Muhawarat Aflatun
محاورات أفلاطون: أوطيفرون – الدفاع – أقريطون – فيدون
Nau'ikan
وأما الحوار الثالث «أقريطون»، فيمثل منظرا آخر من حياة سقراط؛ فهو في السجن يرقب منيته، وأقريطون صديقه الحميم إلى جانبه يستحثه لينتهز الفرصة السانحة للهروب قبل أن ينفذ فيه الحكم بالموت، ولكن سقراط لا يستجيب لدعوته، ويأخذ في تحليل الموقف كما هو شأنه دائما ... فإذا كان من المقطوع بصحته أن الغاية التي يجب أن ينشدها كل إنسان ليست هي مجرد الحياة، ولكنها «الحياة الطيبة»؛ أعني أن واجب الإنسان أن يملأ حياته بالأعمال الصحيحة القويمة. نقول إذا كانت تلك هي الغاية من الحياة؛ فما أكمل صورة للحياة؟ يقول سقراط: إنه قد تعاقد مع الدولة على ألا يقترف في حياته ما من شأنه أن يضعف سلطانها، أويجوز له إذن أن يحنث بعهده ذاك لكي يربح سنوات قليلة من حياة لا غناء فيها؟ أويحق له أن يفر من موقفه خشية الموت؟
لم يرد أفلاطون بهذا الحوار أن ينبئ القارئ برفض سقراط للهرب من السجن فرارا من الموت وكفى، بل قصد كذلك أن يبرئه مما قد يتهم به من أنه مواطن سيئ يؤذي أمته أكثر مما ينفعها؛ فلقد أعلن سقراط في حوار «الدفاع» أنه سيؤدي رسالته الفلسفية مهما كلفته من عناء، ومهما أوذي في سبيلها من ذوي السلطة والنفوذ؛ إذ هو بأدائه لتلك الرسالة إنما يطيع أمر الله، وطاعة الله عنده خير من طاعة الإنسان. ولقد يتبادر إلى ذهن القارئ أن سقراط بذلك إنما يتحدى قانون دولته ويخرج عليه؛ فأراد أفلاطون بهذا الحوار أن يصحح هذا الخطأ، وأن يبين أن ذلك التحدي من سقراط لا يتنافى مع ولائه للدولة وقوانينها، فها هو ذا يقبل على الموت حتى لا يحنث في عهده للدولة أن يكون خاضعا لقانونها.
أما الحوار الأخير «فيدون»، فيسمو بنا إلى عالم جديد تجلت فيه عظمة سقراط حين دنا من الموت، وتستطيع في هذا الحوار أن تتبع الفلسفة السقراطية في تدرجها حتى بلغت إلى مرتبة المثالية الأفلاطونية في تمامها وكمالها.
فهذا حوار يدور بين سقراط وأصدقائه الذين التفوا حوله لينفقوا معه ساعاته الأخيرة، فدار البحث بين الأستاذ وتلاميذه حول خلود الروح. ولقد أقام سقراط على ذلك براهين عدة بناها على بقاء الأشياء ومقدرة النفس على إدراك ذلك البقاء؛ فما دام العقل في تفكيره لا يقف عند المظاهر الحسية المتغيرة بل ينفذ إلى قوانينها الخالدة الكامنة وراءها، فلا بد أن تكون طبيعته شبيهة بطبيعة هذه الأشياء؛ أي إن له وجودا لا يخضع للتغير ولا للفناء. والأولى أن يعتبر الموت خلاصا للعقل من ضعف الجسد الذي كان يحول بينه وبين رؤية حقائق العالم المثالي - أي العالم العقلي - في وضوح وجلاء. وهنا قدم له تلاميذه اعتراضا بأن الروح تعتمد في أداء عملها على حياة الجسم، فيرد عليهم اعتراضهم ثم ينتقل بعد ذلك إلى المقارنة بين نظرية المثل وبين المذاهب الطبيعية التي ذهب إليها أسلافه من الفلاسفة والتي لم تحاول أن تبين أن الخير هو الغاية من الكون. ثم استطرد فأخذ يبسط النظرية المثالية، فينتقل من فكرة إلى فكرة أعم منها فأعم. وهكذا حتى وصل إلى مبدأ شامل سام، هو مبدأ المعرفة كلها وأصل الوجود. وأخيرا يختتم سقراط حواره بصورة خيالية للحياة الأخرى بما فيها من ألوان الثواب والعقاب، معترفا بأنه لا يريد بتلك الصورة أنها الحقيقة الحرفية لما سيكون، ولكنها تدل على اتجاه الحقيقة لا أكثر ولا أقل.
