرق الأوسط والغرب - فيضع إصبعه على فوارق أساسية، وتشم من كلامه دائما أنه يفضل الثانية على الأولى، ومن أهم ما يهتم له في ذلك هو ما يتسم به الأولون - الساميون - من جهامة وصرامة، وما يتسم به الآخرون - ورثة الثقافة اليونانية - من روح فكهة متبسطة حرة.
وهو يتخذ التوراة مرآة تصور الأولين، والإلياذة مرآة تصور الآخرين؛ ففي التوراة تنعدم روح الفكاهة وتسود الجهامة، وتفسير ذلك عنده هو أن اليهود الأقدمين كانوا دائما في حالة من اليأس والهزيمة والتشريد، بعكس اليونان فإنهم كانوا يشعرون شعور المرح النشوان، فإله التوراة جاد لا يضحك ولا يهزل، وليس من حق الأفراد أن يقرءوا التوراة لتعجبهم فيأخذوا بتعاليمها، أو لا تعجبهم فيتركوها، بل الأمر أخطر من مثل هذه الحرية الفردية في الاختيار، فهي مبادئ لا بد أن تأخذ بها كرهت أو رضيت. وأما الإلياذة فتجعل آلهتها يضحكون ويمرحون، وللقارئ أن يتلوها ليأخذ ما يأخذه ويرفض ما يرفضه، فلئن كان الهدف في التوراة هو التوجيه والإرشاد والهداية والتقويم، فالهدف في الإلياذة هو المتعة والنشوة، فالفرق بينهما هو الفرق بين المعلم والفنان.
وأما أبو حيان التوحيدي فيقف كعادته وقفة تحليلية يذكر بها جوانب الأمر كلها، فليس لأمة واحدة فضيلة تخلو من نقص، ولا نقص يخلو من فضيلة، وأكاد أقول إن التوحيدي لو سئل: أي الحالات تبلغ الكمال؟ لقال - كما قال هوايتهد - هي الحالة التي تندمج فيها الشعوب كلها لتلتقي الفضائل كلها في شعب واحد. يقول أبو حيان (في الليلة السادسة من الإمتاع والمؤانسة): «... لكل أمة فضائل ورذائل، ولكل قوم محاسن ومساوئ، ولكل طائفة من الناس في صناعتها وحلها وعقدها كمال وتقصير، ويقضي هذا بأن الخيرات والفضائل والشرور والنقائص مفاضة على جميع الخلق ... فللفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم، وللروم العلم والحكمة، وللهند الفكر والروية والخفة والسحر والأناة، وللترك الشجاعة والإقدام، وللزنج الصبر والكد والفرح، وللعرب النجدة والقرى والوفاء والبلاء والجود والذمام والخطابة والبيان ...» ويمضي التوحيدي في حديثه محللا، فيحذر من أن تفهم خاصية الشعب على أنها شاملة لكل أفراده، بل هي مأخوذة على سبيل التعميم والشيوع، ولو شاء القارئ أن يطالع عرضه البديع، فلا مناص من الرجوع إلى حديث تلك الليلة كما ورد في الكتاب المذكور.
ويلاحظ أن الموازنة بين الروم والعرب عند أبي حيان هي نفسها الموازنة بين الهلينيين والساميين التي جذبت اهتمام هوايتهد، ولو أنعمت النظر إلى قول أبي حيان إن الروم يتميزون بالعلم والحكمة، وأما العرب فيتميزون بالنجدة والقرى والوفاء والبلاء والجود والذمام والخطابة والبيان، وجدت أن الفرق بينهما من وجهة نظره هو الفرق بين أهل التفكير النظري وأهل الأخلاق العملية، وكذلك هو الفرق بين العقل من ناحية والوجدان من ناحية أخرى، وهو فرق لا يتعارض مع ملاحظات هوايتهد عن هاتين الجماعتين، غير أن هوايتهد يضيف فرقا آخر، وذلك بأن جعل الروم (اليونان) أهل مرح وتفاؤل وسماحة نفس، على حين جعل الساميين أهل تزمت وجهامة عابسة.
وكما يزهي هوايتهد بهلينيته، لا يفوت أبا حيان - بعد أن ينظر نظرة الإنصاف إلى شتى الأمم والشعوب - لا يفوته أن يزهي بعروبته، فيقول عن العرب: «إنهم مع توحشهم مستأنسون، وفي بواديهم حاضرون؛ فقد اجتمع لهم من عادات الحاضرة أحسن العادات، ومن أخلاق البادية أطهر الأخلاق ... ثم لما ملكوا الدور والقصور والجنان والأودية والأنهار والمعادن والقلاع والمدن والبلدان والسهل والجبل والبر والبحر، لم يتعدوا عن شأو من تقدم بآلاف السنين، ولم يعجزوا عن شيء كان لهم، بل أبروا عليهم وزادوا، وأغربوا وأفادوا. وهذا الحكم ظاهر معروف وحاضر مكشوف، ليس إلى مرده سبيل، ولا لجاحده ومنكره دليل.»
ألا إن هذه الأحاديث القليلة التي سجلتها لنا الصحائف أحرفا مطبوعة، لتزداد قيمتها أضعافا مضاعفة في عصرنا هذا الذي حل فيه الصمت المستمع محل الحديث الحي المتبادل، أو لعلنا على كل حال في طريقنا إلى هذه النهاية المحتومة؛ فالتليفزيون يتسلل إلى الدور، وقد سبقه أخوه الراديو، حيث أصبح على الأصدقاء المجتمعين أن ينصتوا لما يجيء إليهم مرتقبا أو غير مرتقب؛ ففي ساعات العمل آلة تعمل، والعامل مراقب لها في صمت، وفي ساعات الفراغ آلة تحدث والناس حولها يستمعون في صمت ... ترى أيكون زمان الحديث الحي الطلي قد ولى؟ إذن فقد أضاعت الإنسانية على نفسها أمتع وسائل التعبير.
Shafi da ba'a sani ba