ليس ما في هذا الحوار من آراء ينتمي إلى سقراط؛ فهو أقرب إلى مأساة نثرية سطرها أفلاطون ليصور بها خاتمة سقراط، ففيها مميزات شخصية سقراط واضحة بارزة، فترى تحمسه وحريته الفكرية وهدوءه وتجرده عن الهوى في بحثه عن الحقيقة. هذا ومن الجائز أن تكون بعض التفصيلات التي وردت في المحاورة عن موته صحيحة، غير أننا نلاحظ أن العبارة التي ذكرت في النهاية على أنها آخر ما نطق به سقراط - أي حين يطلب إلى أقريطون أن يضحي من أجله ديكا إلى أسكلبيوس شكرا على شفائه من مرض الحياة الممض الطويل - نقول إن هذه العبارة لا تدل على عقيدة سقراط، ولكنها سيقت لتشف عن روح الفكاهة التي عرف بها الفيلسوف.
مقدمة «أوطيفرون»
هذا حوار يمثل سقراط قبل محاكمته بتهمة الفجور التي اتهمه بها نفر من الأثينيين. وقد أراد أفلاطون أن يبين للناس مدى جهلهم بحقيقة الفجور الذي رموا به سقراط؛ فاتخذ حادثة قد تكون وقعت بالفعل في أسرة أوطيفرون موضوعا لمحاورته. وبطل الحادث رجل من أهل أثينا، علا كعبه في شئون العلم والدين، ألا وهو «أوطيفرون».
يقدم لنا أفلاطون هذا الرجل وقد التقى بسقراط في دهليز كبير القضاة؛ إذ كان لكل منهما عند القاضي مسألة قصد إلى إنجازها، أما سقراط فقد جاء في شأن قضيته التي اتهم فيها بالإلحاد والتي أقامها عليه «مليتس»، وأما «أوطيفرون» فجاء مدعيا في قضية قتل أقامها على أبيه. وتفصيل هذه القضية الأخيرة أن رجلا فقيرا من أتباع أسرة أوطيفرون قتل عبدا من عبيدها في «ناكسوس»؛ فأمر أبو «أوطيفرون» بالقاتل، فشد وثاقه وألقي في خندق ريثما يستفتي علماء الدين في أثينا عما ينبغي أن ينزل بهذا المجرم من صنوف العقاب، ولكن المنية لم تمهل الجاني حتى يعود الرسول من أثينا يحمل الفتوى، فقضى نحبه لما أصابه من جوع وبرد، فلم يتردد «أوطيفرون» في أن يتهم أباه بجريمة القتل.
لم يكد سقراط يصغي إلى رواية الرجل في اتهام أبيه حتى أيقن أنه لا بد عالم أدق العلم بطبيعة الخير والشر والتقوى والفجور، وإلا لما اجترأ أن يقدم على هذا الاتهام الخطير، وما دام سقراط نفسه على وشك أن يتقدم إلى المحاكمة متهما بالفجور، فخير ما يصنعه أن يتلقى عن «أوطيفرون» العلم بحقيقة التقوى والفجور لعله يفيد به شيئا أثناء محاكمته، ويكفيه أن يحتج للقضاة برأي هذا الرجل، ولن يسع القضاة إلا التسليم والقبول ... فما التقوى إذن؟
ألقى سقراط هذا السؤال؛ فأجابه أوطيفرون أن التقوى هي أن يصنع كما صنع هو؛ أعني أن يتهم أباه - إن كان مخطئا - بجريمة القتل، وهو إن فعل ذلك فإنما يقتفي أثر الآلهة أنفسهم، فذلك ما صنعه «زيوس» ل «كرونوس» وما صنعه «كرونوس» ل «أورانوس».
Shafi da ba'a sani ba